3. نواهد الأبكار
وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)
من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر، لأن أنى: تكون
استفهاما وشرطا، ولا جائز أن تكون هنا استفهاما، لأنها حينئذ تكتفي بما بعدها من
فعل أو اسم، نحو: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}، {أَنَّى لَكِ هَذَا}، ولا تفتقر
إلى غيره، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها، بما قبلها، ثم إن الاستفهام لا يعمل فيه ما
قبله ولا جائز أن يكون شرطا، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان فتكون مبيحة لاتيان/
النساء في غير القبل وقد ثبت تحريمه، ثم إن الظرف الشرطي أيضا لا يعمل فيه ما
قبله، قال: والذي يظهر والله أعلم، كونها شرطا لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي
بعدها، ويكون قد جعلت فيها الأحوال كجعل الظروف المكانية، وأجريت مجراها تشبيها للحال
بالظرف المكاني، كما أن كيف، خرج بها عن الاستفهام إلى معنى الشرط، في نحو:
{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، وجواب أني محذوف. تقديره: أنى شئتم فأتوه. ثم قال: فإن
قلت: قد أخرجت أنى عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل كيف، فهل
الماضي بعدها في محل جزم كحالها إذا كانت ظرفا، أم رفع كهو بعد كيف، فالجواب: إنه
يحتمل الأمرين، والجزم: أرجح، لأنه قد استقر الجزم بها، فلا يزال، ولم يستقر الجزم
بكيف. انتهى.
قوله: (روى إن اليهود) إلى آخره، أخرجه الشيخان عن جابر.
قوله: (وقيل: التسمية عند الوطء، أخرجه ابن جرير، عن ابن
(2/419)
عباس.
قوله: (نزلت في الصديق)، أخرجه ابن جرير، عن ابن جريج.
قوله: أو في عبدالله بن رواحة)، لم أقف عليه.
قوله: (يطلق لما يعرض دون الشيء، وللمعرض للأمر). يعني إنها جاءت اسما لما يعرضه
دون الشيء، أي تجعله قدامه بحيث يصير حاجزاً ومانعا منه من عرض العود على الإناء
يعرض بالضم والكسر ولما تعرضه للأمر من التعريض للبيع، ونحوه تقول: عرضت فلانا
للحرب فتعرض لها، كأنك قدمته لذلك ونصبته له.
قوله: (كقوله عليه الصلاة والسلام، لابن سمرة: (إذا حلفت على يمين) الحديث، أخرجه
الشيخان، والمصنف جعل قوله: (على يمين بمعنى، على أمر محلوف عليه مجازاً، وغيره
ذهب إلى أن على زائدة، والتقدير: إذا حلفت يمينا.
قوله: (وأن مع صلتها عطف ييان لها) أي: فيكون في موضع جر، قال أبو حيان: ولو قيل
إنه بدل منها لكان أولى، لأن عطف البيان
(2/420)
أكثر ما يكون في الأعلام، قال: والجمهور على أن هذا القول في
موضع نصب على المفعولية له، أي كراهة أن تبروا، وذهب الزجاج والتبريزي إلى أنه في
موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي أن تبروا وتتقوا أمثل وأولى أو خير لكم من
أن تجعلوا الله عرضة، فهذه ثلاثة أعاريب.
قوله: (وتتعلق أن بالفعل)، قال الشيخ سعد الدين: عبر به دون أن يقول: فلا تجعلوا،
تنبيها على أنه متعلق بالمنفى لا بالنفي.
قوله: (أو بعرضه أي ولا تجعلوا الله عرضة لأن تبروا لأجل أيمانكم به) قال أبو
حيان: هذا التقدير لا يصح، لأنه إذا علق لأيمانكم بتجلعوا ولا تبروا بعرضه، فقد
فصل بين عرضه وبين معموله أن تبروا بقوله: لأيمانكم، وهو أجنبي منهما؛ لأنه معمول
لتجعلوا، وذلك لا يجوز.
قوله: (ولا تجعلوه معرضا) إلى آخره، هو على المعنى الثاني بعرضه، وهو كونها بمعنى
المعروض للأمر، والإيمان على هذا بمعنى الأقسام على ظاهرها، لا بمعنى المحلوف
عليه.
قوله: (وأن تبروا علة)، قال أبو حيان: الذي يظهر لي على هذا القول، أنه في موضع
نصب على إسقاط الخافض والعامل فيه لأيمانكم، والتقدير: لاقسامكم على أن تبروا
فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى وجعله معرضا لأقسامكم على البر والتقوى والإصلاح،
وهي أوصاف جميلة، فما ظنك بغيرها، قال: وعلى هذا يكون الكلام منتظما واقعا كل لفظ
منه مكانه الذي يليق به.
(2/421)
قوله: (كقول العرب، لا والله وبلى والله)، قال الشيخ سعد الدين،
وهو على طريق المثال وإيراد بعض الجزئيات، قلت: وخصه لأنه الوارد في تفسير الآية
مرفوعا، أخرج البخاري عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية، في قول الرجل: لا والله
وبلى والله، وأخرج أبو داود، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في
لغو اليمين: (هو كلام الرجل في بيته، كلا والله وبلى والله) وله طرق أخرى.
قوله: (معنى البعد): عبارة غيره: معنى الامتناع.
قوله: (أضيف إلى الظرف على الاتساع) الأصل تربصهم أربعة أشهر.
قوله: (وإلا بانت بعدها بطلقة)، قال: في الهداية: لأنه ظلمها بمنع حقها فجازاه
الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة.
قوله: (خبر في معنى الأمر): قال الشيخ سعد الدين: وجه هذا المجاز تشبيه ما هو
مطلوب الوقوع بما هو متحقق الوقوع في الماضي، كما في رحمك الله أو في المستقبل
والحال، كما في هذا المثال، قال: ثم إنه لا يعطى حكم الأمر في جعله جملة إنشائية
حتى لا يكون خبر المبتدأ إلا بتقدير القول. لأن ذلك لا يبقى معه ما أريد فى هذا
المقام من التأكيد
(2/422)
انتهى.
واعلم أن القول في هذه الآية وأمثالها بأنها خبر بمعنى النهي قد كثر في عبارات
العلماء حتى كادوا يجمعون عليه وقد نبه القاضي أبو بكر ابن العربي على دقيقة فقال،
في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ}، ليس نفيا لوجود الرفث، بل نفى
لمشروعيته فإن الرفث يوجد من بعض الناس وأخبار الله لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره،
وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ومعناه مشروعا لا محسوسا، فإنا نجد مطلقات لا
يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي، وكذلك: {لَا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}. لا يمسه أحد شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع،
قال: وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء قالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد
ذلك قط ولا يصح أن يوجد، فإنهما يختلفان حقيقة، ويتباينان وضعا. انتهى. وتابعه
القرطبي، فقال: هنا هو خبر على بابه وهو خبر عن حكم الشرع فإن وجدت مطلقة لا تتربص
فليس من الشرع، ثم رأيت الطيبي نقل عن الراغب مثل ذلك فقال: عند قوله والوالدات
يرضعن، ذكر جماعة من الفقهاء أن يرضعن أمر وإن كان لفظه خبراً، لأنه لو جعل خبرا
لم يقع بخلاف مخبره، وهذه قضية إنما تصح في خبر لفظة لا تحتمل التخصيص، وأما إذا
كان عاما يمكن أن يخصص على وجه يخرج من أن يكون كذبا فادعاء ذلك فيه
(2/423)
ليس بواجب، وهذه الآية مما يمكن فيه ذلك أخبر تعالى أن حكم الله
في ذلك أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن.
قوله: (وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد)، قال الشيخ سعد الدين: إما لتكرر
الإسناد، وإما لأنك لما ذكرت المبتدأ أشعرت السامع بأن هناك حكما عليه، فإذا ذكرته
كان أوقع عنده من أن يذكر ابتداء.
قوله: (جمع قرء) بفتح القاف.
قوله: (دعى الصلاة أيام أقرانك)، أخرجه أبو داود والنسائي، والدارقطني، من حديث
فاطمة بنت أبى حبيش، والنسائي من حديث عائشة، نحوه.
قوله: لقول الأعشى: (لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أوله: أفي كل عام أنت جاشم غزوة .... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالاً وفي الحمد رفعة .... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي من أطهارهن، إذ لا جماع في الحيض، والاستفهام للتقرير مع ثبوت إنكار، والظرف
متعلق بجاشم، قال: جشمت الأمر: تكلفته على
(2/424)
مشقة، والعزيم: العزيمة والعزا: الصبر، ومورثة: صفة غزوة. أي:
تورث المال والجاه ما ضاع من أطهار النساء وبسببها فهو علة للتوريث، أي لأجل صرف
الأوقات وترك الشهوات، فقط ظفرت بالأمرين وليس تعليلا للإنكار، ولا من قبيل ليكون
لهم عدوا. قال الشيخ سعد الدين: وأول هذه القصيدة:
أتشفيك تيا أم تركت بدائكا .... وكانت قتولا للرجال كذلك
ومنها: تجانف عن جل اليمامة ناقتي ... وما عدلت من أهلها لسوانكا
قوله: (وهو المراد في الآية).
قوله: (روى مالك في الموطأ وابن أبي حاتم، عن عائشة، قالت:
(الأقراء: الأطهار). قال ابن شهاب: سمعت أبابكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت
أحداً من فقهائنا إلا وهو يقول: ما قالت عائشة.
قوله: (طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان)، أخرجه، أبو داود، والترمذي، وابن
ماجه: والحاكم، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2/425)
قوله: (وكان القياس)، إلى آخره. وجه بعضهم العدول، عن الأقراء
إلى قروتان، واحدة قرء بالفتح، وجمع فعل على أفعال، شاذ، فلذلك ترك. حكاه أبو
حيان، وهو توجيه حسن.
قوله: (ألا ترى إلى قوله: (بأنفسهن)، وما هي إلا نفوس كثيرة، قال الشيخ سعد الدين:
فإن النكتة في تقليلها الإيماء إلى أن التطليق ينبغي أن يكون قليل الوقوع من
الرجال.
قوله: (ولعل الحكم)، إلى أخره، قال الحريري في درة الغواص: الأصل تربص كل واحدة من
المطلقات ثلاثة أقراء، فلما أسند إلى جماعتهن ثلاثة جيء بجمع الكثرة.
قوله: (من الولد والحيض)، عبارة الكشاف: أو من دم الحيض .. وقال الشيخ سعد الدين:
إن الأول أوجه، لأن الولد هو المخلوق في الرحم، دون الدم. انتهى. وهو فاسد، لأن
المراد البدل، لا الشمول، أي من الولد إن كانت حاملا، أو الحيض إن كانت حائلا.
أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، في الآية، قال: (لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم
حملها، ولا يحل لها إن كانت حايضا أن تكتم حيضها).
قوله: (ليس المراد منه) إلى آخره. يعني أنه ليس شرطا، لقوله: لا يحل، حتى لو لم
يؤمن حل لهن ذلك، بل هو متعلق بيكتمن قصدا إلى عظم ذلك الفعل.
قوله: (فالضمير أخص)، قال أبو حيان: الأولى عندي أن يكون على حذف مضاف دل عليه
الحكم، تقديره: وبعوله رجعياتهن.
قوله: (والتاء لتأنيث الجمع)، هو سماعي، لا قياسي، فلا يقال، في جمع كعب: كعوبة.
(2/426)
قوله: (وأفعل ههنا، بمعنى الفاعل)، أي: لأن غير الزوج لا حق له
في ذلك، فكأنه قيل: وبعولتهن حقيقون بردهن، وقيل: إنها على بابها للتفضيل، أي: أحق
منهن بأنفسهن لو استغن من الردة أو من آبائهن.
قوله: (وليس المراد منه) إلى آخره. الصارف عن اعتبار مفهوم هذا الشرط الاجماع.
قوله: (أي التطليق)، قال الطيبى: فسر الطلاق بالتطليق، لأنه قوبل بالتسريح.
قوله: (لما روى أنه عليه الصلاة والسلام، سئل أين الثالثة، فقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ}، أخرجه أبو داود في ناسخه وسعيد بن منصور، وإبن أبي حاتم، وابن
مردويه، من حديث أبى رزين الأسدي، وأخرجه الدارقطني وابن مردويه من حديث أنس.
قوله: (على التفريق) أي في كل طهر طلقة، فيكون مرتان للتكرير لا التثنية واللام في
الطلاق للجنس، وهي على الأول للعهد في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ}.
قوله: (عقب به)، إلى آخره، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى معنى الفاء في فإمساك
إذ الامساك بمعروف أو تسريح بإحسان، إنما يتصور قبل الطلقات لا بعدها، يعني أنها
للترتيب على التعليم، كأنه قيل: إذا علمتم كيفية التطليق، فالواجب أحد الأمرين.
قوله: (روى أن جميلة بنت عبد الله)، إلى آخره، قال الطيبي: رواه الأئمة بروايات
شتى. وليس فيه، إني رفعت جانب الخباء، إلى
(2/427)
آخره. قال الشيخ سعد الدين. اتفقوا على أن الصواب أخت عبد الله.
قلت: كلاهما صواب فإن أباها عبدالله ابن أبي رأس المنافقين، وأخوها صحابي جليل،
اسمه عبدالله، نعم، اختلف قديما، هل هي بنت عبدالله المنافق أو أخته بنت أبي؟
والذي رجحه الحفاظ الأول. قال الدمياطي: هي أخت عبدالله ابن عبدالله شقيقته، أمها
خولة بنت المنذر. وقد ورد من طريق عند الدارقطني: إن اسمها زينب.
قال ابن حجر: فلعل لها اسمين، أو احدها لقب وإلا فجميلة أصح. وقد وقع من حديث آخر،
أن اسم امرأة ثابت، حبيبة بنت سهل، قال ابن حجر: والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا له
مع امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين. انتهى. والقدر الذي
أنكره الطيبي، وهو أني رفعت إلى أخره، ورد في بعض الطرق إلا أن الطيبي، أكثر ما
خرج من الكتب الستة، ومسندي أحمد والدارمي وليس هو فيها، فلذلك نفاه، أخرج
البخاري، عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس، أتت النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في
الإسلام، ولكني لا أطيقه. زاد الإسماعيلي في مستخرجه، والبيهقي بغضا، قال: (أتردين
عليه حديقته)؟ قالت: نعم، قال: أقبل الحديقة وطلقها تطليقة، وأخرج البيهقي من وجه
آخر، عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تريد الخلع
فقال لها: (ما أصدقك)؟ قالت: حديقة. قال: (ردي عليه حديقته). وأخرج ابن جرير من
وجه أخر، عن ابن عباس، قال: أول خلع كان في الإسلام، امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي
- صلى الله عليه وسلم -، فقالت:
(2/428)
يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا، إني رفعت جانب
الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها فقال:
(أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته ففرق بينهما، وأخرج مالك، وأبو
داود، وابن حبان، والبيهقي. عن حبيبة بنت سهل، أنها كانت عند ثابت بن قيس فأتت
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لا أنا ولا ثابت. الحديث. وليس في شيء من
طرق الحديث التصريح بنزول الآية في هذه القصة.
قوله: (لا أنا ولا ثابت)، أصله لا اجتمع أنا وثابت، فحذف الفعل.
قوله: (أعتب) يروى بسكون العين والمثناة الفوقية مضمومة من العتاب وبكسر العين
والمثناة التحتية ساكنة من العيب.
قوله: (أكره الكفر في الإسلام)، أي أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر،
ويحتمل أن تريد كفران العشير، ويؤيده ما في حديث حبيبة بنت سهل، عند ابن ماجه، من
رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنها قالت: والله لولا مخافة الله إذا دخل
على لبصقت في وجهه.
قوله: (أيما امرأة سألت زوجها) الحديث. أخرجه البيهقي من حديث ثوبان، وما روي أنه
قال لجميلة. الحديث، أخرجه البيهقي،
(2/429)
عن عطاء مرسلا، ثم أخرجه من طريق أخر عن عطاء، عن ابن عباس
وقال: إنه غير محفوظ والصحيح المرسل، وأخرجه أيضا، من مرسل أبي الزبير. وأخرج من
طريق قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
يأخذ منها ما ساق إليها، ولا يزداد.
قوله: (لما روي أن امرأة رفاعة)، الحديث أخرجه الشيخان من حديث عائشة، وابن
الزبير، بفتح الزاي وكسر الباء، والعسيلة: مجاز عن قليل الجماع. قال الجوهري: شبهت
تلك اللذة بالعسل وصغرت الياء، لأن الغالب على العسل التأنيث، وفي الأساس: من
المستعار العسلتان للعضوين لكونهما مظنتي الالتذاذ.
قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له)، أخرجه أحمد
والترمذي، والنسائي، وصححه، من حديث ابن مسعود.
قوله: (ولأنه لايقال، علمت أن يقوم زيدا)، إلى آخره. قال الطيبي: هذا إشارة إلى
بيان الخطأ من طريق اللفظ لأن إن الناصبة لا
(2/430)
تقع بعد العلم، لأنه للتحقيق، والاستقبال ينافيه، وإنما تقع
بعده المخففة من الثقيلة قال أبو حيان: وهذا الكلام قاله: غير واحد من النحويين
إلا أنه مخالف لما ذكره سيبويه، من أنه يجوز أن يقال: ما علمت إلا أن يقوم زيد.
فأعمل علمت في أن، قال: وجمع بعض المغاربة بينهما بأن علمت تستعمل ويراد بها العلم
القطعي فلا يجوز وقوع أن بعدها كما ذكره، وتستعمل مرادا بها الظن القوي فيجوز أن
تعمل في أن ويدل على استعمالها كذلك قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ} فالعلم هنا أريد به الظن القوي، لأن القطع بإيمانهن غير متوصل إليه.
وقول الشاعر: (وأعلم علم حق غير ظن.
فقوله: علم حق، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق، وكذا قوله: غير ظن يدل على
أنه يقال: علمت، وهو ظان، وقد سمع إعمال علم في أن، والمراد بها غير القطع. قال
جرير:
نرضى عن الناس أن الناس قد علموا .... ألا يدانينا من خلفه أحد
كل امرئ مستكمل مدة العمر .... ومود إذا انتهى أجله
هو للطرماح. ومود: بمعنى هالك، من أودى إذا هلك.
قوله: ويقال: للدنو منه على الاتساع، قال الشيخ سعد الدين:
(2/431)
تحقيقه أنه مجاز باعتبار ما يؤل أو استعارة تشبيها للمتقارب
الوقوع بالواقع في البعد عن القوة المحضة، والقرب من حصول الأثر.
قوله: (كان المطلق يترك العدة) إلى آخره. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
قوله: (واللام متعلقة بالضرار)، وهو متعين على إعراب ضرار علة في إذ المفعول له لا
يتعدد إلا بالعطف، أو على البدل وهو غير ممكن هنا لاختلاف الإعراب، وجائز، على
إعرابه حالا، على أنه علة للعلة، ويجوز تعلقه بالفعل، وإن قدرت لام العاقبة جاز
على الأول أيضا، ويكون الفعل تعدى إلى علة وإلى عاقبة، وهما: مختلفان. قاله أبو
حيان.
قوله: (كان الرجل يتزوج ويطلق، ويعتق، ويقول: كنت ألعب، فنزلت).
أخرجه ابن المنذر، عن عبادة بن الصامت.
قوله. (ثلاث جدهن جد)، الحديث، أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه، من حديث
أبي هريرة، لكن فيه: والرجعة بدل،
(2/432)
والعتاق، وهو: في حديث عبادة بن الصامت السابق، بلفظ، فقال:
(ثلاث من قالهن لاعبا: أو غير لاعب فهن جائزات عليه، الطلاق، والعتاق، والنكاح).
قوله: (دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين). قال الشيخ سعد الدين: لأن الإمساك
إنما يكون في العدة، والنهى عن العضل إنما هو بعد التمكن، من النكاح، وذلك بعد
انقضاء العدة.
قوله: (لما روى أنها نزلت، في معقل بن يسار)، أخرجه البخاري، وأبو داود، والنسائي:
من حديثه. وليس فيه تسميتها، ووقع تسميتها جملا، وتسمية زوجها أبا البداح ابن
عاصم، في طريق، رواه القاضي إسماعيل في أحكام القرآن وبه جزم ابن فتحون، وفي طريق
عند ابن جرير، تسميتها: جميل بالتصغير، وبه جزم ابن ماكولا، وقيل: اسمهما ليلى
حكاه السهيلي. والمنذري. وقيل: فاطمة وقع ذلك، عند ابن إسحاق.
قوله: (المروءة) بالهمز ومعناها كمال الرجولية والإنسانية.
قوله: (لأنه مما يتسامح فيه)، أي فيطلق على الأقل القريب من التمام.
(2/433)
قوله: (وقرئ، لا يضار بالسكون مع التشديد)، هي: قراءة أبي جعفر.
قوله: (وفيه مع التخفيف)، هي: رواية عنه أيضا، ووجهها كالتي قبلها.
قوله: (واجعله الوارث منا)، أول الحديث: (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما
الوارث مني، وانصرني على من ظلمني وخذ منه بثأري)، أخرجه الترمذي من حديث أبي
هريرة، وحسنه.
قوله: (أي فصالا صادرا)، قال الحلبي: في تقديره صادرا، نظر من حيث كونه كونا مقيدا،
وقد قدره كائنا.
قوله: (أي يستر ضعوا المراضع) إلى أخره. قال أبو حيان: أحد القولين، أن تسترضع
يتعدى إلى مفعولين بنفسه. والجمهور على أنه يتعدى إلى اثنين، ثانيهما بحرف جر،
وحذف من أولادكم. والتقدير لأولادكم.
قوله: (ما أردتم إيتاءه)، قال الشيخ سعد الدين: لأن ما تحقق إيتاؤه لا يتصور
تسليمه في المستقبل. وكذا قراءة: ما أتيتم، معناه: ما أردتم فعله، إذ لا يستقيم
على ظاهره كما توهم بخلاف قراءة ما أوتيتم.
قوله: (وليس اشتراط التسليم) إلى آخره. الشيخ سعد الدين، جواب سؤال وهو، أن ظاهر
الكلام، كون التسليم شرطا لرفع الجناح حتى لو انتفى ثبت الجناح، وليس كذلك. وحاصل
الجواب، أنه دعا إلى الأولى. فإن قلت: ما موقعه في أساليب الكلام؟ قلت: إنه شبه ما
هو
(2/434)
من شرائط الأولوية بما هو من شرائط الصحة، في فرط الاعتناء به،
حتى كان الصحة تنتفي بانتفائه فاستعير له العبارة الموضوعة لإفادة التعليق وتوقف
الصحة.
قوله: (أي وأزواج الذين)، أي والذين. إلى آخره يريد أن الذين مبتدأ، خبره بتربص،
ولا عائد فيه فقدر حذف المضاف الذي يرجع إليه ضمير يتربص وهو الأزواج، أو حذف
الضمير العائد إلى الذين حال كونه مجروراً، أي بعدهم. قال الشيخ سعد الدين: ولو
قدر يتربصن بهم لم يبعد.
قوله: (وتأنيث العشر باعتبار الليل)، قال أبو حيان: لا حاجة إلى هذا التأويل، لأن
المقرر في العربية، أن المعدود إذا كان مذكراً، وحذفته جاز فيه الوجهان، ذكر التاء
وحذفها، وعليه حديث: (وأتبعه
ستاً من شوال) فجاءت الآية على أحد الجائزين، وحسنه هنا أنه مقطع كلام، فأشبه
الفواصل.
قوله: (ولذلك لا يستعملون التذكير/ في مثله قط). قال أبو حيان: ليس كما ذكر، بل
استعمال التذكير فيه كثير، بل هو الفصيح.
قوله: (وعن علي وابن عباس، أنها تعتد بأقصى الأجلين)، أخرجه عن علي، أبو داود في
ناسخه، وعن ابن عباس.
قوله: (والخطبة). إلى آخره. قال الفراء: الخطبة بالكسر، التماس النكاح، وبالضم،
الكلام المشتمل على الوعظ والأذكار، وكلاهما راجع للخطاب الذي هو الكلام.
(2/435)
قوله: (استدراك عن محذوف) قال أبو حيان: بل هو من الجملة التي
قبله.
قوله: (وهي ستذكر ونهن)، والذكر يقع على أوجه، فاستدرك منه وجه نهى فيه، عن ذكر
مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذونا فيه، لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله
بوقوعه، وهو، نظير قولك: زيد سيلقي خالداً ولكن لا يواجهه بشر، فاستدرك هذه الحالة
بما يحتمله اللقاء، (لكن) من أحواله المواجهة بالشر، ولا يحتاج لكن إلى جملة
محذوفة قبلها، وإنما يحتاج ما بعد لكن إلى وقوع ما قبله، من حيث المعنى، لا من حيث
اللفظ، لأن نفى المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء.
قوله: (فالمستثنى منه، محذرف) إلى آخره. قال أبو حيان: جعل الزمخشري الاستثناء
متصلا باعتبار أنه مفرغ على وجهين. أحدهما: أن يكون من المصدر المحذوف. والثاني:
أن يكون من مجرور محذوف. والمعنى: لا تواعدوهن نكاحا بقول من الأقوال، إلا بقول
معروف، وهو التعريض، ومنع كونه منقطعا من سرا، لأنه يؤدي إلى قولك: لا تواعدوهم
إلا التعريض، والتعريض ليس مواعدا يل مواعد به فلا يصح أن ينصب العامل عليه، وهذا
الذي منعه من أجله ليس بصحيح، لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما يمكن تسلط
العامل عليه بل هو قسمان، ما يتسلط فيه نحو ما رأيت أحداً إلا حماراً، وهذا النوع
فيه الخلاف عن العرب، فالحجازيون ينصبون، وبنو تميم متبعون ومالا يتسلط وحكمه النصب
عند العرب قاطبة، ومنه: (ما زاد إلا ما نقص)، (وما نفع إلا ما ضر)، فما بعد إلا،
لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نفع، بل يقدر المعني: مازاد لكن النقص حصل، وما نفع
لكن الضر حصل فاشترك القسمان في تقدير إلا بلكن، لكن الأول يمكن تسلط العامل
السابق عليه، وهذا لا يمكن، والآية من الثاني. والتقدير: لكن التعريض سائغ لكم،
قال: وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع
(2/436)
يأتي على هذا النوع، فلذلك منعه، انتهى.
قوله: (إلا أن تفرضوا) إلى آخره. حاصل الأقوال، في أو، أربعة إنها على بابها لأحد
الشيئين، والفعل بعدها معطوف على تمسوهن، فهو مجزوم، ولم يذكر المصنف هذا أو معطوف
على مصدر متوهم، فهو منصوب بإضمار أن بعد أو التي بمعنى إلا، أو بمعنى إلى، وهو
الذي عبر عنه بحتى، أو معطوف على جملة محذوفة، التقدير: فرضتم أو لم تفرضوا، ولم
يذكره، أو بمعنى الواو، والفعل مجزوم عطفا على تمسوهن، فينتفي الجناح عن المطلق
على الأول بانتفاء أحد أمرين، إما الجناح أو الفرض وعلى الثاني بانتفاع الجماع إلا
أن يفرض فلا ينتفي بل يثبت، والمراد به لزوم نصف المهر. وعلى الثالث بانتفائه فرض
أو لا يفرض، وعلى الرابع بانتفائهما معا فإن انتفى الجماع دون الفرض وجب نصفه، أو
الفرض دون الجماع، وجب مهر المثل. وهذا هو الأرجح في الآية.
قوله: (ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن
يمسها (متعها بقلنسوتك)، قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه.
قوله: (أي الزوج)، ورد مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الطبراني في
الأوسط، من حديث ابن عمر، وأخرجه البيهقي في سننه، عن علي وابن عباس.
قوله: (وقيل: الولي)، أخرجه البيهقي عن ابن عباس، وهو أوفق للنظم كما بينته في
أسرار التنزيل.
قوله: (على المشاكلة)، قال الشيخ سعد الدين: لوقوعه في
(2/437)
صحة عفو المرأة.
قوله: (وعن جبير بن مطعم)، إلى آخره، أخرجه البيهقي في سننه.
قوله: ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد). إلى آخره. الطيبي: لما نهى سبحانه
عن نسيان الحقوق والفضل فيما بينهم، بقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ} أردفه بالمحافظة- على حقوق الله تعالى - لاسيما أعظمها نفعا وأعلاها
قدراً. وهي الصلاة. وفيه إشعار بأن مراعاة حق العباد مقدمة على حقوق الله.
قوله: (وهي صلاة العصر)، لقوله عليه الصلاة والسلام: يوم الأحزاب أخرجه مسلم من
حديث على.
قوله: (وقيل: صلاة الظهر)، إلى آخره. أقول: هذا القول هو المختار عندي، وقد نص
عليه الشافعي: على أنها الصبح، فخالفه الأصحاب إلى العصر، لقولهم: إن الدليل قام
على ترجيحه، وإذا كان لابد من الخروج عن قول الإمام إلى الدليل، فالذي يقتضيه
الدليل ترجيح أنها الظهر وبيان ذلك أن الأحاديث الواردة في أنها العصر قسمان
مرفوعة، وموقوفة. فالموقوفة لا يحتج بها، لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة
آخرين، إنها الصبح أو الظهر أو المغرب، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول
صحابي آخر قطعا، وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة
فغالبها لا يخلو إسناده من مقال، والسالم من المقال قسمان، مختصر/، بلفظ
(2/438)
الصلاة الوسطى صلاة العصر ومطول فيه قصة وقع في ضمن هذه الجملة والمختصر مأخوذ من المطول، اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما سنبنيه، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال، فلا يصح الاستدلال بها فقوله: في حديث مسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) فيه احتمالان، أحدهما: أن يكون لفظ صلاة العصر، ليس مرفوعا، بل مدرجا في الحديث، أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه، كما وقع ذلك كثيرا في عدة أحاديث، وهذا كنت قلته أولا احتمالا، ثم رأيته منقولا، ويؤيده ما أخرجه مسلم، من وجه آخر، عن علي، حبسونا عن الصلاة الوسطى، حتى غربت الشمس، يعني العصر، الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج، يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا، ولا بدلا، والتقدير: شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشغل يوم الأحزاب، عن العصر فقط ن بل شغل عن الظهر والعصر معا، كما ورد من طريق أخرى، فكأنه عنى بالصلاة الوسطى، الظهر، وعطف عليها العصر ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث ألبتة. والاحتمال الأول أقوى عندي للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير، عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين
(2/439)
أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين المذكورين، فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر وإذا تعارض الحديثان، ولم يمكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون، أن من المرجحات أن يذكر السبب والحديث الوارد أنها الظهر بين فيه سبب النزول، وساق لذكرها بطريق القصد، بخلاف حديث شغلونا عن الصلاة فوجب الرجوع إليه، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود بسند جيد، عن زيد بن ثابت، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى الظهر بالمهاجرين، ولم يكن يصلي صلاة أشد على الصحابة منها، فنزلت. (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، وأخرج أحمد، من وجه آخر، عن زيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم)، ويؤيد كونها غير العصر ما أخرجه مسلم، وغيره، من طرق، عن أبي يونس مولى عائشة، قال: أمرتني عائشة، أن أكتب لها مصحفا فأملت على (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وقالت: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من
(2/440)
طرق على عمرو بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي -
صلى الله عليه وسلم -، فأملت علي (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة
العصر)، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عبد الله بن رافع، قال: كتبت مصحفا لأم
سلمة، فقالت: أكتب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر)، وأخرج ابن
أبي داود، عن ابن عباس، أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضا، عن أبي رافع، مولى حفصة قال:
كتبت مصحفا لحفصة، فقالت: اكتب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر)
فلقيت أبي بن كعب، فأخبرته، فقال، هو كما قالت. أو ليس أشغل ما يكون عند صلاة
الظهر في عملنا ونواضحنا، فهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها
الظهر.
قوله: (أفضل الصلاة: أحمزها)، هذا الحديث لا أصل له، وقال ابن الأثير في النهاية:
في حديث ابن عباس، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي الأعمال أفضل؟ فقال:
(أحمرها) أي أقواها وأشدها.
قوله: (ووتر النهار)، لأن ما عداها من صلواته شفع، ركعتان
(2/441)
أو أربع.
قوله: (وقيل: العشاء)، لم يرد عن واحد من الصحابة.
قوله: (وعن عائشة) إلى آخره، تقدم عزوه آنفا إلى مسلم.
قوله: (وقرئ بالنصب على الاختصاص)، قال أبو حيان: أو عطفا على موضع الصلوات، لأنه
نصب كما تقول: مررت بزيد وعمرا.
قوله: (أو رجل)، هو بفتح الراء وضم الجيم، يقال: مشى فلان إلى بيت الله حافيا
راجلا.
قوله: (أو ألزم)، أي فيكون وصية مفعولاً ثانيا، قال أبو حيان: هذا الوجه ضعيف، إذ
ليس من مواضع إضمار الفعل.
قوله: (على تقدير ووصية النسب)، إلى آخره، قال أبو حيان: في التقادير الخمسة، لا
ضرورة تدعو إلى ادعاء هذا الحذف خصوصا الرابع، فإنه ليس من مواضع إضمار الفعل،
والوجه أن يصدر وصية منهم، على حد: السمن منوان بدرهم.
قوله: ((غير إخراج)، بدل منه)، قال الشيخ سعد الدين: بدل اشتمال.
قوله: (ثم نسخت المدة بقوله)، إلى آخره.
أخرجه البخاري، عن عثمان بن عفان.
قوله: (وسقطت النفقة بتوريثها: الربع أو الثمن)، أخرجه ابن
(2/442)
أبي حاتم عن ابن عباس.
قوله: (ألم تر تعجيب)، إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: الأوجه عموم الخطاب به دلالة على شيوع القصة وشهرتها بحيث
ينبغي لكل أحد أن يتعجب منها كأنه حقيق بأن يحمل على الإقرار برؤيتهم وإن لم يرهم،
ولم يسمع بقصتهم، ولم يكن من أهل الكتاب وأهل أخبار الأولين، قال: وتحقيق جرى هذا
الكلام مجرى المثل أن يشبه حال من لم يره بمن رآه في أنه ينبغي ألا تخفى عليه هذه
القصة، وأنه ينبغي أن يتعجب منها، ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رآهم وسمع
قصتهم، قصدا إلى التعجب واشتهر في ذلك. وقال الطيبي: عموم الخطاب به أوفق للنظم،
لأن الكلام مع المؤمنين في شأن الأزواج والأولاد.
وقوله: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) كالتخلص من الأحكام إلى القصص
لاشتمال معنى الآيات عليها، ويؤيده قوله: بعد هذا، وفائدة القصة تشجيع المسلمين
على الجهاد)، انتهى. وقال الزجاج: ألم تر كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يتعجب
منه، تقول: ألم تر إلى فلان كيف يصنع كذا، وفي الحديث: (ألم ترى أن مجززا نظر آنفا
فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) قال امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
قوله: (يريد أهل داوردان) إلى أخره، أخرجه ابن أبى حاتم، عن ابن عباس.
قوله: (ألوف كثيرة)، الوارد عن ابن عباس أنهم أربعة آلاف،
(2/443)
أخرجه الحاكم وصححه.
قوله: (وقيل: عشرة)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن أبي صالح، لكن قال: تسعة.
قوله: (وقيل: ثلاثون، وقيل: سبعون)، لم أقف عليهما مسندين، وإنما أخرج ابن جرير من
طريق منقطع، عن ابن عباس، أنهم أربعو ألفا، أو ثمانية آلاف.
قوله: (قيل: مر حزقيل)، إلى آخره.
أخرجه ابن جرير، من طريق السدي، عن أبي مالك إلا قوله: فقاموا يقولون: سبحانك، إلى
آخره.
(ففائدة القصة تشجيع للمسلمين كافة)، قال: انظروا وتفكروا وقاتلوا في سبيل الله.
قوله: (وهو من وراء الجزاء)، قال الشيخ سعد الدين: أي يسوقه حيث شاء ومتى شاء،
وقال الطيبي: هو مثل، يريد أن الله تعالى لابد أن يجازي المتخلف والسابق كما أن
سائق الشيء ورائه لابد أن يوصله إلى ما يريده. ومعنى مستفاد من قوله: سميع عليم.
وهو كما تقول لمن تهدده: أنا أعلم بحالك، أي لا أنسى وأجازيك عليها.
قوله: (وإقراض مثل)، إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: تشبيها بإعطاء العين ليقضي
ويطلب بدله، وهو حقيقة الاقتراض.
قوله: (اقتراضا، يريد أن قرضا واقع موقع المصدر.
قوله: (أو مقرضا) يريد أن قرضا مفعول به، بمعنى المقرض أي قطعة من المال.
(2/444)
قوله: (وقيل: القرض الحسنى بالمجاهدة والاتفاق في سبيل الله)،
أخرجه ابن أبي حاتم، عن عمر ابن الخطاب.
قوله: (لا واحد له)، قال أبو حيان: هو اسم جمع ويجمع على أملاء.
قوله: (هو يوشع)، قال ابن عطية: هذا ضعيف، لأن يوشع فتى موسى. وبينه وبين داود
قرون كثيرة.
قوله: (تقريرا أو تثبيتا)، قال الشيخ سعد الدين: يعني أن معنى الاستفهام هنا
التقرير، بمعنى التثبيت للمتوقع: وإن كان الشائع من التقرير هو الحمل على الإقرار.
قوله: (أي أي غرض لنا في ترك القتال) قال الشيخ سعد الدين: لما كان الشائع في مثل
هذا أن يقال: مالنا لا نفعل كذا، ونفعل كذا، على أن الجملة حال، وقد أتى هنا بكلمة
أن المصدرية، لكون المعنى على الاستقبال جعله على حذف حرف الجر، ليتعلق بالظرف. أي
لنا.
قوله: (ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر)، أخرجه البخاري، عن البراء.
قوله: (روي أن نبيهم) إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن السدي.
قوله: (وليس بفاعول) هو القول الثاني فيه، وعلى هذا لا اشتقاق له.
قوله: (لقلته نحو سلس وقلق)، أي ما فاؤه ولامه من جنس واحد، كهذين اللفظين، فلا
يقاس عليهما ولا يجعل تابوت، من تبت، بل من
(2/445)
تاب، قاله الطيبي، والشيخ سعد الدين.
قوله: (نحو ثلاثة أذرع في ذراعين) أخرجه ابن المنذر، عن وهب ابن منبه.
قوله: (وقيل: صورة كانت من زبرجد)، أخرجه ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح،
عن ابن عباس.
قوله: (وكان لها رأس وذنب، كرأس الهرة وذنبها وجناحان)، أخرجه ابن جرير عن مجاهد.
قوله: (خشب الشمشاد) هو بمعجمتين الأولى مكسورة، خشب يعمل منه الأمشاط.
قوله: (فتئن) من الأنين، و (يزف) من الزفيف، وهو السير السريع. و (الرضاض) الفتات.
قوله: (والآل مقحم لتفخيم شأنها)، قال أبو حيان: إن عنى بالإقحام الزيادة على ما
يدل عليه قوله: أو أنفسهما، فلا أدري كيف تفيد زيادته تفحيما، وإن عنى بالأول
الشخص، فإنه يطلق على شخص الرجل آله، فليس من الزيادة.
قوله: (وأصله فصل نفسه) أي أصله التعدي، ثم جعل لازما.
قوله: (روي أنه قال لهم) إلى أخره، أخرجه، ابن جرير، عن السدي. والقيظ: شدة الحر.
قوله: (وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا)، هو، للعرجي،
(2/446)
وصدره: فإن شئت حرمت النساء سواكم. والنقاح بضم النون وقاف وخاء
معجمة الماء العذب الذي ينقح الفؤاد، أي يبرده، أي يكسر العطش والبرد النوم، ولولا
استعمال لم أطعم بمعنى لم أذق لم يصح دخوله على النوم، وقد قالوا: ما ذقت غماضا.
قال الطيبي: قال في مخاطبه النساء إرادة لتعظيمهن كما جاء بالجمع الواحد للمذكر.
ثم رأيت في الأغاني، إن هذا البيت، من قصيدة للحارث بن خالد بن العاصي بن هشام
المخزومي، أحد من قتل على الشرك ببدر، قتله على ابن أبي طالب، يخاطب به ليلى بنت
أبي مرة بن عروة ابن مسعود. وأول القصيدة.
لقد أرسلت في السر ليلى تلومني .... وتزعمني ذاملة طرفا جلدا
تعدين ذنبا واحدا ما جنيته .... على ولا أحصى ذنوبكم عدا
فإن شئت حرمت النساء سواكم البيت.
قوله: (استثناء من قوله: فمن شرب) قال أبو حيان: في بعض التصانيف: إنه يجوز كونه
من الجملة، قال: ولا وجه له.
قوله: فكرعوا) الكرع تناول الماء بالفم من غير كف، أو إناء، قال الطيبي: وفسر به
ليؤذن أنهم بالغوا في مخالفة المأمور حيث لم يغترفوا. قلت: والتفسير بالكرع، أخرجه
ابن أبي حاتم، عن ابن
(2/447)
عباس.
قوله: (وقرئ بالرفع حملا على المعنى)، إلى آخره. قال أبو حيان: هذا دليل على أن
الزمخشري لم يحفظ الاتباع بعد الموجب حتى احتاج إلى تأويله. والمقرر في العربية
أنه يجوز في الموجب وجهان: النصب، وهو الأفصح، والاتباع. قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قوله: (وقد اختلف النحاة في إعرابه إذا اتبع)، فقيل: إنه نعت لما قبله، وقيل: عطف
بيان.
قوله: (روى أن من اقتصر على الغرفة)، إلى آخره. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
قوله: (وكم تحتمل الخبرية والاستفهامية) ولم يذكر أبو حيان سوى الأول. والأوجه
الثاني بقرينة المقام.
قوله: (ومن مبينة)، أي على الخبر.
قوله: (أو مزيدة)، إي على الاستفهام.
قوله: (من فأوت) فالمحذوف لام الكلمة (أو من/ فاء) فالمحذوف العين.
قوله: (وفيه ترتيب بليغ)، إلى آخره. قال الطيبي: فإن قيل: كان الواجب على هذا أن
يؤتى بالفاء دون الواو فالجواب ما قال، صاحب
(2/448)
المفتاح: الواو أبلغ، لأن تعويل الترتيب حينئذ إلى ذهن السامع
دون اللفظ.
قوله: (قيل: كان إيشا) إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن السدي. وايشا والد داود، بكسر
الهمزة.
قوله: (إشارة إلى الجماعة المذكور قصصها)، إلى آخره. قال أبو حيان: الأولى: أن
يكون إشارة إلى المرسلين. في قوله: (وإنك لمن المرسلين).
قوله. (وهو: موسى)، إلى آخره. من جملة من كلم من الأنبياء أيضا: آدم كما ورد.
قوله: (كليم الله، بمعنى مكالمه) كالجليس بمعنى المجالس والأنيس بمعنى المؤانس،
والنديم بمعنى المنادم، وهو كثير.
قوله: (كأنه العلم)، إلى آخره: الشيخ سعد الدين في التعبير عنه باللفظ المبهم
تنبيه على أنه من الشهرة بحيث لا يذهب الوهم إلى غيره في هذا المعنى، ألا ترى أن
التنكير الذي يشعر بالإبهام كثيراً ما يجعل علما على الإعظام والإقحام، فكيف اللفظ
الموضوع لذلك.
قوله: ({وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} كرره للتأكيد)، قال ابن المنير:
وراء التأكيد سر آخر أخص منه، وهو أنه متى طال الكلام أعيد الأول تطرية وتجديداً
لعهده. ومنه قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ
تغلب إيقي! إلاً تق متحيرة ؤقتئهر ئطقمين بيئي يقن ؤتيهن من شترن بآتكقير
(2/449)
صَدْرًا}.
قوله: (فوضع الكافرون موضعه تغليظا) أي من حيث شبه فعلهم الذي هو ترك الزكاة
بالكفر فهو استعارة تبعية.
قوله:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وهو من قصيدة لعدي بن رقاع العاملي، وقبله:
وكأنها بين النساء أعارها .... عينيه أحور من جآذر جاسم
وجاسم: قرية بالشام، ووسنان صفة أحور. وأقصده: أصابه. من رماه فأقصده، أي: قتله
مكانه، ورنق النعاس خالط عينه، من رنق الطائر، وقف في الهواء صافا جناحيه يريد
الوقوع، والبيت: دل على أن السنة النعاس، لا لنوم الخفيف، وقال المفضل: السنة ثقل
في الرأس، والنعاس في العين والنوم في القلب.
قوله: (على ترتيب الوجود) زاد الشيخ سعد الدين: على طريقة، لا يغادر صغيرة ولا
كبيرة، قصداً إلى الإحاطة والإحصاء.
قوله: (من علمه)، من معلوماته، الراغب: من علمه: على وجهين، أحدهما، ما يعلمه،
فيكون العلم مضافا إلى الفاعل. الثاني: أن يعلمه الخلق فيكون مضافا إلى المفعول
لينبه على أن معرفته على الحقيقة متعذرة، بل لا سبيل إليها، وإنما غايتها أن تعرف
الموجودات ثم تتحقق أنه ليس إياها ولا شيئا منها ولا شبيها بها، بل هو سبب وجود
جميعها
(2/450)
وإنه يصح ارتفاع كل ما عداه مع بقائه، ولهذا النظر قال أبو بكر
رضي الله عنه: (سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته)
وقال بعض الأولياء: غاية معرفة الله أن تعلم أنه يعرفك لا أنك تعرفه.
قوله: (تصوير لعظمته) إلى آخره. الصواب: حمل الكرسي على الحقيقة، كما دلت عليه
الأحاديث والآثار.
قوله: (ما السموات السبع)، الحديث أخرجه ابن مردويه: من حديث أبي ذر.
قوله: (ولعله الفلك المشهور بفلك البروج)، هذا من خرافات الفلاسفة التي لا أصل
لها، ولا يقوم عليها دليل.
قوله: (أي حفظة السموات والأرض)، قال الشيخ سعد الدين: بين مرجع الضمير، إذ ربما
يتوهم أنه جمع فلا يصح مرجعا لضمير التثنية.
قوله: (إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي)، هذه الجملة صحيحة أخرجها مسلم، من حديث
أبي بن كعب، والطبراني من حديث الأسقع البكري، وابن مردويه، من حديث ابن مسعود،
وابن راهوية في مسنده من حديث عوف بن مالك، وأحمد والحاكم من حديث
(2/451)
أبي ذر.
قوله: (من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته، ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك
الساعة)، لا أصل له.
قوله: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت)،
أخرجه بهذا اللفظ إلى هنا النسائي، وابن حبان، والدارقطني، من حديث أبي أمامة،
والبيهقي في شعب الإيمان، من حديث الصلصال بن الدلهمس، ومن حديث علي ابن أبي طالب.
قال الشيخ سعد الدين: لم يبق من شرائط دخول الجنة إلا الموت وكان الموت يمنع،
ويقول: لابد من حضوري أو لا يدخل الجنة.
قوله: (ولا يواظب عليها إلا صديق، أو عابد)، هذه الجملة من حديث أخرجه البيهقي في
الشعب، من حديث أنس مرفوعا. (من قرأ
(2/452)
أية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة الأخرى، ولا
يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد.
قوله: (ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وداره وجار جاره
والأبيات حوله)، هو في حديث على المشار إليه، بعد قوله: إلا الموت، ومن قرأها حين
يأخذ مضجعه أمنه الله على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله.
قوله: (لما روى أن أنصاريا)، إلى آخره. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس.
وسمى الأنصاري: الحصين من بني سالم بن عوف.
قوله: (قلب عينه ولامه) إذ اصله: طغوت، جعلت اللام مكان العين، والعين مكان اللام
فصار: طوغوت: تحركت اللام وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصار طاغوت، وذهب بعضهم إلى
أن التاء بدل من لام الكلمة، ووزنه فاعول، وقيل: هو مصدر كرهبوط، وحبروت.
قوله: ((طلب الإمساك من نفسه) على أن استفعل للطلب على بابه، والأوجه أنه بمعنى
تمسك، وهي استعارة. في الكشاف: تمثيلية. قال الشيخ سعد الدين: شبه التدين بالدين
الحق والثبات، على الهدى والإيمان بالتمسك بالعروة الوثقى، المأخوذة من الحبل
المحكم المأمون قطعها ثم ذكر المشبه به وأراد المشبه.
قوله: (يقال: فصمته فانفصم إذا كسرته)، يشير إلى أنها بالفاء
(2/453)
كسر بلا بينونة، وبالقاف قطع ببينونة.
قوله: (والجملة خبر) إلى آخره، رجح أبو حيان في الجملتين الاستئناف المفسر، وعلى
الحالية، العامل في الأولى ولي ومن الثانية يعني الطاغوت، أو حال من المستكن في
الخبر، أو من الموصول، أو منهما.
رفع إلي سؤال في هذا المحل صورته بين لنا كيف صيغة الحال على كل فأجبت بما نصه: من
القواعد المقررة في العربية إن صاحب الحال والحال يشبهان المبتدأ والخبر فكذلك
الشبه يجوز أن يكون صاحب الحال واحدا ويتعدد حاله، كما يكون المبتدأ واحدا والخبر
متعدداً ويجوز أن يكون صاحب الحال متعددا والحال متعدداً أو متحدا، ويشترط وجود
الرابط لكل من الصاحبين، كما يشترط وجود الرابط لكل من المبتدأين، ومن القواعد
المشهورة حتى في الألفية، إن الحال يأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف عاملا، كما
قال:
ولا تجز حالا من المضاف له .... إلا إذا اقتضى المضاف عمله
إذا تقرر ذلك، فالوجه الأول، وهو أنها حال من الضمير المستكن في ولى، هو الأوضح،
وهو الذي رجحه أبو حيان، في البحر، فإن صيغة ولى صفة مشبهة، وفيه ضمير الفاعل،
والحال يأتي من الفاعل كثيرا، وتقدير الكلام: الله ولي الذين آمنوا حال إخراجه
إياهم من الظلمات إلى النور، أو حال كونه مخرجا لهم، أي تولاهم حيث أخرجهم، والحال
قيد في العامل، فجملة الإخراج حال مبينة لهيئة التولي، وضمير يخرج المستتر فيه هو
الرابط لجملة الحال لصاحبها، وإنما جعل من ضمير ولي لا من نفس ولى، لأنه واقع
خبراً عن المبتدأ، والقاعدة أن الحال لا تأتي من الخبر، بل الفاعل أو المفعول، أو
ما كان في معناهما، وهو المضاف إليه بشرطه، والمبتدأ على رأي، وأما الخبر فلا يأتي
منه الحال، فكذلك عدل إلى الضمير
(2/454)
الذي هو فاعل، والوجه الثاني، وهو إنها حال من الموصول واضح
أيضا، لأنه مجرور بإضافة الصفة المشبهة إليه فهو من قاعدة ما كان المضاف عاملا فيه
فهو في معنى المفعول، ولهذا لو جئت بدل الصفة المشبهة بالفعل ظهرت المفعولية،
وتقدير الكلام الله ولي المؤمنين حال كونهم مخرجين بهدايته من الظلمات، فإذا قدرت
الحال من ضمير ولي كانت في تقدير مخرجا بالكسر، اسم فاعل، وإذا قدرتها من الذين،
الذي هو في معنى المفعول، كانت في تقدير مخرجين بالفتح اسم مفعول، والوجه الثالث
واضح أيضا، وهو أنها حال منها معا، فإن فيها رابطين، رابط بالأول، وهو ضمير يخرج
المستتر الذي هو فاعل، ورابط بالثاني، وهو ضمير الذين آمنوا الذي هو مفعول يخرج،
وهو وهم، وتقدير الكلام، على هذا، الله ولي المؤمنين حال كونه مخرجا لهم بالهداية
وحال كونهم مخرجين بالاهتداء، وفي ذلك ملاحظة أخرى لقاعدة أصولية، وهو استعمال
المشترك في معنييه.
قوله: (وقيل: نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام)، الوارد خلاف القولين. أخرج ابن
المنذر، والطبراني في الكبير، عن ابن عباس، أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما
بعث محمد كفروا به.
قوله: (لأن أتاه الله)، إلى آخره، قال الشيخ سعد الدين: شبه استعقاب الإيتاء
المحاجة باستعقاب العلة المعلول، كما دخلت اللام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ} الآية على ما ليس بغرض تشبيها لها بما هو غرض، فهنا شبه
بالعلة والسببية وثمة بالمعلولية والغرضية.
قوله: (أو وقت أن أتاه)، قال أبو حيان: أن أريد بذلك أنه على حذف مضاف ممكن على أن
فيه بعدا من جهة أن المحاجة لم تقع وقت الإيتاء، لأن الإيتاء سابق على المحاجة،
وإن أريد أن أن والفعل وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان، كقولك: جئت خفوق
النجم، ومقدم الحاج، وصياح الديك، فلا يجوز ذلك لأن النحاة مضوا على أنه
(2/455)
لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه، فلا يجوز جئت
أن صاح الديك، ولا أجيء: أن يصيح الديك، قال الحلبي: كذا قال الشيخ. وفيه نظر،
لأنه قال: لا ينوب عن الظرف إلا المصدر المصرح، وهذا معارض بأنهم نصوا على أن ما
المصدرية تنوب عن الزمان، وليست بمصدر صريح. (وقال ابن هشام في المغني: ولا يشارك
ما في النيابة عن الزمان أن، خلافا لابن جني، وتبعه الزمخشري، ومعنى التعليل ممكن
وهو متفق عليه، فلا معدل عنه.
قوله: (أو بدل من آتاه الله) على الوجه الثاني. قال أبو حيان: قد تبين ضعفه، وقال
أيضا: فالظرفان مختلفان، إذ وقت الملك ليس وقت قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ}، قال السفاقسي: وفيه نظر، لأنا قد بينا أولا أنه يجوز بأتاه ولم يرد به
ابتداءه، بل زمان الملك، فكان الزمان الذي قال فيه إبراهيم يشمل على زمان الملك.
وقال أبو البقاء: ذكر بعضهم أنه بدل من أن أتاه. وليس بشيء، لأن الظرف غير المصدر،
فلو كان بدلاً لكان غلطا، إلا أن تجعل إذ بمعنى أن المصدرية، وقد جاء ذلك. قال الحلبي:
وهذا بناء منه على أن أن مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف، أما إذا كان أن
واقعة موقع الظرف، فلا يكون بدل غلط، بل بدل كل من كل كما هو قول الزمخشري، وفيه
ما تقدم بجوابه، مع أنه يجوز أن يكون بدلا من أن آتاه، وأن آتاه مصدر مفعول من
أجله بدل اشتمال، لأن وقت القول لا تساعد مشتمل عليه وعلى غيره. قال الشيخ سعد
الدين: على الوجهين يشكل موقع، (قال أنا أحي وأميت)، إلا أن يجعل استئنافا لجواب
سؤال.
(2/456)
قوله: (وقراءة حمزه، رب، بحذف الياء).
قوله: (وهو في الحقيقة: عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي)، يعني الانتقال من حجة إلى
أخرى، كما مشى عليه في الكشاف، قال الإمام: للناس في هذا المقام طريقان، أحدهما:
قول أكثر المفسرين، إن إبراهيم لما سمع تلك الشبهة من نمرور عدل عن ذلك إلى دليل
أوضح منه.
وقالوا: إن الانتقال من دليل إلى آخر أوضح منه، جائز للمستدل، والثاني: إنه ليس
انتقالا من دليل إلى آخر، وإنما هو من باب ما يكون الدليل واحدا لا أن يكون
الانتقال لإيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وإلا فالحجة الأولى قد تمت ولزمت، وما
عارض به نمرود أمر باطل، وإذا كان كذلك، كان اللعين منقطعا، إلا أن إبراهيم عليه
الصلاة والسلام لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم دفع ذلك بمثال أوضح منه، وعلى
الطريقة الأولى، قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: ما كان ينبغي/ للنبي أن ينتقل بل
كان عليه إزاحة الشبهة دفعا لوهم الإقحام، قلنا: إنما يكون ذلك إذا كان للشبهة قوة
التباس على السامعين وأما في الشبهة الواهية فيحسن الإعراض عنها وعدم الالتفات،
سيما مع المجادل الأحمق الخارج عن دائرة التوجيه، فإن الأليق بحاله الانتقال إلى
دليل آخر لا يجد معه مجال الجواب أصلا ليلزم انقطاعه مع أول الأمر.
قوله: (تقديره: أو رأيت مثل الذي) إلى آخره، حاصله ثلاثة أوجه في تصحيح العطف، وقد
استحسن أبو حيان الوجه الأول، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف
على المعنى، فإنهم نصوا على أنه لا ينقاس به، قال: ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف
فعل ولا على العطف على المعنى، ولا على زيادة الكاف بل تكون الكاف إسما على ما
يذهب إليه أبو الحسن، فتكون في موضع جر عطفا على الذي، والتقدير: ألم تر إلى الذي
حاج إبراهيم، أو إلى مثل الذي مر، ومجيء الكاف اسما، فاعلة ومبتدأة ومجرورة ثابت،
في لسان العرب، وتأويلها بعيد، فالأولى الحمل على هذا الوجه وإنما عرض لهم الإشكال
(2/457)
من حيث اعتقاد حرفية الكاف. انتهى، وقال الشيخ سعد الدين: تقرير
المقام أن كلا من لفظة: (ألم تر ورأيت) تستعمل لقصد التعجب إلا أن الأولى تعلق
بالمتعجب منه، فيقال ألم تر إلى الذي صنع كذا بمعنى أنظر إليه فتعجب من حاله،
والثانية تمثل التعجب منه، فيقال: أرأيت بمثل الذي صنع كذا، بمعنى أنه من الغرابة
بحيث لا يرى له مثل، ولا يصح ألم تر إلى مثله أن يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب
من الذي صنع، فلذا لم يستقم عطف كالذي مر على الذي حاج، واحتيج إلى التأويل في
المعطوف، بجعله متعلقا بمحذوف، أي أرأيت كالذي مر ليكون من عطف الجملة، أو المعطوف
عليه: نظرا إلى أنه في معنى أرأيت كالذي حاج ليصح العطف عليه فظهر أن عدم
الاستقامة ليس بمجرد امتناع دخول كلمة إلى على الكاف اسمية كانت أو حرفية، حتى لو
قلت: ألم تر إلى الذي حاج أو مثل الذي مر، فعدم الاستقامة بحاله عند من له معرفة
بأساليب الكلام، وأن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء، بل لابد في التعجب بكلمة
أرأيت من أثبات الكاف أو ما في معناه، يقولون: أرأيت كزيد أو مثل زيد، وهو شائع في
سائر اللغات، نعم. لو قيل: أرأيت زيداً كيف صنع قصداً إلى التعجب بكلمة كيف أو
قرينة أخرى، فذلك باب آخر.
قوله: (وهو عزير)، أخرجه الحاكم، عن علي، وإسحاق ابن بشير، عن عبد الله بن سلام،
وابن عباس، وقال: ابن سروخا.
قوله: (ويؤيده نظمه مع نمرود)، قال الطيبي: هو معارض بما بين قصته وقصة إبراهيم من
التناسب المعنوي، فإن كليهما طلبا معاينة الأحياء. وقال الشيخ سعد الدين: المراد
بنظمهما في سلك أنه سيق الكلام للتعجب من حالهما وكلمة الاستبعاد. في مثل هذا
المقام تشعر
(2/458)
بالإنكار ظاهرا، وما يقال أنه قد انتظم مع إبراهيم أيضا غير
مستقيم، وإنما ذلك مجرد مقارنة في الذكر، إذ لم يذكر على الوجه الذي ذكر إبراهيم
وهو معنى الانتظام في السلك، نعم، لو قيل: الانتظام في سلك يدل على كونه مؤمنا
ليكون الإتيان توضيحا وتمثيلا وتفصيلا لما سبق من الاخراج من الظلمات إلى النور
وبالعكس لكان شيئا.
قوله: (والقرية بيت المقدس)، قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المراد بها أهل
القرية، بل نفسها بدليل قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}، وأما قوله:
{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فلا خفاء في أن المراد به أهل
القرية.
قوله: (وساغ أن يكلمه الله) إلى أخره، رده الطيبي والشيخ سعد الدين، بأن الإيمان
إنما حصل بعد تبين الأمر والكلام قبله. وقال أبو حيان: لا نص في الآية، على أن
الله كلمه شفاها.
قوله: (وقيل: إنه مات ضحى)، إلى آخره. أخرجه، سعيد بن منصور، عن الحسن وابن أبي
حاتم، عن قتادة، لقوله: ليقضي البازي، من قول العجاج:
تقضي البازي إذا البازي كسر
أوله: أين خريان تقضي فانكدر
الجوهري: أنقض الطائر: هوى في طيرانه، ومنه انقضاض الكواكب ولم يستعملوا منه تفعل
إلا مبدلا، قالوا: تقضي، فاثتثقلوا ثلاث
(2/459)
ضادات: فأبدلوا من أحداهن ياء وكسر الطائر: ضم جناحه حتى ينقض.
والخربان: بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء جمع الخرب بفتحهما، وهو ذكر الحباري،
وانكدر: أسرع وانقض.
قوله: (روى أنه أتى قومه على حماره)، إلى أخره. ابن عساكر، عن ابن عباس.
قوله: (أو الأموات الذين تعجبت من إحيائهم)، قال أبو حيان: هذا فيه بعد، لأنهم لم
يحيوا له في الدنيا.
قوله: (وكيف منصوب بنشر)، زاد أبو حيان: (هذا فيه بعد)، نصب الأحوال وذو الحال
مفعول ننشزها.
قوله: (والجملة حال من العظام)، أي: انظروا إليها محياه، قال أبو حيان: هذا ليس
بشيء، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالاً، وإنما تقع حالا كيف وحدها نحو كيف
ضربت زيداً، والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة بدل من العظام، وموضعه نصب، لأنه
مفعول انظر.
قوله: (فاعل تبين مضمر) إلى آخره، قال أبو حيان: جعله من باب التنازع، وليس منه،
لأنهم نصوا على أن شرطه اشتراك العاملين، وأدى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل
معتبرا، وليس العامل الثاني هنا مشتركا بينه وبين تبين الذي هو العامل الأول بحرف
عطف ولا بغيره ولا هو معمول لتبين، بل هو معمول لقال الذي هو جواب، (لما) قال: ثم
إن قوله: فحذف الأول لدلالة الثاني عليه مناقض لقوله: إنه مضمر يفسره ما بعده، لأن
الحذف ينافي الاضمار. انتهى. وقال السفاقسي: قوله:
(2/460)
لأنهم نصوا، لم أر ذلك إلا لابن عصفور، وخالفه غيره. فأجاز
الفارسي في (فهيهات هيهات العقيق وأهله) أن يكون من باب الإعمال، فقال: العقيق
ارتفع بهيهات الثانية وأضمرت في الأولى. وأجاز ابن أبي الربيع في قام زيد أن يكون
من باب الإعمال والاشتراك، وقد جعلوا من باب الإعمال. قوله تعالى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ومسألتنا أولى، لأن
العامل الثاني معمول لقال، وقال مرتبط بالأول بلما، وهذا كان في الاشتراك. قال:
وقوله: إنه مناقض لأن الحذف ينافي الإضمار، ممنوع لا مكان أن يكون تجوز بالحذف
وأراد به الإضمار، لأن الضمير المقدر محذوف في اللفظ. وأجاب الشيخ سعد الدين، عن
هذا الأخير بأن المعنى بحذف الأول اسقط من اللفظ وجعل موضعه الضمير، وذكر الإمام
أيضا أن جعله من التنازع تعسف، وأن القوى تبين له قدرة الله في الإمانة والإحياء.
قوله: (تبين له ما أشكل عليه)، قال أبو حيان: هذا تفسير معنى، لا تفسير إعراب،
وتفسير الإعراب أن يقدر مضمرا يعود على كيفية الأحياء التي استغربها يعد الموت.
قوله: (قيل: طاووسا، وديكا وغرابا وحمامة)، أخرجه، ابن أبي حاتم، على ابن عباس
وذكر بدل الغراب الغرنوق.
قوله: (أو جمع)، قال أبو حيان: الصحيح أنه اسم جمع، كركب وسفر، لا جمع، خلافا لأبي
الحسن.
(2/461)
قوله: (ولكن أطراف الرماح تصورها).
أوله: وما صيد الأعناق منهم جبله.
الصيد: بالتحريك الميل والاعوجاج، يعني أمالة الأعناق إنما هي من الرماح والصور
الميل.
قوله:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه .... على الليث قنوان الكروم الدوالح
هو لبعض بني سليم، والفرع: الشعر التام، والوحف بحاء مهملة وفاء: الشعر الكثير الأسود،
والليث بكسر اللام، أخره مثناة فوقية صفحة العنق، وقنوان، جمع قنو وهو العنقود،
والدوالح، بحاء مهملة المثقلات الحمل.
قوله: (قيل: كانت أربعة) أخرجه ابن جرير، من طريق ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم ن
عن أهل الكتاب.
قوله: (وقيل: سبعة)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
قوله: (قال لهن: تعالين بإذن الله)، قال الشيخ سعد الدين: إما أن يتعلق بقل، فلا
فائدة، أو بتعالين فلا وجه لتفسير ادعهن بذلك.
قوله: (روي أنه أمر بأن يذبحها)، إلى آخره، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
قوله: (نزلت في عثمان)، لم أقف عليه.
(2/462)
قوله: ((والمن أن يعتد) من عده فاعتد أي صار معدوداً، ثم تعدى
بالباء، فيقال: اعتد به، أي جعله معدوداً معتبرا على المنعم عليه.
قوله: (وثم للتفاوت)، قال ابن المنير، وتبعه الطيبي، عندي: فيه وجه آخر، وهو
الدلالة على دوام الفعل المعطوف به وارخائه الطول في استصحابه، فلا يخرج بذلك عن
الإشعار بتقييد الزمن ومعناه في الأصل تراخي زمن وقوع الفعل، ومعناه المستعار دوام
وجود الفعل وتراخي زمن بقاءه، ومثله (ثم استقاموا) أي داموا على الاستقامة دواما
متراخيا، وكذا هنا، أي يدومون، على الإحسان، وترك الامتنان، وقريب منه أو مثله أن
السين تصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه، نحو: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي
سَيَهْدِينِ} وقد قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فليس لتأخير الهداية
سبيل، فتعين حمله على تنفيس دوام الهداية وتمادي أمرها.
قوله: (لعله لم يدخل الفاء)، إلى آخره. قال الطيبي: تحقيقه، أن في تضمن معنى الشرط
تعليقا للكلام، وفي زواله عن ذلك تحقيق للخبر، وإنما بنيت الجملة على التحقيق،
لأنها واردة في الحث على الانفاق في سبيل الله لرفع منار المسلمين وإشادة الدين
القويم.
قوله: (وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة)، هذا
(2/463)
في قول خاصة، وأما المعطوف عليه فلا يحتج إلى مخصص كما هو
معلوم.
قوله: (وإن الذي حانت بفلج دمائهم)، هو للأشهب بن زميله، النهشلي، شاعر اسلامي، من
طبقة الفرزدق، وقيل: لحريث بن مخفض، وتمامه:
هم القوم كل القوم يا أم خالد.
حانت: هلكت، وفلج: بفتح الفاء وسكون اللام وجيم، موضع في طريق البصرة، ودمائهم،
نفوسهم، ويروى: (وإن الأولى) بدل، (وإن الذي).
قوله: (ضعفين)، قال أبو حيان: يحتمل عندي أن التثنية فيه للتكثير، لا شفع الواحد،
أي ضعفا بعد ضعف أي أضعافا كثيرة، لأن النفقة لا تضاعف بحسنتين فقط، بل بعشر
وسبعمائة وأزيد.
قوله: (أو للعطف، حملا على المعنى) قال الشيخ سعد الدين: الاعتراض بأن ليس المعنى
على دخول إصابة الكبر في حيز التمني ليس بشيء، لأنه داخل في حيز التمني المنكر
المنفي، أي لا يود أحدكم ولا يتمناه، وكذا، فأصابها إعصار، فإنه عطف على فأصابه،
حتى أن تمنى حصول الجنة الموصوفة أيضا منكر منفي باعتبار هذين العطفين، والحاصل،
أن الكلام إنكار واستبعاد لتمني هذا المجموع.
قوله: (فحذف المضاف لتقدم ذكره)، زاد الطيبي، والشيخ سعد
(2/464)
الدين، وكرر، من، دلالة على استقلال كل من الاتفاقين.
قوله: (حال مقدرة)، لأن الانفاق منه يقع بعد القصد إليه.
قوله: (أي وحالكم أنكم لا تأخذونه)، جعل الجملة حالية. وقيل: إنها مستأنفة.
قوله: (وعن ابن عباس) إلى أخره. أخرجه ابن أبي حاتم.
قوله: (والوعد في الأصل شائع في الخير والشر)، قال الفراء: يقال: وعدته خيرا
ووعدته شرا. فإذا اسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير الوعد والعدة وفي الشر
الايعاد والوعيد.
قوله: (وبه قال الشيخ سعد الدين)، يعني أن يأمركم استعارة تبعية.
قوله: (والعرب تسمي البخيل فاحشا)، قال بعض الطائين:
قد أخذ المجد كما أراد .... ليس بفحاش يصر الزادا
وقال طرفه:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى .... عقيلة مال الفاحش المتشدد
قوله: (أي ومن يؤته الله)، قال أبو حيان: إن أراد تفسير المعنى فصحيح، أو الأعراب
فلا، إذ ليس في يؤت ضمر نصب على الحذف بل من مفعول مقدم لفعل الشرط، كما تقول: أيا
تعط درهما أعطه درهما، قال الحلبي: يؤيد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش: ومن يؤته الحكمة
بإثبات هاء الضمير، ومن قراته مبتدأ لاشتغال الفعل بمعموله، وعند من
(2/465)
يجوز الاشتغال في أسماء الشروط والاستفهام يجوز في من النصب
بإضمار فعل، ويقدره متأخرا، والرفع على الابتداء.
قوله: (أي أي خير كثير)، يريد أن التنكير يفيد التعظيم، كما أن الوصف أفاد
التكثير.
قوله: (فيجازيكم عليه)، يعني أن إثبات العلم كناية عن الجزاء، وإلا فهو معمول.
قوله (إبداءها)، يعني إنما هي هو المخصوص لكن على حذف المضاف ليحسن ارتباط الجزاء
بالشرط، ويدل على هذا تذكير الضمير في (فهو خير لكم) أي إخفاؤها.
قوله: (/وعن ابن عباس صدقة السر)، إلى آخره، أخرجه ابن أبي حاتم.
قوله: (وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب بالنون مرفوعا على أنه جملة فعلية
مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء، أي ونحن نكفر، وقرأ نافع، وحمزة
والكسائي به مجزوما على محل إلقاء وما بعده)، ورد سؤال من الإسكندرية، من القاضي
بدر الدين الدماميني على هذا المحل من الكشاف صورته، استشكل هذا الفعل من وجهين
أحدهما: أن ما بعد الفاء جملة لا محل لها من الإعراب لارفعا ولا نصبا ولا جرا، وهو
واضح، ولا جزما، لأن الفاء الرابطة للجواب مانعة من جزم ما بعدها لو كان مما يقبل
الجزم فكذا ما يقع موقعه، فكيف تقول: عطفا على محل ما بعد الفاء، والغرض ألا محل
له.
وثانيهما: أن قوله: ومحزوما عطفا على محل الفاء وما بعده، لأنه جواب الشرط صريح في
أن الفاء وما دخلت عليه في محل جزم وكذا قال غيره، لكنه مشكل لما تقرر من أن
الجملة لا تكون ذات محل
(2/466)
من الاعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال
المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الاعراب، وذلك لأن جواب الشرط إنما
يكون جملة ولا يصح أن يكون مفرداً، فالموضع للجملة بالأصالة وأما جزم الفعل فليس
بالعطف على محل الجملة، وإنما لكونه مضارعا وقع صدر الجملة معطوفة على جملة جواب
الشرط الجازم، وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة
المعطوف عليها، وهو جزم صدرها، إذا كان فعلا مضارعا. انتهى.
قوله: (على ما بعد الفاء)، لأن محل ما بعدها وحده مرفوع، إذ لا أثر للعامل فيه ومحلها
معه مجزوم.
قوله: (اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا)، أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
قوله. (روى أو ناسا من المسلمين)، الحديث، أخرجه النسائي والحاكم، عن ابن عباس،
نحوه.
قوله: (وقيل: وهم أهل الصفة)، أخرجه ابن المنذر، عن ابن عباس.
قوله: (كانوا نحوا من أربعمائة)، إلى آخره.
قوله: (على لاحب يهتدي بمناره)، قيل: لو صدر بيت وتمامه:
إذا سافه العود الديا في جرجرا.
(2/467)
وقيل عجز بيت صدره: سرى بيديه ثم أج يسيرة.
سرى بيديه: مدهما في البر. أج للظليم: عدا، واللاحب الطريق الواسع، وسافه: بسين
مهملة وفاء: شمه. والعود: بفتح العين والدال المهملتين: الجمل المسن الذي جاوز
السن الباذل والمخلف، وجمعه: عودة والديافي: بالدال المهملة وتحتية وفاء: الضخم
الجليل. والجرجره: صوت يردد البعير في حنجرته. ومعنى الشرط، على لا حب لامنارله
فيهتدي به، كذا في حواشي الكشاف، قلت: وجدت البيت في ديوان امرئ القيس، من قصيدته
التي أولها:
سما بك شوق بعدما كان أقصرا .... وحلت سليمى بطن قو فعرعرا
إلى أن قال:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه .... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عيناك إنما .... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وإني زعيم إن رجعت مملكا .... بسير ترى منه الفرائق أزورا
على لا حب لا يهتدى بمناره .... إذا سافه العود النباطي جرجرا
قال شارح ديوانه: النباطي: منسوب إلى النبط، وفي الصحاح: ديافي موضع بالجزيرة، وهو
نبيط الشام.
(2/468)
قوله: (ونصبه على المصدر، فإنه كنوع من السؤال) جعله مصدراً
ليسألون، وقال أبو حيان: هو مصدر لفعل محذوف دل عليه يسألون، أي لا يلحقون.
(نزلت في أبي بكر)، لم يقف عليه.
قوله: (تصدق بأربعين ألف دينار)، أخرجه ابن عساكر في تاريخه على عائشة.
قوله: (وقيل: في علي)، إلى آخره، أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن
ابن عباس.
قوله: (وقيل في ربط الخيل)، إلي أخره. أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم من حديث عريب
المليكي مرفوعا، قال الشيخ سعد الدين: كون هذا السبب لا يقتضي خصوص الحكم، بل
العبرة بعموم اللفظ.
قوله: (وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم) المراد به إمالة الألف إلى مخرج الواو
وقيل: لأن لغة الحيرة الربو بالواو الساكنة وهي قراءة العدوى، وكتبوها على لفظهم
بها، وإنما كتبها أهل الحجاز كذلك، لأنهم
(2/469)
يعلمون الخط من أهل الحيرة.
قوله: (وهو وارد على ما يزعمون)، إلى آخره، فيه قول إنه على حقيقته، وإن الشيطان
يصرع الإنسان حقيقة والأحاديث دالة له.
قوله: (وهو متعلق بلا يقومون) رده أبو حيان، بأن ما بعد إلا لا يتعلق بما قبلها
إلا إن كان في حيز الاستثناء، وهذا ليس في حيز الاستثناء وكذلك منعوا تعلق
(بالبيان والزبر) بقوله: ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا).
قوله: (ولكن عكس للمبالغة)، قال الطيبى: هذا يسميه ابن الأثير بالطرد والعكس لأن
حق المشبه به أن يكون أعرف بجهة التشبيه وأقوى، فإذا عكس صار المشبه أقوى من
المشبه به، وهو معنى قوله: كأنهم جعلوا الربا أصلا وقاسوا عليه البيع.
قوله: (إن الله يقبل الصدقة فيربيها) الحديث أخرجه الشيخان والترمذي من حديث أبي هريرة.
قوله: (ما نقصت زكاة من مال قط)، أخرجه أحمد، من حديث عبد الرحمن بن عوف، بلفظ: ما
نقص مال من صدقة.
(2/470)
قوله: (روى أنه كان لثقيف، إلى قوله: فنزلت)، أخرجه أبو يعلى،
عن ابن عباس.
قوله: (روى أنها لما نزلت)، إلى آخره، هو من تتمة الحديث قبله، قال في النهاية:
مالي بهذا الأمر ولا يدان أي لا طاقة لي به، لأن المباشرة والدفاع إنما يكون
باليدين، فكأن يديه معدمتان، لعجزه عن دفعه، ولا يدي لنا من قبيل لا أبا له بإقحام
اللام لتأكيد الإضافة، وعند ابن الحاجب بحذف النون تشبيها بالمضاف.
قوله: (وقرأ نافع وحمزة بضم السين)، لم يقرأ به سوى نافع وحده، وقرأ حمزة بالفتح
كالباقين.
قوله: (وأخلفوك وعد الأمر الذي وعدوا)، أوله: جد الخليط غداة البين وانجردوا.
والخليط المخالط، وانجرد بنا السير: امتد من غير لي على شيء. فمعناه: أسرعوا. وعدى
الأمر: أصله، عدة الأمر فحذفت التاء للإضافة.
قوله: (وقيل: المراد التصدق الإنظار)، رده الإمام بأن الأنظار قد علم مما قبل، فلا
بد من حمله على فائدة جديدة.
قوله: (لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة) أخرجه أحمد، من حديث
عمران ابن حصين، نحوه. قال الشيخ سعد الدين: فيؤخره مرفوع عطفا على يحل، والنفي
على المجموع، يعني لا يكون حلول يعقبه تأخير، وإلا كان استثناء مفرغ في موقع
الصفة،
(2/471)
لرجل أو الحال، والمعنى كلما كان هذا كان ذاك، وقد يقال: هو نصب
بتقدير أن، أو رفع بحذف المبتدأ، أي فهو يؤخره، وليس بذاك.
قوله: (وعن ابن عباس، أنها أخر آية نزل بها جبريل)، أخرجه النسائي، وابن مردويه.
قوله: (وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة)، أخرجه الثعلبي، من طريق
السدى الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
قوله: (وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها إحدى وعشرين يوما).
قوله: (وقيل: احدى وثمانين)، أخرجه الفريابي، عن ابن عباس.
قوله: (وقيل: سبعة أيام)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير.
قوله: (وقيل: ثلاث ساعات).
قوله: (ويكون مرجع ضمير فاكتبوه)، زاد في الكشاف، وإلا لكان يقال: فاكتبوا الدين
فلم يكن بذلك النظام الحسن، قال الشيخ سعد الدين: وانتقاء الحسن حينئذ أمر ذوقي
يعترف به العارف بأساليب الكلام، وينبه عليه أنك لو قلت: إذا تداينتم إلى أجل مسمى
فاكتبوا الدين كان أمرا بكتبه مالم يذكر في مضمون الشرط وتركا لما ذكر، فإن قيل:
فليقل فاكتبوه: أي الدين لدلالة تداينتم عليه، قلنا: لا يعلم عود الضمير إليه لأن
عوده إلى التداين الذي هو المصدر أو إلى أجل أظهر على أنه يوهم بكتابة ما هو باطل
في نفسه، أعني التداين بمعنى معاملة الدين ومقابلته به. انتهى.
قوله: (وعن ابن عباس أن المراد السلم)، أخرجه البخاري.
(2/472)
قوله: (وقال لما حرم الله الربا أباح السلم)، أخرجه الثعلبي.
قوله: (من يكتب بالسوية)، يشير إلى أن بالعدل، متعلق بكاتب، لا بالفعل لأن القصد
هنا إلى بيان حال الكاتب أنه كيف ينبغي أن يكون، ولأن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم
فاعله نكرة قليل الجدوى، بخلاف ما إذا قيد، وهذا معنى قوله: وهو في الحقيقة أمر
المتداينين باختيار كاتب مع أن ظاهره أمر للكاتب.
قوله: (ففيه) قال الطيبي: يشير إلى أن الكلام مسوق لمعنى ومدمج فيه معنى آخر، يعني
دل إشارة النص، وتقييد الكاتب بالعدل على إدماج معنى الفقاهة، لأن مراعاة العدل
والتسوية بين الأمور الخطيرة لا يتمكن منها إلا الفقيه الكامل.
قوله: (مثل ما علمه) إلى آخره، قال الشيخ سعد الدين: يشعر بأن ما مصدرية أو كافة،
ومفعول علم محذوف، أي يكتب على الوجه الذي علمه الله، ولم يظهر من كلامه أن الكاف
في موقع المفعول المطلق، أو به، وإنه هل يتفاوت العامل إذا جعل الكلام من قبيل
أحسن كما أحسن الله إليك، وأنه من أين يتأتى حديث النفع.
قوله: (ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر)، قال أبو حيان: هو قلق لأجل الفاء، وقال
الشيخ سعد الدين: هو من قبيل {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، و {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}
بإعمال ما بعد الفاء فيما قبلها.
قوله: (فيكون النهي)، إلى آخره، يعني لا يكون على هذا تأكيداً، لأن النهي عن
امتناع مطلق الكتابة لا يدل على الأمر بالكتابة المخصوصة.
(2/473)
قوله: (والإملال والإملاء واحد)، الأول لغة الحجاز، والثاني لغة
تميم.
قوله: (أو غير مستطيع) قال الشيخ سعد الدين، يشير إلى أن (لا يستطيع) جملة معطوفة
على مفرد، وهو خبر كان.
قوله: (واطلبوا)، يشير إلى أن استشهدوا للطلب على بابه، قال أبو حيان: ويحتمل أن
يكون بمعنى افعل أي واشهدوا كاستيقن بمعنى أيقن، واستعجل بمعنى أعجل.
قوله: (فاليشهد) قال الشيخ سعد الدين: الأنسب أن يقدر فالشهيدان رجل وامرأتان، أي
فليستشهد، أو فاليشهد إذ المأمور هم المخاطبون، لا الشهداء، وقدر أبو حيان:
فالشاهد، وقدر بعضهم فليكن، وهو مناسب لقوله: فإن لم يكونا.
قوله: (وكأنه قيل: إرادة أن يذكر) إلى آخره. قيل: النكتة في إشارة أو تضل فتذكر
على أن تذكر إن ضلت هي شدة الاهتمام بشأن الإنكار بحيث صار ما هو مكروه في نفسه
مطلوبا لأجله، ومن حيث كونه مفضيا إليه.
قوله: (وسموا شهداء) أي أطلق عليهم لفظ الشهداء على هذا الوجه، وهو ما إذا دعوا
ليشهدوا بطريق المشارفة.
قوله: (كنى بالسآمة عن الكسل) يعني أن السآمة والملالة إنما تكون بعد الشروع فيه
والإكثار منه، والمراد هنا النهي عن الكسل من أن يكتب ابتداء، فكني عنه بالسآمة،
لكونها من لوازمه وروادفه.
قوله: (لأنه صفة المنافق)، من قوله: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.
قوله: (لا يقول المؤمن: كسلت)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن
(2/474)
ابن عباس، موقوفا تحته نحوه.
قوله: (وهما مبنيان، من أقسط وأقام، على غير قياس، قال أبو حيان: بل الأول من قسط،
بمعنى عدل، حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد، عن أبى عبيدة، قسط جار، وقسط عدل،
وأقسط بالألف عدل لا غيره. وكذا حكاه ابن القطاع، وقيل: إنه من القسط بالكسر، وهو
مصدر بمعنى العدل، لم يشتق منه فعل، وليس من الأقساط وقيل: هو من قسط بضم السين،
كما يقول: كرم من أكرم والثاني من قام بمعنى اعتدل فلا شذود فيهما.
قوله: (أو من قاسط)، بمعنى ذي قسط، أي على طريقة النسب، كلابن وتامر، كما قيد به
لئلا يتوهم أنه اسم فاعل من المقسط.
قوله: (وقويم)، بمعنى مستقيم، أي أشد استقامة.
قوله: (بني أسد هل تعلمون بلاءنا .... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا)
البلاء بالفتح القتال، يقال: أبلى فلان بلاء حسنا، إذا قاتل مقاتلة محمودة، واليوم
الأشنع الذي ارتفع شره، وكونه ذا كواكب كناية عن شره وظلامه عن العين بحيث يرى
الكواكب، أو عن كثرة الغبار، بحيث يستر ضوء الشمس.
قوله: (يحتمل البنائين) بناء الفاعل وبناء المفعول، قال بعضهم: والأولى الحمل
عليهما معا.
قوله: (وهو نهيهما) راجع إلى بناء الفاعل.
(2/475)
قوله: (أو النهي عن الضرار بهما) راجع إلى بناء المفعول،
والمنهي حينئذ المخاطبون، أو المتبايعان.
قوله: (أن يعجلا) يقال: أعجله عن المهم الجاه إلى تركه وعجل عنه تركه غير تام.
قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من
شعير أخذه لأهله)، أخرجه الأئمة الستة، من حديث عائشة، والبخاري، من حديث أنس.
قوله: (على اعتبار المقبض فيه) أي في لزومه، لا في صحته.
قوله: (وهو خطأ، لأن المنقلبة) إلى آخره، ذكره بعضهم أن ذلك لغة رديئة.
قوله: (وفيه مبالغات)، أي من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهر في الوجوب والجمع بين
ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين. وتسميته أمانة، وقد تقدم أولا ووسطا
فى قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}.
قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}.
قوله: (أي: يأثم قلبه، أو قلبه يأثم)، يشير إلى جواز إعراب قلبه فاعلا بآثم،
ومبتدأ خبره آثم قدم عليه، والجملة خبر إن على الثاني دون الأول.
قوله: (العين زانية والأذن زانية).
(2/476)
قوله: (وقرئ قلبه بالنصب كحسن وجهه) يعني على التشبيه بالمفعول
به. قال أبو حيان: ويجوز جعله بدلاً من اسم إن يدل بعض من كل.
قوله: (بدل البعض من الكل أو الاشتمال) قيل: إن أريد بقوله: يحاسبكم معناه الحقيقي
فيغفر بدل اشتمال، كقولك: أحب زيداً علمه، وإن أريد به المجازاة فهو بدل بعض،
كضربت زيداً رأسه، وقال الطيبي: الضمير المجرور في به يعود إلى ما في أنفسكم، وهو
مشتمل على الخاطر السوء، وعلى ما يخفيه الإنسان من الوسواس وحديث النفس. والغفران
والعذاب إنما يردان على ما اعتقده وعزم عليه من السوء، لا على حديث النفس فهو بهذا
الاعتبار بدل البعض من الكل. قال أبو حيان: وقوع الاشتمال في الأفعال صحيح يدل على
جنس تحته أنواع يشتمل عليه، وكذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس،
وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل، إذ الفعل لا يقبل التجزئ، فلا يقال في
الفعل: له كل وبعض إلا بمجاز بعيد. وقال الحلبي: ما قاله أبو حيان ليس بظاهر، لأن
الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه، فإن الجنس كل، والنوع بعض:
قوله: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
تلمم بدل من تأتنا، ومعناه تنزل. والحطب الجزل القوي الغليظ وتأجج اشتعل، وألفه
إما للتثنية، وهو ضمير الحطب والنار، أو للحطب وحده، أو للنار بتأويل القبس، ووصف
الحطب بالجزل إشارة إلى قوة النار وكثرة الضيفان. وفرط الاهتداء إلى النار.
قوله: (وإدغام الراء في اللام لحن) تابع فيه الزمخشري، وقد
(2/477)
رد عليه الناس قاطبة فإن ذلك قراءة أبي عمرو. وقال الشيخ سعد
الدين: هذا على عادته في الطعن في القراءات السبع إذا لم تكن على وفق قواعد
العربية، ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الغائب
بالإدغام في اللام، وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة، والنقلة بالمتواتر إثبات
على قول النحاة. ففي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول
وترجح بكونه إثباتا، ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح
بحيث لا مدفع له، ووجه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب، حتى كأنهما مثلان
بدليل إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل
إدغامه في اللام لازما. انتهى. وقال أبو حيان: منع إدغام الراء في اللام مذهب
البصريين وقد أجازه الكوفيون، وحكوه سماعا منهم الكسائي والفراء، وأبو جعفر
الرؤاسي، ووافقهم من البصريين رواية أبي عمرو، ويعقوب. ولسان العرب ليس محصورا
فيما نقله البصريون فقط، والقراءات لا نجيء على ما علمه البصريون ونقلوه، بل
القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة وقد أجازوه، ورووه عن العرب
فوجب قبوله، والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم، إذ من علم حجة على من لم يعلم، وممن
روى ذلك عن أبي عمرو أبو محمد اليزيدي، وهو إمام في النحو، إمام في القراءات، إمام
في اللغات. انتهى.
قوله: (يعنى القرآن أو الجنس) قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الإضافة كاللام
للتعيين والإشارة إلى حصته من الجنس، أو إلى الجنس نفسه وحينئذ قد تدل القرينة على
البعضية فتصرف إلى البعض، وقد لا
(2/478)
، فتصرف إلى الكل، وهو معنى الاستغراق، وكما أن في جانب القلة
تنتهي البعضية في المفرد إلى الواحد، ففي الجمع إلى القلة كذلك في جانب الكثرة
يرتقي إلى أن يخرج منه فرد في المفرد، وفي الجمع إلى ألا يخرج منه جمع، لأن معناه
ما فيه الجنسية من المجموع، وذلك لا يوجد في الواحد والاثنين وهذا معنى ما قيل: إن
استغراق المفرد أشمل وإن الكتاب أكثر من الكتب، وما ذكر في قوله: {وَالْمَلَكُ
عَلَى أَرْجَائِهَا} أن الملك أعم من الملائكة يعني أن قولك: ما من ملك إلا وهو
شاهد أعم من قولك: ما من ملائكة. وهذا في النكرة المنفية مسلم للقطع بأن لا رجل
نفى لكل فرد، بخلاف لارجال وكذا كل رجل، وكل رجال. وأما في العرف فلا، للقطع
واتفاق أئمة التفسير والأصول والنحو على أن الحكم في مثل الرجال فعلوا كذا على كل
فرد، لا على كل جماعة، فليتدبر. انتهى. وكذا قال أبو حيان معترضا به على الكشاف:
دلالة الجمع إذا أضيف، أو دخلته أل دلالة العام على كل فرد فرد.
وقال الطيبي: مراد الزمخشري إنما تناول الواحد حين يراد به الجنس أكثر من تناول
الجمع إذا أريد به الجنس، لأن كتابه يدل على ما نقله كل أحد إنه كتبه على سبيل
الجمعية ومسمى به، ويمكن أن يخرج منه كتاب أو كتابان وهذا هو المراد من قول صاحب
المفتاح: استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع.
فإن قيل: لا يتبادر من قوله: وملائكته وكتبه ورسله سوى الاستغراق والشمول قلنا: قد
بينا أن الاستغراق الداخل على الجمع أفراده الجموع حقيقة وإرادة الأفراد مجاز،
يؤيده قول إمام الحرمين: التمر أحرى بالاستغراق للجنس من التمور، فإن التمر يسترسل
على الجنس لا بصيغة لفظه، والتمور يرده إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة
الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب.
قوله: (أي يقولون لا نفرق) قال أبو حيان: كذا قدروه، ويجوز
(2/479)
أن يقدر بقوله، بالإفراد على لفظه.
قوله: (واحد في معنى الجمع) لوقوعه في سياق النفي.
قال الشيخ سعد الدين: من زعم أن معنى الجمع في أحد أنه نكرة في سياق النفي فعمت،
وكانت بهذا الاعتبار في معنى الجمع كسائر النكرات فقد سها وإنما معناه ما ذكر في
كتب اللغة أن أحدا اسم لمن
يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث، فحين أضيف
بين إليه أو أعيد ضمير جمع إليه، أو نحو ذلك فالمراد به جمع من الجنس الذي يدل
الكلام عليه، فمعنى لا نفرق بين أحد لا نفرق بين جمع من الرسل، ومعنى {فَمَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} فما منكم من جماعة، ومعنى {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ
النِّسَاءِ}، كجماعة من جماعات النساء.
قوله: (دون مدى طاقتها)، أي لا يكون المكلف به غاية الطاقة.
قوله: (اعتمال) هو اضطراب في العمل ومبالغة واجتهاد.
قوله: (فيجوز أن يدعوا الإنسان به) إلى آخره. قال الطيبي: هذا تكلف، وقد ثبت في
حديث مسلم أن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها، وقال صاحب الانتصاف: رفع الخطأ
والنسيان كان إجابة لهذه الدعوة، وقد ورد أنه قال: عقيب كل دعوة قد فعلت.
(2/480)
قوله: (واعتداد بالنعمة) معناه أن ذكره بلفظ الدعاء على معنى
التحدث بنعمة الله فيه.
قوله: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) أخرجه بهذا اللفظ. الطبراني، في الأوسط، من
حديث ابن عمر.
قوله: (ولا تحمل بالتشديد للمبالغة) قال الطيبي: يريد أن التضعيف إذا كان لنقل من
باب إلى آخر ليفيد فائدة لم يكن فيه مبالغة، وأما إذا لم يرد تلك الفائدة كانت
مبالغة.
قوله: (من قتل الأنفس)، أي في التوبة.
قوله: (وقطع موضع النجاسة) زاد في الكشاف: من الجلد والثوب. وفسر الطيبي الجلد
بالفروة وجلد الخف، وفسره جماعة بالبدن، وقالوا: إنه من جملة الإصر الذي حملوه،
ويؤيده رواية في أبي داود.
(2/481)
قوله: (وخمسين صلاة في اليوم والليلة) هذا غلط، فإن بني إسرائيل
لم تفرض عليهم خمسون قط، بل ولا خمس صلوات ولم تجمع الخمس إلا لهذه الأمة، وإنما
فرض على بني إسرانيل صلاتان فقط، كما في الحديث.
قوله: (والتشديد هنا لتعدية الفعل) يعني للمبالغة كما سبق تقريره.
قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام لما دعى بهذه الدعوات، قيل له: فعلت)، أخرجه
مسلم، والترمذي، عن حديث ابن عباس. قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنه دعاءه عليه
الصلاة والسلام بهذه الدعوات قراءته لهذا الآيات، ويحتمل أن يكون قد دعا بها فنزلت
الآيات حكاية لها. قلت: الأول هو الوارد في الحديث السابق، والثاني: ورد بمعناه
حديث مرسل، أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
قوله: (أنزل الله آيتين): الحديث. أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث أبي مسعود
الأنصاري، قال الشيخ سعد الدين: الكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما
بألفي عام تصوير لتقدمهما، لأن مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتجريد.
قوله: (ومن قرأ الآيتين من أخر سورة البقرة كفتاه)، أخرجه الأئمة الستة من حديث
أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري بلفظ (في ليلة كفتاه).
(2/482)
قوله: (السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن)، الحديث، أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، من حديث أبي سعيد الخدري، بالفسطاط اسم للخيمة والمدينة الجامعة، وسميت به السورة لاشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد، والبطلة السحرة، جمع باطل، سموا بذلك لانهماكهم أو الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين، ومعنى عدم استطاعتهم لها أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعليمها أو التأمل في معانيها أو العمل بما فيها، أو لايستطيعون النفوذ في قارئها، وقيل المراد إنها من المعجزات التي لايقدر الساحر أن يعارضها بالسحر، بخلاف المعجزات المحسوسة، فإنه قد يتمكن الساحر أن يحاول معارضتها بالسحر، وقال الطيبي: يمكن أن يراد السحرة من الموجودين، وهم أرباب البيان. لقوله: (إن من البيان لسحرا).
(2/483)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة آل عمران
قوله: (إنما فتح الميم في المشهورة، وكان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة
عليها، ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في
حكم الوقت، كقولهم: واحد اثنان لالتقاء الساكنين فإنه غير محذور في باب الوقف
ولذلك لم يحرك في لام) تابع الزمخشري في ترجيحه، فذهب الفراء أن فتحة الميم هي
حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت للتخفيف، وتضعيفه مذهب سيبويه إنها لالتقاء
الساكنين، وإن الهمزة ساقطة للدرج وقد نوزع في ذلك في مواضع، قال أبو حيان: ضعف
مذهب القراء بإجماعهم، على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل، فما يسقط
لا تلقى حركته، قاله أبو على. قال: وقوله: إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة
الالقاء مخالف لإجماع العرب والنحاة أنه لا يوقف على متحرك البتة، سواء في ذلك
حركة الاعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع، فلا يجوز في قد
أفلح إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن يوقف على دال قد بالفتحة بل
تسكنها قولا واحدا، قال، وأما تنظيره بقولهم: واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على
الدال، فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون أخر واحد لتمكنه ولم يحك الكسر لغة فإن صح الكسر
فليس واحد موقوفا عليه، كما زعم الزمخشري، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه
موصول بقولهم: اثنان فالتقى ساكنان دال واحد وثاء اثنان فكسر الدال لالتقائها
وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل. قال: وأما قوله: فإنه غير محذور في باب
الوقف ولذلك لم يحرك في لام، فجوابه إن الذي قال إن الحركة لالتقاء الساكنين لما
يرد بهما التقاء الياء والميم من ألم في الوقف بل أراد ميم الأخيرة ولام
(2/484)
التعريف كالتقاء نون من ولام الرجل إذا قلت: من الرجل قال: ومما ورد به مذهب الفراء واختيار الزمخشري إن فيه تدافعا وتناقضا فإن سكون أحد منهم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ونية الوقف على ما قبلها يوجب ثباتها وقطعها وهذا متناقض، قال: وهو رد صحيح. انتهى كلام أبي حيان ملخصا، وقال ابن الحاجب: ما رجحه في الكشاف من مذهب الفراء حمل على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة، ثم إنه خالفه في المفصل وجزم بقول سيبويه وذكر الجاربردي كلام ابن الحاجب وبعض ما ذكره أبو حيان، وقال: الوجه ما قاله سيبويه والجماعة، وأما الطيبي، فقال: لابد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف، لأن هذه الأسماء عنده معربة وسكونها سكون وقف لابناء، ومن ثم قال: حقها أن يوقف عليها، و (ألم) رأس آية بلا خلاف، ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها، لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف، إما قرعا للعصا أو تقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينهما وبين الكلام/ المستقل المفيد بنفسه، فإذا القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعاراً بابقاء أثر الهمزة المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين، وإنما خالف في المفصل لأنه مختصر كتاب سيبويه، فهو كالنقل منه وهذا الكتاب مبني على الاجتهاد. انتهى. وقال الشيخ سعد الدين بعد تقرير كلام الزمخشري: فإن قيل: تعديد هذه الألفاظ إما على سبيل الدرج والوصل فلا ثبات للهمزة ولا نقل لحركتها، وإما على سبيل الوقف وقطع البعض عن البعض فلا وجه لنقل الحركة من هذه إلى تلك لأنه من أحكام الاتصال، قلنا: قطع معنى وحقيقة، فلذا يغتفر التقاء الساكنين، وثبتت الهمزة في
(2/485)
واحد اثنان وصل لفظا وصورة لعدم السكت، لأنه إنما يكون للراحة
بعد النصب، ولا تعب، فلذلك أدغم الميم التي هي أخر لام في التي هي أول ميم، وجاز
نقل حركة الهمزة إلى ما قبلها تحقيقا، وهذا ليس من إجراء الوصل مجرى الوقف في شيء
حتى يتوجه اعتراض ابن الحاجب بأنه ضعيف لا يبنى عليه القراءة المجمع عليها بأنه
قوى عند الحاجة إلى التخفيف، فإن قيل: ما ذكر من حديث الوقف إنما يضع فيمن يجعل
هذه الألفاظ على نمط التعديد، وأما فيمن يجعلها اسما للسورة فهو اسم مرتبط فيما
بعده أو ما قبله قد يوقف عليه وقد لا يوقف، قلنا: قد سبق أنها على هذا التقدير
محكية ومبنى الكلام على أصلها الذي يحل قبل التركيب والعلمية انتهى.
قوله: (وقرئ بكسرها) على توهم التحريك لالتقاء الساكنين، قال ابن الحاجب: لا وجه
لكسرها إلا البناء لأنه لما فقد فى هذه الأسماء مقتضى الأعراب وهو التركيب وجب
البناء لعدم الواسطة، وقال الشيخ سعد الدين: لقائل أن يقول: لا نسلم لعدم الواسطة
بين المبني والمعرب، بمعنى ما فيه الإعراب، بل بمعنى ما من شأنه الإعراب بالفعل،
وانتفاء التركيب إنما يوجب انتفاء الإعراب لا انتفاء كون الاسم من قبيل المعربات.
قوله: (وقرأ أبوبكر)، زاد أبو حيان في بعض طرقه، عن عاصم.
قوله: (روى أنه عليه السلام قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور)) الحديث، أخرجه
الطبراني وابن مردويه، من حديث أبي أمامة، بلفظ (في ثلاث سور، سورة البقرة، وآل
عمران، وطه)، قال أبو أمامة: فلتمستها فوجدت في البقرة، الله لا إله إلا هو الحي
القيوم إلى
(2/486)
آخره.
قوله: (وهي في موضع الحال)، قال أبو حيان: أي محقا، قال: ويحتمل أن الباء
المسببية، أي بسبب إثبات الحق.
قوله: (نزل عليك الكتاب نجوما)، ثم قال: وأنزل التوراة والإنجيل جملة، أشار إلى ما
ذكره الزمخشري، إن نزل تفيد التكثير والترديد. ورده أبو حيان، بأنه ورد في وصف
القرآن أيضا أنزل في غير ما اية، فدل على أنها بمعنى، وكذا قراءة من قرأ المشدد
بالتخفيف، وقال الحلبي: قد يعتقد أن في كلام الزمخشري تناقضا، حيث قال: إن نزل
يقتضي التفخيم، وأنزل يقتضي الانزال الدفعي، لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن وقد
جامعه أنزل، ولكن لا ينبغي أن يعتقد ذلك، لأنه لم يقل إن أنزل للإنزال الدفعي فقط،
بل يقول: إن نزل بالتشديد يقتضي التفريق وأنزل يحتمل ذلك ويحتمل الإنزال الدفعي،
قال ابن هشام في المغنى: أشكل على الزمخشري قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فقرن نزل بجملة
واحدة وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ
آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} وذلك إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} الآية، وهي آية واحدة، وقال العلم العراقي:
عندي وجه آخر، وهو أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ
(2/487)
إلى سماء الدنيا منجما في ثلاثة وعشرين سنة، فيجوز أن يقال فيه:
نزل وأنزل، وأما بقية الكتب فلا يقال فيها إلا أنزل، وهذا الوجه أوجه وأظهر.
قوله: (واشتقاقهما من الورى والبخل ووزنها بتفعله وأفيعل تعسف، فيه أمور، الأول:
قال الشيخ سعد الدين: القول بالاشتقاق منقول عن الفريقين البصريين والكوفيين، وقد
جوز في طالوت مع كونه أعجميا أن يعتبر اشتقاقه من الطول الثاني، القول بأن اشتقاق
التورية ورى الزناد بالكسر يرى إذا قدح وظهر منه النار، قول الجمهور لأن التوراة
ضياء من الضلال، وذهب مؤرخ سدوسي إلى أنها مشتقة من ورا إذا عرض، لأن أكثر التوراة
تلويح، الثالث: إن قوله: إن وزنه تفعله إن كان بفتح العين فهو قول بعض الكوفيين أو
بكسرها فهو قول الفراء، وأما مذهب الخليل وسيبويه وسائر البصريين، فوزنها فوعلة،
والأصل: وورية أبدلت الواو تاء، كذا أورده أبو حيان، وأصحاب الحواشي، الطيبي،
والجاربردي، وزاد التفتازاني، أن الزمخشري ذهب إليه في الفصل الرابع.
قوله: (والنجل هو الماء الذي ينز من الأرض ويطلق على الوالد والولد، فهو من
الأضداد، قاله الزجاجي، وقال الزجاج الإنجيل مأخوذ من النجل وهو الأصل، وقال أبو
الفتح: هو من نجل إذا ظهر ولده أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح
المحفوظ، وإما من التوراة، وقيل: هو مشتق من التناجل وهو التنازع، سمى
(2/488)
بذلك لتنازع الناس فيه، وقيل: من نجل العين، فإنه وسع فيه ما
ضيق في التوراة.
قوله: (لأنهما أعجميان) قال الطيبي: يدل على أنهما عربيان، دخول اللام فيهما، وقال
الشيخ سعد الدين: دخول اللام في الأعلام الأعجمية محل نظر، وعبارة أبى حيان،
عبرانيان.
قوله: (متعبدون) قال الشيخ سعد الدين: بفتح الباء، أي مكلفون مأمورون من تعبدته:
اتخذته عبداً.
قوله: (أو القرآن، وكرر ذكره)، إلى آخره، هو الوارد عن السلف، أخرجه ابن جرير عن
قتادة والربيع بن أنس، وأخرج عن محمد بن جعفر الزبيري، قال: الفصل بين الحق
والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، قال ابن جرير: وهذا القول
أولى، لأن صدر السورة نزل في محاجة النصارى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر
عيسى، الطيبي: يمكن أن يريد بقوله: وكرر ذكره إلى آخره. إن الكتاب أولا أطلق على
القرآن ليثبت له الكلام، لأن اسم الجنس في مثل هذا إذا أطلق على فرد من أفراده
يكون محمولا على كماله وبلوغه إلى حد هو الجنس كله، كأن غيره ليس حقه، كما لو قلت،
لمن وهبت له كتابا وأنت تريد الامتنان عليه: لقد منحتك الكتاب، أي الكتاب الكامل
في بابه، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}
واللام للجنس، والمراد المؤمنون كما في قوله: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} ثم
اقترن
(2/489)
بوصف من أوصافه لتتميم معنى الكلام وتوكيده، لأن من شأن الكتب السماوية أن تكون فارقة بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والحلال والحرام، فينتهي بذلك الوصف غايته، وإليه الإشارة بقوله: تعظيما وإظهارا لفضله ولو صرح أولا باسم القرآن واقترن به الوصف لم يكن كذلك، ولهذا كان الوجه الآخر دون هذا الوجه، قال صاحب الانتصاف: وفيه وجه آخر، وهو أن القرآن العظيم نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ومن سماء الدنيا منجما في ثلاث وعشرين سنة، وأما بقية الكتب، فلا يقال فيها: إلا أنزل، وهذا أوجه وأظهر، قال الطيبي: لعله ذهل عن دقة المعنى ومال إلى أن تكرير القرآن لإناطة معنى زايد وهو التنزيل مرة والإنزال أخرى. وذهب عنه إلى أن المقام مقام مدح وتعظيم للكتاب، لا بيان إنزاله وتنزيله. وقال الإمام: الوجوه المذكورة كلها ضعيفة، أما حمل الفرقان على الزبور فبعيد لأن المراد من القرآن ما يفرق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وليس في الزبور إلا الوعظ فقط وأما حمله على القرآن فبعيد أيضا، لما يلزم من العطف من المغايرة. ولا مغايرة حينئذ. وأما حمله على الكتب فبعيد أيضا لما يلزم منه من عطف الصفة على الموصوف والمختار عندي: أن المراد بالفرقان المعجزات التي قرنها الله بإنزال هذه الكتب، أن أنزل الكتب وأنزل معها ما يفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة قال الطيبي: وهذا الذي ذكره الإمام هو على مقتضى الظاهر، وعلماء هذا الفن يهجرون سلوك هذا الطريق. وإذا سنح لهم ما يخالف الظاهر لا يلتفتون إلى الظاهر ويعدونه من باب النعيق وأما قوله: (ليس في الزبور إلا الموعظة): فجوابه إن الموعظة أيضا فارقة من حيث إنها زاجرة عن ارتكاب المناهي داعية إلى الإتيان بالأوامر صارفة عن الركون إلى الدنيا هادية إلى النزوع إلى العقبى وقربة تزلف إلى رضى الله عما يوجب سخطه سبحانه قوله: (لا يقدر على مثله منتقم) قال
(2/490)
الطيبي: هذه المبالغة يفيدها إيراده قوله: {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا} بعد ذكر التوحيد وذكر إنزال الكتب الفارقة بين الحق والباطل تم توكيده
بأن وبإيقاع قوله: " الذين كفروا ". أصله للموصول وبناء (لهم عذاب شديد)
عليه ثم تذييل المذكور بقوله: والله عزيز ذو انتقام المشتمل على إعادة اسم الذات
المقرون بصفة العزة وإضافة ذي إلى الانتقام ومجيئه نكرة والتفكير للتعظيم.
قوله: " والنقمة عقوبة المجرم "، زاد أبو حيان، بمبالغة في ذلك. وقبل هي
السطوة والانتصار.
قوله: " والفعل منه نقم " قال أبو حيان: يقال: نقم ونقم إذا أنكر،
وانتقم عاقب.
قوله: " فعبر عنه بالسماء والأرض "، قال الطيبي: يعني إن الذي يقتضيه
الظاهر أن يقال لا يخفى عليه شيء في العالم فكنى عنه بالسماء والأرض لأن مؤداهما
واحد لأن العالم إذا أطلق يتبادر إلى الذهن السماء والأرض وما فيهما عرفا، وسبيل
هذه الكناية سبيل قولك: في الكناية عن الإنسان هو حي مستوى القامة عريض الأظفار،
وإنما اختير تلك العبارة على الظاهر ليدل على مزيد تصوير جزئيات العالم ودقائقه
وخفاياه ليكون الكلام أدل على الوعيد. وأنه تعالى يجازيهم على كفرهم بكتب الله
وتكذيبهم بآياته. قوله: (وقيل: هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا).
الإشارة إلى قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} قاله الجاربردي: وضعفه. وهو
المجزوم به في الكشاف، لأن الطيبي قال: يمكن أن يكون
عاما وإيراد هذا الوصف من الأوصاف لأنه يندمج فيها على سبيل التعريض للاحتجاج على
النصارى.
قوله: " فإن وفد نجران "، إلى آخره، أخرجه ابن إسحاق والبيهقي
(2/491)
في الدلائل، عن محمد بن سهل ابن أبي أمامة.
قوله: " وأصله يرد إليها غيرها " قال الطيبي: وذلك أن العرب تسمى كل
جامع يكون مرجعا أما.
قوله: " لأنه وصف معدول عن الأخر "، هو رأي أكثر النحويين قالوا: لأن
الأصل في أفعل التفضيل ألا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام كالكبر والصغر، فعدل عن
أصله وأعطى من الجمعية مجرداً مالا يعطى غيره إلا مقرونا- وقال ابن مالك: التحقيق
أنه معدول عن آخر مراد به جمع المؤنث، لأن الأصل في أفعل التفضيل أن يستغنى فيه
بأفعل عن فعل لتجرده عن الألف واللام والإضافة كما يستغنى بأكبر عن كبر في نحو
رأيتها في نسوة أكبر منها، فلا يثنى ولا يجمع، لكنهم أوقعوا فعلا موقع أفعل فكان
ذلك عدلا من مثال إلى مثال، وتابعه أبو حيان، وقال: فآخر على هذا معدول عن اللفظ
الذي كان المسمى أحق به، وهو أخر لاطراد الأفراد في كل أفعل يراد بها المفاضلة في
حال التنكير، قوله: " وهذا العدل بهذا الاعتبار صحيح لأنه عدل من نكرة إلى نكرة.
قوله: " ومن وقف على " إلا الله " " هذا القول هو المختار عند
أكثر أهل السنة، خصوصا المحدثين. وقد رجحه الطيبي وبسطه في الاتقان.
قوله: " ما ستأثر ". أي تفرد " قوله: استئناف " فهم منه أبو
حيان
(2/492)
أنه خبر مبتدأ محذوف ".
وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنه لا حاجة إلى تقدير مبتدأ، أي هم يقولون على ما
يشعر به كلام المكثرين.
قوله: " قلب ابن آدم بين إصبعين " الحديث. أخرجه أحمد والترمذي، من حديث
أم سلمة، والشيخان من حديث عائشة.
قوله: " وقيل: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا " يعني أن الكلام كناية
أو مجاز، إذ لا يحسن من الله الإزاغة ليسأل نفيها، وهذا قول الزمخشري، بناء على
مذهبه من الاعتزال قوله: " وقيل: إنه بمعنى أن ".
قوله: " فإن الإلهية تنافيه " يعني أن العدول عن المضمر وهو إنك المناسب
لربنا إنك إلى الظاهر بغير لفظ السابق، وهو ربنا للدلالة على أن الحكم مرتب على ما
يدل عليه كما في التعليق/ بالوصف فإنه يشعر بالعلية قاله الطيبي والتفتازاني قوله:
" أي من رحمته أو طاعته على معنى البدلية " فيه: أمران الأول، قاله أبو
حيان، إثبات البدلية ما تنكره أكثر النحاة، بل هي لابتداء
(2/493)
الغاية، كما قاله المبرد، أو التبعيض على أنها صفة لشيئا، فلما
قدمت صارت حالاً وذكر أبو عبيدة، إنها بمعنى عبد، وهو ضعيف جدا انتهى. الثاني، قال
الجاربردي: بين المصنف معنى من ولم يبين معنى يغني، قال المطرزي: أغنى عن كذا أي
نحه عني، فمعنى الآية لن يبعد عنهم شيئا أي عذابا بدلاً من رحمة الله أو طاعته إنما
يبعد عنهم العذاب الرحمة أو الطاعة لا الأموال والأولاد.
قوله: " متصل بما قبله " أي فيكون منصوب المحل، قوله " " أي
لنا تغني عنهم كما لن تغن عن أولئك " قال أبو حيان: هذا ضعيف، للفصل بين
العامل والمعمول بالجملة التي هي، {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} إذا قدرت
معطوفة فإن قدرتها إعتراضية، وهو بعيد جاز قوله: " أو توقد بهم كما توقد
بأولئك "، قال الحلبي: فيه نظر لأن الوقود على القراءة المشهورة، الأظهر فيه
أنه اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له. فان قيل: إنه مصدر، وعلى قراءة
الحسن بالضم صح قوله: " وهو مصدر دأب "، إلى آخره. قال في الأساس: دأب
الرجل في عمله: اجتهد فيه ومن المجاز: هذا دأبك. أي هذا شأنك وعملك.
قوله: " أو استئناف "، تفسير لحالهم، قال الطيبي، والشيخ سعد الدين: هو
مبني على أن الكاف مرفوع المحل، فإن شأنهم وحالهم يشمل الأمرين، ما فعلوا، وهو
التكذيب وما فعل بهم وهو أخذهم بذنوبهم. وإما على النصب، فهو استئناف لبيان السبب.
قوله: " فإنه عليه الصلاة والسلام جمعهم بعد بدر " أخرجه ابن إسحاق وأبو
داود وابن جرير والبيهقي، في الدلائل، عن ابن عباس.
(2/494)
قوله: (والأغمار) جمع غمر وهو من الرجال من لم يجرب الأمور.
قوله: " نحن الناس "، أي الموصوفون بالشجاعة والشدة. ذكره الجاربردي.
قوله: " وقرأ حمزة والكسائي بالياء " إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين
حاصل الفرق أن المعنى على الخطاب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يخبرهم من
عند نفسه بمضمون الكلام، حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعا إليه. وعلى الغيبة أمره
بأن يؤدي إليهم ما أخبر الله تعالى به، من الحكم بأنهم سيغلبون بحيث لو كذبوا كان
التكذيب راجعا إلى الله تعالى. فعلى الخطاب الإخبار بمعنى كلام الله تعالى، وعلى
الغيبة بلفظه. والأظهر، أن الأمر بالعكس، وكأنهم جعلوا ضمير بلفظه لما أخبروه،
والحق أنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كالمنصوب في آخره والمرفوع في يحكى أي
أمر أن يحكى لهم بلفظه هذا الوعيد على الوجه الذي يناسب، ولا خفاء أنه لا يناسب أن
يقول لهم سيغلبون بلفظ الغيبة، فأحسن التدبير انتهى.
قوله: " يرى المشركون " إلى آخره. حكى في ضمير الفاعل من يرونهم قولين.
أحدهما أنه للمشركين. والثاني أنه للمؤمنين، وكلاهما ضعيف لأنه خلاف قوله تعالى:
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} وما أجاب به، من أن التقليل وقع أولا والتكثير
بعد الملاقاة فخلاف الظاهر، والتحقيق أنه لليهود المخاطبين بقوله: {
(2/495)
قَدْ كَانَ لَكُمْ} وهم الذين كفروا في الآية قبلها، كما بينه
سبب النزول فقراءة " ترونهم " بالخطاب على نسق قد كان لكم، وقراءة
الغيبة على الالتفات وهم: في " يرونهم " للمشركين وفي مثليهم "
للمؤمنين "، وكان ذلك هو الواقع، فإن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، كما
أخرجه البخاري، عن البراء، وكان المشركون قريبا من ألف كما أخرجه البيهقي في
الدلائل، وابن جرير عن علي، وهذا التقدير قل من يجيء إليه، وفي تفسير ابن جرير، عن
قتادة ما معناه أنه لو كان الضميران لواحد لقال: ترونهم مثليكم، وهذا في غاية
الدقة والحسن، وقد قال الشيخ سعد الدين: لا يليق بنظم القرآن أن يجعل خطاب يرونهم
لغير من له الخطاب قد كان لكم. قوله: (فلما لاقوهم) ضبطه أصحاب الحواشي بالفاء أي
خالطوهم والتفوا عليهم في الأساس: أرسلت الصقر على الصيد فلافه، أي التف عليه
وجعله تحت رجليه وما تصافحوا حتى تلافوا ولا ففناهم. قال الطيبي: وفي بعض النسخ
بالقاف. قال: والأول أنسب.
قوله: " والنصب على الاختصاص ". قال أبو حيان: ليس بجيد، لأن المنصوب
على الاختصاص لا يكون نكرة، قال: والوجه أنه على المدح في الأولى وعلى الذم في
الثانية أي أمدح فيه وأذم أخرى. انتهى. وقد فسر الطيبي الاختصاص بالمدح، فإن معنى
أذكر فيه لا يخفى شأنها، وهي التي تجاهد في سبيل الله. قال: وعلى هذا كافرة منصوبة
على الذم لأنها مقابلة لها، وقال الحلبي: لا يعني الزمخشري
(2/496)
الاختصاص المنسوب له في النحو. نحو. " نحن معاشر الأنبياء
لا نورث ".
إنما عنى النصب بإضمار فعل لائق. وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا. وكذا قال
السفاقسي، لم يرد الاختصاص الاصطلاحي. إنما أراد المعنوي وكثيراً ما يقع له ذلك في
كتابه.
قوله: " أو الحال من فاعل إلتقتا ". قال أبو البقاء: والتقدير التقتا
مؤمنة وكافرة. وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال.
قوله: " رؤية ظاهرة معاينة " قال الشيخ سعد الدين: يقتضي أن هذه رؤية
عين وهو الابصار فيكون مثليهم حالاً لا مفعولاً ثانيا لكن المعنى على المفعولية
فالوجه إنه متعد إلى مفعولين، لكونه بمعنى العلم، علما يستند إلى معاينة لا بمنزلة
أن يقال: يبصرونهم، فليتأمل.
قوله: " سماها شهوات مبالغة "، قال الطيبي: يعني حين أوقع الشهوات مبهما
أولا ثم بين بالمذكورات، على أن الأعيان هي عين الشهوات كأنه قيل: زين حب الشهوات
التي هي النساء فجرد من النساء شيء يسمى الشهوات، وهي نفس الشهوات، نحو في البيضة
عشرون رطلا حديداً.
قوله: " والمزين هو الله ". أخرجه ابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب.
قوله: " ولعله زينة ابتلاء " إلى آخره، قال الطيبي: الأول هو الذي يناسب
المقام. لقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقوله: {قُلْ
(2/497)
أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}. قوله: "
والقنطار مائة ألف دينار "، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند صحيح، عن
أنس، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن قول الله: {وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ} قال: " القنطار ألف دينار ": " ملي مسك ثور
". أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري، قال: القنطار ملء مسك الثور ذهبا.
والمسك بفتح الميم الجلد.
قوله: " فعلال أو فيعال فعلى الثاني نونه زائدة، من قطر يقطر، وبه جزم ابن
دريد قوله: " والمقنطرة مأخوذة منه " قال المرزوقي: من شأن العرب أن
يشتقوا من لفظ الشيء الذي يريدون المبالغة في وصفه ما يتبعونه تاكيداً أو تنبيها
عن تناهيه، من ذلك: ظل ظليل، وداهية دهياء، وشعر شاعر.
قوله: " بدرة مبدرة " أي كاملة.
قوله: " والمسومة المعلمة " أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن
ابن عباس.
قوله: " أو المرعية " أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس،
بلفظ: الراعية، قوله: " أو المطهمة " أخرجه ابن جرير، عن مجاهد قال
الشيخ سعد الدين: وهي التامة الخلق. قال: ولم يبين اشتقاق ذلك، وكأنه من السوم في
البيع لأنها تسام كثيراً أو من السومة لأنها علم في الحسن.
(2/498)
قوله: " ويرتفع جنات " قال الشيخ سعد الدين: الأظهر
في ترتفع الرفع ابتداء كلام بمعنى وجه يرتفع، ويحتمل النصب عطفا على متعلق، وإنما
لم يجعل عند ربهم في موضع الخبر لجنات، لأن الظاهر تعلقه بالفعل على معنى ثبت
تقواهم عند الله شهادة لهم بالإخلاص ولأن ما عند الله هو الثواب. ونحوه، ولا يسمع
عند الله الجنة قوله: " ويؤيده قراءة من جرها بدلا من خير "، قال: أبو
حيان: هي قراءة يعقوب، قال: وجوز فيها أن يكون تصبا بإضمار أعني، أو بدلاً من موضع
بخير، لأنه نصب ووجه التأييد، أنها حينئذ بيان للخبر، كما أن هو جنات تفسير له:
قاله الطيبي: قوله: (وهما لغتان): الكسر لغة الحجاز، والضم لغة
تميم، وقيل بالكسر الاسم وبالضم المصدر.
قوله: " أو بأحوال الذين اتقوا ذلك أعدلهم جنات " قال الطيبي: يعني
العبادة، مظهر أقيم موضع المضمر لتلك العلة قال: ويمكن أن يقال: والله بصير بالعباد
المتقين وبما يصلحهم ويرد بهم وأن إيثار الآخرة على الدنيا وزينتها خير لهم، فلذلك
أنبأهم هو خير لهم.
قوله: " صفة للمتقين " أي للذين اتقوا أو للعباد، قال أبو حيان: الأول
أظهر. وقال الشيخ سعد الدين: في الأول إنه بعيد جداً لا سيما إذا جعل اللام متعلقا
بخبر لكثرة الفواصل. ولهذا عبر عنه في الكشاف بقوله: ويجوز. قال وأما جعله صفة
للعباد، فبعيد من جهة المعنى حيث خص كونه بصيرا بالعباد المخصوصين وقال الطيبي:
الأنسب، أن يجعل قوله: " الذين يقولون " الآية واردا على المدح تربية
لمعنى وضع
(2/499)
المظهر موضع المضمر.
قوله: (وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منهما وكما لهم فيها) قال
أبو حيان: لا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال، قال الحلبي: قد علمه
علماء البيان، قوله: " شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تصريحية تبعية، حيث شبه بالشهادة دلالته
على الوحدانية بما نصب من الأدلة العقلية وترك من الأدلة السمعية، وكذلك الإقرار
والاحتجاج من الملائكة وأولي العلم من المثقلين، قال: ولا يبعد على قواعد الملة
سلوك الملائكة طريق الاستدلال والاحتجاج، على أن الاحتجاج لا يلزم أن يكون
للاكتساب بل للإثبات على الغير، فإن قيل: الإقرار مع مطابقة القلب حقيقة الشهادة
لا شبيهة بها ولو سلم أنه لابد من زيادة خصوص فهي ممكنة من الملائكة والثقلين، فأي
حاجة إلى اعتبار المجاز وإن بني ذلك على امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز، فكذلك
الجمع بين معنيين مجازيين كالدلالة والإقرار قلت: الدلالة والإقرار، من إفراد معنى
مجازي هو الأمر المشبه بالشهادة، لا معنيان مجازيان ليمتنع إرادتهما، وإنما لم
يعتبر تقدير إعادة الفعل ليكون الأول مجازاً والثاني حقيقة لأنه خلاف الظاهر مع
الغنية عنه بالمجاز المستفيض، انتهى.
قوله: " مقيما للعدل "، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن الباء
للتعدية ولم يجعله من قبيل قام بالأمر، إذا ثبت متلبسا له مباشرا له على طريقة
الاستعارة، من القيام بمعنى الانتصاب مبالغة في تجنب وصفه من صفات المخلوقين.
قوله: " وإنما جاز إفراده بها "، إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: بين
جواز إفراد المعطوف عليه بالحال كالمعطوف في نافلة، وبقي بيان جهة تأخيره عن
المعطوفين، وكأنها الدلالة على علو زينتهما وقرب
(2/500)
منزلتهما.
قوله: " ولم يخرجا زيد وعمرو راكبا "، إلى آخره.
قال أبو حيان: بل هو جائز ويحمل على أقرب مذكور كما في الوصف، لو قلت: جاءني زيد
وعمرو الطويل، كأن الطويل صفة لعمرو ولا لبس فيه فكذلك الحال، ولا يتعين في قوله:
نافلة، أن يكون حالا عن يعقوب إذ يحتمل أن يكون مصدراً كالعافية والعاقبة، ومعناه
زيادة، فيكون شاملا لإسحاق ويعقوب لأنهما زيداً لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره،
إذا كان إسحاق إنما وهبه على الكبر وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة وقال
الحلبي: مراد الزمخشري، يمنع، جاء زيد وعمرو راكب إذا أريد أن الحال منهما معا أما
إذا أريد أنها حال من واحد منهما فإنما يجعل لما يليه لعود الضمير على أقرب مذكور.
قوله: لأنها حال مؤكدة "، قال أبو حيان: ليس من الحال للمؤكدة، لأنه ليس من
باب، {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} ولا من باب، أنا عبد الله شجاعا، فليس قائما
بالقسط بمعنى شهد ولا مؤكدا لمضمون الجملة السابقة، بل هي حال لازمة لأن القيام
بالقسط وصف ثابت لله تعالى وقال السفافسي: في هذا الإعتراض نظر، لأن قيامه بالعدل
يؤكد تحقق الشهادة فتكون مؤكدة لمضمون الجملة. وقال الحلبي: مؤاخذته له في قوله:
مؤكدة غير ظاهرة، وذلك أن الحال على قسمين، إما مؤكدة وإما مبينة وهي الأصل
فالمبينة لا جائز أن تكون هنا لأن المبينة تكون منتقلة والإنتقال هنا محال، إذ عدل
الله لا يتغير فإن قيل: لنا قسم ثالث، وهي/ الحال اللازمة، فكأن للزمخشري مندوحة
عن قوله مؤكدة، إلى قوله: لازمة، فالجواب أن كل مؤكدة لازمة وكل لازمة مؤكدة فلا
فرق بين
(2/501)
العبارتين ويدل على ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الإستقراء.
وقوله: " ليس معنى قائما بالقسط معنى شهد ممنوع بل معنى شهد مع متعلقه وهو
أنه لا إله إلا هو، مساو لقوله قائما بالقسط.
قوله: " أو الصفة للمنفي "، أي إله.
قوله: " وقرئ القائم بالقسط على البدل عن، هو "، قال أبو حيان: لا يجوز
ذلك، لأن فيه فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي وهو العطوفان لأنهما معمولان بغير
العامل في المبدل منه ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز
أيضا، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف، انتهى.
وقدح الشيخ سعد الدين فيه بأنه قول بالإبدال من البدل.
قوله: " ورفعهما على البدل من الضمير الظاهر "، إذ المراد الضمير
الأخير، وصرح الشيخ سعد الدين، بأنه الأول، حيث قال: لأنه مثل القائم بالقسط
بعينه، فيكون بدلاً أو خبر مبتدأ محذوف قوله: " وقد روي في فضلها "،
الحديث. أخرجه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، من حديث ابن مسعود، بسند ضعيف.
قوله: " جملة مستأنفة مؤكدة "، قال الطيبي: أي مذيلة معترضة على أسلوب،
قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} {وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} قال: وإنما كانت مزيلة، لأن الشهادة بالوحدانية وبالعدل
والعزة والحكمة، هي: أس الدين وقاعدة الإيمان. ولاشك أن
(2/502)
الدين أعظم من الإعتقاد الذي هو التصديق. ثم إن الدين صدر بإن
وخصص بقوله: عند الله، وهو كناية عن رفعة المنزلة، ثم التعريف في الخبر الذي هو
الإسلام جاء لقصر المسند على المسند إليه.
قوله: " للأولى "، قال الشيخ سعد الدين يعني شهد الله أنه، إلى آخره.
وقيل: مضمون قوله: أنه لا إله إلا هو. وقيل قوله، " لا إله إلا هو "،
المذكور ثانيا، قال: والأول أوجه وأنسب بسوق كلامه المشعر بأن (إن الدين عند الله
الإسلام) إيذان وإعلام من الله بمضمون ذلك لا داخل في حكم الشهادة.
قوله: " قرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل "، إلى آخره.
قال أبو حيان: هذا التخريج ليس بجيد، لأن فيه الفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف
وبالحال لغير المبدل منه، وكلاهما لا يجوز. وخرجه الطبري على حذف العاطف، أي وإن
الدين. وفيه ضعف من حيث الإضمار وطول الفصل. قال: والصواب، أنه معمول للحكيم على
إسقاط الجار أي الحكيم بأن، فهو أسهل وأقل تكلفا، قال: والحامل للزمخشري وأمثاله
على الإتيان بالتخاريج المتكلفة: العجمة وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب وحفظ
أشعارها، ولن يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لابد من الإطلاع
على كلام العرب والتطبع بطباعها والاستكثار من ذلك.
قوله: " وقرئ إن بالكسر وأن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني واعتراض ما
بينهما أو إجراء شهد " إلى آخره. أنكر أبو حيان التخريج الأول.
قوله: " وقيل، هم النصارى "، أخرجه ابن جرير عن محمد بن جعفر
(2/503)
ابن الزبير.
قوله: " أخلصت نفسي وجملتي له "، يعني أن الوجه مجاز عن نفس الشيء وذاته
أو عن جملة الشخص تعبيراً عن الكل بأشرف الأجزاء، قاله الشيخ سعد الدين قوله:
" عطف على التاء "، زاد أبو حيان أو مبتدأ خبره محذوف أي كذلك.
قوله: " أو مفعول معه "، قال أبو حيان: لا يجوز لأنه يقتضي المشاركة
والمتبعون لم يشاركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسلام وجهه هو إنما أسلموا
هم وجوههم، ولا يجوز أكلت رغيفا وعمراً، على معنى أنه أكل رغيفا آخر، قال: ويجوز
أن يكون في موضع جر عطفا على الجلالة، أي بالحفظ والنصيحة.
وقال الحلبي: فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ للمفعول معه، وأي مانع من أن المعنى
فقل أسلمت وجهي لله مصاحبا لمن أسلم وجهه لله أيضا.
وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية.
قوله: " فقد نفعوا أنفسهم ".
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن اهتدوا، كناية عن هذا المعنى، وإلا فلا فائدة في
الشرطية، وكذا الكلام في " إنما عليك البلاغ ".
قوله: " أي التوراة أو جنس الكتب السماوية ". ومن للتبعيض أو البيان.
ذكر الطيبي ما معناه أنه لف ونشر غير مرتب وأنه إن أريد التوراة فمن للبيان، أو
جنس الكتب المنزلة فمن للتبعيض، قال واللام في الكتاب على الأول للعهد وعلى الثاني
للجنس، ووجه التعظيم في التنكير عليه أن التوراة وإن كانت بعضا من الكتب لكنها حصة
عظيمة القدر.
(2/504)
قوله: " روي أنه عليه الصلاة والسلام دخل مدراسهم، إلى
قوله فنزلت "، أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس،
والمدارس موضع صاحب دراسة كتبهم، ويطلق أيضا على الموضع الذي يقرأ فيه اليهود
التوراة.
قوله: " وقيل، نزلت في الرجم "، أخرجه ابن جرير عن ابن جريج.
قوله: " وهم قوم عادتهم الإعراض "، والجملة حال، قال الطيبي: على هذا
التفسير الجملة تذييل على رأي الأكثر ومعترضة على رأي الزمخشري، وأيا ما كان فهي مؤكدة
لمعنى ما سبق، لا حال كما ذكره القاضي نعم إنما تكون حالاً إذا لم يفسر بأنهم قوم
عاداتهم الإعراض. انتهى.
قوله: " روي إن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود
فيفضحهم الله على رؤوس وثم يأمر بهم إلى النار ".
قوله: " الضمير لكل نفس على المعنى "، قال الطيبي: يعني ذكر الضمير
وجمعه باعتبار معنى النفس، كما اعتبر في قولهم ثلاثة أنفس بتأويل الأناسي.
قوله: " الميم عوض من ياء "، قال الشيخ سعد الدين: وأوثر الميم لقربه من
الواو التي هي حرف علة وشدد لكونه عوضا من حرفين: "
(2/505)
قوله: فإن الميم عنده تمنع الوصفية "، قال الشيخ سعد
الدين: لأن بالاختصاص والتعويض يخرج عن كونه منصرفا وصار مثل جهل، إذ الميم بمنزلة
صوت مضموم إلى اسم بقاءهما على معنييهما بخلاف مثل سيبويه، وخالويه حيث صار الصوت
جزء الكلمة. انتهى. وقال الزجاج: وزعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه قد ضمت
الميم إليه وما بعده منصوب على النداء. والقول عندي أنه صفة فكما لا تمتنع الصفة
مع " ياء " فلا تمتنع مع الميم، قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح لأنه
ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم، ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز
مالا يوصف نحو جبريل. فإنهما صار بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف.
قوله: " فالملك الأول عام والآخران بعضان منه " قال الطيبي: لأن لام
الجنس إذا دخلت على المفرد صلحت لأن يراد بها جميع الجنس وأن يراد بها بعضه بحسب
القرائن فالملك الأول مطلق شامل في جنسه، لأن الملك الذي يقع عليه ممالكيته سبحانه
وتعالى، ليس ملكا دون ملك.
بخلاف الثاني والثالث، لأنهما حصتان من الجنس لتقييدهما بالايتاء والنزع، ولأن
المراد نزع الملك من العجم والروم وإيتاءه المسلمين، قال: ويحتمل أن يراد بالملك
الأول العهد والمعهود ملك العجم والروم، بشهادة سبب النزول. والثاني والثالث مظهر
أن وضعا موضع المضمر إشعاراً بالعلية وإن تصرفه فيه ليس كتصرف المالك المجازي بل
تصرف تسخير وقهر يؤتيه من يشاء كيف يشاء وينزعه ممن يشاء كيف يشاء، لا اعتراض لأحد
عليه في تصرفه سبحانه ومن ثم عقبه بقوله: " وتعز من تشاء وتذل من تشاء "
قال: ولعل هذا الوجه أظهر والمقام له أدعى، ولما تقرر أن المعرف إذا أعيد كان
الثاني غير الأول، ولأن قوله: تؤتي
(2/506)
الملك، إلى آخره، بيان على سبيل الاستئناف، لقوله: مالك الملك.
فلا يكون المبين خلاف المبين.
قوله: " وقيل، المراد بالملك النبوة " أخرجه ابن جرير، عن مجاهد.
قوله: " ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات والشر مقضي بالعرض، إذ لا يوجد شر
جزئ ما لم يتضمن خيرا كليا " رفع إلى سؤال من بعض الفضلاء، يسأل في تقرير هذا
الكلام، فكتب عليه ما نصه، لاشك إن الشرائع كلها متفقة على النظر إلى جلب المصالح
ودرء المفاسد، وكذلك أحكام القضاء والقدر جارية على سنن ذلك وإن خفى وجه ذلك على
الناس في كثير منها ولهذا ورد في الحديث، " لا تتهم الله على نفسك "
فإذا علم ذلك من المعلوم أن الله قدر الخير والشر كان مظنة أن يقول قائل: كيف قدر
الشر وهو خلاف ما علم نظيره إليه شرعا وقدر أو هذه هي الشبهة التي تمسك بها
المعتزلة. والجواب إن الشر اليسير إذا كان وسيلة إلى خير كثير كان ارتكابه مصلحة
لا مفسدة، ألا ترى إن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من
الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة بحسن ارتكابها في مقتضى الحكمة ويعد خيراً
لا شراً وصحة لا مرضا لاستلزامه ذلك.
فكذلك كل ما قضاه الله من الشر فإنما قضاه بحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعضم
وأعم نفعا ولهذا ورد، لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين وورد " لو لم
تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب
(2/507)
العجيب " فتقدير الذنوب وإن كانت شراً فليست لكونها مقصودة
في نفسها بل لغيرها وهو السلامة من داء العجب التي هي خير عظيم، قال بعض المحققين:
ولهذا قيل: يا من إفساده إصلاح، يعني أنما قدره من المفاسد فلتضمنه مصالح عظيمة
اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونها وسيلة إليها وما مدى إلى الخير فهو خير
فكل شر قدره الله لكونه لم يقصد بالذات بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم
يصدق عليه بهذا الاعتبار إنه خير فدخل في قوله " بيدك الخير " فلهذا
اقتصر عليه على وجه إنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما وهذه من مسألة ليس من
الإمكان أبدع مما كان التي قدرها الغزالي وألفنا في شرحها كتاب تشييد الأركان
فلينظره من أراد البسط والله أعلم.
قوله " روى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خط الخندق، إلى قوله: فنزلت
" أخرجه بطوله بدون نزول الآية، البيهقي وأبو نعيم في الدلائل عن عمرو بن عوف
المزني، وأخرجه ابن جرير عن قتادة مختصرا، وفيه نزول الآية. قال الشيخ سعد الدين:
ضمير صد عنها ومنها للصخرة والمستكن للضربة وضمير لا بتيها للمدينة وهما حرتان
يكتنفانها والحرة كل أرض
(2/508)
ذات حجارة سود كأنها محترقة من الحر، واللوب: الحوم حول الماء
للعطش عند الازدحام وقيل العطش، واللام في، لكان، جواب قسم محذوف والحيرة: بكسر
الحاء مدينة بقرب الكوفة، وتشبيه القصر بأنياب الكلاب في نباحها وصغرها وانضمام
بعضها إلى بعض.
قوله: " وإخراج الحي من الميت "، إلى أخره، أخرجه ابن أبي
حاتم، عن ابن مسعود وابن عباس.
قوله: " وقيل إخراج المؤمن من الكافر " إلى آخره أخرجه ابن أبي حاتم عن
عمر ين الخطاب.
قوله: " مندوحة " أي سعة. في الأساس: ندحت المكان ندحا، وسعته، ولك في
هذه الدار منتدح، متسع، ولك عنه مندوحة أي سعة.
قوله: " يصح أن يسمي ولاية " قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن (من) في
التنزيل بيانية (وفي شيء) خبر ليس.
قوله:
" توم عدوي ثم تزعم أنني .... صديقك ليس النوك عنك بعازب
(2/509)
وقبله:
فليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني في المغايب
النوك: الحمق، والعازب: الغائب.
قوله: " أن تخاف من جهتهم ما يجب اتقاؤه "، قال الطيبي: يشير إلى أن
اتقاؤه مصدر أقيم مقام المفعول به قوله: " أو اتقاء " أي أنه مفعول
مطلق.
قوله: " والفعل معدى بمن لأنه بمعنى تحذروا وتخافوا " قال الشيخ سعد
الدين: هذا يشعر بأن حذر وخاف يجيء متعديا بمن بخلاف اتقى فإنه ليس إلا متعديا
بنفسه ولم نجد في كتب اللغة خاف وحذر إلا متعديا بنفسه.
قوله: " قال عيسى عليه الصلاة والسلام، كن وسطا وامش جانبا " قال
الطيبي: أي ليكن جسدك مع الناس وقلبك في حظيرة القدس. وقال الشيخ سعد الدين: أي كن
وسطا في معاشرتهم ومخالفتهم وامش جانبا من موافقتهم فيما يأتون ويذرون.
قوله: (يوم منصوب بنود) أي تتمنى كل نفس يوم تجد صحائف أعمالها أو جزاء أعمالها من
الخير والشر حاضرة، لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له/.
(أمدا بعيدا) قال أبو حيان: الظاهر في بادئ النظر حسن هذا التخريج وترجيحه على
غيره لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف، وهي أن يكون الفاعل ضميراً عائدا على
شيء اتصل بالمعمول للفعل، نحو غلام هند ضربت وثوبي أخويك يلبسان ومال زيد أخذ،
فذهب الكسائي وجمهور البصريين جواز هذه المسألة ومنها الآية على تخريج الزمخشري أن
الفاعل بتود هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول " تود " وهو يوم لأن يوم
مضاف إلى تجد كل نفس، والتقدير يوم وجدان
(2/510)
كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود. وذهب الفراء
وأبو الحسن الأخفش وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز لأن هذا
المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه وعود الضمير على ما اتصل به ولهذه العلة امتنع
زيداً أضرب وزيدا أظن قائما، والصحيح جواز ذلك.
قال الشاعر:
أجل المرء يستحث ولايد .... ري إذا يبتغي حصول الأماني
أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، قال أبو حيان: وما
عملت من سوء يجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على ما عملت من خير فيكون المفعول
الثاني، إن كان تجد متعديا إلى مفعولين أو الحال إن كان متعديا إلى واحد محذوفا أي
وما عملت من سوءا محضراً، وذلك نحو ضربت زيداً قائما وعمرا إذا أردت وعمراً قائما،
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون " تود في موضع الحال " أي وادة تباعد ما
بينها: وبين ما عملت من سوء فيكون الضمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء وأبعد
الزمخشري في عودة على اليوم لأن أحد القسمين اللذين أحضرا له في ذلك اليوم هو
الخير الذي عمله ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلا بتجوز إذ كان يشمل على إحضار
الخير والشر فتود تباعده لتسلم من الشر ودعه لا يحصل له الخير والأولى عوده إلى ما
عملت من سوء لأنه أقرب مذكور ولأن المعنى أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد
منه.
قوله: " أو بمضمر نحو أذكر " إلى أخره. قال الطيبي: الحاصل أنه يجوز على
تقدير أذكر ناصبا لليوم في وما عملت وجهان الابتداء وتود خبره والعطف على ما عملت.
قال: ويجوز أن يكون تود استئنافا كأن قائلا لما ألقي إليه الجملة الأولى سأل ما
حال الناس في حال ذلك اليوم المهول. أجيب، تود الآية.
قوله: " ولا تكون ما شرطية لارتفاع " تود قال الشيخ سعد الدين:
(2/511)
عليه اعتراض مشهور وهو أنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا
جاز فيه الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط
ولا يمتنع إطباق القراء على أحد الجائزين وإن كان مرجوحا، كقوله تعالى: {وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وما يقال إن المراد الارتفاع على وجه اللزوم، إنما هو من
جهة أن ورد كذلك ولا محال لتغيير نظر القرآن كما لزم في قول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
محافظة على الوزن وقد يجاب بأن رفع المضارع في الجزاء شاذ كرفعه في الشرط نص عليه
المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في ذلك البيت. انتهى. وقال أبو حيان:
الرفع مسموع من لسان العرب كثيرا بل قال أصحابنا أنه أحسن من الجزم ثم أورد منه
غير بيت زهير قول أبي صخر:
ولا بالذي إن بان عنه حبيبه .... يقول ويخفى الصبراني لجازع
قول الآخر:
وإن سل ريعان الجميع مخافة ... يقول جهارا ويلكم لا تنفروا
وقول الآخر:
(2/512)
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابهم .... تشوف أهل الغائب المتنظر
وقول الآخر:
فإن كان لا يرضيك حتى تردني .... إلى قطري لا إخالك راضيا
وقول الأخر:
أن يسألوا الخير يعطوه وإن خيروا .... في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
قال: فهذا الرفع كما رأيت كثير ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام إلا أنه يمتنع أن
يكون ما في الآية شرطا لعلة أخرى لا لكون تود مرفوعا، وذلك لأن مذهب سيبويه أن
النية بالمرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب، وحينئذ يؤدي
إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير وبينه عائد على اسم
الشرط وهو (ما) فيصير التقدير تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً ما عملت
من سوء وذلك لا يجوز، وقال السفاقسى: الظاهر جواز أن يكون (ما) في الآية شرطا، وقد
أجازه أبو البقاء. ورفع تود ليس بمانع على ما تقدم ولا ما ذكره أبو حيان، ولو
تنزلنا معه على مذهب سيبويه، لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها،
وإن كانت متقدمة في النية، ألا ترى أن الفاعل إذا أشمل على ضمير يعود على المفعول
يمتنع تقديمه على المفعول عند الأكثر، وإن كان متقدما عليه في النية. وقال ابن
هشام في المغني: امتنع الزمخشري من تخريجه على رفع الجواب مع مضي فعل الشرط، مع
تصريحه في المفصل بجواز الوجهين في نحو، إن قام زيد أقوم ولكنه لما رأى الرفع
(2/513)
مرجوحا لم يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه يوضح لك هذا
أنه جوز ذلك في قراءة شاذة مع كون فعل الشرط مضارعا وذلك على تأويله بالماضي فقال:
قرئ " أينما تكونوا يدرككم الموت " برفع يدرك فقيل هو على حذف الفاء
ويجوز أن يقال إنه محمول على ما يقع موقعه وهو، أينما كنتم كما جاء ولا ناعب على
ما يقع موقع ليسوا مصلحين، وهو ليسوا بمصلحين، وقد يرى كثير من الناس كلام
الزمخشري في هذه المواضع متناقضا والصواب ما بينت لك، انتهى. تنبيه، قال الشيخ ولي
الدين العراقي في حاشيته على الكشاف، ومن خطه نقلت، ذكر أبو حيان من الأبيات
الدالة على الرفع.
قولة: " إن تسألوا الخير يعطوه "، البيت: هو سبق ذهن أو قلم، فإن هذا
ليس من أبيات الرفع، فإن المضارع فيه، وهو يعطوه، البيت مجزوم بحذف نونه، قلت: إنما
أورده لقوله في تمامه وإن خيروا في الجهد أدرك منهم طيب أخبار، فإن فعل الشرط فيه
ماض، والجواب وهو أدرك مضارع مرفوع وهذه صورة المسألة وأما إن يسألوا الخير يعطوه
فالفعلان فيه مضارعان مجزومان وليس ذلك صورة المسألة فالشيخ ولي الدين هو الذي سهى
في اعتراضه.
قوله: " وقرئ ودت وعلى هذا يصح أن يكون شرطية " قال الشيخ سعد الدين: قد
يقال إن في الصحة كلاما لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على تجد
والشرطية لا تقع حالاً ولا مضافا إليه الظرف فلم يبق إلا عطفها على أذكر وهو
بتقدير صحته يخل بالمعنى وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم، ولا محيص سوى
جعلها حالاً بتقدير مبتدأ، أي وهي ما عملت من سوء ودت.
قوله: " ولكن الحمل على الخبر أوقع " عبارة الكشاف الحمل على الابتداء
وهي أحسن لأنها كما قال الشيخ سعد الدين تشعر بأنها إذا
(2/514)
جعلت شرطية لا تكون في موقع المبتدأ بل المفعول لأن عملت لم
تشتغل بضميره بل بقي مسلطا عليه.
قوله: " كرره للتوكيد والتذكير "، قال الشيخ سعد الدين: الأحسن ما قيل
أن ذكره أولاً للمنع عن موالاة الكافرين وثانيا للحث على عمل الخير والمنع عن عمل
السوء.
قوله: " إشارة إلى أنه تعالى إنما نهاهم إلى آخره " قال الطيبي: فهو على
الأول تتميم وعلى الثاني تكميل كمل به ليجمع بين صفتي القهر والرحمة تحريضا على
الإنابة.
قوله: " المحبة ميل النفس " إلى آخره. قال الغزالي في الإحياء: الحب
عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء المستلذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقا والبغض
عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب ماذا قوي سمي مقتا ولا تظن أن الحب مقصور
على مدركات الحواس الخمس حتى يقال: إن الله سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل في
الخيال فلا يحب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ
المحبوبات ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ، بل جنس سادس مظنته القلب،
والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعاني
المدركة بالفعل أعظم من جمال الصور الظاهرة للإبصار فيكون لا محالة لذة القلوب مما
تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون
ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في
إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب الله لا من قعد به القصور في درجة البهائم في يجز
إدراك الحواس
(2/515)
أصلا، وقال الطيبي: فسر المتكلمون محبة العبد لله بأنها محبة طاعته
وخدمته أو ثوابه أو إحسانه وأما العارفون فقد قالوا العبد يحب الله لذاته وأما حب
طاعته وثوابه فهي درجة نازلة والقول الأول ضعيف، وذلك أنه لا يمكن أن يقال في كل
شيء أنه إنما كان محبوبا لأجل معنى أخر فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبا
لذاته، فكما يعلم أن اللذة محبوبة لذاتها كذلك يعلم أن الكمال محبوب لذاته وأكمل
الكمالات لله تعالى فيقتضي كونه محبوبا لذاته من ذاته، وقال صاحب الفرائد، بعدما
حكى نحواً من هذا المعنى وهذا أبلغ أنواع الحب، فعلى هذا حب العبد لله تعالى حقيقة
بل المحبة الحقيقية مستحقة لله تعالى إذ كل ما يحب من المخلوقات فإنما يحب بخصوص
أثر من آثار وجوده قال الطيبي: ويقال لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله
سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآيات تعلق قلب العبد بمولى عظيم
الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت ثم لما ثني بنهي المؤمنين عن موالاة
أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير كرر فيها {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}،
ونبه على وجوب استئصال تلك الموالاة، بقوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي
صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} الآية، وأكد ذلك بالوعيد الشديد وذلك قوله: {يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} الآية، زاد ذلك التعلق أقصى غايته واستأنف.
قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ} كأنه تعالى يشير إلى أن عبيدي لم يتمالكوا أنفسهم عند ذلك بأن لا يسألوا
بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة ربنا، فقيل لهم: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال
تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود.
قوله: " جواب الأمر "، هو رأى عزى للخليل وأكثر المتأخرين
(2/516)
على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر.
قوله: " وقيل: نزلت في وفد نجران " إلى آخره. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير،
عن محمد بن جعفر ابن الزبير.
قوله: " وقيل: في أقوام "، إلى آخره. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، عن
الحسن، مرسلا.
قوله: " أو بدل من الأولين "، قال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون بدلاً من
آدم، لأنه ليس بذرية، ورده أبو حيان، بأن الراغب، قال: الذرية يقال للواحد والجمع
والأصل والنسل كقوله: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي آباءهم.
قوله: " فينتصب به إذ " أي بسميع على التنازع. قاله الشيخ سعد الدين
فاندفع قول أبي حيان: إن النصب بسميع لا يجوز، للفصل بينه وبين إذ بعليم. إن كان
خيراً وهو أجنبي، وكذا إن كان صفة لأن اسم الفاعل إذ وصف قبل: أخذ معموله لا يجوز
إذ ذاك أن يعمل، وإن كان الحلبي رده أيضا بأن هذا القدر غير مانع، لأنه يتسع في
الظرف وعديله مالا يتسع في غيره، ولذلك يقوم على ما في حيز ال الموصولة، وما في
حيز أن المصدرية.
قوله: " بفتح الحاء المهملة والنون المشددة " وهي تأنيث اسم عبراني
(2/517)
قوله: " وكان يحيى وعيسى ابني خالة من الأب " قال الطيبي: قيل: كلام المصنف يدل على أن إيشاع ومريم بنتا عمران، لكن مريم من حنة، وإيشاع من غيرها لما ذكر أن حنة كانت عاقرا/ إلى أن عجزت وإيشاع كانت أكبر سنا من مريم ثم قال بعيد هذا: فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فتكون إيشاع أخت مريم وخالتها. قيل في العذر لا يبعد أن عمران تزوج أم حنة فولدت إيشاع وكانت حنة ربيبته، ثم تزوج حنة بعد ذلك بناء على أن ذلك كان جائزا في شريعتهم، فولدت مريم فتكون إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها أيضا، وهو يوافق قوله بعد هذا رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها حنة فذكر أن حنة أخت إيشاع، فتكون إيشاع وحنة أختين من الأم " قال الطيبي: والظاهر ما روى محي السنة في المعالم، أن زكريا وعمران زوجا أختين، وكانت إيشاع بنت فاقود أم يحيى عن زكريا، وحنة بنت فاقود أم مريم عند عمران، وعليه ينطبق قول المصنف أولا: وروي أنها أي: حنة كانت عاقرا. إلى قوله: فحملت بمريم، وقوله. ثانيا: أنا أحق بها، عندي خالتها، وثالثه رغب في أن يكون له في إيشاع ولد مثل ولد أختها، إلى قوله: فإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أختها كذلك. وأما الحديث، رواه الشيخان " فإذا أنا يا بني الخالة، عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا " وما ذكره المصنف هنا فكأن يحيى وعيسى ابني الخالة فتأويله ما ذكره صاحب التقريب أن يحيى وأم عيسى وهي مريم: " ولدا خالة "، لأن إيشاع أم يحيى، وحنة أم مريم أختان. والغرض، أنه كان بين يحيى وعيسى هذه الجهة من القرابة وكان عيسى ابن بنت خالة يحيى، فأطلق عليه ابن الخالة لأن ابن بنت الخالة كابن الخالة إطلاقا مجازيا عرفيا وكثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، ولكونه مربوبا عندها. هذا وجه التوفيق. انتهى.
(2/518)
قوله: " روي أنها كانت عجوزاً عاقراً "، إلى آخره
أخرجه ابن جرير، عن ابن إسحاق، بتمامه، وعن عكرمة، نحوه " قوله: وكان هذا
النذر مشروعا في عهدهم في الغلمان " أخرجه ابن جرير، عن قتادة والربيع قوله:
" فلعلها بنت الأمر على التقدير " قال الطيبي: أي على تقدير العرف
والعادة، أي إن كان ذكرا كان محرراً.
قوله: " ونصبه على الحال "، لم يبين مماذا. وقد قيل: إنه حال في "
ما " وهو الأرجح، فالعامل نذرت، وقيل: من الضمير الذي في الجار والمجرور
فالعامل استقر. قال أبو حيان: ويحتمل أن ينصب على المصدر، أي تحريرا لأنه في معنى
نذرت قال: وعلى الحالية، هي مقدرة إن كان بمعنى مخلصا للعبادة ومصاحبة إن كان
بمعنى معتقا.
قوله: " الضمير لما في بطنها، وتأنيثه لأنه كان أثنى، وجاز انتصاب انثى حالاً
عنه؛ لأن تأنيثها علم منه " قال أبو حيان: هذا يؤول إلى أن أنثى حال مؤكدة،
ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال على أن تكون الحال مؤكدة. وقال السفاقسي مراده أن
الأصل تذكير الضمير باعتبار لفظ ما، أي وضعت ما في بطني أنثى، ولكن أنث لتناسب
الحال المؤنثة، والضمير في الأصل للمذكر، وليس مراده من تأنيثة لتأنيث الحال عود
الضمير على الحال حتى يلزمه أن تكون الحال مؤكدة.
قوله: " وإنما قالته تحسرا أو تحزنا " إلى آخره، جواب سؤال مقدر، أي إذا
كان علم اللطيف الخبير محيطا بما وضعت، فأي فائدة في قولها: إني وضعتها أنثى؟ لأن
الإخبار إما للفائدة أو لازمها.
(2/519)
والجواب أن ذاك مقتضى الظاهر، وربما تجعل الإخبار ذريعة إلى
الامتنان أو التهديد أو إلى إظهار التحسر وهذا منه.
قوله: " وهو استئناف من الله تعظيما لموضوعها، أي ولدها الذي وضعته، وتجهيلا
لها بشأنها ". معناه كما قال الطيبي: أنه تعالى يحكى حالها لغيرها، وشكى عنها
تحسرها وحزنها على الموضوع. المعنى: اسمعوا قولها، وانظروا إلى تحسرها وحزنها
تحقيراً للمولود العظيم الشأن فاحكموا بجهلها بذلك.
قوله: " على أنه من كلامها تسلية " إلى آخره، فعلى هذا لا يكون قوله:
" والله أعلم بما وضعت " تجهيلا لأم مريم، بل نفيا لعلمها، لأن العبد
ينظر إلى ظاهر الحال، ولا يعرف أسرار الله في كل شيء.
قوله: (بيان لقوله: " والله أعلم ") إلى آخره. قال الطيبي: وذلك أن
قوله: " والله أعلم بما وضعت " وارد على تفخيم المولود وفضله على الذكر.
يعني أنه قد تعورف بين الناس فضل الذكر على الأنثى، والله سبحانه هو الذي اختص
بعلمه الشامل فضل هذه الأنثى على الذكر، فكان قوله. " وليس الذكر كالأنثى "
بيانا لما اشتمل عليه الكلام الأول من التعظيم.
قوله: " واللام فيهما للعهد " قال الطيبي: أما التي في الأنثى فمعهود
بقولها: " إني وضعتها أنثى " وأما التي في الذكر فبقولها: إني نذرت لك
ما في بطني محرراً: لأن المحرر لا يكون إلا غلاما، أو طلبت أن ترزق ذكراً.
(2/520)
قوله: " وما بينهما " اعتراض. قال الطيبي: هذا إنما
يصح على قراءة وضعت على الغيبة، لأنه كلام الله وأما على التكلم فلا، لأنه حينئذ
من كلام أم مريم.
وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: فعلى قراءة الغيبة، أو الخطاب يكون المعترضتان من
كلام الله من غير حكاية، وما فيه الاعتراض أعني " إني وضعتها " "
وإني سميتها " من كلام امرأة عمران، فكيف ذلك؟ قلنا: هما أيضا من كلام الله،
لكن حكاية عن امرأة عمران ولا بعد في الاعتراض بكلام غير محكي بين كلامين محكيين،
والحق أن هذا اعتراض في أثناء كلام واحد من متكلم واحد، وهو قوله: " قالت رب
" إلى آخره. كما تقول: ضرب زيد عمراً ونعم ما فعل وبكرا وخالدا. فليتأمل.
قوله: " ما من مولود ". الحديث. أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة.
قال الطيبي: قوله: إلا والشيطان يسمه، كقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ
إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}.
في أن الواو داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق فتفيد
(2/521)
الحصر على التأكيد.
قوله: " ومعناه أن الشيطان يطمع " إلى آخره. تبع الزمخشري في تأويل
الحديث، وأخرجه عن ظاهره والزمخشري ماش في ذلك على منهج المعتزلة، فإنهم أنكروا
الحديث، وقدحوا في صحته. قال الإمام: طعن القاضي عبد الجبار في هذا الخبر، وقال:
إنه خبر واحد على خلاف الدليل.
وذلك إن الشيطان إنما يدعوا إلى الشر من له تمييز، ولأنه لو تمكن من هذا لجاز أن
يهلك الصالحين، وأيضا لما خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد النخس
" لدام أثره ".
قال الإمام: وبمثل هذه الوجوه لا يجوز دفع الخبر الصحيح.
وقال صاحب الانتصاف: الحديث مدون في الصحيح فلا يعطله الميل إلى ترهات الفلاسفة.
وقال الطيبي: لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة من دون الأنبياء، ويمكنه الله
من المس مع عصمتهم من الإغواء.
وقال الشيخ سعد الدين: طعن الزمخشري في صحة الحديث بمجرد أنه لم يوافق هواه، وإلا
فأي امتناع في أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما يرى ويسمع وليست تلك
المسة للإغواء ليدفع بأنه لا يتصور في حق المولود حين يولد.
(2/522)
قال: ثم أوله الزمخشري على تقدير الصحة بالمراد بالمس الطمع في
إغوائه، واستثناء مريم وابنها لعصمتهما. ولما لم يخص هذا المعنى بهما عم الاستثناء
لكل من يكون على صفتهما. وهذا إما تكذيب للحديث بعد تسليم صحته، وإما قول بتعليل
الاستثناء والقياس عليه.
قال: وليت شعري من أين ثبت تحقق طمع الشيطان ورجاءه وصدقه في أن هذا المولود محل
إغوائه: ليلزمنا إخراج كل من لا سبيل له إلى إغوائه، فلعله يطمع في إغواء من سوى
مريم وأمها، ولا يتمكن منه.
قلت: والعجب من البيضاوي أشد فإنه تبع الزمخشري في تأويله، وقال: معناه أن الشيطان
يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها، فإن الله عصمهما. ووجه
الأشدية أن الزمخشري ألحق بمريم وابنها سائر المعصومين، لأن الضرورة داعية على هذا
التأويل إلى ذلك، والبيضاوي اقتصر على استثنائهما فأدى كلامه إلى أن كل من سواهما
يتأثر في إغوائه، ومنهم بقية المعصومين، وهو باطل قطعا.
والصواب أن الحديث على ظاهره. وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينهما حجاب، وأن
الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب، وفي بعض الطرق عن ابن عباس:
" ما ولد مولود إلا وقد استهل غير المسيح " أخرجه ابن جرير.
نعم، قال الشيخ سعد الدين: قد يشكل على ظاهر الحديث أن إعادة أم مريم كانت بعد
الوضع، فلا يصح حملها على الإعاذة من المس الذي يكون حين الولادة. قال والجواب أن
المس ليس إلا بعد الانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة، غايته أنه عبر عنه بالمضارع
لقصد الاستمرار بخلاف الوضع
(2/523)
والتسمية قوله: " فرضي بها "، قال الطيبي: فسر القبول
بالرضى وذلك أن من يهدي إلى أحد شيئا يرجو منه قبول هديته بوجه حسن، فشبه النذر
بالإهداء ورضوان الله عنها بالقبول.
قوله: " أو يسلمها " عطف بيان على إقامتها.
قوله: " للسدانة " أي خدمة بيت المقدس.
قوله: " روى أن حنة لما ولدتها "، إلى آخره. قال الطيبي: بيان تسليمها،
قلت: وقد أخرجه ابن جرير عن عكرمة وقتادة والسدي.
قوله: " وصاحب قرابينه " هو الذي على أمر القرابين في البيت الذي ينزل
فيه النار، والقربان ما يتقرب به إلى الله.
قوله: " ويجوز أن يكون مصدراً على تقدير مضاف "، إنما احتاج إليه لأن
القبول بالفتح اسم لما يتقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد.
قوله: " أي بذي قبول حسن "، قال أبو حيان: أي ذي قبول حسن وهو الاختصاص.
قوله: " مجاز عن تربيتها ". قال الطيبي أي استعاره فإن الزارع لم
(2/524)
يزل يتعهد زرعه بأن يسقيه عند الاحتياج ويحميه عن الآفات ويقلع
ما عسى أن ينبت فيه من شوك لئلا يخنقه. وقال الشيخ سعد الدين هو بطريق الاستعارة،
أو ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
قوله: " سمي به لأنه محل محاربة الشيطان " قال أبو حيان: سمي به لتحارب
الناس عليه وتنافسهم فيه وهو مقام الإمام من المسجد قوله: " روي أنه كان لا
يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب " إلى آخره. أخرجه ابن جرير
عن الربيع ابن أنس.
قوله: " قيل تكلمت صغيرة " قلت: قد أجمع اللذين تكلموا في المهد فبلغوا
أحد عشر نفسا وقد نظمتهم فقلت:
تكلم في المهد النبي محمد .... ويحيى وعيسى والخليل ومريم
وميرة جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها: تزني ولا تتكلم
(2/525)
وماشطة في عهد فرعون طفلها .... وفي زمن الهادي المبارك تختم
قوله: " وكان رزقها ينزل عليها من الجنة "، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
قوله: روى أن فاطمة أهدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغيفين، الحديث، أخرجه
أبو يعلي في مسنده من حديث جابر وقد سقت لفظه في كتاب المعجزات.
قوله: " يستعار هنا وثم وحيث للزمان "، قال الزجاج: هنالك، في موضع نصب
لأنه ظرف يقع في المكان وفي الأحوال.
والمعنى: ومن الحال دعاء زكريا كما يقول من هاهنا؟ قلت: كذا ومن هنالك قلت كذا أي
من ذلك الوجه ومن تلك الجهة على المجاز.
قوله: " أي من جنسهم، كقولهم زيد يركب الخيل "، قال الزجاج: معناه أتاه
النداء من هذا الجنس كما تقول ركب فلان في السفن أي في هذا الجنس وإنما ركب في
سفينة واحدة، الشيخ سعد الدين: هو على طريقة نسبة حكم الفرد من الجنس إلى الجنس
نفسه، نحو فلان يركب الخيل ويلبس الديباج وإن لم يلبس ولا يركب إلا واحدة، قلت
وأوجه منه أنه من العام المراد به الخصوص.
قوله: " فإن المنادي كان جبريل وحده "، أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود.
قوله: " على إرادة القول "، أي إضماره، هو مذهب البصريين.
(2/526)
قوله: " ولأن النداء نوع منه " هو مذهب الكوفيين.
قوله: " كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدة الحويدرة " ويقال الحادرة لقب
الشاعر اسمه قطبة ابن أوس/ ابن محصن ابن جرول، شاعر جاهلي، وإنما لقب الحادرة بقول
زبان بن سيار الغزاري له:
كأنك حادرة المنكبيـ ...... ن رصعاء تنقض في حائر.
قوله [والحاضر الضخم] وكان الحادر ضخم المنكبين، أخرج أبو الفرج الأصبهاني في
الأغاني من طريق الأصمعي عن عمه قال سمعت شيخا من بني كنانة من أهل المدينة يقول:
كان حسان ابن ثابت إذا قيل له: [كأنه] تنوشدت الأشعار في موضع كذا وكذا فهل أنشدت
كلمة الحويدرة:
بكرت سمية غدوة فتمتع ..... وغدت غدو مفارق لم يربع
قوله: " روى أنه مرفى صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت
"، أخرجه عبد الرزاق في تفسيره عن قتادة موقوفا
(2/527)
وأخرجه ابن عساكر في تاريخه على معاذ بن جبل مرفوعا.
قوله: " ناشئا منهم أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة ".
قال الطيبي: من على الأول للإبتداء وعلى الثاني للتبعيض.
قوله: " وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال "، أي انتزع منه، يريد أن
الجواب بعد انطباق معناه على معنى السؤال ينبغي أن يراعى فيه حسن المناسبة بين
الألفاظ كأنه لما سأل أنه يتلقى هذه النعمة بالشكر أجيب: بأن أيتك ألا تقدر على
شيء من الكلام إلا على شكري قاله الطيبي.
قوله: " والإستثناء منقطع " إلى آخره. قال السفاقسي تعقب ابن الشجري في
أماليه النصب على الإستثناء، قال ولكنه مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض فالأصل
ألا تكلم الناس إلا رمزاً بتحريك الشفتين بلا لفظ من غير إبانة بصوت فالعامل الذي
قبل إلا مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت إلا وحرفي النفي
استقام الكلام تقول في نحو ما لقيت إلا زيداً لقيت وما خرج إلا زيد خرج زيد وكذا
لو قلت أتيك أن تكلم الناس رمزاً استقام وليس كذلك لو قلت ليس القوم في الدار إلا
زيداً أو إلا زيد ثم حذفت النفي وإلا فقلت: القوم في الدار زيداً أو زيد، لم يستقم
فكذا المنقطع نحو ما خرج القوم إلا حماراً، لو قلت: خرج القوم حماراً، لم يستقم.
قوله:
متى ما نلتقي فردين ترجف .... روانق إليتيك وتستطارا
(2/528)
قال ابن الشجري في أماليه كان عمارة ابن زياد العبسي يحسد عنترة
على شجاعته إلا أنه كان يظهر تحقيره ويقول لقومه إنكم قد أكثر تم من ذكره ولوددت
أني لقيته خاليا حتى أريحكم منه وحتى أعلمكم أنه عبد فبلغ عنترة ما يقول عمارة
فقال:
أحولي تنقض أستك مدرويها .... لتقتلني فها أنا ذا عمارا
متى ما نلتقي فردين ترجف .... روانف إليتيك وتستطارا
وسيفي صارم قبضت عليه .... أصابع لا ترى فيها انتشارا
حسام كالعقيقة فهو كمعي .... سلاحي لا أفل ولا فطارا
ومطرد الكعوب أحص صدق ..... تخال سنانه في الليل نارا
ستعلم أينا للموت أدنى ..... إذا دانيت بي الأسل الحرار
وخيل قد دلفت بخيلي .... عليها الأسد تهتصر اهتصارا
قال ابن الشجري: المذروان جانبا الإليتين المقترنان ومن كلام العرب جاء ينفض
مذرويه إذا جاء يتهدد، وفردين ويروى خلوين أي خاليين من الفاعل والمفعول معا ويروى
بزدين أي بارزين وترجف تضطرب والرانفة طرف الإلية الذي يلي الأرض إذا كان الإنسان
قائما، وأراء بالروانف التثنية، لأنه ليس للا ليتين إلا راتفتان ولذلك ثني ضمير
تستطارا. قال ابن الشجري: ومعنى تستطار تستخف. ويحتمل. قوله: تستطارا وجهين من
الإعراب أن يكون مجزوما معطوفا على جواب الشرط وأصله تستطاران فقطت نونه للجزم
والألف على هذا ضمير عائد
(2/529)
على الروانف وعاد إليها وهي جمع ضمير تثنية لأنها من الجموع
الواقعة في موقع التثنية نحو قولك وجوه للرجلين فعاد الضمير على معناها دون لفظها
إذ المعنى رانفتا إليتيك كما أن معنى الوجوه من قولك حيا الله وجوهكما معنى
الوجهين لأنه لا يكون لواحد أكثر من وجه كما أنه ليس للإلية إلا رانفة واحدة.
الوجه الثاني أن يكون نصبا على الجواب بالواو بتقدير وأن تستطار فالألف على هذا
لإطلاق القافية والتاء للخطاب وهي في الوجه الأول للتأنيث ويجوز أن تجعل التاء في
هذا الوجه أيضا لتأنيث الروانف والعقيقة الشقة من البرق واللمع الضجيج. قوله: لا
أفل ولا فطارا أي لا فل فيه ولا فطر والفل: الثلم. والفطر، الشق. وموضع قوله
كالعقيقة رفع وصف لحسام ففي الكاف ضمير عائد على الموصوف وانتصاب أفل على الحال من
المضمر في الكاف والعامل في الحال ما في الكاف من معنى التشبيه والتقدير حسام يشبه
العقيقة غير منفعل ولا منفطر.
قوله: ومطرد الكعوب أي ليس في كعوبه اختلاف والكعوب من الرمح العقد ما بين كل
أنبوبين كعب والأحص الأملس والصدق الصلب والأسل الرماح والحرار العطاش والدليف
المشي الرويد وهو فويق الدبيب وهو مشي الكتيبة وتهتصر تجتذب أقرانها. انتهى.
قوله: " وإرهاصا " قال الشيخ سعد الدين: هو تأسيس النبوة بطريق الخوارق
قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في طريق الشام. وقال
الطيبي: أي تأسيسا وإحكاما، من الرهص وهو الساق الأسفل من الجدار الأساس: ومن
المجاز رهص الشيء أثبته وأسسه.
(2/530)
قوله: " فإن الإجماع على أنه تعالى لم يستنبئ امرأة
"، قلت: دعوى الإجماع عجيب، فإن الخلاف في نبوة نسوة موجود، خصوصا مريم، فإن
القول بنبوتها شهير، بل قال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات إلى ترجيحه، وقال:
إن ذكرها مع الأنبياء في سورة الأنبياء قرينة قوية لذلك: " قوله: قرفها
اليهود " وهو بالقاف وراء وفاء، يقال: قرفت الرجل: عبته، وهو يقرف بكذا، أي:
يرمي به ويتهم.
قوله: " والمراد تقرير كونه وحيا "، إلى آخره.
قال الطيبي: تقريره أن مقتضى الظاهر أن يقال: ذلك من أنباء الغيب، وما سمعت هذا
النبأ من أحد، ولا قرأته في كتاب لأن هذا متوهم منه، فاحتيج إلى دفع التوهم، لا
المشاهدة فإنها منتفية، لاشك في انتفائها، فلا يحتاج إليه.
فلم نفيت المشاهدة، وترك ذلك. وخلاصة الجواب أن المراد من نفي المشاهدة إثبات
الحجة، والاحتجاج على أهل الكتاب أن يقال بطريق التقسيم الحاصر، ولاشك أن عدم
السماع والقراءة محقق عند اليهود، وقد علموا ذلك علما يقينا لا ريب فيه، وإنما
كانوا ينكرون الوحي.
فأريد إثبات المطلوب بطريق برهاني، فقيل: طريق العلم فيما انبئكم به، إما السماع
والقراءة، وإما الوحي والإلهام وإما الحضور والمشاهدة، فالأولان منتفيان عندكم،
بقي الثالث. فنفى تهكما بهم، وإنما خص هذه دون الأولى للتهكم، لأنه لو نفى الأول
لم يكن من التهكم في شيء لمجال الوهم فيه دونه.
قوله: أو بقوله: " أيهم يكفل ".
قال الشيخ سعد الدين: تعلقه بالقول لا يفيد فائدة يعتد بها.
قوله: " بدل من إذ قالت الأولى ".
قال الحلبي: فيه بعد لكثرة الفاصل بين البدل والمبدل منه.
(2/531)
قوله: في زمان متسع، كقولك: لقيته سنة كذا.
أي مع أنك لم تلقه إلا في جزء من أجزاء السنة، فيكون قوله: (إذ يختصمون) إشارة إلى
جميع ذلك الزمان، وكذا إذ قالت الملائكة، فكل من زمان الاختصام، وزمان البشارة على
طريقة لقيته سنة كذا، قاله الطيبي.
قوله: " وعيسى معرب أيسوع، معناه السيد ".
قوله: أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا. إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن الحال مجموع المعطوف والمعطوف عليه، لا أن كلا
منهما مستقل بالحالية. انتهى والذي ذكره أبو حيان: أن كلا حال.
فإن قلت: ما الفائدة في البشارة بكلامه كهلا، والناس في ذلك سواء؟
قلت: التبشير بحياته إلى سن الكهولة.
قوله: " كلام مبتدأ " قال أبو حيان: فإن عنى أنه استئناف إخبار من الله،
أو عن الله على اختلاف القرائتين فمن حيث ثبوت الواو، لابد أن يكون معطوفا على شيء
قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يدعى زيادة الواو في " ويعلمه "،
فحينئذ يصح ان يكون ابتداء كلام، وإن عنى أنه ليس معطوفا على ما ذكر، فكان ينبغي
أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك.
قال الحلبي: هذا الاعتراض غير لازم، لأنه لا يلزم من جعله كلاما مستأنفا أن يدعى
زيادة الواو، لا أنه لابد من معطوف عليه، لأن
(2/532)
النحويين وأهل البيان نصوا على أن الواو تكون للاستئناف، بدليل
أن الشعراء يأتون بها في أوائل أشعارهم من غير تقديم شيء يكون ما بعدها معطوفا
عليه والأشعار مشحونة بذلك، ويسمونها الاستئناف.
وقال السفاقسي: عطف الجمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون من الجمل الصالحة لمعمول ما تقدم، فيكون حكمها في العطف حكم المفرد
في التشريك، نحو: كان زيد قائما وعمرو قاعدا.
الثاني: أن تكون فعلية تقدم قبلها معمول عامل يصح أن يكون الفعل معطوفا عليه
باعتبار عامله وهذا العطف إنما هو باعتبار العامل دون متعلقة من فاعل ومفعول،
لاختلاف المتعلقات، كقولك: أريد أن يضرب زيد عمراً، ويكرم بكر خالداً، فعطف يكرم
خاصة دون متعلقة على يضرب خاصة، ألا ترى أن معنى التشريك في الفعلين حاصل مراد دون
متعلقهما.
الثالث: أن يكون المراد من عطف الجملتين حصول مضمونهما خاصة، كقولك: قام زيد، وخرج
عمرو، كأنك قلت: حصل قيام زيد، وخروج عمرو، ولخصته من شرح المفصل لابن الحاجب.
قال السفاقسي: فيمكن أن يكون المراد بقوله كلاما مبتدأ أي مستقلا، وهو الوجه
الثالث، ويكون عطف على قوله: وإذ قالت: باعتبار حصول مضمون الجملتين، ويصح أن يكون
معطوفا بالمعنى الثاني على معمول القول، وهو قوله: " إن الله يبشرك "،
أي قالت ويعلمه، وهو غيرما ذكر من الوجهين. انتهى.
قوله: " أو عطف على يبشرك أو وجيها ".
قال أبو حيان: القولان بعيدان لطول الفصل ولا يقع مثله في لسان العرب، وقال الشيخ
سعد الدين: إنما يحسنان بعض الحسن على قراءة
(2/533)
الياء، وأما على قراءة النون فلا يحسن إلا بتقدير القول، أي إن
الله يبشرك بعيسى وبقوله: نعلمه أو وجيها ومقولا فيه نعلمه.
قوله: منصوب بمضمر على إرادة القول. إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: لا يتأتى هذا
على عطف نعلمه على يبشرك إذ يكون التقدير إن الله يبشرك، وبقول عيسى كذا عطفا على
الخبر ولا رابط إلا بتكلف عظيم. قال أبو حيان: هذا الوجه ضعيف إذ فيه إضمار شيئين
القول ومعموله وهو أرسلت، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة. قال:
والأولى أن يكون على إضمار جعل، تقديره ويجعله رسولا.
قوله: مضمنا معنى النطق. إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: لا يخفى إن في هذا نوع
خروج عن قانون التضمين.
قوله: " الضمير للكاف "، قال ابن هشام: وقع مثل ذلك في كلام غيره، ولو
كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت بكالأسد.
قوله: " روى أنه ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه
". إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن وهب بن منبه.
قوله: " عطف على رسولا "، إلى آخره. قال أبو حيان: هو عطف
على (بأية) إذ الباء فيه للحال، أي وجئتكم مصحوبا بأية من ربكم ومصدقا، ومنعوا
كونه معطوفا على رسولا أو وجيها، لأنه يستلزم حينئذ كون ضمير بين يدي غائبا إلا أن
قد رسولاً بإضمار أرسلت.
(2/534)
قوله: " مقدر بإضماره "، أي بإضمار فعل دل عليه قد جئتكم:
أي وجئتكم لأجل.
قوله: " أو مردود على قوله: قد جئتكم بأية "، أي فيكون عطفا على (بأية)،
فعلى هذا هو من عطف المفردات وعلى ما قبله من عطف الجمل أشار إليه الشيخ سعد الدين
وقال: إن الأول هو التحقيق إذ لا وجه لعطف المفعول له على المفعول به إلا أن جعل
(بأية) حالا، فإنه يستقيم العطف له ولمصدقا. انتهى. وقال أبو حيان: لا يستقيم ما
قاله المصنف، لأن (بأية) في موضع الحال، (ولأحل) تعليل ولا يصح عطف التعليل على
الحال، لأن الواو توجب التشريك في جنس المعطوف عليه، فإن عطفت على مصدر أو مفعول
به أو حال أو ظرف أو تعليل أو غير ذلك.
شاركه في ذلك المعطوف. قال الحلبي: ويحتمل أن يجاب بأنه أراد الرد على (بأية) من
حيث/ دلالتها على عامل مقدر.
قوله: " والثروب " جمع ثرب وهو سخم رقيق يغشى الكرش.
قوله: " ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: " قل أمنت بالله ثم استقم
" " أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه،
على سفيان الثقفي، أن رجلا قال: يا رسول الله مرني بأمر في
(2/535)
الإسلام لا أسأل أحداً عنه بعدك. قال: " قل أمنت بالله ثم
استقم ".
قوله: " من الحور "، قال الشيخ سعد الدين: كأنه نسب إليه، وزيادة الألف
من تغييرات النسب قوله: " ومنه الحوريات " قال ابن خلدة:
فقل للحواريات يبكين غيرنا .... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
قوله: " قصارون " أخرجه ابن جرير، عن أبي أرطاة.
قوله: " أو الحجة أمة محمد فإنهم شهدوا على الناس "، أخرجه الفريابي
بسند صحيح عن ابن عباس، وما قاله الشيخ سعد الدين في توجيه مرجوحيته من خفاء وجه
الدلالة على هذا المعهود ممنوع بأن هذه الأمة لم تزل مشهورة بين الأمم بهذا الوصف
كما دلت عليه الأحاديث والآثار.
قوله: غيلة، هي بالكسر النوع من الإغتيال وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فإذا صار
إليه قتله.
قوله: " والمكر من حيث إنه في الأصل "، إلى آخره، ذهبت طائفة إلى أن
اللفظ ليس بمتشابه وإن المكر عبارة عن التدبير المحكوم الكامل ثم اختص بالتدبير في
إيصال الشر خفية وذلك غير ممتنع.
(2/536)
قوله: " أي متوفي أجلك "، إلى آخره.
قال الطيبي: أي قوله: (إني متوفيك) بمعنى مميتك كناية تلويحية عن العصمة لأن
التوفي لازم لتأخيره إلى أجل كتب الله له وتأخيره ذلك لازم لإماته الله إياه حتف
أنفه وهو لازم لعصمته من أن يقتله الكفار.
قوله: " توفيت مالي " قال الطيبي: ما موصولة، أي الذي لي.
قوله: " روي أنه رفع نائما " أخرجه ابن جرير عن الربيع.
قوله: " وقيل أماته الله سبع ساعات "، أخرجه ابن جرير عن ابن إسحاق قال:
النصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه.
قوله: " يعلونهم " قال الشيخ وسعد الدين: تفسير للفوقية بأنها رتبة
شرفية لا مكانية.
قوله: " تفسير للحكم " قال الشيخ سعد الدين: اعترض بأن الحكم مرتب على
الرجوع إلى الله وذلك في القيامة لا محالة فكيف يصح في تفسيره العذاب في الدنيا؟
وأجيب بوجوه: الأول أن المقصود التأبيد وعدم الإنقطاع من غير نظر إلى الدنيا
والآخرة كما في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}.
الثاني أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومها اللغوي أي الأول والآخر ويكون ذلك عبارة
عن الدوام وهذا أبعد من الأول جداً.
الثالث أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وكونه بعد جعل الفوقية الثانية إلى يوم
القيامة لا يوجب كونه بعد ابتداء يوم القيامة وعلى هذا فتوفية الأجور أيضا تتناول
نعيم الدارين ولا يخفى إن في لفظ كنتم، في قوله (فيما كنتم فيه تختلفون) بعد نبوة
عن هذا المعنى وأن المعنى أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا.
(2/537)
الرابع أو العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم والمعنى أضم إلى
عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة وهذا بعيد من اللفظ جداً إذ معنى أعذبه في
الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال إن اتحاد الكل لا يلزم
أن يكون باتحاد كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعله به عذاب
الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة.
قوله: " جملة مفسرة للتمثيل "، إلى آخره، قال الطيبي أي أنها بيان لما
يدل على وجه التشبيه بأخذ الزبدة والخلاصة التي يعطيها التركيب وهي كونه وجد من
غير أب.
قوله: " خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق التهيج "، قال
الطيبي: في هذا الأسلوب فائدتان. إحداهما أنه صلوات الله عليه وسلامه إذا سمع مثل
هذا الخطاب تحرك منه الأريحية فيزيد في الثبات على اليقين، وثانيهما أن السماع
يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع عما يورث الإمتراء لأنه صلوات الله وسلامه
لجلالته إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره، وإلى هذين المعنيين الإشارة بقوله: لزيادة
الثبات وأن يكون لطفا لغيره.
قوله: " أي من البينات الموجبة للعلم " قال الطيبي: أي اللام في العلم
للعهد وهو تلخيص الدليل الموجب، لأن عيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق من مخلوقاته
وليس بابن له سبحانه ولا تفاوت بين عيسى وبين آدم المخلوق من التراب المكون بكلمة
التسخير ويدل على أن البينة الموجبة للعلم ذلك قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يعني إذا عاندوا الحق بعد ذلك لم يبق إلا
الدعوة إلى الملاعنة
(2/538)
وتعجيزهم بالمباهلة التي تستأصلهم من سنيحهم.
فقوله: الحق، وقوله: العلم، يعبران عن تلخيص الدليل.
قوله: " من قولهم بهلت الناقة إذا ترتكتها بلا صرار " هو خيط يشد فوق
حلمة الناقة لئلا يرضعها فصيلها.
قوله: " روي إنهم دعوا إلى المباهلة " إلى آخره. أخرجه أبو نعيم في
الدلائل من طرق عن ابن عباس وغيره مفرقا.
قوله: " بالفصل في أمر صاحبكم "، قال الطيبي: يعني به ما يشير إليه قوله
تعالى: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي فصل بينكم وبين اليهود حيث
قلتم عيسى ابن الله وثالث ثلاثة، وقالوا: هو ساحر كذاب، وقول الحق هو عيسى.
قوله: " فإن أبيتم إلا إلف دينكم "، قال الطيبي: الاستثناء مفرغ لأن في
أبى معنى النفي، يعني إن لم تقبلوا دين الإسلام ولم ترغبوا في شيء إلا إلف دينكم.
قوله: " فوادعوا الرجل " في النهاية: الموادعة المتاركة وإعطاء كل واحد
الآخر عهدا ألا يقاتله.
قوله: " فقال أسقفهم " هو اسم سرياني لرؤساء النصارى وعلمائهم.
(2/539)
قوله: " روي أنه لما نزلت: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ} الحديث " أخرجه الترمذي وحسنه، من حديث عدي بن حاتم.
قوله: " تنازعت اليهود والنصارى في إبراهيم وزعم كل فريق أنه منهم وترافعوا
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت " أخرجه ابن إسحاق وابن جرير عن
ابن عباس.
قوله: " أي أنتم هؤلاء الحمقى "، قال الطيبي: يعني قصد باسم الإشارة وهو
" هؤلاء " تحقير شأنهم وتركيك عقولهم.
قوله: " جادلتم فيما لكم به علم مما وجدتموه في التوراة والإنجيل " قال
الإمام: فيما لكم به علم، لم يصقد بالعلم حقيقته. وإنما أراد: هب إنكم تستجيزون
محاجته فيما تدعون علمه فيكف تحاجون فيما لا علم لكم به ألبتة.
قوله: " وقيل هؤلاء بمعنى الذين " هو مذهب الكوفيين.
قوله: " ها أنتم، أصله أأنتم " إلى آخره. قال أبو حيان: لا يحسن لأن
إبدال همزة الاستفهام هاء لم يسمع، لا يحفظ من كلامهم هتضرب زيداً بمعنى أتضرب
زيداً إلا في بيت نادر، ثم الفصل بين الهاء المبدلة منها وهمزة أنتم لا يناسب لأنه
إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء.
(2/540)
قوله: " والله يعلم علم ما حاججتم فيه " الطيبى فإن
قلت لم زيد (علم)؟ قلت: ليس الكلام في التهديد وأن الله يعلم محاجتهم فيجازيهم على
عنادهم بل في إزالة الجهل وبيان حقيقة المجادلة أو بطلانها ولذلك أتبع ذلك بقوله:
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} الآية.
قوله: " وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام " الذي في الكشاف إن
المراد من قوله مسلما أنه عليه السلام كان على ملة الإسلام أي التوحيد. قال
الطيبي: وينصره قوله: " وما كان من المشركين ".
قوله: " كلابس ثوبي زور " أوله " المتشبع بما لم يعط "
والحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة.
قوله: " وقيل اثنى عشر من أحبار خيبر " إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن
السدي.
قوله: " متعلق بمحذوف أي دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد "، إلى آخره، قال
ابن المنير فيه إشكال لوقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام للإنكار إيجاب، ويمكن أن
يقال روعيت صورة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد فيه، وقيل عامل
اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم إلى
(2/541)
أخره، أخرجه ابن جرير عن ابن جريج.
قوله: " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال عند نزولها " كذب
أعداء الله " ما من شيء في الجاهلية إلا هو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها
مؤاداة إلى البر والفاجر " أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير،
مرسلا، قال الشيخ سعد الدين: قوله تحت قدمي أي منسوخ متروك. وقال الطيبي. مثل
لإبطال الشيء.
قوله: " وعموم المتقين ناب عن الراجع الجزاء إلى " من "، قال الشيخ
جمال الدين ابن هشام الظاهر إنه لا عموم فيها وإن المتقين متساوون لمن تقدم ذكره،
وإنما الجواب محذوف تقديره يحبه الله.
قوله: " قيل إنها نزلت في أحبار حرفوا التوراة وبدلوا نعمت محمد - صلى الله
عليه وسلم - " أخرجه ابن جرير عن عكرمة.
قوله: " وقيل نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها
به " أخرجه ابن جرير عن مجاهد والشعبي، وأخرجه البخاري في صحيحه من حديث عبد
الله بن أبي أوفى " أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف والله لقد أعطي بها
ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين " فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية.
(2/542)
قوله: " وقيل في ترافع كان بين أشعث بن قيس ويهودي في أرض
وتوجه الحلف على اليهودي " أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث ابن مسعود.
قوله: " يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف " قال الطيبي:
أي يفتلون الألسنة في القراءة لتصير الصحيحة محرفا ويحسب المسلمون أن المحرف من
التوراة فيلتبس عليه الأمر. الأساس فتلته صرفته فانفتل.
قوله: " أو يعطفونها بشبه الكتاب " الطيبي. قال صاحب المغرب: استعطف
ناقته أي عطفها بأن جذب زمامها ليميل رأسها. والمراد بها الإيهام في الكلام أي
كانوا يوهمون المسلمين أن ذلك من نفس الكتاب، ومن ثم قال بشبه الكتاب والضمير في
" لتحسبوه " راجع إلى هذا المضاف المحذوف، والفرق أنهم على الأول كانوا
يتركون النص ويقرون ما بدلوا به.
قوله: (" وقيل إن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا يا محمد أتريد أن
نعبدك ونتخذك ربا فقال " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة
الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني " فنزلت) أخرجه ابن
(2/543)
إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في دلائل
النبوة عن ابن عباس.
تنبيه: قول المصنف في سياق الحديث: فقال: معاذ الله أن نعبد غير الله وأن نأمر
بغير عبادة الله، قال الزمخشري فيما نقله الطيبي: نأمر بعبادة غير الله أحسن طباقا
لما سبق في المتن لأن الكلام لم يقع في نفيهم عن أنفسهم الأمر بغير عبادة الله بل
بعبادة الله ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أن نعبد غير الله
" ولم يقل أن نفعل غير عبادة الله. قال الطيبي: والحديث مروي في معالم
التنزيل للبغوي، بلفظ، معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله قلت: ولفظ الكتب التي
خرجته منها فقال معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله. ثم قال
الطيبي: والزمخشري وجد الرواية كما ذكرها فلم تطوع له نفسه لفصاحته أن يقبله لنبوء
المقام عنه فذكر ما ذكر وكان على ما ذكر لله دره قال ولناصر الرواية الأخرى أن
يقول: إن قولهم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا يحتمل أنهم توهموا الشركة في العبادة
بين الله وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنفى ذلك على الوجه الأبلغ أي
معاذ الله أن نأمر بغير عبادة الله يعني أمري مقصور بالأمر بعبادة الله لا يتجاوز
إلى غير عبادته فكيف أمر بعبادتي؟.
قوله: " وقيل قال رجل: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا
نسجد لك؟ " إلى آخره. أخرجه عبد ابن حميد في تفسيره عن الحسن، قال: بلغني،
فذكره.
(2/544)
قوله: " كالجماني " أي وافر الجمة.
قوله: " والرقباني " أي غليظ الرقبة.
قوله: " وتكون (لا) مزيدة " أي لا مؤسسة لأنه يصير المعنى حينئذ: ما كان
له ألا يأمركم/ أن تتخذوا فيكون له الأمر بالإتخاذ وهو فاسد.
قوله: " دليل على أن الخطاب للمسلمين " إلى آخره. قال الطيبي: يعني هذه
الفاصلة ترجح قول من قال: إن الآية نزلت فيهم لا في أبي رافع والسيد. قال ويجوز أن
يقال للنصرانيين أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون أي منقادون مستعدون لقبول
الدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا.
قوله: " وسماهم ربيين تهكما بهم ". قال الحلبي: هذا بعيد جداً إذ لا
قرينة تبين ذلك.
قوله: " موطنة " من وطؤ الموضع صار وطيئا ووطأته أنا توطئة فهذه اللام
كأنها وطأت طريق جواب القسم أي سهلت فهم الجواب على السامع.
قوله: " وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط "، قال
أبو حيان: في جعل ما شرطية خدش لطيف، وذلك لأنه إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفا
لدلالة جواب القسم عليه والمحذوف لابد وأن يكون من جنس المثبت ومتى قدر الجواب هنا
من جنس جواب القسم لم يجز، لأنه تعد وجملة الجواب من ضمير يعود على اسم الشرط إذ
ضمير به عائد على الرسول لا على ما، وإن قدر من غير جنسه لم يجز. قال: وقوله:
(لتؤمنن) ساد مسد الجوابيين مخالف لما نصوا عليه من أن جواب الشرط محذوف إلا إن
عني من حيث تفسير المعنى لا تفسير
(2/545)
الإعراب انتهى. وقال الحلبي في كلام المصنف نظر من حيث إن لام
التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط وتأتي غالبا مع أن. أما مع الموصول فلا، فلو جوز
في اللام أن تكون موطنة وأن تكون للإبتداء ثم ذكر في " ما " الوجهين من
حملنا كل واحد على ما يليق به.
قوله: " وتحتمل الخبرية " أي الموصولة فهي مبتدأ والعائد محذوف أي
أتيتكموه والخبر محذوف أي يوقنون به. قاله الشيخ سعد الدين.
قوله: " لأجل ايتائي " إلى آخره.
قال أبو حيان: ظاهره أن اللام متعلقة بقوله: (لتؤمنن به)، وهو ممنوع، لأن لام
القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
وقال الشيخ سعد الدين: ظاهر كلامه، أن اللام متعلقة بقوله: (لتؤمن). وليس كذلك، بل
هو بيان للمعنى، وأما بحسب اللفظ فمتعلق بأقسم المحذوف صرح بهذا في الكشاف، في
قوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ}.
قوله: " ثم مجيء رسول مصدق " قال الطيبي: الحاصل أن أخذ الميثاق وارد
على شيء له موجبان، أحدهما قوله: " لما أتيتكم من كتاب "، أي إنكم أهل
كتاب وعلم، تعرفون أمارات النبوة وشواهد على صدق من ادعاها، لاسيما وذكره مسطور في
كتابكم. وثانيهما: قوله: " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ليؤمنن به "
وتقريره أن يقال: أن أصوله موافقة لأصولكم في التوحيد ومع هذا هو مصدق للتوراة
والإنجيل، وإنهما من عند الله فعلى هذا قوله: لأجل أني آتيتكم تعليل لقوله: "
(2/546)
لتؤمنن به " لا لأخذ الميثاق فيجتمع عليه القسم والسببان
للتوكيد.
قوله: " ولما بمعنى حين "، قال أبو حيان: هو خلاف مذهب سيبويه، ولم يقدر
المصنف جوابا (لما) وقدره الزمخشري، وجب عليكم الإيمان به ونصرته.
قوله: " أو لمن أجل ما أتيتكم "، قال أبو حيان: يلزم على هذا أن تكون
اللام في (لما) زائدة لا موطئة لأن الموطئة لا تدخل على حروف الجر إنما تدخل على
أدوات الشرط.
قوله: " فحذف إحدى الميمات "، قال ابن جني: هي الأولى قال الحلبي: وفيه
نظر لأن الثقل إنما حصل بعدها ولذا كان الصحيح في نظائره إنما هو حذف الثواني وقد
ذكر أبو البقاء أن المحذوف هي الثانية لضعفها لكونها بدلا وحصول التكرير بها.
قوله: " كعبر وعبر "، يقال: ناقة عبر أسفار وعبر أسفار وهي المعدة
للأسفار. قال الشيخ سعد الدين: وكذا جمل عبر أسفار وجمال عبر أسفار يستوي في ذلك
الواحد والجمع والمؤنث مثل الفلك: الذي لا يزال يسافر عليها.
قوله: " جمع أصار " هو حبل قصير يعقد به أسفل الجنادي " الوتد
".
قوله: " عطف على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار أو محذوف
تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون "، قال ابن هشام في المغنى: الأول هو
مذهب سيبويه والجمهور، وجزم به الزمخشري في
(2/547)
مواضع وجوز هنا هذا الوجه الثاني ويضعفه ما فيه من التكلف وأنه
غير مطرد، أما الأول، فلدعوى حذف الجملة، فإن قوبل بتقديم بعض المعطوفان، فقد
يقال: إنه أسهل منه لأن التجوز فيه على قولهم أقل لفظا مع أن في هذا التجوز تنبيها
على أصالة شيء في شيء، أي أصالة الهمزة في التصدر، وأما الثاني فلأنه غير ممكن في
نحو {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وتعقبه الشيخ شمس
الدين ابن الصائغ في حاشيته على المغني فيقول: أي مانع من تقدير الأمد بر
للموجودات " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت "، على الاستفهام
التقديري المقصود به تقدير ثبوت الصانع والمعنى أيبتغي المدبر فلا أحد قائم على كل
نفس بما كسبت لا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو هو، وقال البدر ابن
الدماميني في حاشية المغني، لا نسلم عدم الإمكان، يجوز أن يقدر أهم ضالون فمن هو
قائم على كل نفس بما كسبت لم يوجدوه، والهمزة للإنكار التوبيخي. انتهى.
قوله: " وتقديم المفعول، لأنه المقصود بالإنكار "، وقال الطيبي: يعني أن
المقام يقتضي إنكار المعبود من دون الله، ليكون الدين كله لله، بدليل قوله:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فوجب لذلك التقديم، وقال
أبو حيان: لا تحقيق فيما ذكره الزمخشري، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه
إلى الذوات إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات فالذي أنكر انما هو الابتغاء
الذي متعلقه غير دين الله وإنما جاز تقديم المفعول من باب الاتساع ولشبه يبغون
بالفاصلة. قال الحلبي، بعد إيراده وأين المعنى من المعنى.
(2/548)
قوله: " أو مخلصون في عبادته "، قال الشيخ سعد الدين:
تفسير للإسلام المعدي باللام مع التقديم.
قوله: " واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام ". إلى آخره.
قال الطيبي: الذي عليه النظم أن الإسلام هو التوحيد والتعريف فيه للعهد المجازي
التقديري، وكان مشتملا على الإيمان بالله وكتبه ورسله مقيداً بالاستسلام فينبغي أن
يحمل الإسلام على ذلك ولأن دينا تمييز وتبيين للإسلام والدين مشتمل على التصديق
والأعمال الصالحة والإسلام كذلك لأن المبين لا يكون على خلاف المبين وعلى هذا حمل
الإسلام على الدين في قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وتعريف
الخبير ينفي غير الإسلام أن يكون دينا، كما أن عدم القبول فيما نحن بصدده ينفيه، وإن
لتأكد الإثبات كما أن لن لتأكيد النفي، فحق لذلك قول السلف الصالح: الراغب في
الآية قولان: أحدهما أن الإسلام ههنا الاستسلام إلى الله وتفويض الأمر إليه سبحانه
وذلك أمر مراد من الناس في كل زمان وفي كل شريعة، والدين في اللغة الطاعة وفي
التعارف وضع إلهي يتساق به الناس إلى النعيم الدائم.
فبين تعالى أن من تحرى طاعته من غير استسلام له على ما يأمر به ويصرفه فيه فلن
يقبل منه شيء من أعماله، والثاني أن المراد بالإسلام شريعة محمد عليه الصلاة
والسلام فبين أن من تحرى بعد بعثته شريعة أو طاعة لله من غير متابعته فغير مقبول
منه. وهذا الوجه داخل في الأول لأنه علم من الإسلام الانقياد لأوامر الله من صحة
نبوته وظهر صدقه.
(2/549)
قوله: " وشهدوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل
" قال الطيبي: إذ لا يجوز أن يكون معطوفا على " كفروا "، لأنه لا
يساعده المعنى، وقال الشيخ سعد الدين: لأن الظاهر تقييد المعطوف عليه، وشهادتهم
هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله، وقيل: لأنهم ليسوا جامعين بين الكفر
والشهادة، ورد بالمنع بل هم جامعون لكن لا يفيد تقديم الشهادة، ألا ترى أنه صح
جعله حالا مع أنه أجدر بمقارنة العامل.
قوله: " ونظيره فأصدق وأكن "، قال الحلبي: وجه تنظيره بالآية توهم وجود
ما يسوغ العطف عليه في الجملة كذا يقول النحاة جزم على التوهم أي لسقوط الفاء، إذ
لو سقطت لا يجزم في وجوب التحضيض، وكذا يقولون: توهم وجود فجر، وفي العبارة-
بالنسبة إلى القرآن- سوء أدب ولكنهم لم يقصدوا ذلك حاش لله، وكان تنظيره بغير ذلك
أولى. كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} إذ هو في قوة إن الذين صدقوا وأقرضوا قال: وظاهر عبارته.
أن الأول يؤل لأجل الثاني، وليس بظاهر، بل ينبغي تأويل الثاني باسم ليصح عطفه على
الاسم الصريح قبله، بأن يقدر معه أن المصدرية، وأن شهدوا أي وشهادتهم. ولهذا
تأولوا: " للبس عباءة وتقر عيني " إذ التقدير: وقرة عيني، وإلى هذا ذهب
أبو البقاء فقال: التقدير بعد أن آمنوا وأن شهدوا. انتهى. وكذا قال الراغب: تقديره
بعد إيمانهم وأن شهدوا فيكون أن مقدرا، نحو قولها: للبس عباءة وتقر عيني، لكن في
الفعل أظهر لانتصاب تقر.
قول: " وأصلحوا ما أفسدوا ".
(2/550)
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن مجرد الندم على ما مضى من
الارتداد والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف. بل لابد من تدارك لما أخلوا به من
الحقوق على أن أصلح متعد محذوف الفعل أو من دخول في الصلاح في الأمر الظاهر
والباطن على أنه لازم من قبيل أصبحوا، دخلوا في الصباح.
قال الطيبي: هذا الثاني أبلغ، لأنه ن باب قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}.
قوله: " قيل إنها نزلت في الحارث بن سويد " إلى آخره.
أخرجه النسائي، وابن حبان، والحاكم عن ابن عباس.
قال الطيبي: الجلاس. قال الزمخشري: بالتخفيف، وقيل:
(2/551)
بالتشديد.
قوله: " ريب المنون "، حوادث الدهر.
قوله: " فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها ". قال الشيخ سعد الدين: يعني
ليس المراد أنهم يتوبون ولا تقبل توبتهم، بل هم من قبيل من لا يحصل له قبول
التوبة، بناء على عدم التوفيق للتوبة، فهو من قبيل الكناية دون المجاز، حيث أريد
بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم.
قوله: " لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء هنا
للإشعار به ".
قال الطيبي: حاصل السؤال أن الآيتين سواء في صحة إدخار الفاء لتصور السببية، وحاصل
الجواب الفرق وذلك أن المرتد قد يرجى منه الرجوع إلى الإيمان، فلا يترتب عليه عدم
التوبة، بخلاف الميت على الكفر، نعوذ بالله، فإن عدم قبول الفدية مترتب على الموت
حالة الكفر لا محالة، والحاصل منع السببية في الأولى لجواز تخلف الثاني عن الأول
وتقريره أن التي عريت عن الفاء واردة على الكناية وجعل الموصولة مع صلتها ذريعة
إلى تحقيق الخبر.
كقوله:
(إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت دونها غول)
قوله: " والتي حلت بها موجبة، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
(2/552)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} والفرق
أن الصلة على القول الأول منبهة على تحقيق الخبر ملوحة إليه فتكون كالأمارة، فإن
الكفر بعد الإيمان والتمادي عليه عناد وليس بموجب لعدم قبول التوبة فحقق الخبر
للتغليظ بخلاف الموت على الكفر فإنه موجب للدمار والهلاك ألبتة فإخلاء الفاء ثمة
وإدخالها هنا لذلك.
قوله: " على البدل من " ملء " أو الخبر لمحذوف "، قال الشيخ
سعد الدين: لابد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه وجعله خبر محذوف إنما
يحسن إذا جعلت الجملة صفة أو حالا ولا يخلوا عن ضعف.
قوله: " ولو افتدى به، محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية
ولو افتدى بملء الأرض ذهبا " قال ابن المنير: هذه الواو للمصاحبة تستدعي شرطا
آخر يعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة أن يكون المنطوق به منبها على ما
سكت عنه بالأولى كقولك: أكرم زيداً ولو أساء، تقديره: أكرم زيدا إن أحسن وإن أساء،
كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
وهنا ولو افتدى لا يقتضي إضمار محذوف ينبه المذكور عليه، لأن افتداءهم بملء الأرض
ذهبا أجدر بقبول الفدية فلذلك قدر الزمخشري فدية حتى يجعل ملء الأرض ذهبا فدية
خالصة أولى من أصل الفدية. وأما تطبيق الآية عليه فعسير، وغايته أن قبول الفدية
بملء الأرض ذهبا بأن يؤخذ قهراً كأخذ الدية، وتارة يقول المفتدى: أنا أفعل هذا ولا
يفي به، وتارة يقول ذلك والفدية عتيدة
(2/553)
وتسليمها لمن يؤمل/ قبولها منه، فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال
وهو أن يبذله محققا، ونظيره {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فإذا لم يقبل
هذا فلأن لا يقبل قوله: أبذل أو أقدر عليه. وما جرى مجراه أولى فتكون
الواو على حالها. وكقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} مصرح به، والمراد به لا خلاص لهم من الوعيد،
وإلا فقد علم أنهم لا يقدرون يومئذ على فلس. كما تقول: لا أبيعك هذا بألف دينار
ولو سلمتها إلي في يدي، وهذا من السهل الممتنع، وقال أبو حيان- في تقدير المصنف-:
هذا المعنى، ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله، والذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن
يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب
على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب، لأن حالة الافتداء هي حالة لا
يمتن فيها المفتدى على المفتدي منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي، وقد
قررنا في نحو هذا التركيب أن لو تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل
الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها،
كقوله: أعطوا السائل لو جاء على فرس، ورد السائل ولو بظلف محرف كان هذه الأشياء
ممالا ينبغي أن يؤتى به لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطي
وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه فكان يناسب ألا يرد السائل وكذلك حالة الفداء تناسب
أن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لكنه لا يقبل ونظيره {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا
وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال
(2/554)
حتى في حالة صدقهم وفي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها. ولو
هنا، لتعميم النفي والتأكيد له. انتهى. الطيبي: في تقرير كلام المصنف، حاصلة أن
الكلام وارد على اللفظ وعلى المعنى معا فيجعل ملء الأرض ذهبا عين الفدية فيعتبر اللفظ
بحسب عود الضمير في به والمعنى بحسب وقوعه موقعه وإفادة المبالغة المقصودة فكأنه
قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا.
قوله: " أو المراد، ولو افتدى بمثله "، إلى آخره. قال الطيبي: لابد من
تقدير كلام ليستقيم المعنى وهو أن يقال ولو افتدى به وبمثله، وقال أبو حيان: لا
حاجة إلى تقدير مثل في قوله ولو افتدى به وكأن الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا
يمكن أن يفتدي به فاحتاج إلى إضمار " مثل " حتى يغابر بين ما نفي قبوله
وبين ما يفتدي به. وليس كذلك، لأن ذلك على سبيل الفرض والتقدير، وكذا قال
السفاقسي: الحق أنه لا حاجة إلى ما ذكر من التقدير.
قوله: " أي لن تبلغوا حقيق البر "، قال الشيخ سعد الدين: يريد أن اللام
للجنس والحقيقة، ومعنى نيله: الوصول إليه والإتصاف به أو للعوض عن تعريف الإضافة
فيقع على نوع من الجنس ومعنى نيله إصابته ووجدانه.
قوله: " روي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال يا رسول الله إن أحب أموالي إلى
بيرحا "، الحديث أخرجه الشيخان والنسائي من حديث أنس. وبيرحا قال في النهاية:
كثيرا ما يختلف فيها المحدثون،
(2/555)
فيقولون: بيرحا بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد
فيهما والقصر وهي اسم مال وموضع بالمدينة، وقال الزمخشري في الفائق إنها فيعلى من
البراح وهي الأرض الظاهرة. ونقل عنه الشيخ سعد الدين أنه قال: وشيوخ مكة يروونها
بكسر الباء فإن صح، فهو إضافة إلى (رحا): اسم قبيلة، وبخ بخ كلمة تقال عند المدح
والرضا بالشيء وتكرر للمبالغة وهي مبنية على السكون فإن وصلت كسرت ونونت وربما
شددت وقوله مال رائح يقال لصنعة الإنسان إذا كانت قريبة من بلده رائح أي يروح نفعه
وثوابه إليه. ويروى مال رابح كقولك لابن وتامر.
قوله: " وجاء زيد ابن حارثة بفرس "، الحديث أخرجه ابن المنذر عن محمد
ابن المنكدر مرسلا وفيه أن الفرس يقال له سبل، ورواه ابن جرير عن عمرو بن دينار
مرسلا وعن أيوب السختياني معضلا.
قوله: " كل الطعام أي كل المطعومات " قال الشيخ سعد الدين لما كانت كلمة
كل عند الإضافة إلى المفرد المعرف لعموم الأجزاء مثل أكلت الزمان وكان القصد هنا
إلى عموم أفراد المطعوم حمل الطعام على المطعومات بدلالة اللام أو قدر مضافا وهو
جمع عام بالإضافة فوقعت كلمة كل لتأكيد العموم المستفاد من اللام أو الإضافة.
قوله: " وهو مصدر نعت به "، قال الشيخ سعد الدين: فإطلاقه على
(2/556)
المطعومات بمعنى الفاعل أو على حذف المضاف.
قوله: " قيل: كان به عرق النسا " إلى آخره. أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما،
عن ابن عباس مرفوعا بسند صحيح. وعرق النسا: بوزن العصا، عرق يخرج من الورك فيستبطن
الفخذ.
قوله: " نعي عليهم "، قال الشيخ سعد الدين: من نعى عليه عقوبة شهره بها.
قوله: " كالنبيط والنميط ": قال ابن هشام فيما نقلت عن خطه في بعض
تعاليقه. بكة علم البلد الحرام، ومكة لغة فيه، كما قالوا: النبيط والنميط في اسم
موضع بالدهناء ونحوه من الاعتقاب، أمر راتب وراتم وطين لازب ولازم وحمى مغبطه
ومغمطة.
قوله: " روى أنه عليه الصلاة والسلام، سئل عن أول بيت وضع للناس، فقال:
(المسجد الحرام ثم بيت المقدس) وسئل كم بينهما؟ فقال: (أربعون سنة) " أخرجه
الشيخان من حديث أبي ذر.
(2/557)
قوله: " جرهم " حي من اليمن أصهار إسماعيل عليه
الصلاة والسلام.
قوله: " العمالقة "، هم قوم من ولد عمليق بن لاود بن إرم بن سام بن نوح،
وهم أمم تفرقوا في البلاد.
قوله: " الضراح " بالضاد المعجمة، ومن رواه بالمهملة فقد صحف ذكره
الطيبي: وقيل: هو أول بين بناه آدم فانطمس في الطوفان، أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة
عن ابن عباس.
قوله: " مبتدأ محذوف خبره "، أي منها. قال أبو حيان: أو خبر مبتدأ
محذوف، أي أحدهما. قال الحلبي: وهو المختار.
قوله: " وقيل عطف بيان " قاله الزمخشري: قال أبو حيان: ورد عليه لأن
آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف
(2/558)
البيان بإجماع البصريين والكوفيين. وقال السفاقسي: يحتمل أن
يكون الزمخشري أطلق عطف البيان وأراد به البدل كالجماعة تسامحا وكذا قال ابن هشام
في المغني، قد يكون عبر عن البدل بعطف البيان لتأخيهما ويؤيده قوله: في،
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} إن من وجدكم عطف بيان
لقوله {حَيْثُ سَكَنْتُمْ} وتفسير له، وإنما يريد البدل لأن الخافض لا يعاد إلا
معه، قال: وهذا إمام الصنعة سيبويه يسمي التوكيد صفة وعطف البيان صفة.
قوله: " وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن
من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن
جبير.
قوله: " جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام، لأنه في
معنى: أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله "، قال أبو حيان: ليس هذا بواضح لأن
تقديره وأمن الداخل، هو مرفوع عطفا على مقام إبراهيم، وفسر بها الآيات، والجملة من
قوله {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} لا موضع لها من الإعراب فتدافعا إلا إن اعتقد
أن ذلك معطوف على محذوف يدل عليه ما بعده فيمكن التوجيه فلا يجعل قوله: {وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} في معنى (وأمن داخله) إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير
الإعراب، وقال الحلبي: هذه مشاحة لا طائل تحتها ولا تدافع فيما ذكر لأن الجملة متى
كانت في تأويل المفرد صح عطفها عليه، قال: ثم
(2/559)
المختار أن يكون قوله مقام إبراهيم خبر مبتدأ مضمر لا كما قدروه
حتى يلزم الإشكال المتقدم.
قوله: " أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله " اقتصر بذكرهما
من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه الصلاة والسلام: " حبب إلي من دنياكم
ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة ".
هنا فوائد: الأولى هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد من حديث
أنس بن مالك ولم يخرجه في المسندة. وأخرجه النسائي في سننه والحاكم في المستدرك
وقال إنه صحيح على شرط مسلم والبيهقي في السنن ولفظه عند الجميع " حبب إلي من
دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " وليس فيه لفظ ثلاث
الذي استشهد به المصنف، قال الطيبي: فعلى هذا لا يكون من الباب وقد وقع الكلام في
ذلك قديما وألف فيه الإمام أبو بكر ابن فورك، الثانية: قال الشيخ بدر الدين
الزركشي في شرح المنهاج: في كتاب الزهد لأحمد بن حنبل في هذا الحديث زيادة لطيفة
وهي: (أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن) قلت: وقد
(2/560)
مررت على كتاب الزهد مراراً لا تحصى فلم أجد فيه هذه الزيادة إلا أن فيه من زوائد ابنه عبد الله من طريق أخر عن أنس قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب والجائع يشبع والظمآن يروي وأنا لا أشبع من حب الصلاة والنساء " فالظاهر أن الزركشي أراد هذه الطريقة ونقلها من حفظه فوهم في إيرادها. الثالثة: ضل بعض القصاص، لا كثر الله منهم وقال في مجلسه ما سلم أحد من هوى ولا فلان وسمى من لا يمكن تسميته في هذا المقام وكان بعض أرباب الأحوال حاضراً، قال: فقلت له: اتقي الله. فقال: ألم يقل حبب إلي من الدنيا النساء والطيب؟ قال: فقلت: ويحك إنما قال حبب إلي ولم يقل أحببت قال: ثم خرجت على وجهي وأنا لا أعقل من الهم فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لا تهتم فقد قتلناه " قال فخرج ذلك القاص إلى بعض القرى فخرج عليه بعض قطاع الطريق فقتلوه. الرابعة: قال التيجاني: كان الأوزاعي يقول ليس حب النساء من حب الدنيا، قال: ومراده ليس من حب الدنيا المذموم، ويقال: إن الشيء قد يكون من الدنيا ويكون حبه من الآخرة لإعانته عليها، وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السر في إباحة نكاح أكثر من أربعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها وما يستحيي من ذكره ومالا يستحيي منه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء فجعل الله له نسوة ينقلن عنه من الشرع ما يرينه من أفعاله ويسمعنه من أقواله التي قد يستحيي من الإفصاح بها بحضرة الرجال ليكتمل نقل الشريعة وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون بهذا النوع ومنهن عرف غالب مسائل الغسل والحيض والعدة ونحوها، قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه - صلى الله عليه وسلم - في النكاح ولا كان يحب الوطء للذة البشرية معاذ الله وإنما حبب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحيي هو من الإمعان في التلفظ به فأحبهن لما فيهن من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب. وأيضا فقد نقلن مالا يمكن أن ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوته ومن جده واجتهاده في العبادة ومن
(2/561)
أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي وما كان يشاهدها غيرهن فحصل بذلك خبر عظيم. انتهى. وقال الحكيم الترمذي، في نوادر الأصول: الأنبياء زيدوا في النكاح بفضل نبوتهم وذلك أن النور إذا امتلأ منه الصدر ففاض في العروق التذت النفس والعروق فأثارت الشهوة وقواها. وروي عن سعيد بن المسيب أن النبيين عليهم الصلاة والسلام يفضلون بالجماع على الناس وذلك لما فيه من اللذة، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أعطيت قوة أربعين رجلا في البطش والنكاح وأعطي المؤمن من قوة عشرة " فهو بالنبوة والمؤمن بإيمانه والكافر له شهوة الطبيعة فقط. قال وأما الطيب فإنه يذكي الفؤاد ويقوي القلب والجوارح والنور بين القلب والفؤاد، وأصل الطيب إنما خرج من الجنة تزود آدم منها بورقة تستر بها فتركت عليه. وروى أحمد والترمذي من حديث أبى أيوب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربع من سنن المرسلين التعطر والحناء والنكاح والسواك " قال التستري في شرح الأربعين: من في هذا الحديث بمعنى في لأن هذه من الدين لا من الدنيا وإن كانت فيها والإضافة في رواية دنياكم للإيذان بأن لا علاقة له بها، وفي هذا الحديث إشارة إلى وفائه - صلى الله عليه وسلم - بأصلي الدين/ وهما التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وهما كمالا قوتيه النظرية والعملية فإن كمال الأولى بمعرفة الله تعالى والتعظيم دليل لأنه لا يتحقق بدونها والصلاة لكونها مناداة الله تعالى على
(2/562)
ما قال - صلى الله عليه وسلم -: " المصلي يناجي ربه "
نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها، وكمال الثانية في الشفقة وحسن
المعاملة مع الخلق وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس نفسه وبدنه
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إبدأ بنفسك ثم بمن تعول " والطيب أخص
اللذات بالنفس، ومباشرة النساء ألذ الأشياء بالنسبة إلى البدن مع ما يتضمن من حفظ
الصحة وبقاء النسل المثمر لنظام الوجود ثم أن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال
لأنهن أرق دينا وأضعف عقلا وأضيق خلقا، كما قال عليه الصلاة والسلام: " ما
رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " فهو عليه الصلاة
والسلام أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}
وكان صدور ذلك منه طبعا لا تكلفا كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال فإذا كانت
معاملته معهن هذا فما ظنك بمعاملته مع الرجال اللذين هم أكمل عقلا وأمثل دينا
وأحسن خلقا.
وقوله: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " إشارة إلى أن كمال القوة النظرية
أهم عنده وأشرف في نفس الأمر. وأما تأخيره فللتدرج التعليمي من الأدنى إلى الأعلى،
وقدم الطيب على النساء لتقدم حظ النفس على حظ البدن في
(2/563)
الشرف، قال: واعلم أن المراد بالقوة النظرية قوة النفس الناطقة
بها بما يقبل الفيض من الملأ الأعلى وبالقوة العملية قوة لها تدبر بدنها لتكمله
ويستكمل بواسطته. انتهى.
قوله: " قال عليه الصلاة والسلام: " من مات في أحد الحرمين بعث يوم
القيامة آمنا " " أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والبيهقي في شعب
الإيمان من حديث عمر، وإسحاق بن راهويه في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث
أنس، والطبراني في معجمه الكبير والبيهقي في شعب الإيمان من حديث سلمان، والطبراني
في معجمه الأوسط من حديث جابر، والدارقطني في سننه من حديث حاطب.
قوله: " فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستطاعة بالزاد والراحلة
" أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث ابن عمر والحاكم وصححه على شرط
الشيخين من حديث أنس، وسعيد بن منصور في سننه وابن
(2/564)
جرير من مرسل الحسن.
قوله: " وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيله "، قال الطيبي: أي كل ما يأتي به
إلى الشيء من الأسباب فهو سبيل إليه.
قوله: " قال عليه الصلاة والسلام: " من مات ولو يحج فليمت إن شاء يهوديا
أو نصرانيا " " أخرجه الترمذي وضعفه من حديث علي بلفظ " من ملك
زاداً أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا
" والدارمي في مسنده من حديث أبي أمامة بلفظ: " من لم يمنعه من الحج
حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء
نصرانيا " وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات وتعقب عليه الحفاظ،
كما بينته في مختصر كتابه المسمى باللآلئ المصنوعة، وفي النكت البديعات على
الموضوعات.
قوله: " وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه " إلى آخره. قال الطيبي:
الذي يحتمل من الوجوه في تخصيص اسم الذات الجامع، وتقديم الخبر على المبتدأ
الدلالة على أنها عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وإن في
إقامة المظهر وهو قوله (البيت) مقام المضمر بعد سبقه منكراً للمبالغة في وصفه اقصى
الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب وكذا في ذكر (الناس) بعد ذكره معرفا
الإشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا، وفي تذييل {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} - لأنها في المعنى تأكيد -
(2/565)
الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظمى، وإن
مباشره مستأهل بأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضى كاملا كما كان ساخطا
على تاركه سخطا عظيما، ولهذا عقب بالآيات. قوله " ملة إبراهيم حنيفا "
والمراد بها ملة الإسلام وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة إبراهيم عليه
السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بقوله: {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} خطب جليل وشأن خطير
لتلك العبادة العظيمة.
قوله: " روي أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أرباب الملل " الحديث أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير عن الضحاك مرسلا، وفيه
أن الخمس الملل، المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس.
قوله: " طالبين لها اعوجاجا "، قال ابن المنير: وفي تقديره الجار مع
ضمير المفعول في قوله (تبغونها) أي تطلبون لها نقص من المعنى، والأحسن جعل (الهاء)
من تبغونا مفعولا وعوجا حال وقع موقع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة
القويمة نفس العوج قال الطيبي: وفيه نظر إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون عوجا
هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلابد من تقدير الجار.
قوله: " نزلت في نفر من الأوس والخزرج "، إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن
زيد ابن الأسلم مرسلا، ويوم بعاث يوم مشهور وفيه
(2/566)
حرب بين الأوس والخزرج وبعاث بضم الموحدة أوله ومثلثة أخره وعين
مهملة، وصحف من قاله بالمعجمة كما نبه عليه الأزهري وغيره موضع بالمدينة، قاله
الشيخ سعد الدين وفي حاشية الطيبي بعاث اسم حصن للأوس.
قوله: " وقال أتدعون الجاهلية " تحريف كما قاله الشيخ ولي الدين العراقي
ولفظ الحديث (أبدعوى الجاهلية) قال في النهاية: وهو قولهم يال فلان كانوا يدعون
بعضهم بعضا عند الأمر الحادث الشديد.
قوله: " ومن يستمسك بدينه أو يلتجىء إليه في مجامع أموره "، قال الطيبي:
يعني إما أن يقدر هنا مضاف بأن يقال ومن يعتصم بدين الله أي يتمسك به على
الاستعارة أو لا يقدر فيجعل الاعتصام بالله استعارة للإلتجاء إلى الله وعلى الأول
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ} معطوف على {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي كيف تكفرون
والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بأن من تمسك بدين الله فقد هدي، وعلى
الثاني تذييل لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}
لأن مضمونه إنكم إنما تطيعونهم لما تخافون شرورهم ومكايدهم فلا تخافوهم والتجؤوا
إلى الله في دفع شرورهم فلا تطيعوهم أما علمتم أن من التجأ إلى الله كفاه شر ما
يخافه. فعلى الأول ومن يعتصم جيء لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي كقوله
{وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ}
(2/567)
وعلى الثاني للحث على الإلتجاء.
قوله: " فقد اهتدى لا محالة "، قال الطيبي:
وذلك المجيء فعل الماضي مع قد، قال الجوهري: قد جواب، لما يفعل وإنما يصدق فقد هدي
إذا وجد التوقع وهو المعتصم بالله منتظراً للهدى فإذا حصل الهدى قيل له فقد هدي
ولو لم يحصل لم يقل ذلك ولهذا قال لا محالة.
قوله: " حق تقواه وما يجب منها "، قال الطيبي: أي حق هنا من حق يعني وجب
وثبت أي الذي ثبت ووجب ما التقاة. ومن، في منها بيان ما يجب أي اتقوا الله التقاة
التي تجب وتحق له. كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} تابع فيه
الزمخشري. وقد قال الطيبي: إن الزمخشري قال ذلك بناء على مذهبه أنه لا يجوز التكلف
بما لا يطاق ابتداء، والذي ذكره الزجاج وغيره، إن قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ} منسوخ بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} قال: ولهاتين
الآيتين أسوة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فإنها
ناسخة لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ}.
(2/568)
قوله: وعن ابن عباس: " هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا
يكفر، ويذكر فلا ينسى " إنما هو عن ابن مسعود. أخرجه عبد الرزاق، والفريابي،
وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، في تفاسيرهم، والطبراني في معجمه، والحاكم
في المستدرك وصححه وأبو نعيم في الحلية، عن ابن مسعود. قال أبو نعيم: هكذا رواه
الناس عنه موقوفا، وروي عنه مرفوعا.
قوله: " كما في تؤدة " قال الجوهري: أتاد في مشيه، وهو افتعل من التؤدة
وأصل التاء في إتأد، واو، ويقال: اتئد في أمرك أي تثبت.
قوله: " أي ولا تكونن على حال " قال الشيخ سعد الدين: يعنى أن النهي
راجع إلى القيد.
قوله: " لقوله عليه الصلاة والسلام. (القرآن حبل الله المتين) أخرجه الترمذي
من حديث علي، والحاكم وصححه من حديث ابن
(2/569)
مسعود.
قوله: " استعار له الحبل " إلى آخره، قال الطيبي: هي استعارة تمثيلية
بأن شبهت الحالة بالحالة بجامع ثبات الوصلة بين الجانبين، واستعير لحالة المستعار
له ما يستعمل في المستعار منه من الألفاظ، فقيل: " واعتصموا بحبل الله "
قال: وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان فاستعارة الحبل لعهده مصرحة أصلية
تحقيقية، والقرينة إضافة الحبل إلى الله، واستعارة الاعتصام لوثوقه بالعهد وتمسكه
به مصرحة تبعية تحقيقية، والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية وقد تكون الاستعارة
في الحبل على طريقة التخيل أو التحقيق، ويكون الاعتصام ترشيحا لها، والقرينة إضافة
الحبل إلى الله، وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل
مكنية، وفي الاعتصام تخييلية؛ لأن المكنية مستلزمة التخييلية.
قوله: " والضمير للحفرة أو للنار أو الشفا " قال أبو حيان: لا يحسن عوده
إلا إلى الشفا، لأنه المحدث عنه.
قوله: " وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه " الطيبي قيل: المضاف لا يكتسب من
المضاف إليه التأنيث إلا إذا كان بعضا منه. نحو، {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ} أو فعله نحو أعجبتني مشي هند، أو صفته نحو أعجبتني حسن هند. ولا
يجوز أعجبتني غلاء هند.
قوله: " من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من
(2/570)
فروض الكفاية " قال الشيخ سعد الدين: يعني أن فرض الكفاية
إنما يجب على البعض من غير تعيين، كالواجب المخير بعض منهم من الأمور المعينة، قال
وهذا مذهب مردود. والمختار أنه يجب على الكل، ويسقط بفعل البعض، بدليل أنه لو ترك
أثم الجميع، ولا معنى للوجوب على الجميع سوى هذا، ولو وجب على بعض مبهم لكان الآثم
بعضا مبهما، وهو غير معقول، بخلاف الإثم بواجب مبهم كما في الواجب المخير.
والاستدلال على أنه لا يجب على الكل بعدم الوجوب على الجاهل مردود بأنه إذا ترك
بالكلية فذلك الجاهل أيضا آثم، كمن وجب عليه الصلاة، وهو محدث فإن عليه تحصيل الشرط،
ثم الفعل. ولهذا ذهب البعض إلى أن من للبيان: يعني أنه واجب على كل الأمة، ويسقط
بفعل البعض، لحصول المقصود، انتهى.
قوله: " بمعنى: وكنوا أمة تأمرون " قال الطيبي: أخرج من الكل الأمة،
فيكون من باب التجريد.
قوله: " والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي، وعطف
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه عطف الخاص على العام " قال ابن المنير:
لكن الخير لا يعدوهما فالأولى أن يقال: ذكر الخير عاما وفضله. وفيه من العناية ما
لا يخفى إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخبر، وما
أرى ذلك ثابتا.
قوله: " روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من خير الناس؟ قال: (آمرهم بالمعروف
وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم) أخرجه أحمد وأبو يعلى من حديث درة
بنت أبى لهب.
(2/571)
قوله: " والنهي عن المنكر واجب كله، لأن جميع ما أنكره
الشرع حرام " قال الشيخ سعد الدين: فيه نظر إذ المكروه منكر يندب تركه، ولا
يجب.
قوله: " والأظهر أن النهي مخصوص فيه بالتفريق في الأصول دون الفروع لقوله
عليه الصلاة والسلام: " اختلاف أمتي رحمة " عزاه الزركشي في الأحاديث
المشهورة إلى كتاب الحجة للشيخ نصر المقدسي، ولم يذكر سنده ولا صاحبيه، وروى
الطبراني والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس/ قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: " مهما أوتيتم من كتاب الله لا عذر لأحد في تركه، فإن لم
يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي
بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة "
وأخرج البيهقي في المدخل عن عمر بن عبد العزيز، قال: " ما سرني لو أن أصحاب
محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة ".
وقال الشيخ تقي الدين السبكي، في الحلبيات: هذا الحديث ليس معروفا عند المحدثين
ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام
الناس، بأن يكون أحد قال اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعض الناس فظنه حديثا فجعله من
كلام النبوة، قال: ورأيت في تعليق القاضي حسين في كتاب الشهادات، قال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: " اختلاف أمتي رحمة " قال: وفسره بعضهم باختلاف الهمم
والحرف.
وفي النهاية لإمام الحرمين: قال الحليمي في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" اختلاف أمتي رحمة " قال: أراد بذلك اختلافهم في الدرجات والمراتب
والمناصب فحق القول في الحرف انتهى. قال السبكي: وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا
أصل
(2/572)
له، وأستدل على بطلانه بقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وقوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} وقوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وما أشبه ذلك من الآيات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وتطاوعا ولا تختلفا " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبياءهم " وما أشبه ذلك من الأحاديث فانظر إلى القرآن العزيز كيف دل على أن
(2/573)
الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، فإن الاختلاف نشأ عنه كفر بعضهم
واقتتالهم. وانظر كلام النبوة كيف اقتضى أن الاختلاف سبب لاختلاف القلوب، وإن كان
الحديث واردا في تسوية الصفوف فالعبرة بعموم اللفظ. والذي نقطع به ولا نشك فيه أن
الاتفاق خير من الاختلاف على ثلاثة أقسام:
أحدها: في الأصول، ولاشك أنه ضلال، وسبب كل فساد، وهو المشار إليه في القرآن.
والثاني: في الآراء والحروب، ويشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "
وتطاوعا ولا تختلفا " وكان ذلك خطابا منه - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي
موسى لما بعثهما إلى اليمن، ولاشك أيضا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية
والدنيوية.
والثالث: في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما. والذي يظهر لنا ونكاد
نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف ولا حاجة إلى قولنا يظهر ونكاد فإنه كذلك
قطعا، ولكن هل نقول: الاختلاف ضلال كالقسمين الأولين، أو لا؟
كلام ابن حزم، ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي أنه مثل القسمين الأولين.
وأما نحن فأنا نجوز التقليد للجاهل، ويجوز الأخذ بعض الأوقات عند الحاجة بالرخصة
من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص. ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: الاختلاف
رحمة، فإن الرخص من الرحمة، مثاله إذا كان شخص مبتلى بسلس البول ونحوه، ولا يكاد
يخلو ثوبه أو بدنه على نجاسة يسيرة، ويشق عليه التنزه عن النجاسة اليسيرة في الفرض
أيضا، وهو يعتقد أن النجاسة اليسيرة غير معفو عنها لتمذهبه بمذهب من يرى ذلك، فإذا
قلد من يرى العفو عنها صلى، وكان في ذلك رخصة له ورحمة وإدراك أجر كبير وهذا لا
ينافي قطعا أن الاتفاق خير من الاختلاف، فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية
تختلف وجهة الرحمة تختلف فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله به عباده
وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك. ورحمة
نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكفي في صحته أن تحصل في الاختلاف رحمة ما
في وقت، ما في حالة ما، على وجه ما، فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا وإن لم يكن
حديثا ويكون من كلام أحد من العلماء فمخرجه على هذا وعلى هذا
(2/574)
وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به. وهل نقول الاختلاف
مأمور به؟ هذا يلتفت على أن المصيب واحد أو لا؟ فإن قلنا المصيب واحد، وهو الصحيح
فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف
حينئذ منهي عنه وإن عذر المخطئ وكذلك إذا قلنا بالأشبه كما هو قول بعض الأصوليين.
وإما إذا قلنا كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا
يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن يكون اختلاف منهي عنه، وإطلاق الرحمة
على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا المصيب واحد. هذا كله إذا
جعلنا الاختلاف المراد به الاختلاف في الفروع. وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في
الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى، وقد عدها الحليمي في شعب من
النعم التي يطلب من العبد شكرها لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس
رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الحرف والصنائع. وأما
اختلاف الأمة فلابد من خصوصية الأمة به وما قاله إمام الحرمين قد يظهر فيه خصوصية،
لأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تعطها أمة
غيرهم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق الذهن من لفظة
الاختلاف إليها ولا إلى الصنائع والحرف، انتهى كلام السبكي.
قوله: ولقوله: " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطا فله أجر واحد "
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عمرو بن العاصي بلفظ:
" إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر
".
قوله: " وأهل الكتاب كفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إيمانهم به
قبل مبعثه "
(2/575)
قال في الكشاف وهو الظاهر، قال الطيبي: لكن قرائن السياق قامت
على ترجيحه وذلك قوله في الآيات السابقة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} ثم قوله: {وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وانتصاب يوم تبيض من لهم، ثم
قوله بعد الفراغ من حديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو آمن أهل الكتاب لكان
خيراً لهم.
قوله: " ففي رحمة الله يعني الجنة "، قال الطيبي: إنما فسر الرحمة
بالجنة لأنها مقابلة لقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} ومقارنة لقوله: {هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ}.
قوله: " وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه
حلية المؤمنين وثوابهم "، قال الطيبي: أي أن الكلام من اللف والنشر لكن على
غير ترتيب بناء على تلك النكتة.
قوله: " دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ لقوله:
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} " قال الراغب: كان، في كثير من وصف الله
تعالى يبنى على معنى الأزلية قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمًا} وما استعمل منه في جنس الشيء متعلق بوصف له هو موجود
(2/576)
فيه فتنبيه أن ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك، ومنه قوله
تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وإذا استعمل في الزمان
الماضي فيكون المستعمل فيه باقيا على حالة وقد يكون متغيراً، ولا فرق بين أن يكون
زمان المستعمل فيه قد تقدم تقدما كثيرا، وبين أن يكون قد تقدم بأن واحد. وقال أبو
حيان: قول الزمخشري كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض وليس فيه دليل على عدم
سابق ولا انقطاع طارئ، قول لبعض النحويين. والصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ
المضي منها على الانقطاع. ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع وفرق بين الدلالة
والاستعمال. ألا ترى أنك تقول هذا اللفظ يدل على العموم؟ ثم قد يستعمل حيث لا يراد
العموم بل المراد الخصوص. وقال الشيخ سعد الدين: لا دلالة في كان الناقصة لا على
انقطاع ولا دوام فلذلك تستعمل فيما هو حادث: مثل، كان زيد راكبا، وفيما هو دائم
مثل: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} لا يدل على أنهم لم يكونوا خيرا فصاروا خيراً أو
انقطع ذلك عنهم.
قوله: " وقيل كنتم في علم الله "، إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: قصده
بالأقوال الثلاثة تحقق معنى المضي.
وقوله: " استئناف بين به كونهم خيراً "، قال الطيبي: أن ترك العاطف
ليكون الكلام الأول كالمورد للسؤال عن موجب ما سيق له الحديث فيجاب بالثاني ويعاد
بصيغة من استؤنف عنه الحديث لبيان الموجب.
(2/577)
قوله: " يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به "، قال
الطيبي: يعني ذكر الإيمان بالله وأريد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن
الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا أمن بالله على الحقيقة، وحقيقة
الإيمان بالله أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو اختل شيء منه لم يكن من
الإيمان بالله في شيء والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وإنهم لا يؤمنون
بجميع ما يجب الإيمان به ويدل على مكان التعريض قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} لاشك أنهم كانوا مؤمنين بالله وموافقين
للمؤمنين في بعض الشرائع لكنهم لما تركوا بعض الإيمان كأنهم لم يؤمنوا وأيضا
المقام مقام مدح للمؤمنين وكونهم خير الناس، لأن قوله (وتؤمنون بالله) عطف على
تأمرون بالمعروف وهو كلام مستأنف بين به أن المؤمنين خير أمة في ماذا، فينبغي أن
يكون هو أيضا تعليلا للخبرية وأن يندرج تحته جميع ما يجب الإيمان به ليكون معتداً
به صالحا لأن يمتدح به فلو خرج بعض الإيمان لم يكن مدحا، قال: (وإنما أخر وحقه أن
يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا
بالله وإظهاراً لدينه)، قال الطيبي: يعني إنما أخر قوله: (وتؤمنون بالله) ليكون
تلويحا إلى مكان التعليل فإنه حينئذ من باب الإخبار عن حصول الجملتين في قوله
وتفويض الترتيب إلى الذهن ولو قدم لم يتنبه لتلك النكتة.
قوله: ويجوز أن يراد بتقديم الأمر بالمعروف على الإيمان الاهتمام وأن سوق الكلام
لأجله، وذكر الإيمان كالتتميم ويجوز أن يجعل من باب قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ
سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} تنبيها على أن جدوى الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر شيء مما اشتمل عليه الإيمان بالله لأنه
من وظيفة الأنبياء.
قوله: " وهذه الجملة والتي بعدها "، قال الشيخ سعد الدين: أي منهم
(2/578)
المؤمنون وما عطف عليه ولن يضروكم مع ما عطف عليه.
قوله: " واردتان على سبيل الاستطراد ". قال الشيخ سعد الدين: ولذا لم
يعطف على الجملة الشرطية قبلهما أعني، ولو آمن، لأنها معطوفة على كنتم خير أمة
مرتبطة بها على معنى لو آمن أهل الكتاب كما آمنوا وأمروا بالمعروف كما أمروا لكان
خيرا لهم، قال: وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعد ما بينهما وكون
كل منهما نوعا آخر من الكلام.
قوله: " استثناء من أعم عام الأحوال "، قال الطيبي: عزي إلى الزمخشري
أنه قال: الاستثناء من أعم عام الأحوال نحو قولك: ما رأيت إلا زيدا، والمراد بأعم
العام ما لا أعم منه وهو الشيء، كأنك قلت: ما رأيت شيئا إلا زيداً وهذا الاستثناء
يقع في جميع مقتضيات الفعل أعنى فاعله ومفاعيله وما شبه بها، فقولك إلا زيداً
مستثنى من أعم عام المفعول به وكذلك ما لقيته إلا راكبا استثناء من أعم عام
أحواله، وما ضربته إلا تأديبا مستثنى من أعم عام أعراضه. والإضافة في قوله: من أعم
عام الأحوال مثل إضافة حب زمانه إلى من لا زمان له وإنما له المضاف الذي هو الحب
لا غير كما تقول ابن قيس الرقيات، بإضافة قيس إلى الرقيات في أن الغرض إضافة الابن
إلى الرقيات لأن قيسا ما شبب بالرقيات وإنما المشبب بهن ابنه ولا طريق إلى ذلك إلا
بذكر المضاف والمضاف إليه جميعا، وقال الشيخ سعد الدين: هذه الإضافة كما في قولهم
حب زمان زيد حيث لا زمان له، فإن القصد إلى إضافة الحب المختص بكونه للزمان إلى
زيد وكذلك القصد إلى إضافة أعم العام ومثله: ابن قيس الرقيات فإن المتلبس بالرقيات
ابن قيس لا قيس ففي مثل هذا
(2/579)
لابد من ذكر المضاف والمضاف إليه. ثم الإضافة، وتحقيقه أن يطلق الحب مضافا إلى الزمان والحب المقيد بالإضافة إلى الزمان مضاف إلى زيد.
(2/580)
سورة آل عمران
(3/47)
قوله: (عبر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين
.. ).
قال الطَّيبي: أي مما لو قال: يتهجدون، لما في ذكرها وذكر الليل من تصوير تلك
الحالة في أحسن صورة، فكأنه دعوى الشيء بالبرهان. اهـ
قوله: (روي أنه عليه السلام أخرها .. ).
يعني العشاء.
الحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود.
قال الشيخ سعد الدين: قوله: (غيركم) بالنصب خبر (ليس)، و (من أهل الأديان) يكون
حال من (أحد). اهـ
قوله: (أي الموصوفون بتلك الصفات ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه
وثناءه).
قال الطَّيبي: اعلم أنَّ الصلاح هو وجود شيء على حال استقامته وكونه منتفعاً به،
وإنما فسر (الصالحين) هاهنا بهذه المعاني لأنه موجب للصفات المذكورة من قبل،
والإيذان بالإيجاب توسيط (أؤلئك) لأنه أعلم أنَّ ما بعده جدير بمن قبله لاكتسابه
ما يوجبه، فالتعريف في (الصالحين) للجنس أي: الكاملين فيه. اهـ
(3/48)
قوله: (سمى ذلك كفراناً كما سمى توفية الثواب شكراً).
قال الطَّيبي: يعني لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الكفران لأنه ليس لأحد عليه
نعمة حتى يكفره، لكن لما وصف سبحانه بالشكور في تلك الآية -والشكور: مجاز عن توفية
الثواب- نفى سبحانه على سبيل المشاكلة الكفران الذي هو مجاز عن تنقيص الثواب. اهـ
قوله (وتعديته إلى مفعولين ... ).
قال الشيخ سعد الدين: أحدهما ضمير المخاطبين القائم مقام الفاعل، والآخر الضمير
المنصوب، والأصل: لن نكفركموه، أي: جزاؤه، بمعنى: لن نترك توفيته، ولولا تضمين
الحرمان لكان الواجب: لن يكفر لكم، مثل شكرت لله نعمته. اهـ
قوله (بشارة لهم وإشعاراً. . .) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني في إيراد العلم بعد الأعمال المذكورة بشارةٌ، لأنَّ الله تعالى
إذا علم منهم أحوالهم ومجاهدتهم فيها لا يضيع أجرهم فيوفيهم أحسن ما عملوا، وفي
وضع (المتقين) موضع المضمر إشعار بالعلية وإيذان بأنه لا يفوز عنده إلاّ أهل
التقوى. اهـ
قوله: (من التشبيه المركب).
قال الطَّيبي: الذي تؤخذ فيه الزبدة والخلاصة من المجموع، والوجه قلة الجدوى
والضياع.
قال: ويجوز أيضاً أن يكون من التشبيه المفرق الذي يتكلف لكل واحد من المشبه به شيء
بقدر شبهه في المشبه، فشبه إهلاك الله بإهلاك الريح، وما ينفقون بالحرث، وما في
غضب الله من جعل أعمال المرابين هباءً منثوراً بما في الريح البارد من حش الزرع
وجعله حطاماً. اهـ
(3/49)
قوله: (وقرئ (ولكنَّ)، أي: ولكنَّ أنفسهم يظلمون).
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل على كلا القراءتين إشكال، وهو أنَّ (وَمَا
ظَلَمَهُمُ) في الفعل، (ولكن أنفسهم يظلمون) في المفعول، [أما على القراءة المشهورة
فلصريح تقديم المفعول، و] أمّا على قراءة التشديد فلأنه بنى الكلام على
(أَنفُسَهُم) حيث جُعل في موضع المبتدأ مع أنه المفعول في المعنى، والذي يقتضيه
ظاهر النظم أن يكون الكلام في الفاعل أي: ما نحن ظلمناهم ولكن هم ظلموا أنفسهم،
كما تقول: ما أنا قلت هذا ولكن غيري قاله؟
قلنا: تقديم المفعول في المشهورة لرعاية الفاصلة لا الاختصاص والقصد إلى الفعل من
حيث تعلقه بالفاعل أي: ما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، وهو ظاهر، وأمّا على قراءة
التشديد فبناء الكلام على (أَنفُسَهُم) من حيث فاعليتها لا مفعوليتها بمنزلة أن
تقول: ولكن هم لا غيرهم ظلموا. اهـ
قوله: (وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكنّ من يبصر عيونك يعشق).
هو للمتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وقبله وهو أول القصيدة:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي
وبين الرضى والسخط والقرب والنوى ... مجال لدمع المقلة المترقرق
قوله: (قال - صلى الله عليه وسلم -: الأنصار شعار والناس دثار).
أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم.
قوله: (لا يتمالكون أنفسهم).
قال الطَّيبي: أي لا يتمالكون انفلات ما يعلم به بغضهم. اهـ
قوله: (والجمل الأربع ... ).
المراد بها (لا يَأْلُونَكُمْ) (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) (قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ) (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ).
(3/50)
قال الشيخ سعد الدين: دون (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)
لظهور أنه حال. اهـ
قوله: (جات مستأنفات على التعليل).
قال الطَّيبي: قيل: يريد أنَّ الكل جواب عن السؤال عن النهي، والأحسن أن يجري الكل
مستأنفات على الترتيب، كأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة؟ فقيل: لأنهم لا يقصرون في
إفساد أمركم.
فقيل: ولم يفعلون ذلك؟ فأجيب: لأنهم يبغضونكم.
ولما كان كل من ذلك مترتباً على الآخر صح أن يقال إنها مستأنفات على التعليل للنهي
عن اتخاذهم بطانة. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: لا يريد أنَّ الكل علة واحدة بالاجتماع بل إنَّ كلاً منها
علة للنهي بالاستقلال، ترك تعاطفها تنبيهاً على الاستقلال كما في قوله تعالى
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا. . .) (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا) بمعنى أنَّها مستأنفات
للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن يكون الأولى علة
للنهي ويتم التعليل بالمجموع، أي: لا تتخذوا منهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالاً
لأنهم يودون شدة ضرركم بدليل أنه قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون
الكثير، لكن لا يحسن ذلك في (قَدْ بَيَّنَّا) إذ لا يصلح تعليلاً لبدو البغضاء،
ويصلح تعليلاً للنهى بأنََّا بينا الآيات الدالة على وجوب معاداة أعداء الله، وإن
كان الأحسن أن يكون ابتداء كلام. اهـ
قوله: (بيان لخطئهم. .).
قال الطَّيبي: يعني لما قال: (هَا أَنْتُمْ أُولآءِ) أي: أنتم هؤلاء المشاهدون،
تحقيراً لشأنهم وازدراءً لحالهم، لما شوهد منهم ما يجب تخطئتهم به بيّن ما به
استحقوا هذا التحقير فقال: تحبونهم ولا يحبونكم. اهـ
قوله: (وهو حل من لا يحبونكم).
قال أبو حيان: يخدشه من صناعة النحو أنَّ المضارع المثبت إذا وقع حالاً لا يدخل
(3/51)
عليه واو الحال، ولهذا تأولوا: قمت وأصك عينه على حذف المبتدأ،
أي: قمت وأنا أصك، فتصير الجملة إسمية هـ.
قال: ويحتمل هذا التأويل هنا، أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكن
الأولى كونها للعطف. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تقدير الحالية: يعني تقدير المبتدأ وترك ذكره اعتماداً
على ما ذكره في بعض المواضعِ.
قال: ولم يجعله عطفاً على (يُحِبُّونَكُمْ) مع ظهوره لأنَّ ذلك في معرض التخطئة
ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب، والحمل على أنكم تؤمنون بالكتاب
كله وهم لا يؤمنون بشيء لأنَّ إيمانهم كلا إيمان فإنَّ جامع المحبة سديد في تقدير
الحالية دون العطف. اهـ
قوله: (والمعنى: إنهم لا يحبونكم والحال أنكم مؤمنون بكتابهم).
قال الطَّيبي: يريد أنَّها حال مقررة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى هؤلاء وإنهم
يحاولون مضرتك، فعلى هذا يقدر (أنكم) ليصح إيقاع المضارع حالاً مع الواو، ويجوز أن
لا يقدر وتكون الجملة معطوفة على (تحبون) أي: تجمعون بين المحبة والإيمان وكيت
وكيت " اهـ
قوله: (دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله)
وقال الشيخ سعد الدين: يشير الى أنَّ هذا من كناية الكناية عبر بدعاء موتهم بالغيظ
عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة
الإسلام وعن أهله وذلك لأنَّ مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب
ويدعى. اهـ
قوله (والمس يشعر بالإصابة)
جواب سؤالٍ مقدر تقديره: إنَّ من حق التقابل بين الفقرتين التوافق بين الكلمتين
فكيف
(3/52)
خولف بينهما؟ والجواب: أنَّ الموافقة حاصلة من حيث المؤدى وأصل
المعنى بشهادة الآيات الآتية.
(قال الطيبي): ونقل في الحواشي عن صاحب الكشاف أنه قال: وإنما جمع المس والإصابة
لافتنان الكلام لأنه أفصح وأحسن.
قال الطَّيبي: وهذا على تقدير سؤال آخر يعني: هب أنَّ التوافق حاصل بين الفقرتين
في أصل المعنى فما فائدة الاختلاف بينه وبين الآيات الأخر في (مَا أَصَابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ. . .) (إِنْ تُصِبْكَ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ. . .) (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)؟
والجواب: أنَّ الاختلاف للافتنان في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب.
قال الطَّيبي: ولو قال لاقتضاء المقام والتنبيه على الخطأ العظيم للمخاطبين كما
سبق في قوله (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) فإنه يقتضي عنفاً شديداً وتعبيراً بليغاً،
ولذلك استعير بجانب الحسنة المس، وذكر في السيئة الإصابة ليدل على الإفراط الشديد
والتفريط البليغ، وليس كذلك في سائر الآيات لكان أحسن.
ولهذا المعنى أشار صاحب الانتصاف حيث قال: يمكن أن يقال المس أقل تمكناً من
الإصابة وهو أقل درجاتها، أي: إن تصبكم حسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم، وإن تتمكن
منكم المصيبة وتنتهي إلى الحد الذي يرثي عنده الشامت فهم لا يرثون ولا عن حسدهم
يرجعون بل يفرحون ويسرون.
(3/53)
قال صاحب الإنصاف: هذا أحسن لكن يحتاج إلى الجواب عن آية (مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ. . .)، صاحب الكشاف ذكر جواباً يعمها.
قال الطيبي: الجواب ما ذكرناه من أنَّ التخصيص بحسب القام، وإخراج الكلام على
مقتضى الظاهر، والذي ينصر قول صاحب الانتصاف مجيء الفرح بمعنى البطر مقابلاً للسوء.
قال الجوهري: الفرح أيضاً البطر لقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) اهـ.
قوله: (وضمة الراء للإتباع).
قال الشيخ سعد الدين: هذا ما قالوا: إنَّ المجزوم والأمر من المضاعف المضوم العين
يجوز الفتح للخفة، والكسر لأجل تحريك الساكن، والضم للإتباع. اهـ.
قوله: (روي أن المشركين نزلوا بأُحد يوم الأربعاء).
الحديث أخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق قال حديث الزهري
وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن
سعد بن معاذ وغيرهم.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري عن عروة.
بشر محبس: إذ لا ماء ولا طعام، وذباب السيف: طرفه الذي يضرب به ويذب، (فإن رأيتم):
جوابه محذوف، أي: فافعلوا، واللأمة: مهموزة: الدرع، وقد تخفف بترك الهمزة، والشعب:
بالكسر: الطريق في الجبل، وعدوة الوادي:
(3/54)
جانبه، و (انضحوا عنّا): فارشقوا النبل فيهم كالماء المنضوح
ذابين عنّا.
وعبد الله بن جبير: بن النعمان الأنصاري، وجبير بضم الجيم، والباء الموحدة.
قوله: (متعلق بقوله (سميع عليم).
قال أبو حيان: لا يتعلق الجار بوصفين، والتحرير أنه على التنازع. اهـ
قال الحلبي: هو مراد عبارة الكشاف، أو عمل فيه معنى (سميع عليم). اهـ
قال الشيخ سعد الدين: أي يجمع بين سماع الأقوال والعلم بالضمائر إذ لا معنى لتقييد
كونه سميعاً عليماً بذلك الوقت، فلذا لم يجعل الصفة المشبهة عاملة لا من جهة
أنَّها لا تصلح للعمل في الظرف، ونحن قاطعون بأنَّ السميع العليم هنا صفة شبه لا صفة
مبالغة للسامع والعالم بحيث يعتبر فيها معنى الحدوث. اهـ
قوله: (أنه عليه الصلاة والسلام خرج فى زهاء ألف رجل. . .).
الحديث أخرجه ابن جرير عن السدي.
وزهاء ألف: أي قدرها.
قوله: (أو لعلكم ينعم الله عليكم).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه كناية أو مجاز عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر. اهـ
قوله: (إنكار أنه لا يكفيهم ذلك).
قال الكواشي: أدخل همزة الاستفهام على النفي توبيخاً لهم على اعتقادهم أنهم لا
ينصرون بهذا العدد فنقلته إلى إثبات الفعل على ما كان عليه مستقبلاً فقال
(3/55)
(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ). اهـ
قوله: (كانوا كالآيسين من النصر).
قال الطَّيبي: وذلك أنَّ (لَنْ) فيها رد إنكار منكر، تقول لصاحبك: لا أقيم غداً،
فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، أنزلهم ليأسهم من النصر منزلة المنكرين. اهـ
قوله: (وهو فى الأصل مصدر فارت القدر. . .) إلى آخره.
قال الراغب: الفور: شدة الغليان، ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت، وفي القدر،
والغضب، قال تعالى (وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)، وفلان
من الحمى يفور، والفوارة: ما يقذف القدر من فورانها، وفوارة الماء: تشبيهاً بغليان
القدر، ويقال: فعلت كذا من فوري: أي من غليان الحال، وقيل سكون الأمر قال تعالى
(وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا).اهـ
قوله: (لقوله عليه السلام: تسوموا فإنَّ الملائكة قد تسومت).
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير عن عمير بن إسحاق مرسلاً وزاد: قال: فهو
أول يوم وضع فيه الصوف.
قوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلق بـ (نصركم).
قال الشيخ سعد الدين: أي في قوله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) على تقدير
أن يجعل (إِذ تَقُولُ) ظرفاً لـ (نَصَرَكُم) لا بدلاً ثانياً من (وَإِذْ
غَدَوْتَ)، لأنَّ ذلك يوم أحد فيكون أجنبياً فيلزم الفصل به، وأما تعلقها بقوله
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيصح على التقديرين، ولكنّ العامل (هو
النفي) المنقوض بـ (إلاّ) أو النصر
(3/56)
الواقع مبتدأ فيه تردد، والظاهر من كلامه هو الأول. اهـ
قوله: (عطف على (أو يكبتهم)).
قال الشيخ سعد الدين: وجه سببية النصر على تقدير تعلق اللام بقوله (وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ظاهر، وأما على تقدير
تعلقها بقوله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) فلأنَّ النصر الواقع ببدر كان
من أظهر الآيات وأبهر البينات فيصلح سبباً للتوبة على تقدير الإسلام، أو ليعذبهم
على تقدير البقاء على الكفر لجحودهم بالآيات، وإن أريد التعذيب في الدنيا بالأسر
فالأمر ظاهر، فإن قيل: هو يصلح سبباً لتوبتهم والكلام في التوبة عليهم؟ قلنا: يصلح
سبباً لإسلامهم الذي يصلح سبباً للتوبة عليهم، فيكون سبباً بالواسطة. اهـ
قوله: (ويحتمل أن يكون مطوفاً على (الأمر) أو (شىء). .) إلى آخره.
قال الطَّيبي: الفرق بين الوجهين أنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه
صلوات الله عليه بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة،
وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه يعني: لا تقدر أن تجبرهم على التوبة ولا
تمنعهم عنها ولا تقدر أن تعذبهم ولا أن تعفوا عنهم فإنَّ الأمور كلها بيد الله.
اهـ
قوله: (روي أنَّ عتبة بن أبى وقاص شجه بأُحد).
الحديث أخرجه عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير عن قتادة، وهو في الصحيح من حديث سهل
بن سعد وليس فيه ذكر عتبة.
قوله: (وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على وجه التمثيل).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس القصد إلى تحديد عرض الجنة بذلك لامتناع كونها في
السماء، بل هو كناية عن غاية السعة والبسطة بما هو غاية في ذلك في علم السامعين.
اهـ
قوله: (وعن ابن عباس: كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها إلى بعض).
(3/57)
أخرجه ابن جرير.
قوله: (من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً).
أخرجه عبد الرزاق وأحمد من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ.
قوله: (إنَّ هؤلاء فى أمتى قليل إلا من عصم الله وقد كانوا كثيراً فى الأمم التى
مضت).
رواه الثعلبي في تفسيره عن مقاتل بلاغاً، والديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بن
مالك.
قال الشيخ سعد الدين: والاستثناء منقطع وهو ظاهر، أو متصل لما في القلة من معنى
العدم، كأنه قيل: إنَّ هؤلاء في أمتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد فى
أمتي. اهـ
قوله: (والمراد وصفه تعالى بسعة الرحمة).
قال الطَّيبي: اعلم أنَّ صاحب الكشاف سلك بهذا التركيب في هذا المقام مسلكاً
عجيباً، وخرج تخريجاً غريباً قلما تذهب إليه الأذهان إلا من ريض نفسه في علم
البيان وتمرن في الأصول، فنقول: إنه ساق كلامه أولاً في بيان ما يقتضي التركيب من
الخواص بدلالة عبارته من جهة المولى، ثم ثنى إلى بيان ما يقتضيه بدلالة إشارته من
جهة العبد.
أما الأول فعلى وجوه:
أحدها: دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه هذا المقام من معنى الغفران الواسع، وإيراد
التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار بأن لم يقل: وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير
لذلك المعنى وتأكيد، كأنه قيل: هل تعرفون أحداً يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها
وكبيرها سالفها وغابرها غيرَ من وسعت رحمته كل شيء.
وفي نقيضه قال صاحب المفتاح في قراءة (مَن فرعون) على الاستفهام: (وفرعون) هل
تعرفون من هو في فرط عنفه، وشدة شكيمته، وتفرعنه؟ ما ظنكم بعذاب يكون المعذب به
مثله.
ويعضد ما قلناه قوله في آخر هذه السورة في قوله (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ): لإلى
الرحيم
(3/58)
الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون.
ثانيها: تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقره لأنه اعترض بين المبتدأ والخبر ثم
بَيَّنَ المعطوف والمعطوف عليه، أي: فاستغفروا ولم يصروا، للدلالة على شدة
الاهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الاستغفار لم يتخلف عنه الغفران.
وثالثها: الإتيان بالجمع المحلى بلام التعريف إعلاماً بأن التائب إذا تقدم
بالاستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له.
ورابعها: دلالة الحصر بالنفي والإثبات على أن لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله،
وذلك أنَّ من وسعت رحمته كل شيء لا يشاركه أحد في نشرها كرماً وفضلاً.
وخامسها: إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود
الاستغفار وتنصل عبيده يدل على وجوب ذلك قطعاً إما بحسب الوعد عندنا أو العدل
عندهم.
وأما النظر من جهة العبد ففيه وجوه أيضاً:
أحدها: أنَّ في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارةً عظيمةً وتطيباً للنفوس.
وثانيها: أنَّ العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والاهتمام العظيم في شأن
التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها.
وثالثها: أنَّ في ضمن معنى الاستغراق قلع اليأس والقنوط، ولهذا علل سبحانه النهي
عن الإقناط في قوله (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) بقوله (إِنَّ اللهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا).
ورابعها: أطلقت الذنوب وعممت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس، وترك مقتضى الظاهر ليدل
به على عدم المبالاة في الغفران فإنَّ الذنوب وإن جلت فعفوه أعظم.
وخامسها: أنَّ الاسم الجامع في تركيب قوله (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللهُ) كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضاً على أنه تعالى وحده معه
مصححات المغفرة
(3/59)
من كونه عزيزاً ليس أحد فوقه فيرد عليه حكمه، وكونه حكيماً يغفر
لمن تقتضى حكمته غفرانه " اهـ
قوله: (ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين).
قال الطَّيبي: (غير مستغفرين) حال من الضمير في (يقيموا)، والجملة تفسير لقوله
(وَلَمْ يُصِرُّوا). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هذا المجموع تفسير لقوله (وَلَمْ يُصِرُّوا)، لأن عدم
الإصرار هو أن لا يقيم على القبيح من غير استغفار بل يرجع عنه بالتوبة.
قال: ومنهم من توهم أنَّ عدم الاستغفار قيد في عدم الإصرار والمعنى: أنهم لم
يكونوا مصرين غير مستغفرين، وبنى عليه كلاماً لا طائل تحته. اهـ
قوله: (ما أصر من استغفر).
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر الصديق.
قوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من (يصروا)، أي: ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين
به).
قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أنَّ قوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ليس قيداً للنفي
لعدم الفائدة، لأنَّ ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواءً كان مع العلم بالقبيح
أو مع الجهل، بل مع الجهل أولى، وإذا كان قيداً للفعل المنفي فله معنيان:
أحدهما: وهو الأكثر أن يكون النفي راجعاً إلى القيد فقط، ويثبت أصل الفعل مثل: ما
جئت راكباً؟ بمعنى: جئت غير راكب، وقد ذكر في قوله تعالى (لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) أنه نفي للصمم والعمى وإثبات للخرور، وأنَّ النفي
إذا ورد على ذات مقيدة بالحال يكون إثباتاً للذات ونفياً للحال، وهذا أيضاً ليس
بمراد إذ ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم.
وثانيهما: أن يقصد نفي الفعل والقيد معاً، بمعنى انتفاء كل من الأمرين مثل: ما
جئتك راكباً؛ بمعنى: لا مجيء ولا ركوب، وهذا أيضاً ليس بمناسب إذ ليس المعنى على
نفي العلم، أو بمعنى انتفاء الفعل من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته وهذا هو
المناسب في الآية، أي: ولم يصروا عالمين، بمعنى أنَّ عدم الإصرار متحقق ألبتة،
والحاصل أنَّ القيد في
(3/60)
الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي، وقد لا يكون لنفي المقيد
بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط. اهـ
قوله: (ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاءً لهم أن لا يدخلها
المصرون). قصد بذلك الرد على الزمخشري فيما قرره في كشافه في هذا المحل.
قال صاحب الفرائد: دلت الآية على أنَّ غير المصر تغفر ذنوبه ويدخل الجنة، وأمّا
المصر فالآية لا تدل على أن لا تغفر ذنوبه ولا يدخل الجنة، ومن عدم الدليل لا يلزم
عدم المدلول. اهـ
وقال الطَّيبي: قوله (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) خطاب
لآكلي الربا من المؤمنين ردعاً لهم عن الإصرار إلى ما يؤديهم إلى دركات الهالكين
من الكافرين، وتحريضاً على التوبه والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين والمتقين
من التائبين، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى لأنه إغراء وتشجيع على
الذنب لا (زجرا ولا) ترهيب، فبين بالآيات معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد
تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثاً لهم على الانخراط في سلكهم، ولا بد من
ذكر التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفاً لهؤلاء، وجميع الفوائد التي
ذكرت في قوله (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) يدخل في المعنى، فعلم من
هذا أنَّ دلالة مفهوم قوله (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) مهجور لأنَّ مقام التحريض والحث أخرج المصرين. اهـ
قوله: (وكفاك فارقاً بين القبيلين أنه فصل آيتهم. .) إلى آخره.
قال الطَّيبي: مآل كلام القاضي أنَّ اختصاص ذكر الأجر لمقتضى المقام وإلا فلم خولف
بين الجزاءين والمتقون أيضاً عاملون؟
قال: ثم في قوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) وجوه من المحسنات:
أحدها: أنَّها كالتذييل للكلام السابق فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد.
(3/61)
وثانيها: في إقامة الأجر موضع ضمير الخبر، لأنَّ الأصل: ونعم
أجر العاملين جزاوُهم هو إيجاب إنجاز هذا الوعد، وتصوير صورة العمل في العمالة
تنشيطاً للعامل.
وثالثها: في تعميم (الْعَامِلِينَ) وإقامته مقام المضمر الدلالة على حصول المطلوب
للمذكورين بطريق برهاني. اهـ
قوله: (أي أنه مع كونه بياناً للمكذبين).
قال الطيبي: إشارة إلى أنَّ المراد بالناس المكذبون المخاطبون بقوله (قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِكُمْ)، أو الذين سبق ذكرهم من المتقين والتائبين والمصرين، والأولى أن
يراد به الجنس؛ أي: بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون
وينتجعون بوعظه. اهـ
قوله: (أو إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين، وقوله (قد خلت) اعتراض للبعث
والتوبة).
قال الطَّيبي: الذي ذهبنا إليه أنَّ تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب
لآكلي الربا، والمخاطبون بقوله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) هم الذين سبق خطابهم
بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا)، وذلك أنه تعالى
بعدما حذرهم من النار المعدة للكافرين وأمرهم بالمسارعة إلى نيل درجات الفائزين
بيَّن لهم سوء عاقبة من كذب الأنبياء في ترغيبهم وترهيبهم؛ أي: إنذارهم وبشارتهم
لأنهم ما بعثوا إلا لهما، فعلى هذا قوله تعالى (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) إشارة
إلى ما يخص المخاطبين من الترهيب والترغيب والحث، وقوله (قَد خَلَت) إلى قوله
(وَلا تَهِنُوا) كالتخلص من قصة آكلي الربا التي استطردت لذكر المحاربة إلى ما جرى
له الكلام من مجاهدة الكفار، وهذا أولى من جعلها معترضة لأنها توجب أن تجعل الآيات
كلها موافقة لها، لأن المعترضة مؤكدة للمعترض بأن يقال: إنَّ تلك الآيات دلت على
الترهيب والترغيب (وهذه الآية دلت على الترهيب)، ومعنى الترهيب راجع إلى الترغيب
بحسب التضاد، وكما أنَّ بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعد من الآلاء بحسب
الزجر عن المعاصي وذلك تعسف. اهـ
(3/62)
قوله: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) تسلية لهم عما أصابهم
يوم أحد).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أنه متعلق بما سبق من قصة أحد من جهة المعنى، وأمّا
بحسب اللفظ فالظاهر أنه عطف على (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) وتوسيط
حديث الربا وما بعده قيل: استطراد، وقيل: إشارة إلى أنَّ هذا نوع آخر من عداوة
الدين ومحاربة المسلمين. اهـ
قال الطيبي: هذا يؤذن أنَّ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا الرِّبَا. . .) إلى آخر الآيات مستطرد بين القصة وسلوك طريقة النظم
فيها صعب، ولهذا قال الإمام: من الناس من قال: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمته على
المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد، واتبع
ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا) فعلى هذا تكون الآية ابتداء كلام لا تعلق لها بما
قبلها.
وقال القفال: يحتمل أن يكون متصلاً بما تقدم من جهة أنَّ المشركين إنما أنفقوا على
تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى
الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العساكر فيتمكنوا من الانتقام
منهم، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك.
قال: والذي نقوله والعلم عند الله أنه تعالى لما عاتب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بقوله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ) أتبعه قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) بمعنى أنك ما بعثت أن تتصرف في الأمور الإلهية ولكنك
مبعوث للإنذار والبشارة، وهؤلاء الكفار أمرهم في التوبة أو التعذيب إلى مالكهم،
وما كان عليك سوى الإنذار فقد أنذرتهم وبذلت وسعك فيه ففوض أمورهم إلى الله تعالى
إن
(3/63)
شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم، وثن بالإنذار إلى أصحابك في أمر
عظيم ارتكبوه وهو محاربتهم مع الله في أمر الربا، قال الله تعالى (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) فأرهبهم بالنار ليحترزوا
عن الربا، ورغبهم في الجنة وأمرهم بالاعتبار والنظر في عاقبة المكذبين وبين لهم
البيان الشافي ثم مع ذلك كله لا يكن منك ولا من أصحابك ضعف ولا وهن في الجهاد، ولا
يورثنكم ما أصابكم حزناً في هذه الوقعة لأنَّ حالكم أعلى من حال الكفرة لأنَّ
قتالكم لله ولإعلاء كلمة الله وقتالهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر. اهـ
قوله: (إن كنتم مؤمنين).
متعلق بالنهي.
قال الطَّيبي: أي تتميم له كالتعليل لأنَّ الخطاب مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - والمؤمنين من الصحابة الكرام تسلية لما أصابهم يوم أحد فلا جائز أن يجري
الشرط على حقيقته.
قال الزمخشري في قوله تعالى (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ.
. . إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا. . .): (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق
بـ (لا تَتَّخِذُوا) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
أي: لأجل أنكم أوليائي إذ المجاهد من الصحابة رضوان الله عليهم لا يكون إلاّ
ولياً. اهـ
(3/64)
قوله: (فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نُساءُ ويوم نُسر).
قال الشيخ سعد الدين: الأحسن أن يقدر: فيوماً يكون الأمر علينا، أي: بالإضرار،
ويوماً لنا، أي: بالنفع، فيكون يوماً ظرف ملائماً لقوله (ويوماً نساء) من سيء
فلان: أي أصيب بحزن، من ساءه: أحزنه، (ويوماً نسر) من سره: جعله مسروراً. اهـ
وذكر الزمخشري في شرح أبيات سيبويه أنَّ هذا البيت للنمر بن تولب، وقبله:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر
يهنون من حقروا سيبه ... وإن كان فيهم يفي أو يبر
ويعجبهم من رأوا عنده ... سواماً وإن كان فيه الغمر
ألا يالذا الناس لو تعلمون ... للخير خير وللشر شر
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
قوله: (والمداولة كالمعاورة).
في النهاية: يقال: تعاور القوم فلاناً إذا تعاونوا عليه بالضرب واحداً بعد واحد.
قوله: (والأيام تحتمل الوصف والخبرية).
زاد أبو حيان: والبدل والبيان.
قوله: (ليكون كيت وكيت).
قال أبو حيان: لم يبين المحذوف بل كنى عنه بكيت وكيت، ولا يكنى عن الشيء المحذوف
حتى يعرف هـ.
قال: وفي هذا الوجه حذف العلة وعاملها وإبهام فاعلها، فالوجه الآخر أظهر إذ ليس
فيه غير حذف العامل. اهـ
وقال الطَّيبي في تفسير كيت وكيت: أي (سلطناهم عليكم) لرفع درجاتهم، ولأن الأيام
دول، ولاستدراجهم، وليتميز الثابتون من (المتزلزلين). اهـ
(3/65)
قوله: (تقديره: وليتميز التائبون).
قال الشيخ سعد الدين: بيان لحاصل المعنى لا إشارة إلى أنَّ العلم مجاز عن التمييز
بطريق إطلاق (اسم) السبب على المسبب. اهـ
قوله: (والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم
ونفيه).
قال الطَّيبي: أي الواجب أن يحمل على التمثيل، فإنه إن لم يحمل عليه يلزم ذلك
المحذور، وذلك باطل لأنَّ الله تعالى لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها.
وقال صاحب الانتصاف: التعبير عن نفي المعلوم بنفي العلم خاص بعلم الله تعالى إذ
يلزم من عدم تعلقه بوجود شيء إعدام ذلك الشيء ولا كذلك علم المخلوقين، فلا يعبر
عنه بذلك لعدم الملزوم.
وقيل معناه: ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء.
قال الزجاج: المعنى: ليقع ما علمنه غيباً مشاهداً للناس ويقع منكم، وإنما تقع
المجازاة علي ما علمه الله من الخلق وقوعاً لا على ما لم يقع.
وقال أيضاً في قوله (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ): أي يختبره
بأعمالكم لأنه قد علمه غيباً فيعلمه شهادة، لأنَّ المجازاة تقع على ما علم
مشاهدةً، أعني على ما وقع من عامليه لا على ما هو معلوم منهم. اهـ
قوله: (ويكرم ناساً منكم بالشهادة).
قال الطَّيبي: كنى بالاتخاذ عن الإكرام لأنَّ من يتخذ (شيئاً يتخذه) لينتفع به أو
يتزين به كقوله (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) لأنَّ الشهيد مقرب حاضر في حظيرة
(3/66)
القدس. اهـ
قوله: (بل أحسبتم ومعناه الإنكار).
قال الشيخ سعد الدين: وحقيقته النهي عن الحسبان. اهـ
قوله: (والفرق بين (لما) و (لم) أنَّ فيه توقع الفعل فيما يستقبل).
قال أبو حيان: هذا الذي قاله في (لما) أنها تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما
يستقبل لا أعلم أحداً من النحويين ذكره، بل ذكروا أنك إذا قلت: لمّا يخرج زيد، دل
ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار، أما أنها تدل على
توقعه في المستقبل فلا، ولكني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب هذا قال: (لمّا)
لتعريض الوجود بخلاف (لم). اهـ
قال الحلبي: قد فرق النحاة بينهما من جهة أنَّ المنفى بـ (لم) هو فعل غير مقرون ب
(قد)، و (لمّا) نفي له مقروناً بها، وقد تدل على التوقع، فيكون كلام الزمخشري
صحيحاً من هذه الجهة.
قال: ويدل على ما قلته من كون (لم) لنفي فعل، و (لمّا) لنفيٍ قد فُعِل، نص النحاة
(على ذلك) سيبويه فمن دونه. اهـ
وقال الزجاج: إذا قيل: قد فعل فلان، فجوابه: لمّا يفعل، أو فعل، فجوابه: لم يفعل،
أو لقد فعل، فجوابه: ما فعل، أو هو يفعل (يريد ما يستقبل)، فجوابه: لا يفعل، أو
سيفعل، فجوابه: لن يفعل. اهـ
قوله: (وقرئ بفتح الميم على أنَّ أصله يعلمن فحدفت النون).
خرجه غيره على أنه من التحريك بالفتح عند التقاء الساكنين إتباعاً للام وإبقاء
لتفخيم
(3/67)
اسم الله.
قال الشيخ سعد الدين: ولم يرتكب هذا الوجه البعيد في (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)
لإمكان الوجه الصحيح الشائع. اهـ
قوله: (نصب بإضمار (إن) على الواو للجمع).
قال أبو البقاء: والتقدير: أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن
يعلم الصابرين. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قيل المعنى: لم يكن العلم بالمجاهدين والعلم بالصابرين، أي:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة مع الجمع بين عدم متعلقي العلمين أعني الجهاد والصبر،
والأصوب مع عدم الجمع بين الأمرين لأن مرجع واو الصرف إلى عطف مصدر بعده على مصدر
الفعل السابق، فكما أنَّ معنى لا تأكل السمك وتشرب اللبن: لا يكن منك أكل السمك
وشرب اللبن، أي الجمع بينهما، فكذا هنا المعنى الواقع حالاً هو مضمون قولك: لم يكن
منك العلم بالجهاد والعلم بالصبر، أي: لم يتحقق الأمران جميعاً. اهـ
قوله: (وقرئ بالرفع على أن الواو للحال).
قال أبو حيان: لا يصح هذا، لأنَّ واو الحال لا تدخل على المضارع، وقد خرجه الناس
على الاستئناف. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هو بتقدير المبتدأ، أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يسبق
منكم مجاهدة مقيدة بالصبر، والظاهر أنَّ المراد الصبر عليها، (وَلَمَّا يَعلَم)،
حال من (قَد خَلَت)، (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) حال من (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا) على التداخل. اهـ
قوله: (أي فقد رأيتموه معاينين له).
قال الزجاج: المعنى: فقد رأيتموه وأنتم بصراء، كما تقول: قد رأيت كذا وليس في عيني
علة، أي: قد رأيته رؤية حقيقة، ففيه توكيد. اهـ
قوله: (وقيل الفاء للسببية. . .) إلى آخره.
قال الطَّيبي: أي قوله (أَفَإِنْ مَاتَ) مسبب عن جملة قوله (وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ)،
(3/68)
وقوله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة (رَسُولٌ)،
فدخلت همزة الإنكار بين المسبب والسبب لإعطاء مزيد الإنكار الذي يتضمنه قوله
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، وذلك أنَّ
التركيب من باب القصر القلبي، لأنه جعل المخاطبين بسبب ما صدر عنهم من النكوص على
أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنهم اعتقدوا أنَّ محمداً
صلوات الله عليه ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم
بل حكمه على خلاف حكمهم، فأنكر الله ذلك عليهم، وبين أنَّ حكم النبي - صلى الله
عليه وسلم - حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله عليهم في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم
متمسكين بدينهم ثابتين عليه، ثم عقب الإنكار بقوله (أَفَإِنْ مَاتَ) وأدخل الهمزة
لمزيد ذلك الإنكار، يعني: إذا علم أنَّ أمره أمر الأنبياء السابقين فلم عكستم
الأمر؟ فإن لم يجعل ذلك العلم سبباً للثبات فلا أقل من أن لا يجعل سبباً للانقلاب.
قال: وأما كلام صاحب المفتاح أنَّ التركيب من باب القصر الإفرادي -أي: محمد مقصور
على الرسالة، لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك، يعني أنَّهم أثبتوا له صفة الرسالة
والخلد استعظاماً لهلاكه فقصر على صفة الرسالة- فحديثٌ خارج عن مقتضى المقام،
وبمعزل عن موجب النظم، ويؤيده قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، كما أنه تعريض
بما أصابهم من الوهن، والانكسار عند الإرجاف بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
اهـ
وكذا قال الشيخ سعد الدين: في كلام صاحب المفتاح بُعد من جهة عدم اعتباره الوصف
أعني (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، حتى كأنه لم يجعله وصفاً بل ابتداء
كلام
(3/69)
لبيان أنه ليس متبرئاً من الهلاك كسائر الرسل إذ على اعتبار
الوصف لا يكون القصر إلا قصر قلب.
قال: ومن زعم أنه يلزم مِن حمله على قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة
فقد أخطأ خطأً بيّناً وذهل عن الوصف. اهـ
قوله: (روي أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-. . .)
الحديث بطوله أخرجه ابن جرير عن السدي هكذا، ووردت أبعاضه موصولة من طرق.
قال الطَّيبي: وقوله هنا عبد الله بن قميئة مخالف لما سبق عند قوله تعالى (لَيْسَ
لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أنه عتبة بن أبي وقاص. قال: والذي هنا أصح. اهـ
قوله: (بل يضر نفسه).
قال الشيخ سعد الدين: مستفاد من تقييد الفعل بالمفعول ورجوع القيد إلى النفي فيكون
المعنى أنه صدر عنه ضرر لكن لا بالنسبة إلى الله تعالى، ومعلوم أنه ليس غير نفسه.
اهـ
قوله: (وسيجزي الله الشاكرين) على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنسٍ وأضرابه).
قال الطَّيبي: وضع (الشاكرين) موضع الثابتين علي الإسلام تسمية للشيء باسم مسببه،
إذ أصل الكلام: ومن ينقلب على عقبيه يكن كافراً لنعمة لله التي أنعم عليه بالإسلام
فيضر نفسه حيث كفر نعمة الله، والله يجزيه ما يستحقه، ومن ثبت عليه يكن شاكراً
لتلك النعمة، والله يجزيه الجزاء الأوفى، ولم يذكر ما يجزي به ليدل على التعميم
والتفخيم، ففي الكلام تعريض وإليه أشار بقوله: (الشاكرين الذين لم ينقلبوا) كأنسِ
وأضرابه. اهـ
قوله. (إلاّ بمشيئة).
قال الطَّيبي: استعير للمشيئة الأذن على التمثيل بأن شبه حال من يحاول ما يتوصل به
إلى موته -من طلب تسهيله ولا يجد إلى ذلك سبيلاً إلاّ بتيسير الله تعالى- بحال من
يتوخى الوصول إلى قرب من هو محتجب عنه ولا يحصل مطلوبه إلاّ بإذن منه وتسهيل
الحجاب له، وهذه الآية موقعها موقع التذييل للكلام السابق، وأخرجت مخرج التمثيل،
فنسبتها إلى المؤمنين التحريض والتشجيع على القتال والجهاد ومن ثم قيل:
(3/70)
إذا كانت الأبدان للموت أنشب ... فقتل امرئٍ بالسيف لله أجمل
، وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوعد بالحفظ وتأخير الأجل، وإليهما الإشارة
بقوله (وفيه تحريض هـ. .) إلى آخره. اهـ
قوله: (ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد).
(سبق إلى ذلك ابن جني فقال: إنَّ (قُتِّلَ) بالتشديد) يتعين أن يسند الفعل فيها
إلى الظاهر يعني (ربيين) لأنَّ الواحد لا تكثير فيه. اهـ
وقال أبو البقاء: لا يمتنع أن يكون فيه ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه في
معنى الجماعة. اهـ
أي أنَّ المراد بالنبي الجنس فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص.
وهذا الذي قاله أبو البقاء استشعره ابن جني وأجاب عنه فقال: فإن قيل: يسند إلى
(نبي) مراعاة لمعنى (كم)؟
فالجواب: أنَّ اللفظ قد فشا على جهة الإفراد في قوله (مِنْ نَبِيٍّ) ودل الضمير
المفرد في (مَعَهُ) على أنَّ المراد إنما هو التمثيل بواحد فخرج الكلام عن معنى
(كم). اهـ
قال أبو حيان: وليس بظاهر، لأن (كأين) مثل (كم) يجوز فيها مراعاة اللفظ تارة
والمعنى أخرى. اهـ
قوله: (والألف من إشباع الفتحة).
قال أبو حيان: هذا الإشباع لا يكون إلا في الشعر، وهذه الكلمة في جميع تصاريفها
بنيت على هذا الحذف، تقول: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان له، والإشباع لا يكون
على هذا الحد.
قال: فالظاهر أنه (استفعل) من الكون فيكون أصل ألفه واواً، أو من قول العرب: بات
(3/71)
فلان بكينة سوء؛ أي بحالة سوء، أو من: كَانَه يكينه إذا أخضعه،
قاله الأزهري وأبو علي، فعلى قولهما أصل الألف ياء. اهـ
قوله: (أي: وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانين إلا هذا القول
وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أنَّ هذا المعنى كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين
وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم، وذلك من إفادة الحصر وإيقاع (أن) مع ذلك الفعل
اسماً لـ (كان). اهـ
قوله: (وإنما جعل (قولهم) خبراً لأن (أن قالوا) أعرف).
وقال الزمخشري: لأنه لا سبيل عليه في التنكير بخلاف قول المؤمنين).
قال صاحب المطلع: ومعناه أن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى مُنكّراً بخلاف
(أن قالوا).
وقال أبو البقاء: اسم كان ما بعد (إِلاّ)، وهو أقوى من أن يجعل خبراً والأول اسماً
لوجهين: أحدهما: أنَّ (أن قالوا) يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف.
والثاني: أن ما بعد (إِلاّ) مثبت، والمعنى: كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا دأبهم
في الدعاء. اهـ
وقال الطَّيبي: كأنَّ المعنى: ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا
هذا القول، وِكأنَّ غير ذلك القول مناف لحالهم، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع (أن) مع
الفعل اسماً لـ (كان).
وتحقيقه ما ذكره صاحب الانتصاف قال: فائدة دخول (كان) المبالغة في نفي الفعل
(3/72)
الداخلة عليه بتعديد جهة فعله عموماً باعتبار الكون وخصوصاً باعتبار
خصوصية المقام فهو نفي مرتين.
قال الطَّيبي: فعلى هذا لو جعلت رب الجملة (أَنْ قَالُوا) واعتمدت عليه وجعلت
(قَوْلَهُمْ) كالفضلة حصل لك ما قصدته، فلو عكست ركبت المتعسف، ألا ترى إلى أبي
البقاء كيف جعل الخبر نسياً منسياً في الوجه الثاني واعتمد ما بعد (إلا). اهـ
قوله (ولا يرى الضب بها ينجحر).
صدره: لا تفزع الأرنب أهوالها
يصف مفازة بأنه لا وحش بها، والبيت من نفي الشيء بإيجابه، أي: لا ينجحر الضب؛ أي:
لا يدخل جحراً فيرى بها، ومقصود المصنف أنَّ الآية كذلك، أي: لا سلطان ولا نزول
معاً.
قوله: (بشرط التقوى والصبر).
قال الطَّيبي: يعني أنَّ المراد بقوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) هو
الوعد بالنصر المقيد بالصبر والتقوى في قوله (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا.
. .) الآية، فلما لم يوجد الشرط وهو الصبر فقد المشروط وهو النصر، فالآية على هذا
متصلة بتلك الآية. اهـ
قوله: (وجواب (إذ) محذوف وهو امتحنكم).
قال أبو حيان: يظهر لي تقدير غيره وهو: انقسمتم قسمين، ويدل عليه ما بعده، وهو
نظير (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) التقدير:
انقسموا قسمين فمنهم مقتصد. اهـ
قوله: (أو بمقدر كاذكر).
قال الطَّيبي: قيل فيه إشكال إذ يصير المعنى: اذكر يا محمد إذ تصعدون.
وقيل الصواب: أنَّ تقدير اذكر على قراءة (يصعدون) بالياء، ويمكن أن يقال: ليس
مراده أنه منصوب [بإضمار (اذكر) صيغة أمر الواحد بل المراد] أنه منصوب بما ينتصب
به أمثاله من لفظ الذكر بحسب ما يطابق الواقع فيقدر (اذكروا)، وإنما أفرد إذ
الغالب في أمثال هذه المواضع الإفراد، ويحوز أن يكون من باب قوله (يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا
(3/73)
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). اهـ
قوله: (عطف على (صرفكم)).
قال أبو حيان: فيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين، والذي يظهر أنه معطوف [على
(تصعدون ولا تلوون)] لأنه مضارع في معنى الماضي، لأن (إذ) تصرف المضارع إليه. اهـ
قوله: (غماً متصلاً بغم).
قال الطَّيبي: يشير إلى أنَّ التكرير للاستيعاب نحو قوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ). اهـ
قوله: (وظفر المشركين)
قال الطَّيبي: قيل: لو كان قال: وغلبة المشركين؛ كان أحسن، لأنَّ الظفر للمؤمنين.
اهـ
قوله: (والإرجاف).
في الأساس: رجف البحر: اضطرب، ومن المجاز: أرجفوا في المدينة بكذا؛ أي: أخبروا به
على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم. اهـ
قوله: (ليتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد).
قال الطَّيبي: ولا بد من هذا التأويل، لأنَّ المجازاة بالغم بعد الغم سبب للحزن لا
لعدمه. اهـ
قوله: (وقيل: الضمير في (فأثابكم) للرسول).
قال أبو حيان: هذا خلاف الظاهر لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله وذلك في
قوله (صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ) فيكون هذا كذلك، وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى
عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم، فلم يجيء مقصوداً لأنَّ يحدث عنه،
إنما الجملة التي ذكر فيها في
(3/74)
تقدير المفرد إذ هى حال. اهـ
قوله: (فآساكم فى الاغتمام).
بالمد: جعلكم أسوته فيه.
قوله: (ولم يثربكم).
قال الجوهري: التثريب كالتأنيب والتعيير والاستقصاء في اللوم. اهـ
قوله: (وعن أبي طلحة: غشينا النعاس ... ) الحديث.
أخرجه البخاري).
قوله: (و (نعاساً) بدل ... ).
قال أبو حيان: وهو بدل اشتمال، لأنَّ كلاً منهما قد يتصور اشتماله على الآخر. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: على أنه كان نفس الأمنة. اهـ
قوله: (و (أمنة) حال منه).
قال أبو البقاء: والأصل: أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة، لأنَّ النعاس ليس هو الأمن بل
هو الذي حصل الأمن به. اهـ
قوله: (أو مفعول له).
زاد الزمخشري: بمعنى: نعستم أمنة. اهـ
قال أبو حيان: هذا فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل الإنزال هو الله
تعالى، وفاعل الأمنة المنزل عليهم. اهـ
وقال الحلبي: فيه نظر، فإنَّ الزمخشري قدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل
(أَمَنَةً) فكأنه استشعر السؤال فلذلك قدر عاملاً، على أنه قد يقال إنَّ الأمنة من
الله تعالى يعني أنه أوقعها بهم، كأنه قيل: أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به،
وأَمَنَةً كما يكون مصدراً
(3/75)
لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أوقعه. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: إن أراد أنه بتقدير فعل هو (نعستم) فليس للفعل موقع حسن.
اهـ
قوله: (قد أهمتهم ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: أهمه الأمر: أقلقه وأحزنه، وأهمه الأمر: كان مهماً له معتنى
بشأنه فالأول من الأول، والثاني من الثاني، والحصر مستفاد من المقام. اهـ
قوله: (صفة أخرى لطائفة).
قال الطَّيبي: قال صاحب التقريب: فيه نظر، لأنه لم يبق لـ (طائفة) خبر فينبغي أن
يقدر له خبر: وثم، أو منهم طائفة. اهـ
قوله: (و (غير الحق) نصب على المصدر. .) إلى آخره.
قال ابن الحاجب: (غير الحق) و (ظن الجاهلية) مصدران أحدهما للتشبيه والآخر توكيد
لغيره، والمفعولان محذوفان أي: تظنون أنَّ إخلاف وعده حاصل. اهـ
قوله: (وهو الظن المختص بالملة الجاهلية).
قال الشيخ سعد الدين: في إضافة ظن الجاهلية وجهان:
أحدهما: أن يكون إضافة الموصوف إلى مصدر الصفة، ومعناها الاختصاص بالجاهلية كما في
حاتم الجود، ورجل صدق، على معنى: حاتم المختص بوصف الجود، ورجل مختص بوصف الصدق.
والثاني: أن يكون إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي: ظن أهل الجاهلية أي:
الشرك والجهل بالله. اهـ
(3/76)
قوله: (وهو بدل من (يظنون))
الأوجه ما قاله أبو حيان أنه حال من (يظنون) أو صفة أخرى.
قوله: (لله ولأوليائه ... ).
قال الشيخ سعد الدين: أي أنَّ كون الأمر لله كناية عن كونه لخواصه أيضاً لكونهم من
الله بمكان وكونهم منصورين عالين على الأعداء. اهـ
قوله: (وهو بدل من (يُخْفُونَ)، أو استئناف على وجه البيان له).
قال الطَّيبي: كأنه قيل: ما ذلك القول الذي كانوا يُخْفُونَ في هذا القول؟
فأجيب: يقولون أي يقولون في أنفسهم قولاً معناه: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا
هاهنا. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: الأجود الاستئناف لكثرة فوائده، ولأنه لو كان بدلاً من
(يُخْفُونَ) و (تُخفُون) حال من (يَقُولُون هَل لنَا) لكان (يَقُولُونَ لَو كَانَ
لَنَا) في موضع الحال من (يَقولُون هَل لنَا)، ولا خفاء في عدم المقارنة إذ
(يَقُولُونَ لَو كَانَ) مرتب على قوله (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) المقول
بعد قولهم (هَل لنَا). اهـ
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: اعلم أنَّ تأويل هذه الآية من المعضلات، والتركيب من باب الترديد
للتعليق كقول الشاعر:
لو مسها حَجَر مسته سراءُ
لأن قوله (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ) خبر (إنَّ)، وزيدت (إنَّ)
للتوكيد وطول الكلام و (ما) لتكفها عن العمل، وأصل التركيب: إن الذين تولوا منكم
يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان ولاّهم بسبب اقتراف الذنوب، كقوله: إنَّ
الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه، ثم قوله (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ) إما أن
يريد به ذنوب اقترفوها قبل التولي فصارت تلك الذنوب سبباً لهذا التولي، فيكون من
باب إطلاق السبب على المسبب، أو أن يراد به هذا الذنب الخاص وهو التولي يوم أحد
وهو المراد
(3/77)
من قوله: وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي، والمعنى: إن
الذين انهزموا يوم أحد إنما ارتكبوا هذا الذنب لمّا تقدمت لهم ذنوب.
والتركيب على التقديرين من باب تحقيق الخبر كقوله:
إن الذي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت دونها غول.
وليس من باب أنَّ الصلة علة للخبر كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) لأنَّ قوله (بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا) يأباه، وتحقق التحقيق. اهـ
قوله: (وكان حقه (إذ) لقوله (قالوا) لكنه جاء على حكاية الحال الماضية)
قال الشيخ سعد الدين: معناه أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي، أو
تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن، وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون، والمعنى: حين
ضربوا، إلاّ أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض.
واعترض بوجهين:
الأول: أنَّ حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال، والمذكور هنا صيغة
الاستقبال، لأنَّ معنى إذا ضربوا: حين يضربون فيما يستقبل.
الثاني: أن قولهم (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا) إنما هو بعد موتهم فكيف
يتقيد بالضرب في الأرض؟ فكيف ما اعتبروه إنما هو حال حياتهم.
وأجيب عن الأول: بأن (إِذَا ضَرَبُوا) في معنى الاستمرار كما في (وَإِذَا لَقُوا
الذِينَ ءَامَنوا) فيفيد الاستحضار نظراً إلى الحال.
وعن الثاني: بأنَّ (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ) في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى،
فيكون المعنى: لا تكونوا كالذين كفروا وإذا ضرب إخوانهم في الأرض فماتوا أو كانوا
غزاً
(3/78)
فقتلوا قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فالضرب
والقول كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزاء
الأخير وهو الموت والقتل، فإنه وإن لم يذكر لفظاً لدلالة قوله (مَا مَاتُوا وَمَا
قُتِلُوا) عليه فهو مراد معنى، والمعتبر المقارنة عرفاً كما في قوله (فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ) وقوله: إذا طلع هلال المحرم آتيك في
منتصفه.
وقال الزجاج: (إذا) هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل، يعني أنه لمجرد الوقت
أو لقصد الاستمرار، والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل (إِذَا ضَرَبوا) ظرف
(وَقَالُوا) بل ظرف ما يحصل للإخوان حتى يقال لأجلهم في حقهم ذلك القول، كأنه قيل:
قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون. انتهى كلام
الشيخ سعد الدين.
وقال أبو حيان: يمكن إقرار (إذا) على الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل
على أنَّ ضمير (لو كَانُوا) عائد على (إخوانهم) لفظاً لا معنى على حد: عندي درهم
ونصفه، والتقدير: وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا أو كانوا غزاً لو كان
إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فتكون هذه
المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن الضرب والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين.
اهـ
قال الطَّيبي: تلخيص الوجوه الثلاثة هو أنَّ التعليل في الوجه الأول داخل في حيز
الصلة ومن جملة المشبه به، والمعنى: لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد
الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وفي الثاني: العلة خارجة
عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه، أي: لا تكونوا مثلهم في النطق
بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في
قلوبهم خاصة، وفي الثالث: الكل خارج من ذلك، والمعنى: لا تكونوا مثلهم ليجعل
انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، فعلى هذا قوله تعالى (وَقَالُوا) ابتداء كلام
عطف على مقدرات شيء كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم.
(3/79)
قال: فإن قلت: فما وجه اتصاله بالشبه، وما تلك المقدرات؟
قلت: لما وقع التشبيه على عدم الكون عمّ جميع ما يتصل بهم من الرذائل، وخص المذكور
لكونه أشنع وأبين لنفاقهم، أي أنهم أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل
فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا، ونظيره موقع قوله (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا
لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) من قوله (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ). اهـ
قوله: (على أنّ اللام لام العاقبة ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: لما كان إيقاع الحسرة مترتباً على قولهم ذلك من غير أن يكون الثاني
مطلوباً بالأول شبه بأمر مترتب على أمر يكون الأول عرضاً في الثاني على التهكم
والتوبيخ ثم استعير لترتب المشبه كلمة الترتب المشبه به وهي اللام. اهـ
قوله: (أو بـ (لا تكونوا)، أي: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد،
وليجعله حسرة فى قلوبهم خاصة).
قال أبو حيان: هذا كلام مثبج لا تحقيق فيه، لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي،
إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي، وهو انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء
والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذا لم يوافقوهم فيما
قالوه واعتقدوه فلا يضربون في الأرض ولا يغزون، فالتبس على الزمخشري استدعاء
انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء، وفهم هذا فيه خفاء ودقة. اهـ
قال الحلبي: ولا أدري ما وجه تثبيج كلام الزمخشري، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه.
اهـ
وقال السفاقسي: يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو: لا تعص لتدخل الجنة، لأنَّ
النهي ليس سبباً لدخول الجنة بل حصول المنهي عنه، وكذا لا يجوز: أطع الله لتدخل
الجنة، لأنَّ الأمر ليس سبباً لدخول الجنة بل لحصول الأمور.
(3/80)
قال: والحق أنَّ اللام متعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على
معنى أنَّ الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه، وهذا لا
إشكال فيه. اهـ
قوله: (فإنه تعالى يحيي المسافر والغازى ويميت المقيم والقاعد).
قال الطَّيبي: أراد تحقيق قولهم: الشجاع موقىً والجبان ملقى. اهـ
قوله: (من مات يمات).
أصله على هذا: موت، بكسر الواو، ونقلت الكسرة كما في خاف، وعلى الأخرى موت، بفتح
الواو، وقلبت كما في قال.
قوله: (جواب القسم وهو ساد مسد الجزاء).
قال السفاقسي: إن عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح، وإن عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير
فليس بصحيح. اهـ
وقال الحلبي: إنما عنى الأول. اهـ
قوله: (لإلى الله تحشرون).
عن صاحب الكشاف: الحرف وإن دخل على الحرف صورة فهو على التحقيق دخل على الجملة.
قوله: (و (ما) مزيدة للتأكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة).
قال الطَّيبي: لابد من تقدير محذوف ليصح الكلام، لأنَّ الحصر مستفاد من تقديم
الجار والمجرور على العامل، والتوكيد من زيادة (ما)، فالمعنى (ما) مزيدة للتوكيد،
والجار والمجرور مقدم للدلالة، فهو من باب اللف التقديري. اهـ
قوله: (وهو ربطه على جأشه).
بالهمز أي: ربط الله على جأش النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الجوهري: يقال: فلان رابط الجأش؛ أي: شديد القلب، كأنه يربط نفسه عن الفرار
لشجاعته، وجأش القلب روعه: إذا اضطرب عند الفزع. اهـ
قوله: (وتوفيقه للرفق بهم).
(3/81)
قال الطَّيبي: يعني أفاد قوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) في
هذا المقام فائدتين:
إحداهما: ما يدل على شجاعته.
والثانية: ما يدل على رفقه، فهو من باب التكميل، قال حكيم:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
وقد اجتمع فيه صلوات الله وسلامه عليه هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر إليه
أصحابه مع أنه شج وكسرت رباعيته، ثم ما زجرهم ولا عنفهم عن الفرار بل آساهم في
الغم كما قال (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ)، وهو المراد بقوله: ربطه على جأشه
وتوفيقه للرفق. وفيه أنَّ هذه الآيات من هنا إلى قوله (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍّ) مرتبط بعضها ببعض، فإن قلت: جعل الله تعالى الرحمة من الله علة لنبيه -
صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه وقد فسرها بأمرين وثانيهما ظاهر المدخل في
العلِّية فبيِّنْ وجه الأول؟
قلت: الشجاع من ملك نفسه عند الغضب كما صح في الحديث، فربطُ الله جأشه سببٌ لكسر
سورة الغضب الموجب لغلظ القلب والحمل على اللين، فاعجب لشدة هي في الحقيقة لين. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: إنما جعل الرفق ولين الجانب مسبباً عن ربط الجأش لأنَّ من
ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة. اهـ
قوله: (روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ... )
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس).
قوله: (أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسم الغائم).
زاد في الكشاف عقبه: كما لم يقسم يوم بدر، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟
(3/82)
فقالوا: تركنا بقية إخواننا.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل ظننتم أنّا نغل ولا نقسم لكم. فنزلت.
وهذا ذكره الثعلبي والواحدي عن الكلبي ومقاتل.
قوله: (وإما المبالغة فى النهي ... ).
قال الطَّيبي: يعني أجرى الخبري مجرى الطلبي مبالغة.
في الانتصاف: يشهد لورود هذه الصيغة نهياً مواضع من التنزل (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللهِ).
في الإنصاف: يعارضه ورود هذه الصيغة للامتناع العقلي كثيراً (مَا كَانَ لِلَّهِ
أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا). اهـ
قوله: (روي أنه بعث طلاع ... ).
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير عن الضحاك مرسلاً.
في النهاية: الطلائع هم القوم الذين يبعثون ليطلعوا طلع العدو كالجواسيس، واحدهم
طليعة، وقد يطلق على الجماعة، والطلائع: الجماعات. اهـ
قوله: (فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولاً تغليظاً ومبالغة ثانية).
قال ابن المنير: هذا مخالف لعادة لطف الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - "
في التأديب ومزجه باللطف (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بدأه بالعفو
فما كان له أن يعبر بهذه
(3/83)
العبارة. اهـ
قال الطَّيبي بعد حكايته: قد جاء أغلظ من ذلك بناءً على التهييج والإلهاب نحو قوله
(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) أو التعريض (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ)،
ومن هذا قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ)، قال: كنى عن مباشرة النساء بالرفث استهجاناً لما وجد منهم قبل
الإباحة، كما سماه اختياناً. اهـ
قلت: ما قاله الطَّيبي لا ينافي ما قاله ابن المنير، فإنَّ ابن المنير لم ينكر
الخطاب الوارد من الله في هذا المعنى وإنما أنكر قول الزمخشري (تغليظاً) فإن هذه
اللفظة لا تليق، ولهذا عبر الطَّيبي في الآية التي أوردها بالتهييج والإلهاب، ولم
يجسر هو ولا غيره أن يعبروا بالتغليظ، ولهذا قال الشيخ سعد الدين هنا: قد استقبحت
من المصنف هذه العبارة، فإنَّ العادة قد جرت باللطف مع النبي - صلى الله عليه وسلم
-، فالأولى أنه تعظيم لجنابه - صلى الله عليه وسلم - حيث عدَّ أدنى زلة منه غلولا.
اهـ
ثم لا يعجبني قوله أدنى زلة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - منزه عن الزلة؛ بل فعله
ذلك إن صح صادر عن اجتهاد لا ينقض، فالأولى أن يكون على حد (لئن أشركت) خوطب وأريد
غيره ممن يفعل هذا بعد النهي عنه (1).
قوله: (يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء فى الحديث).
رواه البخاري ومسلم من حديث أبي حميد الساعدي بلفظ: والذي نفس محمد بيده لا يغل
أحدكم شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه.
قوله: (شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت).
قال الطيبي: وضع درجات موضع متفاوتون إطلاقاً للملزوم على اللازم على سبيل
الاستعارة، أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيهاً محذوف الأداة.
اهـ
قوله: (والله بصير).
__________
(1) كلام الشيخ سعد الدين محمول على الفرض كما في قوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ
لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) فصدور الظلم من الله تعالى غير متصور فلو وقع -على
سبيل الفرض المحال- فيكون ظلاما لا ظالماً. وفيه من المدح والثناء ما فيه كذلك
الأمر هاهنا في حق الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. اهـ (مصحح
النسخة الإلكترونية).
(3/84)
قال الأزهري: البصير في صفة العباد هو المدرك ببصره الأكوان،
وسمع الله وبصره لا يكيفان ولا يحدان، والإقرار بهما واجب كما وصف نفسه. اهـ
قوله: ((إن) هى المخففة، واللام هى الفارقة، والمعنى: وإنّ الشأن كانوا من قبل
بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ضلال ظاهر).
ذكر مكي مثله إلا أنه قال: التقدير: وإنهم كانوا من قبل، فجعل اسمها ضميراً عائداً
على المؤمنين.
قال أبو حيان: وكلا الوجهين لا يعرف نحو: يا ذهب إليه، إنما تقرر عندنا في كتب
النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت: إنَّ زيداً قائم، ثم خففت فمذهب البصريين فيها
وجهان:
أحدهما: جواز الإعمال، ويكون حالها وهي مخففه كحالها وهي مشددة إلا أنها لا تعمل
في مضمر، ومنع من ذلك الكوفيون، وهم محججون بالسماع الثابت من لسان العرب.
والوجه الثاني: وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا في مضمر، لا
ملفوظ به ولا مقدر ألبتة، فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ولزمت
اللام في باقي مصحوبيها إن ينف وفي أولهما إن تأخر فتقول: إن زيد لقائم ومدلوله
مدلول إن زيد قائم، وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الابتداء،
وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم. اهـ
وقال الحلبي: لم يصرح الزمخشري بأنَّ اسمها محذوف فقد يكون هذا تفسير معنى لا
إعراب. اهـ
قوله: (والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد [أو على محذوف).
قال أبو حيان: أما العطف على ما مضى من قصة أحد] ففيه بعد، وبعيد أن يقع
(3/85)
مثله في القرآن، وأما العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر من
مذهبه، وقد رددنا عليه، وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا: وأصلها
التقديم، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. اهـ
وقال الطَّيبي: إن كان المعطوف عليه ما مضى فالهمزة داخلة بين المعطوف والمعطوف
عليه للطول مزيداً للإنكار ولابد إذن من إنكار في الكلام السابق، ومضمون المعطوف
عليه وهو جملة قوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ... ) الآية: أكان من
الله الوعد بالنصر على أعدائكم بشرط الصبر والتقوى، فلما فشلتم وتنازعتم في الأمر
وعصيتم أمر الرسول ونفر أعقابكم يريدون الدنيا وأصابكم الله بما أصابكم وقلتم حين
أصابكم ذلك: أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم، أنتم السبب فيما أصابكم. اهـ
قوله: (مثل أفعلتم كذا).
قال الطَّيبي: أي الفشل والتنازع والعصيان والخروج من المدينة والإلحاح على النبي
- صلى الله عليه وسلم -. اهـ
قوله: (و (لما) ظرف)
قال أبو حيان: هو مذهب أبي علي الفارسي، ومذهب سيبويه -وهو الصحيح- أنها حرف وجوب
لوجوب. اهـ
قوله: (من أين هذا)
قال أبو حيان: الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير (في)،
أما أن يقدر داخلاً عليه (من) فلا، لأنه إنما انتصب على إسقاط (في) فتقديره
(أَنَّى هَذَا): من أين هذا؛ تقديرٌ غير سائغ وذهول عن القاعدة. اهـ
وقال الحلبي: الزمخشري لم يقدر غير (في) مع (أَنَّى هَذَا) حتى يلزمه ما قال، إنما
جعل (أَنَّى) بمنزلة من أين في المعنى. اهـ
(3/86)
قوله: (وعن علي: باختياركم الفداء يوم بدر)
أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي.
قوله: (فهو كائن بقضائه ... ).
قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أنَّ الظرف خبر المبتدأ، ودخول الفاء لتضمن معنى
الشرط، ووجه السببيه ليس بظاهر إذ ليست الإصابة سبب التخلية بل بالعكس فهو من قبيل
(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)، أي: ذلك سبب للإخبار بكونه من الله
تعالى على ما ذكرنا أنَّ القيد في الأوامر قد يكون للمطلوب وقد يكون للطلب فكذا في
الأخبار.
فإن قيل: تقديره هو كائن؛ يخالف ما تقرر من أنَّ الظرف مقدر بالفعل؟ قلنا: هو بيان
للمعنى، وإلا فالتقدير: فبإذن الله يكون ويحصل. اهـ
قوله: (وتخلية الكفار سماها إذناً لأنه من لوازمه).
قال الطَّيبي: قد مر كيفية استعارة الإذن للتيسير في هذه السورة، ووجهه أنَّ
التكليف لما بني على الاختيار والابتلاء استعير هنا الإذن لتخلية الكفار وغلبتهم
على المسلمين فكأنّ التكليف يستدعي التخلية ويطلب التيسير للابتلاء. اهـ
قوله: (أو كلام مبتدأ)
قال الطَّيبي: لما ذكر الله أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم في الآيات وبيَّن
أنَّ الدائرة إنما كانت للابتلاء، وليتميز المؤمنون عن المنافقين، وليعلم كل واحد
من الفريقين أنَّ ما قدره الله من إصابة المؤمنين كائن لا محالة أورد قصة من قصصهم
مناسبة لهذا المقام مستطردة، وجيء بالواو لأنها ملائمة (لأصل الكلام)، والنفاق على
هذا مطلق متعارف، وعلى أن يكون (وقيل لهم) عطفاً على (نافقوا) يكون بياناً له،
وأنه نفاق خاص أظهروه في ذلك المقام حيث قالوا (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً
(3/87)
لاتَّبَعْنَاكُمْ). اهـ
قوله: (لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: هو من باب إخراج نوع من جنس وإدخاله في جنس آخر بالادعاء والمبالغة
كقولك: ليس فلان آدمياً بل هو أسد. اهـ
قوله: (أو لا نحسن قتالاً).
قال الطَّيبي: المنفي على المعنى الأول القتال، وعلى الثاني القدرة عليه، لأن
التقدير: لو نحسن قتالاً تدعونا إليه لاتبعناكم، يقال: فلان لا يحسن القتال؛ أي:
لا يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. اهـ
قوله: (دغلاً).
في الأساس: الدغل: الغيل والشجر الملتف، ومن المجاز: اتخذ الباطل دغلاً ومنه دغل
فلان، وفيه دغل أي: فساد وريبة. اهـ
قوله: (لانخذالهم).
في الأساس: أقدم على الأمر ثم انخذل عنه أي: ارتد وضعف. اهـ
قوله: (بدلاً من واو (يكتمون)).
قال الطَّيبي: المعنى والله أعلم بما يكتم الذين قالوا. اهـ
قوله: (بدلاً من الضمير في (بأفواههم)).
قال الطَّيبي: أي: يقولون بأفواه الذين قالوا لإخوانهم، فيكون من باب التجريد.
قال الشاعر:
(3/88)
دعوت كليباً دعوةً فكأنما ... دعوت به ابن الطود أو هو أسرع.
اهـ
قوله: (أو قلوبهم).
قال الطَّيبي: المعنى: ما ليس في قلوب الذين قالوا، فهو تجريد أيضاً على نحو قوله
(لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ). اهـ
قوله: (كقوله: على جوده لضن بالماء حاتم).
وصدره: على حالةٍ لو أنَّ في القوم حاتماً.
وقبله قوله:
فلما تصافنا الإداوة أجهشت ... إلى غضون العنبريِّ الجُراضِم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
قال الشيخ سعد الدين: التصافن: اقتسام الماء بالحصص عند ضيق الماء، وذلك إنما يكون
بالمقلة تسقي الرجل بقدر ما يغمرها، وحاول العنبري الزيادة المفرطة على حقه لفرط
عطشه وكونه واسع البطن أكولاً؛ وهو معنى الجراضم بضم الجيم، والصرائم: جمع صريمة
وهي منقطع الرمل ويقل فيه الماء، والإجهاش: تفزع الإنسان إلى غيره مع تهيؤٍ للبكاء
كالصبي إلى الأم، وغضون الجلد: مكاسره كالجبين، وأسند الإجهاش إليها لأنَّ مخايله
تظهر فيها، وحاتم: بالجر بدل من ضمير جوده. اهـ
قال الطَّيبي: (على جوده) حال من ضمير الاستقرار، أي: لو أنَّ حاتماً مستقر في
القوم، أي كائناً على جوده، (حاتم) بالجر، لأن القوافي كلها مجرورة، وهو بدل من
(3/89)
الهاء في ضمير (جوده) بدل المظهر من المضمر نحو: مررت به أبي
زيد. اهـ
قوله: ((وقعدوا) مقدرة بقد).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ الواو للحال لأنه ليس بالمقصود من العطف. اهـ
قوله: (نزلت في شهداء أحد).
أخرجه الحاكم عن ابن عباس.
قوله: (وقيل فى شهداء بدر).
وهو غلط، إنما تلك آية البقرة.
قوله: (أو إلى (الذين قتلوا) والمفعول الأول محذوف).
زاد الزمخشري: ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي: ولا يحسبن
الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. اهـ
قال أبو حيان: وما ذهب إليه من هذا التقدير لا يجوز، لأنَّ فيه تقديم المضمر على
مفسره، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وليس هذا منها. اهـ
قال السفاقسي: مسلَّم أنه ليس واحداً منها لكن (الذين) فاعل وعود الضمير على الفاعل
المتأخر في اللفظ جائز لأنه مقدم في المعنى، وإنما هذا مما تعدى فيه فعل الظاهر
إلى ضميره وهو جائز في ظننت وأخواتها، وحسبت منها، وقد نص السيرافي وغيره على جواز
(ظنه زيدٌ منطلقاً) و (ظنهما الزيدان منطلقين) وهذا نظير ما ذكره الزمخشري. اهـ
(3/90)
وكذا قاله ابن هشام في المغني بعد نقله رد أبي حيان على
الزمخشري: وهو غريب جداً فإنَّ هذا المؤخر مقدم الرتبة. اهـ
ثم قال أبو حيان: وقوله إنَّ المفعول الأول محذوف قد يتمشى على رأي الجمهور فإنهم
يجوزنه لكنه عندهم عزيز جداً، ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي ألبتَّة، وما كان
ممنوعاً عند بعضهم عزيزاً عند الجمهور ينبغي ألاّ يحمل عليه كلام الله، فتأويل من
تأول الفاعل مضمراً يفسره المعنى أي: لا يحسبنَّ هو -أي: أحدٌ أو حاسبٌ- أولى،
وتتفق القراءتان في كون الفاعل ضميراً وإن اختلف بالخطاب والغيبة. اهـ
وقال الحلبي: هذا من تحملات أبي حيان على الزمخشري، أما قوله (يؤدي إلى تقديم
المضمر ... ) إلى آخره فالزمخشري لم يقدره صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود،
ولذلك لمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدره بلفظ (أنفسهم) المنصوبة وهي المفعول
الأول، وأظنُ الشيخ توهم أنَّها مرفوعة تأكيد للمضمر في (قتلوا) ولم ينتبه لأنه
إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة، وأما تمشيته قوله على مذهب الجمهور فيكفيه وما
عليه من ابن ملكون، وستأتي مواضع يضطر هو وغيره إلى حذف أحد المفعولين. اهـ
وقال الطَّيبي: حذف أحد المفعولين في باب الحسبان مذهب الأخفش، خلافاً لسيبويه.
اهـ
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: كيف جاز في المقتولين؟ قلنا: لأنهم أحياء ونفوسهم
باقية مدركة. اهـ
قوله: (بل أحسبهم أحياءً)
هو تخريج الزجاج، وقد رده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان، قال:
(3/91)
ولا يصح أن يضمر له إلا فعل الحسبان، فإن أضمر (اعتقدهم) أو
(اجعلهم) فهو ضعيف إذ لا دلالة عليه.
وقال الحلبي: وهذا تحامل من الفارسي لأن (حسب) قد تأتي لليقين كقوله:
حسبت التقى والجود خير تجارة
وتضعيفه تقدير (اعتقدهم) و (اجعلهم) يريد من حث عدم الدلالة اللفظية وليس كذلك بل
إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف، وإن كان دلالة اللفظ أحسن.
وقال أبو حيان: لا يصح تقدير (اجعلهم) ألبتَّة سواءً أجعلته بمعنى اخلقهم أو صيرهم
أو سمهم أو ألقهم. اهـ
وقال السفاقسي: يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك، والتكليف بالظن
واقع لقوله تعالى (فاعتبروا) (أمر) بالقياس وتحصيل الظن. اهـ
قوله: (ذوو زلفى منه).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس (عند) هنا للقرب المكاني لاستحالته، ولا بمعنى في
علمه وحكمه كما في قولهم: هو كذا عند سيبويه؛ لعدم مناسبة المقام، بل
(3/92)
بمعنى القرب شرفاً ورتبة. اهـ
قوله: (بدل من (الذين)).
قال الطَّيبي: أي بدل الاشتمال لأن الضمير في (عليهم) عائد إلى (الذين لم يلحقوا
بهم)، وقد ضم إليه السلامة من الخوف والحزن. اهـ
قوله: (عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر
... ).
الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه على شرط مسلم.
قال الإمام التوربشتي: أراد بقوله (أرواحهم في أجواف طير خضر) أنَّ الروح
الإنسانية المتميزة المخصوصة بالإدراكات بعد مفارقتها البدن يهيأ لها طير أخضر
فتنتقل إلى جوفه ليعلق ذلك الطير من ثمر الجنة، فتجد الروح بواسطته ريح الجنة ولذتها
والبهجة والسرور، ولعل الروح يحصل لها تلك الهيئة إذا تشكلت وتمثلت بأمر الله
تعالى طيراً أخضر كتمثل الملك بشراً، وعلى أي حالة كانت فالتسليم واجب علينا لورود
البيان الواضح على ما أخبر عنه الكتاب والسنة وروداً صريحاً لا سبيل إلى خلافه).
قوله: ((يستبشرون) كرره للتوكيد).
قال أبو حيان: أعربه غير الزمخشري بدلاً من الأول، ولذا لم يدخل عليه واو العطف.
اهـ
قوله: (وليعلق به ما هو بيان لقوله (أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ))
قال الطَّيبي: يعني كرر (يَسْتَبْشِرُون) ليعلق به قوله (يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)،
وهو بيان وتفسير لقوله (أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
(3/93)
يَحْزَنُونَ)، لأنَّ الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من
السوء، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار، فمن كان متقلباً في نعمة من الله
وفضل فلا يحزن أبداً ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة. اهـ
قوله: (وقرأ الكسائى بالكسر على أنه استئناف معترض).
قال أبو حيان: ليست هذه الجملة اعتراضاً لأنَّها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق
بالآخر. اهـ
قال الحلبي: ويمكن أن يجاب عنه بأن (الذِينَ استجَابُوا) يجوز أن يكون تابعاً لـ
(الذين لم يلحقوا) نعتاً أو بدلاً، فعلى هذا يتصور الاعتراض. اهـ
قال الطَّيبي: قول الزمخشري: على أنَّ الجملة اعتراض، أي: تذييل للآيات السابقة من
لدن قوله (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)، وفي ذكر
المؤمنين إشعار بأن من وسم بسمة المؤمنين كائناً من كان شهيداً مقرباً أو من أصحاب
اليمين فإن الله تعالى لا يضيع ًأجره. اهـ
قوله: (صفة للمؤمنين أو نصب على المدح).
قال الطَّيبي: فعلى هذا يجب أن يكون (أنَّ) المفتوحة مع ما بعدها معطوفة على
النعمة والفضل، ويكون (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ... ) الآية مستأنفة، أي: ما لهم
حينئذ؟ فقيل: لهم أجر عظيم. اهـ
قوله: (أو مبتدأ خبره (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا)).
قال أبو حيان: [إنه الظاهر. اهـ
قال الطَّيبي]: أي (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا) مع ما في حيز الصلة مبتدأ، وقوله
(أَجْرٌ
(3/94)
عَظِيمٌ) مبتدأ ثان، و (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) خبره، والجملة
خبر المبتدأ الأول. اهـ
وبقي من الوجوه أن يكون رفعاً على القطع.
قوله: (و (من) للبيان).
قال الطَّيبي: فالكلام فيه تجريد، جرد من (اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)
المحسن المتقي. اهـ
وقال أبو حيان: من لا يرى ورود (من) للبيان قال إنَّها للتبعيض حالاً من ضمير
(أحسنوا) وعليه أبو البقاء. اهـ
قوله: (روي أن أبا سفيان وأصحابه -إلى قوله- فنزلت)
أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي وغيرهما، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة عن ابن
إسحاق عن شيوخه.
قوله: (من حضر يومنا).
أي وقعتنا.
في الأساس: ذكر في أيام العرب كذا، أي: في وقائعها، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ
اللهِ): بدمادمه على الكفار. اهـ
قوله: (فتحاملوا).
في الأساس: تحاملت الشيء: احتملته على مشقة. اهـ
قوله: ((الذين قال لهم الناس))
قال الشيخ سعد الدين: (الناس) الثاني في الآية غير الأول إذ اللام العهدية فيه
ليست إشارة إلى ما ذكر صريحاً بل إلى ما يعرفه المخاطبون. اهـ
قوله: (روي أنه نادى عند انصرافه ... ).
الحديث أخرج ابن جرير بعضه عن مجاهد وبقيته عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
(3/95)
عمرو بن حزم.
قوله: (وقيل في نعيم بن مسعود).
الحديث ذكره ابن سعد في طبقاته.
قوله: (الضمير المستكن للمقول)
قال أبو حيان: هو ضعيف من حيث إنه لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به لا هو في نفسه.
اهـ
قال الحلبي: وفيما قاله نظر، لأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان.
اهـ
وكذا قال السفاقسي: فيه نظر لأنَّ نفس المقول لا يزيد إيماناً بل باعتبار مدلوله.
اهـ
قوله: (أو لفاعله إن أريد به نعيم).
قال أبو حيان: هو ضعيف من حيث إنه إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن
الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد، فيفال: مفارقه شابت، باعتبار الإخبار
عن الجمع، ولا يجوز: مفارقه شاب، باعتبار مفرقه شاب. اهـ
قال السفاقسي: لا يبعد جوازه بناءً على ما علم من استقراء كلامهم فيما له لفظ وله
معنى اعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى. اهـ
وذكر الحلبي ونحوه.
قوله: (ويعضده قول ابن عمر: قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم
يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار).
(3/96)
أخرجه الثعلبي في تفسيره.
قوله: (وفيه تحسير للمتخلف).
قال الطَّيبي: يعني في عطف قوله (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ) على قوله
(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) على سبيل التكميل، وتذييل الآية
(وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) مع التصريح بالاسم الجامع وإسناد (ذو فضل) إليه
ووصفه بعظيم إيذان بأنَّ المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمراً عظيماً لا يكتنه كنهه
وهم أحق بأن يتحسروا عليه تحسراً ليس بعده. اهـ
قوله: (و (الشيطان) خبر (ذلكم) ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: ذكر في الآية وجوهاً:
أحدها: أنَّ (الشيطان) خبر (ذلكم)، والظاهر أنَّ المشار إليه (الناس) المذكور
أولاً في قوله (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ ... ) وهو نعيم بن مسعود لقوله: إنما ذلكم الشيطان، والمرا بـ (أولياءه)
أبو سفيان وأصحابه، فيكون قوله (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) على تقدير جواب سائل: لم
قصرت الشيطنة فيه؟ وأجيب: بأنه يخوف المسلمين أبا سفيان وأصحابه خديعةً ومكراً،
وتخويفه قوله: (ما هذا بالرأي) أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد.
وثانيها: أن يكون (الشيطان) صفة، و (يُخَوِّفُ) الخبر، وحينئذٍ يجوز أن يراد
بالمشار إليه (الناس) المذكور أولاً وهو نعيم، أو الثاني وهو أبو سفيان، والمراد
بتخويف أبي سفيان نداؤه عند انصرافه من أحد: موعدنا موسم بدر لقابل، ولما كان
الوجه الأول أبلغ لمكان التخصيص بتعريف الخبر وموقع الاستئناف وكان تخويف نعيم
ظاهراً اختص به.
وثالثها: أن يكون المضاف محذوفاً والمراد بالشيطان إبليس كما صرح به، وعلى هذا
الوجه المفعول الأول محذوف، والمراد بالأولياء: أبو سفيان وأصحابه، ويجوز أن يراد
بالأولياء القاعدون، والمفعول الثاني محذوف والمراد بالتخويف: ما أوقع الشيطان في
قلوبهم من الجبن والخور والرعب.
(3/97)
وكأنَّ أقرب الوجوه الوجه الأخير لأنه قيل في حق السابقين غير
القاعدين (فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فوضع موضع فما خافوا فزادهم إيماناً، وقال في حق هؤلاء
القاعدين (فَلا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ) وسموا أولياء الشيطان تغليظاً، ولذلك قرن
به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مقابلاً لقوله (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)، ثم إن
أريد بالأولياء أبو سفيان وأصحابه والخطاب بقوله يخوفكم المؤمنون الخلص كان قوله (إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) في معنى التعليل فلا يقتضي الجزاء، وإن أريد به المتخلفون
كان المعنى: إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأنَّ الإيمان يقتضي أن
يؤثروا خوف الله على خوف الناس كما قال الإمام: والمعنى: الشيطان يخوف أولياءه
الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، وأما أولياء الله فهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا
ينقادون لأمره، وهذا قول الحسن والسدي.
قال الطَّيبي: والنظم يساعد عليه، فإنه تعالى لما بين أنَّ الذي أصاب المؤمنين يوم
التقى الجمعان إنما أصابهم ليتميز المؤمن المخلص من المنافق فقسمهم أقساماً بدأ
بذكر المنافقين ثم ثنى بذكر المؤمنين وجعلهم طبقات فذكر من استشهد وصدقوا ما
عاهدوا الله عليه واستتبع مدحهم مدح الطبقة الثانية الذين لم يلحقوا بهم فذكر من
أوصافهم أنَّهم الذين استجابوا لله والرسول تعريضاً بالمتخلفين، وأنهم الذين قال
لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، ولا فرغ من مدحهم التفت
إلى الطبقة الثالثة وقال (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ)، ثم ثلث بذكر الذين محضوا الكفر و واطأت قلوبهم
ألسنتهم فقال (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ) مستطرداً لذكر أولياء
الشيطان، ثم عاد إلى ما بدأ منه من قوله (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) توكيداً وتقريراً، ولما أراد أن يذكر اليهود جعل
قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ) مخلصاً إليه ثم قال (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ). اهـ
قال أبو حيان: إنما كان المراد بالشيطان على القولين الأولين نعيماً أو أبا سفيان
لأنه لا يكون صفة والمراد به إبليس، لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً
بالغلبة كالعيوق. اهـ
قال الحلبي: وفيه نظر. اهـ
(3/98)
قوله: (يقعون فيه سريعاً).
قال الطَّيبي: يشير إلى أنَّ (يسارعون) مضمن معنى يقعون، لأنَّ المسارعة تعدى بـ
(إلى). اهـ
قوله: (والمعنى: لا يحزنك خوف أن يضروك).
قال الطَّيبي: يعني ما أوقع فاعل (وَلا يَحْزُنْكَ) موصولة لتدل صلتها على علة
النهي بل أوقعه ليكني به عن إيصال المضرة لأنَّ من يرغب في الكفر سريعاً غرضه
مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم قتالهم ويدل عليه إيتاء قوله (لَنْ يَضُرُّوا
اللهَ شَيْئًا) رداً وإنكاراً لظن الخوف، وإلى هذا المعنى أشار صاحب المفتاح: ربما
جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على الخطأ. اهـ
قوله: (وفي ذكر الإرادة إشعار بأنَّ كفرهم بلغ الغاية أراد أرحم الراحمين أن لا
يكون لهم حظ من رحمته).
تبع فيه الكشاف حيث قال: فإن قلت هلا قيل: لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة، أي:
نصيباً من الثواب، ولهم بدل الثواب عذاب عظيم، وأي فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت:
فائدته الإشعار بأنَّ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف
قط حين سارعوا في الكفر تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية حتى إنَّ
أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم. اهـ قال الطَّيبي: السؤال والجواب مبني على
مذهبه، والسؤال من أصله غير متوجه لأنه عدول عن الظاهر، فإن قوله (يُرِيدُ اللهُ
أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) استئناف لبيان الموجب، كأنه قيل: لم يسارعون في
الكفر مع أنَّ المضرة عائدة إليهم؟ فأجيب: أنه تعالى يريد ذلك منهم فكيف لا
يسارعون. اهـ
قوله: (تكريراً للتأكيد).
قال الطَّيبي: أي هذه الآية والمتلوة قبلها سيان من حيث المعنى، فإن معنى
(يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) و (اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ) سواء، لأنَّ
المسارعة للرغبة والمشتري راغب في المشترى، و (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا)
مقابل لمثله، وقوله (يُرِيدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا
(3/99)
فِي الآخِرَةِ ... ) إلى آخره تلخيص قوله (وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ). اهـ
قوله: (أو المفعول الثاني على تقديره مضاف ... ).
قال الطَّيبي: قيل: إنما لم يجعله مفعولاً ثانياً بدونه لأنَّ التقدير كون الإملاء
خيراً لهم [فلا يصح حمله على (الذين كفروا) لأنك لا تقول (إن الذين كفروا)] على
الابتداء والخبر، ويجوز ذلك على حذف المضاف إما في الخبر أو في الابتداء لتصح
الجمل. اهـ
قوله: (الطِّول).
بكسر الطاء: الحبل الذي يُطّولُ للدابة فترعى فيه.
قوله: (واللام لام الإرادة).
قال السجاوندي: إرادة زيادة الإثم جائزة عند أهل السنة، ولا يخلو عن حكمة. اهـ
قوله: (وقرئ (أنما) بالفتح وكسر الأولى)
قال الطَّيبي: هذه القراءة شاذة، ومع ذلك غير مخالفة لمذهب أهل السنة، وتقريرها
أنها جارية على البعث على التفكر والنظر، فالمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أنَّ مطلق
الإملاء في حقهم لأجل الازدياد في الإثم والانهماك في الشر فقط حتى يسارعوا في
الكفر والإضرار بنبي الله فيهلكوا؛ بل قد يكون الإنظار للنظر المؤدي إلى الإنصاف
فيتداركهم الله بلطفه بالتوبة والدخول في الإسلام فيفلحوا قال الله تعالى
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، ونحوه قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، إنهم إذا نظروا إلى هذا الكلام
المنصف تركوا العناد
(3/100)
وأنصفوا من أنفسهم.
والفرق بين القولين أنَّ إملاء الله تعالى على قولهم مقصور على الإرادة للتوبة
مراعاة للأصلح، وعلى قولنا الإرادة كما أنَّها تتعلق بالتوبة تتعلق بازدياد الإثم.
اهـ
قوله: (روى أن الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منَّا بالله ومن
يكفر فنزلت).
أخرجه ابن جرير عن السدي.
قوله: (وعن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: عرضت علي أمتي وعلمت من يؤمن بي ومن
يكفر.
فقال المنافقون: إنه يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا، فنزلت).
لم أقف عليه.
قوله: (وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفاً لدلالة (يبخلون) عليه).
قال الطَّيبي: عن صاحب الكشاف: إنما يجوز حذف أحد مفعولي (حسب) إذا كان فاعل حسب
ومفعولاه شيئاً واحداً في المعنى كقوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا) على القراءة بالياء التحتية أي: لا يحسبن
الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً، وإنما حذفت لقوة الدلالة؛ وهذه الآية ليست كذلك فلا
بد من التأويل، وذلك أنَّ الموصولة اشتملت على (يبخلون) فالفاعل مشتمل على معنى
البخل فكان الجميع في حكم معنى واحد، ولذلك حذف، وإليه الإشارة بقوله: والذي سوغ
حذفه دلالة (يبخلون) عليه. اهـ
قوله: (والمعنى: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق).
قال الشيخ سعد الدين: إشارة أنَّ هذا تمثيل ولا طوق حقيقة، وقيل: هو على حقيقته
وأنهم يطوقون حية أو طوقاً من نار. اهـ
قوله: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله ... ) الحديث.
(3/101)
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، والترمذي والنسائي من حديث
ابن مسعود نحوه.
قوله: (وله ما فيها مما يتوارث).
قال الزجاج: إنَّ الله يغني أهلهما فيغنيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك، فخوطبوا
بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع للإنسان ميراثاً (إذا كان) ملكاً له. اهـ
قوله: (قاله اليهود لما سمعوا (من ذا الذي يقرض الله قرضاً)).
أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري.
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبى بكر إلى يهود بنى فينقاع ... )
الحديث.
أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه).
قوله: (والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب عليه)
قال الطَّيبي: يشير إلى أن قوله (سَمِعَ اللهُ) كناية تلويحية عن الوعيد لأن
السماع لازم العلم بالمسموع وهو لازم للوعيد في هذا المقام، فقوله: وأنه أعد لهم
عطف تفسيري على قوله: أنه لم يخف. اهـ
الشيخ سعد الدين: يعني أن الله سميع عليم بالمسموعات، فمعنى تخصيص هذا القول
بالذكر أنه أعد له عقاباً يناسبه على طريق الكناية. اهـ
قوله: (أي: وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا)
قال الطَّيبي: أي (ونقول) عطف على (سنكتب)، والباء في (بأن نقول) كالباء في (كتبت
بالقلم) أي: ننتقم منهم بواسطة هذا القول، ولن يوجد هذا القول إلاّ
(3/102)
وقد وجد العذاب وألمه، فالكلام فيه كناية. اهـ
قوله: (والذوق ... ) إلى آخره.
قال الزجاج: (ذوقوا) كلمة للذي يؤيس من العفو عنه، أي: ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص.
اهـ
قوله: (وعلى الاتساع ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: ناسب ذق في الاتساع للإدراك قوله (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) في
الاتساع من مزاولة الأعمال. اهـ
قوله: (عطف على (ما قدمت) وسببيته العذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل
المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء).
هو جواب سؤال مقدر وتقديره كما قال الطَّيبي: إنَّ الجهة الجامعة بين المعطوف
والمعطوف عليه واجب، وهي في قوله (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ
اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) مفقودة، لأنَّ الذي دل عليه المعطوف استحقاق
العذاب لكونه تعليلاً لقوله (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) وهذا كيف يتصور في قوله
(لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ)؟
وتقرير الجواب: أنَّ مفهوم الآية دل على أنه عادل، والعدل مستلزم لعقاب المسيء
وإثابة المحسن، كأنه قيل: ذلك العذاب بسبب فعلكم وبسبب أنَّ الله عادل لا يترك
معاقبة المسيء، فحصلت الجهة الجامعة. اهـ
قوله: (ولا ذاكر الله إلا قليلاً)
هو لأبي الأسود الدؤلي وصدره: فألفيته غير مستعتب.
وأول الأبيات:
رأيت امرئ كنت لم أبله ... أتاني فقال اتخذني خليلا
فخاللته ثم أكرمته ... ولم أستفد من لدنه فتيلا
فوافيته حين جربته ... كذوب اللسان سؤولاً بخيلا
فذكرته ثُمَّ عاتبته ... عتاباً رفيقاً وقولاً جميلا
(3/103)
فألفيته ... البيت.
قال الشيخ سعد الدين: الأصل (ذاكرٍ) بالتنوين مجروراً معطوفاً على (مستعتب) ولا
إضافة لأنَّ (الله) منصوب واسم الفاعل معتمد على النفي أو على المبتدأ في التقدير
كما تقول: أنت غير ضارب زيداً؛ أي: لا ضارب، والمعنى: ذكرته ما كان بيننا من
العهود والمودات وعاتبته أدنى عتاب فما وجدته طالباً رضاي، يقال: استعتبته
فأعتبني، أي: استرضيته فأرضاني. اهـ
قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر
النار).
أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
واستدرك عليه الشيخ ولي الدين العراقي بأنه ورد أيضاً من حديث أبي هريرة أخرجه
الطبراني في معجمه الأوسط.
قوله: (وعن النبى - صلى الله عليه وسلم -: من أحب أن يزحزح عن النار ... ) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو.
وقال الطَّيبي: الضمير المستتر في (يؤتى) راجع إلى ما.
في الأساس: أتى إليه إحساناً إذا فعله، أي: يحسن إلى الناس ما يحب أن يحسن إليه.
اهـ
قوله: (على المستام).
قال الطَّيبي: أي المشتري. اهـ
(3/104)
قوله: (متاع بلاغ).
قال الطَّيبي: (أي يبلغ بالدنيا إلى الآخرة). اهـ
قوله: (من معزومات الأمور ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: جعل المصدر في تأويل المفعول، وجمعه لإضافته إلى الأمور. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ العزم مصدر بمعنى المفعول أي المعزوم عليه،
والفاعل هو العبد بمعنى أنه يجب عليه أن يعزم على ذلك، أو الله أي: أراد وفرض،
وذكر المرزوقي أن حقيقة العزم: توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله، ولذلك لم
يجز على الله. اهـ
قوله: (أي: اذكر وقت أخذه).
قال الشيخ سعد الدين: يشعر بأنَّ (إذ) مفعول به لا ظرف إلا أن يكون المراد ذكر
الحادث وقت الأخذ. اهـ
قوله: (من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من النار).
أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجة من
حديث أنس، وأخرجه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمرو.
ولفظه: من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار.
قال الشيخ ولي الدين العراقي: ولم أجد في ألفاظه من كتم علماً عن أهله.
(3/105)
قوله: (وعن علي: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ
على أهل العلم أن يُعلموا).
قال الشيخ ولي الدين: رواه الثعلبي في تفسيره من طريق الحارث ابن أبي أسامة، وهي
في مسند الفردوس من حديثه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد).
قال الزجاج: العرب إذا طالت القصة تعيد (حسبت) وما أشبهها إعلاماً أنَّ الذي جرى
متصل بالأول وتوكيداً. اهـ
قوله: (ومفعولا (لا يحسبن) محذوفان).
قال السفاقسي: حذف المفعولين في باب (حسب) أسوغ من حذف أحدهما. اهـ
قوله: (أو المفعول الأول محذوف).
قال الشيخ سعد الدين: هذا إذا جعل التأكيد مجموع (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) أعني
الفعل والفاعل والمفعول، فإن جعل الفعل والفاعل على ما هو الأنسب إذ ليس المذكور
سابقاً إلا الفعل والفاعل فالضمير المنصوب المتصل بالتأكيد هو المفعول الأول ولا
حذف. اهـ
وأعاد أبو حيان منازعته السابقة في آية الشهداء من أن هذا الحديث عزيز عند الأكثر
وممنوع عند البعض فينزه عنه القرآن.
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شىء ... ) الحديث.
أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس بمعناه.
قوله: (وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ... ) إلى آخره.
أخرجه الشيخان عن أبي سعيد، وعبد بن حميد في تفسيره عن رافع بن خديج.
يقال: استحمد إليه؛ أي: طلب منه أن يحمده.
قوله: (فهو يملك أمرهم).
قال الطَّيبي: فيه تهديد لليهود، والفاء جواب شرط محذوف والمراد بالسماوات
(3/106)
والأرض جميع العالم، والتقدير: إذا كان مالك العالم وهو من
جملته وقادراً على كل شيء وهم بعض مقدوراته فيلزم أن يكون مالكاً لأمرهم وقادراً
على عقابهم. اهـ
قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها).
أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة.
قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام: من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله).
أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث معاذ.
قوله: (صل قائماً ... ) الحديث.
أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة حديث عمران بن حصين وليس فيه ذكر الإيماء.
قوله: (لا عبادة كالتفكير).
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن حبان في الضعفاء من حديث علي وضعفاه.
قوله: (بينما رجل مستلق على ... ) الحديث.
أخرجه أبو الشيخ ابن حيان والثعلبي من حديث أبي هريرة.
قوله: (غاية الإخزاء ونظيره قولهم من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك).
قال الطَّيبي: أي أدرك مرعى ليس بعده مرعى، والصمان: جبل. اهـ
(3/107)
وقال الشيخ سعد الدين: الأبلغية مستفادة من جعل الجزاء أمراً
ظاهر اللزوم للشرط بحيث لا فائدة في ذكره ما دام محمولاً على إطلاقه، فيحمل على
أخص الخصوص ليفيد. اهـ
قوله (لتضمنهما معنى الانتهاء).
أي انتهاء الغاية والاختصاص.
قال الطَّيبي: لأنَّ من انتهى إلى الشيء اختص به. اهـ
قوله: (أي: بأن آمنوا).
اقتصر على أنَّ (أن) مصدرية، وجوز الزمخشري أن تكون تفسيرية، ورجحه أبو حيان،
وعبارة الكشاف: أن آمنوا، أو: بأن آمنوا.
قال الطَّيبي: الأول: على أنَّ (أن) مفسرة، لأنَّ في (ينادي للإيمان) معنى القول،
والثاني: على أنَّ (أن) مصدرية وصلت بالأمر. اهـ
قوله: ((فاغفر لنا ذنوبنا) كبائرنا (وكفر عنا سيئاتنا) صغائرنا)
قال الطَّيبي: خولف بين معنييهما ليكون من باب التتميم والاستيعاب كقوله (الرحمن
الرحيم)، أو لأنَّ المناسب بالذنب الكبائر لأنه مأخوذ من الذَنُوب وهو الدلو
الملأى، ولأنَّ الشرك يسمى ذنباً ولا يسمى سيئة، ولأنَّ الغفران مختص بفعل الله
والتكفير قد يستعمل في فعل العبد يقال: كفر عن يمينه، ولأنَّها مقابلة للحسنة
لقوله تعالى (إنَّ الحسنات يذهبن السيئات) فلا شك أنها صغائر (1). اهـ
قوله: (مخصوصين بصحبتهم).
قال الطَّيبي: الاختصاص مستفاد من استعمال التوفي مع الأبرار، وذلك أن التوفي مع
الأبرار محال لأن بعضاً منهم تقدم وبعضاً لم يوجد، فالمراد: الانخراط في سلكهم على
سبيل الكناية، فإنه إذا كان منخرطاً في سلكهم لا يكون مع غيرهم. اهـ
قوله: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه).
__________
(1) قد ذكر فعل الغفران منسوباً للعبد في موضعين في سورة الجاثية في قوله تعالى
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ
لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وفي التغابن في قوله تعالى (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
لكن شتان بين فعل العبد وبين فعل الرب تبارك وتعالى. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة
الإلكترونية).
(3/108)
أخرجه الشيخان من حديث عبادة بن الصامت.
قوله: (والأبرار: جمع برّ أو بارّ كأرباب وأصحاب).
قال الشيخ سعد الدين: الجمهور على أنه لم يثبت جمع فاعل على أفعال، وأن أصحاب جمع
صحْب بالسكون أو صحب بالكسر مخفف صاحب بحذف الألف. اهـ قوله: (ويجوز أن يعلق علَى
محذوف تقديره: ما وعدتنا مُنَّزلاً على رسلك، أو محمولاً عليهم).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز لأنَّ القاعدة أنَّ معلق الظرف إذا كان كونا مقيداً لا
يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كوناً مطلقاً.
وقال أيضاً: فالظرف هنا حال وهو إذا وقع حالاً أو خبراً أو صفة أو صلة يتعلق بكون
مطلق لا مقيد. اهـ
وقال السفاقسي: للزمخشري أن يمنع انحصار التعلق في كونٍ مطلق بل به أو بمقيد إذا
كان عليه دليل، وليس نظير: زيد في الدار؟ أي: صاحبك، أي: لا دليل على صاحبك. اهـ
قوله: (وفى الآثار: من حزنه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف).
لم أقف عليه).
قوله: (أو لأنهما من أصل واحد ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يريد أنَّ (من) في قوله (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) إتصالية كما في
قوله: لست من دد ولا الدد مني، ثم الاتصال إما بحسب أنَّ أباكَم آدم، وهو المراد
بقوله: من أصل واحد، وإما بحسب محبتكم وخلتكم، وهو المراد بقوله: أو لفرط الاتصال
والاتحاد، وإما باعتبار الأخوة في الإسلام، وهو المراد بقوله: أو الاجتماع
والاتفاق في الدين. اهـ
قوله: (وهى جملة معترضة).
قال الحلبي: يعني بالاعتراض أنَّها جيء بها بين قوله (عَمَلَ عَامِلٍ) وبين ما فصل
به عمل
(3/109)
العامل من قوله (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا). اهـ
قوله: (روي أنَّ أم سلمة قالت: يا رسول الله إنى أسمع الله يذكر الرجل في الهجرة
ولا يذكر النساء، فنزلت).
أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديثها.
قوله: (تفصيل لأعمال العمال).
قال الطَّيبي: والمجمل هو العمل المضاف إلى عامل، وكان من حق الظاهر أن يقال:
فالمهاجرة حكمها كذا وتحمل مشقة الجلاء عن الأوطان كذا وتحمل أذى الكفار والمجاهدة
في سبيل الله بالقتال كذا، لأنَّ تفصيل العمل هذا فعدل عنها إلى إعادة ذكر العامل
بالموصول وإيقاع الأعمال صلة ليدل على العامل وعلى العمل مزيداً لتقرير تلك
الأعمال وتصويراً لتلك الحالة السنية تعظيماً للعامل وتفخيماً لشأنه.
ثم في بناء الخبر وهو قوله (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) على المسند
إليه الموصول مع إرادة القسم وتكرير اللام في (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) إشعار بَأن
هذه الكرامة لأجل تلك الأعمال الفاضلة والخصائل النابهة وأن لا بد من تحقيق كل من
هذين الوعدين على سبيل الاستقلال. اهـ
قوله: (والنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلاً للسبب منزلة المسبب).
قال الطَّيبي: السبب تقلبهم في البلاد، والمسبب التباس المغرور به، فنهى تقلبهم
لينتفي غروره به، يعني: لا تغتر بسبب تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالمال والمنال
فإنَّ ذلك في وشك الزوال، يعني: لا تكن بحيث إن شاهدت ذلك وقعت في الغرور، وهو على
منوال: لا أريتك هاهنا. اهـ
قوله: (ما الدنيا فى الآخرة ... ) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث المستورد بن شداد.
قال الشيخ سعد الدين: أي في جنبها وبالإضافة إليها، وهي حال عاملها معنى النفي،
(3/110)
وقد يقدر مضاف، أي: ما تقدير الدنيا واعتبارها، فهو العامل. اهـ
قوله: (قال أبو الشعراء الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا).
قال الطَّيبي: الجبار: الملك المتسلط، ضافنا: أي نزل بنا ضيفا، والباء في بالجيش
للتعدية أو المصاحبة، يقول: إذا جعل الجيش ضيفاً لنا أو إذا صار مع الجيش ضيفاً
لنا، والمرهفات: السيوف الباترات، جعل المرهفات نزلاً على التهكم. اهـ
قوله: (نزلت في ابن سلام وأصحابه).
أخرجه ابن جرير عن ابن جريج.
قوله: (وقيل فى أربعين من نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا
نصارى فأسلموا).
قوله: (وقيل في أصحمة النجاشي لما نعاه جبريل ... ) الحديث.
أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث جابر، والثعلبي والواحدي من حديث ابن عباس.
والعلج في الأصل: القوي الغليظ من الكفار.
وقال الشيخ سعد الدين: النجاشي بفتح النون وتخفيف الجيم والياء ساكنة. اهـ
وقال ابن الأثير في النهاية: الياء مشددة. وقيل: الصواب تخفيفها. اهـ
وقال الزركشي في نكت العمدة: نونه مفتوحة في المشهور، وزعم ابن دحية وابن السيد
أنه بكسرها أيضاً.
قال: وأصحمة: بالحاء المهملة والحبشة يقولوه بالخاء المعجمة.
(3/111)
وذكر مقاتل في نوادر التفسير من تأليفه أنَّ اسمه مكحول بن
صعصعة، توفي في رجب سنة تسع.
قوله: (وتخصيصه بعد الأمر بالصبر ... ).
قال الطَّيبي: لأنَّ المصابرة نوع خاص من الصبر، فهو من باب قوله (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ). اهـ
قولة: (من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة).
أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة نحوه.
قوله: (من رابط يوماً وليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه).
الحديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في المصنف من حديث سلمان بهذا اللفظ، وأصله عند
مسلم بمعناه.
قال الشيخ سعد الدين: كعدل: هو بالفتح: المثل من غير الجنس، وبالكسر: المثل من
الجنس. اهـ
قوله: (من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته
حتى تغيب الشمس).
أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس.
قوله: (من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آيهَ منها أماناً على جسر جهنم).
هذا من الحديث الموضوع الذي روي عن أبي بن كعب في فضائل القرآن سورة سورة وقد
نبَّه أئمة الحديث وحفاظه ونقاده قديماً وحديثاً على أنه موضوع مختلق على
(3/112)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعابوا على من أورده من
المفسرين في تفاسيرهم وها أنا أسوق نبذة من كلامهم في ذلك:
قال ابن الصلاح: روينا عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن
عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟
فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن
إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة.
وهكذا حال الحديث الطويل الذي روي عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
في سورة بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر
الوضع لبين عليه، ولقد أخطأ الواحدي المفسِّر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه
تفاسيرهم. اهـ
قال الحافظ ولي الدين العراقي في شرح الألفية: ومثال من كان يضع الحديث حسبة ما
رويناه عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي قاضي مرو فيما رواه الحاكم بسنده عن
أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل
القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟
فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن
إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة.
وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع، فقال أبو حاتم ابن حبان: جمع كل شيء إلا
الصدق.
وقال أبو عبد الله الحاكم: وضع حديث فضائل القرآن.
وروى ابن حبان في مقدمة تأريخ الضعفاء أنَّ ابن مهدي قال: قلت لميسرة بن عبد ربه:
من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا؟
قال: وضعتها أرغب الناس فيها.
وهكذا حديث أبي الطويل في فضائل قراءة سور القرآن سورة سورة فروينا عن المؤمل ابن
إسماعيل قال: حدثني شيخ به. فقلت للشيخ: من حدثك؟ فقال: حدثني رجل بالمدائن وهو حي
فصرت إليه فقلت: من حدثك؟ فقال حدثني شيخ بواسط وهو حي فصرت إليه فقال: حدثني شيخ
بالبصرة، فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بعبادان، فصرت إليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتاً
فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ فقال: هذا الشيخ حدثني.
(3/113)
فقلت: يا شيخ من حدثك؟ فقال: لم يحدثني أحد، ولكنّا رأينا الناس
قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن.
وكل من أودع حديث أبي المذكور تفسيره كالواحدي والثعلبي والزمخشري مخطئ في ذلك،
لكن من أبرز إسناده منهم كالثعلبي والواحدي والزمخشري فهو أبسط لعذره إذ أحال
ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه، وأما من
لم يبرز سنده وأورده بصيغة الجزم فخطؤه أفحش. اهـ
(3/114)
سورة النساء
(قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يعم بني آدم هـ.
ثم قال: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) عطف على خلقكم أي: خلقكم من شخص واحد وخلق
منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه أو محذوف تقديره: من نفس واحدة خلقها وخلق منها
زوجها).
أقول: الذي ذكره صاحب الكشاف أنه إذا كان الخطاب في (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) عاماً
فالعطف على محذوف، وإن كان خاصاً بالذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فالعطف على (خَلَقَكُمْ).
وقال ابن المنير: إنما قدر المحذوف حيث كان الخطاب عاماً لئلا يكون قوله (وَبَثَّ
مِنْهُمَا) تكرار لقوله (خَلَقَكُمْ) وهو معطوف عليه لا يصلح أن يكون بياناً له
وإنما هو معطوف على المقدر فذاك المقدر واقع صفة مبينة والمعطوف عليه داخل في حكم
البيان فلا يلزم التكرار في الوجه الثاني لخصوص الخطاب. اهـ
وتابع ابن المنير على هذا التقدير جماعة منهم السفاقسي.
وقال صاحب التقريب: إنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعاً للتكرار.
قال: ويحتمل أن يعطف على (خَلَقَكُمْ) من غير تخصيص (الناس)، ولا تكرار إذ لا يفهم
من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منها. اهـ
وكأنَّ المصنف لحظ ما لحظه صاحب التقريب من هذا الاحتمال فاقتصر على العموم في
(الناس) وجعل العطف على (خَلَقَكُمْ) المذكور على خلاف ما ذكره صاحب الكشاف وزاد
فبدأ به، كأنه لمح ما لمحه أبو حيان والحلبي حيث قالا: إن تقدير محذوف تكلف، ثم لم
يخل الكتاب من ذكره آخراً متمماً للفائدة بذكر كل ما قيل في التخريج.
قال الشيخ سعد الدين: قوله (يعم بني آدم) يريد الذكور والإناث لا الأبناء خاصة،
(3/115)
لكنه مبهم يحتمل أن يراد المجموع أو من بعث إليهم رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -. اهـ
قوله (وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة ... ) إلى آخره.
جواب سؤال تقديره: أنَّ الأصل في ترتيب الحكم على الوصف أن يكون ذلك الوصف مما له
صلاحية العلية، وهنا خلقهم من نفس واحدة كيف يصح أن يكون علة لقوله (اتقوا)؟
وحاصل الجواب: أنه دال على القدرة والنعمة وكل من الأمرين موجب للتقوى وداع إليها،
والمراد تقوى خاصة فيما يتعلق بحفظ حقوق ذوي الأرحام فقط، وعلى هذا لا يرد السؤال
لأنَّ المذكور موجب للحكم بلا تأويل. قاله الطَّيبي.
قوله: (بطرحها).
أي التاء الثانية.
قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ الثقل عندها يحصل، ولأن الأولى حرف مضارعة. اهـ
قوله: (وقرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة).
ذكر ابن عطية مثله فقال: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف
على حرف، ويرد هذه القراءة عندي وجهان:
أحدهما: أنَّ ذكر الأرحام فيما يتسأل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى،
ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتسأل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام
وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة.
والوجه الثاني: أنَّ في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها،
والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: من كان حالفاً فليحلف بالله
أو ليصمت. اهـ
وقال أبو حيان: ما ذهب إليه البصريون واتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية من امتناع
العطف على الضمير المجرور غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك أنه
(3/116)
يجوز، وقد أطلنا الاحتجاج على ذلك عند قوله تعالى (وَكُفْرٌ
بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... ) وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها
فأغنى ذلك عن إعادته.
وقول ابن عطية: يرد عندي هذه القراءة من المعنى به وجهان عبارة قبيحة لا تليق
بحاله ولا بطهارة لسانه إذ عهد إلى قراءة متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قرأ بها سلف الأمة واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت
وأقرأ الصحابة أُبي بن كعب رضي الله عنهم عمد إلى ردها بشيء خطر له في ذهنه،
وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء
وقراءاتهم، وحمزة أخذ القراءات عن سليمان بن مهران الأعمش وحمران بن أعين ومحمد بن
عبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله
إلاّ بأثر، وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقة في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة ولد سنة
ثمانين، وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأمَّ الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن
جماعة من نظرائه منهم سفيان الثوري والحسن بن صالح، ومن تلاميذه جماعة منهم إمام
الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي.
وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. قال:
وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه
القراءة فيسيء ظناً بها فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك، ولسنا متعبدين
بقوله نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، وكم حكم ثبت بنقل الكوفيين، وإنما يعرف
ذلك من له استبحار في علم العربية. اهـ
وقد خرج ابن جني قراءة حمزة هذه على تخريج آخر فقال في الخصائص: باب في أن
(3/117)
المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به، من ذلك
قوله: رسم دار وقفت في طلله؛ أي: رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟
يقول خيرٍ عافاك الله؛ أي: بخير، وتحذف الباء لدلالة الحال عليها بجري العادة
والعرف بها وعلى نحو هذا تتوجه قراءة حمزة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامِ) ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف
على ما رواه فيها أبو العباس [بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخف وألطف وذلك أنَّ
لحمزة أن يقول لأبي العباس]: لم أحمل الأرحام على العطف على المجرور المضمر بل
اعتقدت أن يكون فيه باء ثانية حتى كأني قلت: (وبالأرحام) ثم حذفت الباء لتقدم
ذكرها أيضاً في نحو قولك: بمن تمرر أمرر، فإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجر
لدلالة ما قبله عليه مع مخالفته في الحكم له في قوله:
وإني من قوم بهم تتقي العدا ... ورأب الثأي والجانب المتخوف
أي: وبهم رأب الثأي، فحذف الباء في هذا الموضع لتقدمها في قوله (بهم يتقي العدا)
وإن كانت حالاهما مختلفين، ألا ترى أن الباء في قوله (بهم يتقي العدا) منصوبة
الموضع لتعلقها بالفعل الظاهر الذي هو (يتقي) كقولك: بالسيف يضرب زيد، والباء في
قوله (وبهم رأب الثأي) مرفوعة الموضع عند (قوم) وعلى كل حال فهي متعلقة بمحذوف
ورافعة للرأب، ونظائر هذا كثيرة كان حذف الباء من قوله (والأرحام) لمشابهتها الباء
في (به) موضعاً وحكماً أجدر. اهـ
وقال ابن يعيش في شرح المفصل: ضعف أكثر النحويين قراءة حمزة (والأرحام)
(3/118)
نظراً إلى العطف على المخفوض، وقد ردها أبو العباس المبرد وقال:
لا تحل القراءة بها، وهذا القول غير مرضي منه لأنه قد رواها إمام ثقة فلا سبيل إلى
رد نقل الثقة، مع أنه قد قرأ بها جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس
وإبراهيم النخعي والأعمش والحسن البصري وقتادة ومجاهد، فإذا صحت الرواية لم يكن
سبيل إلى ردها، ويحتمل غير العطف على المكنى المخفوض وهو أن يكون اعتقد أنَّ فيه
باء ثانية حتى كأنه قال: وبالأرحام؛ ثم حذف الباء لتقدم ذكرها نحو قولك: بمن تمر
أمر وعلى من تنزل أنزل، وقد كثر عندهم حذف حرف الجر، وقد مشى عليه أيضاً الزمخشري
فقال في أحاجيه: ومحمل قراءة حمزة (تسألون به والأرحام) على حذف الجار سديد لأن
هذا المكان قد شهر بتكرير الجار فقامت الشهرة مقام الذكر. اهـ
قوله: (وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر).
قال الشيخ سعد الدين: لأن المعطوف على الصلة لا يكون إلا جملة بخلاف ما إذا قلت:
زيد راكب وذاهب. اهـ
قوله: (تقديره: والأرحام كذلك ... ) إلى آخره.
قال الزمخشري: لما علم واشتهر بدليل الاستقراء والقياس لم يخف على أحد أنه لا بد
منه إما منطوقاً به وإما مقدر، والمقدر إما: مما يتقى؛ بدليل قراءة النصب، وإما:
يتسأل به؛ بدليل قراءة الجر.
قوله: (وعنه عليه السلام: الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعنى
قطعه الله)
أخرجه الشيخان من حديث عائشة - رضي الله عنها.
قوله: (لما جرى مجرى الأسماء ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس في اللغة جمع فعيل على فعالى بل على فعال وفعلاء
وفعلى وفعل ككرام وكرماء ونُذُر ومرضى، فيتامى: جمع يتمى، وهو جمع يتيم كما
(3/119)
يجمع أسير على أسرى ثم على أسارى فيمن فتح الهمزة، أو مقلوب
يتائم جمع يتيم فإن فعيلاً إذا كان اسماً يجمع على أفاعل كأفيل وأفايل، وقلَّ ذلك
في الصفات، لكن اليتيم أجري مجرى الأسماء كصاحب وفارس، ولهذا قل ما يذكر معها
الموصوف، وقد ورد الأصل في قول الشاعر:
أأطلال حُسن بالبراق اليتائم ... سلامٌ على أحجار كن القدائم.
والقدائم أيضاً مما جرى مجرى الأسماء لكن ذكر الموصوف معها يأبى التأويل. اهـ
قوله: (لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ).
أي عرف الشرع.
قال الطَّيبي: هو من المنقولات الشرعية لحديث: لا يُتم بعد احتلام. اهـ
قوله: (أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر حثاً على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم).
قال الطَّيبي: يعني سموا اليتامى وإن لم يكونوا يتامى مجازاً لاعتبار معنى لطيف
وهو أن لا يؤخر الإيتاء عن البلوغ، ويسمى هذا الفن في الأصول بإشارة النص وهو: أن
يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر. اهـ
قوله: (روي أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب
المال منه فمنعه فنزلت، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من
الحوب الكبير).
زاد في الكشاف: فدفع ماله إليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ومن يوق شح
نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره يعني جنته.
فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ثبت الأجر وبقي الوزر. قالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر
وهو ينفق في سبيل الله؟
(3/120)
فقال: ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده.
قال الشيخ ولي الدين العراقي: رواه الثعلبي والواحدي من قول مقاتل والكلبي. اهـ
قال الطَّيبي: يعني جمع الوالد المال إما من الحرام فعليه الظلامة وإما من الحلال
فعليه تبعة الحساب والوزر إن منع من حقوق الله شيئاً. اهـ
قوله: (اختزال أموالهم).
أي اقتطاعه.
قوله: (وهذا تبدل وليس بتبديل).
قال الشيخ سعد الدين: لأن معنى تبدلت هذا بذاك: أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت،
ومعنى بدلت هذا بذاك: أخذت ذاك وأعطيت هذا؛ قال الله تعالى (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ ... )، فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد كان هذا إعطاء الخبيث
وأخذ الطيب لا أخذ الخبيث وترك الطيب ليكون تبدل الخبيث بالطيب، وسيجيء في قوله
تعالى (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) المعنى: لا أحد يبدل شيئاً من ذلك بما هو
أصدق، فالحاصل أنَّ في التبدل ما دخلته الباء متروك وما تعدى إليه الفعل بنفسه
مأخوذ، وفي التبديل بالعكس، نعم للتبديل استعمال آخر يتعدى إلى المفعولين بنفسه
مثل (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، (فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا) بمعنى: يجعل الحسنات بدل السيئات، ويعطيهما بدل
ما كان لهما خيراً منه، وآخر يتعدى إلى مفعول واحد مثل: بدلت الشيء: غيرته (فَمَنْ
بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ)، وآخر يتعدى إلى المفعولين بنفسه وإلى البدل عنه بالباء
أو (من)، مثل: بدله بخوفه
(3/121)
ومن خوفه أمنا، ومنه (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ). اهـ
قال الطَّيبي: قال الجوهري: تبديل الشيء: تغييره وإن لم يأت ببدل، واستبدلت الشيء
بغيره، وتبدله به: إذا أخذه من مكانه.
في الأساس: بَدَّلَ الشيءَ: غيَّره، وتبدلت الدار بأنسها وحشاً، واستبدلت.
فمعنى التبديل: التغيير، وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء، وفي طلب ما ليس عنده وترك
ما عنده، هذا معنى قول الجوهري: تبديل الشيء بغيره وإن لم يأت ببدل.
ومعنى التبدل: الاستبدال، والاستبدال: طلب البدل، فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل
تبدلاً فقوله: ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، وقوله: أو لا
تستبدلوا الأمر الخبيث -وهو اختزال أموالهم- بالأمر الطيب الذي هو حفظها؛ ليس
فيهما أخذ شيء وإعطاء شيء بدله بل هو طلب شيء ليس عنده وترك ما عنده [يدل عليه
قوله: وما أبيح لكم من المكاسب، فعلى هذا قوله: إلا أن يكارم صديقاً له؛ استثناءٌ
متصل من قوله: إنما هو تبديل، فتقدير الكلام أن يقال:] جعل شاة مهزولة مكان سمينة
تبديل لأنه أخذ شيء وإعطاء شيء آخر، وليس بتبدل الذي هو ترك شيء وأخذ شيء بدله.
اهـ
قلت: ولا يتمشى ظاهر كلام البيضاوي على هذا التقرير، فإن ظاهره أنَّ الإشارة بهذا
إلى هذا الأخير -على أنه قدح فيه- مستأنف من كلام المصنف حيث قال: وقيل: ولا
تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها، وهذا تبدل وليس بتبديل، والطَّيبي
قرر ضد ذلك فإن جُعلت الإشارة إلى التقدير الأول الذي قبل (وقيل تقسيمه) وجُعلت من
تتمة المقول بقيل وافق ما قرره الطيبي.
قوله: (أي: إن خفتم أن لا تعدلوا ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فسر صاحب الكشاف هذه الآية بوجوه ثلاثة، وقدر الشرط والجزاء على ما
يعطيه الوجه من المعنى: أولها: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها
فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقللوا عدد المنكوحات، وثانيها: إن خفتم الجور
في
(3/122)
حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حلَّ لكم من النساء ولا
تحوموا حول المحرمات، وثالثها: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من
غيرهن ما طاب لكم.
قال صاحب الانتصاف: هذا أظهر والآية معه تكملة لبيان حكم اليتامى وأمر بالاحتياط
وأنَّ في غيرهن متسع، ويؤيده (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ
يُفْتِيكُمْ ... ) الآية فتتطابق الآيتان، وعلى التأويلين الأوليين لا يتطابقان
ولأنَّ الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام، أما الأول: فلأنَّ الجور على
النساء في الحرمة كالجور على اليتامى، وأما الثاني: فلأن الزنا محرم كما أن الجور
على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فلا خصوصية تربط الجواب كخصوصية
الثالث.
قلت: ولهذا صدر المؤلف بالثالث إشارة إلى ترجيحه.
ثم قال ابن المنير: ثم ظاهر قوله (مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) أنه توسعة عليهم
كأنه قيل: إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع، وعلى الأول هو تضييق كأنه قال:
إن خفتم من الجور في اليتامى فخافوا من الجور في النساء فاحتاطوا في عدد المنكوحات
فينافي التوسعة ووجه الإشعار بالتوسعة إطلاق (مَا طَابَ)، ثم في قوله تعالى
(مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) بياناً لما وقع إطلاقه فلو أراد التضييق كان البدأة
بالتقييد أنسب، وفي لفظ الطيب إشعار بالترخص ولما خاف من التوسعة الميل قال
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً).
قال الطَّيبي: هذا تقرير لا مزيد عليه. اهـ
قوله: (روي أن الله تعالى لما عظم أموال اليتامى -إلى قوله- فنزلت).
أخرجه ابن جرير.
قوله: (وإنما عبر عنهن بـ (ما) ذهاباً إلى الصفة).
قال الطَّيبي: اعلم أنه قد تقرر أن (ما) لا تستعمل في ذوي العقول، وإذا استعملت
فيهم أريد الوصف نحو قوله: سبحان ما سخركن لنا، وتخصيصه بحسب المقام، والذي يقتضي
(3/123)
هذا المقام من الوصف هو ما يشعر به نفي الحرج والتضييق كما
ينبيء عنه الوجه الذي اختاره صاحب الانتصاف، فالمعنى: إن خفتم أن لا تقسطوا في
يتامى النساء لما في تزوجهن مع كلفة حق الزوج مراعاة حقوق اليتامى من القيام في
أموالهن وجبران قلوبهن بسبب اليتم فانكحوا الموصوفات بغير ذلك لينتفي ذلك الحرج
وتطيب به نفوسكم، فأسند (طاب) إلى الضمير الراجع إلى ما المفسر بالنساء. اهـ
قوله: (ونظيره (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)).
قال الزمخشري: لم يقل (من ملكت) لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير
العقلاء وهم الإناث. اهـ
قوله: (وقيل: لتكرير العدل).
قال أبو حيان: هذا قاله الزمخشري ولا أعلم أحداً قاله، فإن المذاهب المنقولة في
علة منع صرفها أربعة:
أحدها: قول سيبويه والخليل وأبي عمرو إنه العدل والوصف.
والثاني: قول الفراء إنَّها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام فهي ممتنعة
الإضافة لنية الألف واللام، ومنع ظهور الألف واللام كونها في نية الإضافة.
والثالث: ما نقل عن الزجاج أنَّها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة
أربعة وأنه عدل عن التأنيث.
والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرر العدل
فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعن معناه، وذلك أنه لا يستعمل في موضع يستعمل فيه
الأعداد غير المعدولة، تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث حتى
يتقدم قبله جمع لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل، فإذا قال: جاء القوم مثنى
أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين، فأما الأعداد غير المعدولة فإنما الغرض
منها الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره فقد بَانَ بما ذكرنا اختلافهما في المعنى
فلذلك جاز أن تقوم العلة
(3/124)
مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين.
قال أبو حيان: وما قاله الزمخشري ليس شيئاً من هذه العلل المنقولة. اهـ
قال الحلبي: وقد يقال إنه المذهب الرابع، وعبر عن العدل في المعنى بعدلهما عن
تكرارها. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: تحقيق العدلين أنها أخرجت عن أوزانها الأصلية إلى أوزان
أخر، وعن تكرارها إلى التوحيد؛ فإن ذلك أيضاً تغيير للصيغة نظراً إلى المجموع.
وما ذكره المصنف عائد إلى ما ذهب إليه ابن السراج أن فيها عدلين لفطاً ومعنوياً،
لأن مثنى معدول عن لفظ اثنين وعن معناه أعني الاثنين مرة واحدة إلى معنى اثنين
اثنين. اهـ
وزاد السفاقسي في علة منع الصرف خامساً وهو: [العدل من غير جهة العدل، لأن باب
العدل أن يكون في المعارف، وهذا عدل في النكرات، وسادساً]: العدل والجمع لأنه
يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع، وقال: زاد هذين ابن الصائغ في شرح الجمل.
قوله: (منصوبة على الحال من فاعل (طاب)).
قال الشيخ سعد الدين: لا من (النساء) إذ لا معنى له، وإنما المعنى تقييد نكاح ما
طاب بكونها معدودات هذا العدد ومفصلات هذا التفصيل، نعم لو جعلت (من) بيانية لا
تبعيضية لم يبعد جعلها حالاً من النساء لكن الظاهر هو التبعيضية. اهـ
قوله: (اقتسموا هذه البدرة ... ).
في الصحاح: البدرة: عشرة الآف درهم.
وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الدال المهملة وراء.
(3/125)
قوله: (فالمقنع ... ).
هو ما يقنع به.
قوله: (وفسر بأن لا تكثر عيالكم، على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم،
فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية).
عبارة الكشاف: والذي يحكي عن الشافعي أنه فسر (أَلاّ تَعُولُوا) أن لا تكثر عيالكم
فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق
عليهم، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب المحافظة على حدود الورع
وكسب الحلال والرزق الطيب، وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين
حقيق بالحمل على الصحة والسداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روي عن
عمر رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً،
وكفى بكتابنا المترجم بكتاب (شافي العي من كلام الشافعي) شاهداً بأنه كان أعلى
كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفي عليه مثل هذا ولكن للعلماء طرقاً
وأساليب فسلك في تفسير هذه الكلمة طريق الكنايات. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: قصد بذلك الرد على صاحب إيجاز البيان في التفسير حيث شنع على
الشافعي رضي الله عنه، وزعم أنه لم يعرف في هذا الموضع الفقه واللغة ولم يفرق بين
عال وأعال، فبين المصنف أنَّ المخَطِّئ مخطئ لأنَّ للقول محملاً صحيحاً وللقائل
رتبة عالية متعال عن أن يخفي عليه مثل هذا، على أنَّ التفسير منقول عن زيد بن أسلم
وهو تابعي، وعال بمعنى كثر عياله منقول عن الكسائي والأصمعي، والمُخَطِّيءُ راجل
في العلوم جاهل بأساليب الكلام. اهـ
قوله: (لجواز العزل فيه ... ).
المشهور في المذهب جواز العزل مطلقاً في الزوجة والأمة بإذن وبغير إذن.
قوله: (ونصبها على المصدر لأنها فى معنى الإيتاء).
(3/126)
قال الطَّيبي: فهي مصدر للنوع وضعت موضع إيتاء. اهـ
قوله: (الضمير ... ).
أي في (منه) وكان الأصل (منها) لعوده إلى (صَدُقَاتِهِنَّ) لكنه راعى المعنى وهو
صَدُقَاتِهِنَّ.
قوله: (أراد كأن ذاك ... ).
قال الشيخ سعد الدين: مشيراً إلى الخطوط. اهـ
قوله: (وقال (منه) بعثاً لهن على تقليل الموهوب).
قال الطَّيبي: لدلالة (شيء) منكراً تنكير تقليلٍ عليه، اهـ
قوله: (أقيمتا مقام مصدريهما).
قال أبو حيان: حَرَّفَ قول النحاة في ذلك، وتحريفه أنه جعلهما أقيمتا مقام المصدر
فانتصابها على هذا انتصاب المصدر، ولذلك قال الزمخشري: كأنه قيلِ هنأ مرأ فصار
كقوله سقياً ورعياً، والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال ومريئاً إما على
الحال وإما على الوصف، ويدل على فساد ما خرجه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع
الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر المراد بها
الدعاء لما جاز ذلك فيها، تقول: سقياً لك ورعيا، والدليل على جواز رفع الأسماء
الظاهرة بعدهما قول الشاعر:
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من أعراضنا ما استحلت.
فـ (ما) مرفوع بما تقدم من هنيئاً أو مريئاً على طريق الإعمال، وجاز الإعمال في
هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لـ
هنيئاً فصار كأنهما مرتبطان لذلك. اهـ
وقال الحلبي: في عبارة سيبويه ما يرشد لما قاله الزمخشري فإنه قال: هنيئاً مريئاً
صفتان
(3/127)
نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره
المختزل لدلالة الكلام عليه؛ كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً.
فأول العبارة تساعد الزمخشري، وآخرها -وهو تقديره بقوله كأنهم قالوا: ثبت ذلك
هنيئاً- يعكر عليه. اهـ
وقال السفاقسي: لا يتم الاستدلال عليه بالبيت لجواز أن تكون (ما) مرفوعة
بالابتداء، أو أخر الخبر، أو مرفوعة بفعل مقدر. اهـ
قوله: (أو وصف بهما المصدر، أو جعلتا حالاً من الضمير).
قال السفاقسي: كلاهما فاسد لأنَّ مذهب سيبويه والجماعة أنه حال قائمة مقام فعل
محذوف، فهي من جملة أخرى لا تعلق لها بـ (كلوه) من حيث الإعراب. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: وصف المصدر بهما على الإسناد المجازي، إذ الهنيء حقيقة هو
المأكول. اهـ
قوله: (روي أن ناساً تأثموا ... ) إلى آخره.
وفي الصحاح: تأثم: خرج عن الإثم وكف.
كتحرج خرج من الحرج.
قوله: (وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: أضاف الأموال إلى اليتامى في قوله (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)
ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف
فيهما، فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في رد الأموال
إليهم فاقتضى ذلك أن يقال (أموالهم)، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا
يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم
فأضافها إلى الأولياء. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لأنَّها لم يقصد بها الخصوصية الشخصية بل الجنسية التي في
معنى ما تقام به المعايش وتميل إليه القلوب ويدخر لأوقات الاحتياج؛ وهو بهذا
المعنى لا يختص
(3/128)
بالسفهاء كما قال (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قصد إلى جنس
النفوس دون خصوصيات أنفس المخاطبين، وقال (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ) قصد إلى جنس الإيمان وجنس الإماء إذ المعنى على الأمر بنكاحهم
مملوكاتهم. اهـ
قوله: (اجعلوها مكاناً لرزقهم ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: جعل الأموال نفسها ظروفاً للرزق، فيلزم أن يكون الإنفاق من الربح لا
من المال الذي هو الظرف، ولو قيل (منها) كان الإنفاق من المال. اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسَّلام: إذا استكمل المولود خمسة عشر سنة كتب ما له
وما عليه وأقيمت عليه الحدود).
أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس وقال: إسناده ضعيف.
قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام أن رجلاً قال له: إن في حجري يتيماً أفآكل من
ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالآ ولا واق مالك بماله.)
أخرجه الثعلبي من حديث ابن عباس بلفظه، وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه.
والتأثل: اتخاذ المال أثلة أي أصلاً.
قوله: (أو على الاختصاص)
أنكره أبو حيان فإن شرطه أن لا يكون نكرة.
(3/129)
قوله: (روي أنَّ أوس بن الصامت الأنصاري خلف زوجته أم كُحَّة
وثلاث بنات ... ).
الحديث أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في تفسيره عن ابن عباس بطوله لكن سماه أوس بن
ثابت وقال: ترك ابنتين وابناً صغيراً. وسمى ابني عمه خالداً وعرفطة، وقال في آخره:
فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين، وليس فيه مسجد الفضيخ.
وقال الشيخ سعد الدين: في الكتب المعتبرة والروايات الصحيحة أوس بن ثابت وهو أخو
حسان بن ثابت استشهد بأُحد. اهـ
وفي ذلك نظر لأنه لو كان أخا حسان لم يكن لابني العم مع الأخ سبيل، وفي الإصابة
للحافظ ابن حجر: ذكر ابن مندة أن أوس بن ثابت هذا أخو حسان وهو خطأ لأن أوساً ليس
له أحد من إخوته ولا من أعمامه من يسمى عرفطة ولا خالداً. اهـ
وفي الاستيعاب لابن عبد البر ذكر أوس بن ثابت أخا حسان وأنه قتل يوم أحد، وذكر أوس
بن الصامت بن أصرم بن فهر بن ثعلبة الأنصاري شهد بدراً والمشاهد كلها وبقي إلى زمن
عثمان وهو الذي ظاهر من امرأته، ولم يذكر في الصحابة أحد يسمى أوس بن الصامت غيره،
وذكر ممن توفي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أوس بن الأرقم واستشهد يوم
أحد، وأوس بن حبيب الأنصاري قتل بخيبر شهيداً، وأوس بن عائذ قتل يوم خيبر، وأوس بن
الفاكه الأنصاري من الأوس قتل يوم أحد شهيداً.
زاد صاحب أسد الغابة: أوس بن عباد استشهد يوم خيبر، وأوس بن معاذ بن أوس الأنصاري
استشهد يوم بئر معونة، وأوس بن المنذر النجاري استشهد يوم أحد.
وزاد الذهبي في التجريد: أوس بن قتاده استشهد يوم خيبر.
فلعل النازل فيه الآية أحد هؤلاء، ثم قال الحافظ ابن حجر: وقد رواه مقاتل في
تفسيره فقال: إنَّ أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كُحَّة وبنتين وذكر
القصة.
وقال في موضع آخر من الإصابهّ: اختلف في اسم الميت فقيل: أوس بن ثابت، وقيل أوس بن
مالك، وقيل: ثابت بن قيس، وأما المرأة فلم يختلف في أنها أم كُحَّة بضم
(3/130)
الكاف وتشديد الحاء المهملة إلا ما حكى أبو موسى المديني عن
المستغفري أنه قال فيها: أم كحلة بسكون المهملة بعدها لام، وإلا ما روي عن ابن
جريج أنها بنت كحة، فيحتمل أن تكون كنيتها وافقت اسم أبيها، وأما ابنتها ففي رواية
ابن جريج أنها أم كلثوم. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: ورُوى بالزاي: جمع وقبض، ومسجد الفضيخ بالضاد والخاء
المعجمتين لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة لأنهم كانوا يرضخون النوى،
والرضخ والفضخ من واد واحد، ولا يوجد في كتب اللغة من الفضخ سوى أنه نبيذ يتخذ من
البر المفضوخ من فضخ البطيخة: شدخها، فقيل صار اسماً لموضع بالمدينة كانوا يفضخون
فيه البسر. اهـ
قوله: (على معنى: وَلْيَخْشَ الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية
ضعافاً خافوا عليهم الضياع).
قال الطَّيبي: يعني في إيقاع (لو) مع جوابه وهو (خَافُوا) صلة للموصول مزيد تقرير
للخشية، كأنه قيل: وليخش الذي حقه الخشية، والأصل: وليخش الوصي أو من حضر المريض
أو الوارث؛ فعدل إلى المذكور ليتصور تلك الحالة الصعبة ويستحضرها في نفسه فيرتدع.
اهـ
وقال ابن المنير: إنما أوجب إضمار شارفوا قوله (خَافُوا عَلَيهم)، والخوف يكون قبل
تركهم إياهم وإلا فكان يلزم تقدم الجواب على الشرط وهو كقوله (فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ) أي شارفنه، وفائدته: التخويف بالحالة التي لا مطمع
معها في الحياة ولا الذب عن الذرية الضعاف. اهـ
قوله: (ظالمين أو على وجه الظلم).
قال الطَّيبي: أي هو حال أو تمييز. اهـ
وقال أبو البقاء: (ظلماً) مفعول له، أو مصدر في موضع الحال. اهـ
(3/131)
قوله: ((في بطونهم) ملء بطونهم).
قال الطَّيبي: أي وضع هذا مكان ذاك وفائدته المبالغة كأنه جعل بطونهم مكان النار
ومستقرها، والدليل على أن المراد ملء بطونهم قوله: في بطنه وفي بعض بطنه. اهـ
قوله: (وعن أبي برزة أنه عليه الصلاة والسلام قال: يبعث اللهُ قوماً من قبورهم
تأجج أفواههم ناراً).
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده وابن أبي حاتم في تفسيره وابن حبان في صحيحه.
قوله: (يُوصِيكُمُ اللهُ) يأمركم ويعهد إليكم).
قال الراغب: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل فيه مقترناً بوعظ، من قولهم أرض
واصية متصلة النبات.
قوله: (وهو إجمال تفصيله (لِلذَّكَرِ ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ الجملة في موقع التفصيل والبيان لا مفعول
(يُوصِيكُمُ) باعتبار كونه في معنى القول أو الفرض أو الشرع. اهـ
قوله: (والمعنى: لِلذَّكَرِ منهم).
قال الشيخ سعد الدين: ليحصل الارتباط ويصح البيان. اهـ
قوله ((فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر ثان).
قال أبو حيان: هذا مردود؛ للاحتياج إلى هذه الصفة، لأنَّ الخبر لابد أن يستقل به
فائدة الإسناد ولو اقتصر على قوله (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) لم
يفد شيئاً لأنه معلوم. اهـ
وقال السفاقسي: جعله خبراً على معنى: فإن كانت البنات أو المولودات نساءً خلصاً
ليس معهن رجل وهو مقيد. اهـ
قوله: (بدل منه بتكرير العامل).
(3/132)
قال ابن المنير: في إعرابه بدلاً نظر؛ إذ يكون من بدل الشىء من
الشيء وهما لعين واحدة فيصير الكلام: والسدس لأبويه لكل واحد منهما، ومقتضى
الاقتصار على المبدل منه اشتراكهما في السدس، ومقتضى البدل إفراد كل واحد منهما
بالسدس وهو تناقض لأن فائدة البدل توكيد مجموع الاسمين خاصة إذا تعذر البدل قدرنا
مبتدأ محذوفاً تقديره: ولأبويه الثلث ثم فصله بقوله (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ)، ودل التفصيل على المبتدأ المحذوف، ويستقيم هذا على جعله من بدل
التقسيم كقولك: الدار لثلاثة لزيد ثلثها ولعمرو ثلثها ولبكر ثلثها، ولا يستقيم ذلك
على الأول. اهـ
قال أبو حيان: قال أبو البقاء: (السُّدُسُ) رفع بالابتداء، و (لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا) الخبر، و (لِكُلِّ) بدل من الأبوين، و (مِنْهُمَا) نعت لـ (وَاحِدٍ).
قال أبو حيان: وهذا البدل هو بدل بعض من كل ولذلك أتى بالضمير، ولا يتوهم أنه بدل
شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع: أبواك كل واحد منهما
يصنعان، بل تقول: يصنع كذا.
قال: وفي قول الزمخشري: و (السُّدُسُ) مبتدأ وخبره (وَلِأَبَوَيْهِ) نظر، لأن
البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه كما مثلنا في قولك: أبواك كل واحد
منهما يصنع كذا إذا أعربنا كلاً بدلاً وكما تقول: إن زيداً عينه حسنة، فكذلك ينبغي
أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغني عن جعل المبدل
منه خبراً بالبدل كما استغني عن الإخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالإخبار عن
البدل. اهـ
قال الحلبي: في هذه المناقشة نظر، لأنه إذا قيل لك: ما محل (وَلِأَبَوَيْهِ) من
الإعراب، تضطر إلى أن تقول: في محل رفع خبراً مقدماً، ولكنه نقلَ نسبة الخبرية إلى
(لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) دون (وَلِأَبَوَيْهِ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تقرير قوله والسدس مبتدأ: يعني لا حاجة إلى أن يجعل
(وَلِأَبَوَيْهِ) خبر مبتدأ محذوف، أي: لأبويه الثلث؛ ثم بين قسمة الثلث عليهما
بقوله (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) دفعاً لوهم أن يكون للأب ضعف ما
للأم، وذلك أن الحكم المعلق بالشيء أو المجموع قد يقصد تعلقه بالمجموع وقد يقصد
تعلقه بكل فرد، فبين بالبدل أنَّ القصد إلى الثاني وبهذا يندفع ما يقال إنَّ البدل
ينبغي أن يكون بحيث لو أسقط استقام الكلام معنى، وها هنا لو قيل: لأبويه السدس؛ لم
يستقم. اهـ
(3/133)
قوله: ((وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) فحسب).
قال الشيخ سعد الدين في هذا: بقرينة المقام وسياق الكلام لا بدلالة اللفظ. اهـ
قوله: (وإنما قل بأو التي للإباحة ... ).
قال الطَّيبي: كذا عن الزجاج قيل: وفيه نظر لأنه مخالف لما في المفصل: (أو) في
الخبر للشك، وفي الأمر للتخيير والإباحة، وجوابه أن الخبر هنا في معنى الأمر لما
سبق أن معنى (يُوصِيكُمُ اللهُ): يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم.
اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: المراد بالإباحة هنا التسوية وعدم اختلاط الحكم سواء كان
ذلك في الأمر أو في غيره، فلا حاجة إلى ما يقال إن الخبر هاهنا بمعنى الأمر. اهـ
قوله: (روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر سأل أن يرفع إليه فيرتفع
إليه بشفاعته).
أخرجه الطبراني في الكبير وابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: إذا
دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك،
فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به.
قوله: (فهو اعتراض).
قال الحلبي: يعني بالاعتراض أنَّها واقعة بين قصة المواريث إلا أن هذا الاعتراض غير
مراد النحويين لأنهم لا يعنون بالاعتراض في اصطلاحهم إلا ما كان بين شيئين
متلازمين كالاعتراض بين المبتدأ وخبره والشرط وجزائه والقسم وجوابه والصلة
وموصولها. اهـ
قوله: (مصدر مؤكد).
قال الشيخ سعد الدين: أي لمضمون الجملة السابقة، لأن معنى (يُوصِيكُمُ اللهُ): يفرض
لكم. اهـ
وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، لأن (فَرِيضَةً) ليست مصدر. اهـ
قوله: (أي يورث منه).
(3/134)
قال الطَّيبي: يعني هو من الثلاثي لا من المزيد. اهـ
قوله: (و (كَلالَةً) حال -إلى قوله- أو مفعول).
قال الطَّيبي: فإن قلت لم يجز على هذا أن يكون (يُورَث) صفة (رجل) و (كَلالَةً)
خبر (كَانَ) كالأول؟ قلت: لا يجوز لأنَّ التركيب حينئذ مشابه لباب التنازع لأنَّ
(كَانَ) الناقصة تستدعي خبراً و (مفعولاً به، ولما كانت الكلالة أقرب إلى (يُورث)
فالأصح إعماله فيه فلا يبقى لـ (كَانَ) خبر، ولا يصح أن يقدر (كَلالَةً) مثل المذكور
لأن (كَلالَةً) إذا كانت مفعولاً به فالرجل حينئذ من ليس بوالد ولا ولد، وإذا كانت
خبراً لـ (كَانَ) فالرجل من لم يخلف ولداً ولا والداً فهذا خلف، فعلم أن (كَانَ)
إذا كانت تامة جاز ذلك، وبه قال أبو البقاء: (كَانَ) هي التامة، و (رجل) فاعلها
صفة له، و (كَلالَةً) حال من الضمير في (يُورَث)، والكلالة على هذا اسم للميت الذي
لم يترك ولداً ولا والداً. اهـ
قوله: (قرئ (يُورِثُ) على البناء للفاعل).
قال الطَّيبي: أي يورث رجل الوارث المال، فحذف المفعولين، إلا أن يقال الكلالة
مفعول (يورث). اهـ
قوله: (قال الأعشى: فآليت لا أرثى لها من كلالة)
هو من قصيدة يمدح بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الوفادة عليه فصدته
قريش عن ذلك وأخبروه أنه يحرم الخمر، وأولها:
ألَمْ تَغتَمِضْ عَيناكَ لَيلَة َ أرْمَدَا ... وبت كما بات السليم مسهدا
وَمَا ذاكَ مِنْ عِشْقِ النّسَاءِ وَإنّمَا ... تَناسَيتَ قَبلَ اليَوْمِ خُلّة َ
مَهدَدَا
وَلكِنْ أرى الدّهرَ الذي هوَ خاتِرٌ ... إذا أصلحتْ كفايَ عادَ فأفسدا
شبابٌ وشيبٌ، وافتقارٌ وثروة ٌ ... فلله هذا الدّهرُ كيفَ ترددا
وما زلتُ أبغي المالَ مدْ أنا يافعٌ ... وليداً وكهلاً حينَ شبتُ وأمردا
وَأبْتَذِلُ لعِيسَ المَرَاقَيلَ تَغْتَلي ... مسافة َ ما بينَ النّجيرِ فصرخدا
فإنْ تسألي عني فيا ربّ سائلٍ ... حفيٍ عنِ الأعشى به حيثُ أصعدا
فإن تسألي عيني فيا رب سائل ... حفيٍ عن الأعشى به حيث أصعدا
فأمّا إذا ما أدلجتْ، فترى لها ... رقيبينِ جدياً لا يغيبُ وفرقدا
وفيها إذا ما هجرتْ عجرفيّة ٌ ... إذا خِلْتَ حِرْبَاءَ الظّهِيرَة ِ أصْيَدَا
(3/135)
أجدّتْ برجليها النجاء وراجعتْ ... يَدَاهَا خِنَافاً لَيّناً
غَيرَ أحْرَدَا
فَآلَيْتُ لا أرْثي لهَا مِنْ كَلالَة ٍ ... ولا منْ حفى ً حتى تلاقي محمّدا
مَتى مَا تناخي عندَ بابِ ابنِ هاشِمٍ ... تريحي وتلقي منْ فواصلهِ يدا
نبيٌ يرى ما لا ترونَ، وذكرهُ ... أغَارَ لَعَمْرِي في البِلادِ وَأنجَدَا
قوله: (واستعيرت لقرابة ... ).
قال الطيبي: هذا يدل على أن المنقولات الاصطلاحية كلها استعارات، يدل عليها ما
شرطوا من وجود العلاقة المناسبة وهي التشبيه، وفيه شرط آخر وهو الشهرة في المنقول
إليه، ومن ثم لم يجعلوها من المجاز. اهـ
قوله: (وله) أي وللرجل، واتئفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما
فيه).
قال الطَّيبي: ويمكن أن يقال إنَّ الضمير راجع إلى الرجل وإلى المرأة، ويكون حكم
كل واحد من أخيه وأخته وأخيها أو أختها حكم كل واحد، لاستواء إدلائهما إلى الميت،
ولا يبعد أن يجري على التغليب. اهـ
قوله: (قراءة أبي).
هو ابن كعب.
وقوله: (وسعد بن مالك).
هو ابن أبي وقاص.
قوله: (وهو حل من فاعل (يُوصَى)).
قال أبو حيان: هذا مردود؛ لأنه يودي إلى الفصل بين هذه الحالة وعاملها بأجنبي
منهما، وذلك أن العامل فيها (يُوصَى) وقوله (أَوْ دَيْنٍ) أجنبي لأنه معطوف على
(وَصِيَّةً) الموصوفة بالعامل في الحال.
قال: ولو كان على هذا الإعراب لكان التركيب: من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو
دين، وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين أعني بناء الفعل للفاعل أو المفعول، وتزيد
عليه قراءة البناء للمفعول وجهاً آخر مانعاً وهو أن صاحب الحال غير مذكور لأنه
فاعل في الأصل حذف وأقيم المفعول مقامه، ألا ترى أنك لو قلت: تُرسل الرياح
مبشِّراً بها بكسر الشين: يعني يرسل الله الرياح مبشراً بها، فحذفت الفاعل وأقمت
المفعول مقامه
(3/136)
وجئت بالحال من الفاعل لم يجز فكذلك هذا.
ثم خرجه على أحد وجهين:
إما بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلط على المال
بالوصية أو الدين؛ وتقديره: يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك
الإلزام أو الإيجاب.
وإما بفعل مبني للفاعل لدلالة المبني للمفعول عليه؛ أي: يوصي غير مضار، فيصير نظير
قوله (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) على قراءة من فتح الباء.
اهـ
قوله: (ويؤيده).
أي كون وصية منصوبة بـ (غَيْرَ مُضَارٍّ)، لأن قراءة (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً)
بالإضافة من إضافة العامل إلى المعمول وهي قراءة الحسن.
قال أبو البقاء: في هذه القراءة وجهان:
أحدهما: تقديره: غير مضار أهل وصية، أو ذوي وصية، فحذف المضاف.
والثاني: تقديره: غير مضار وقت وصية، فحذف وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب
منه قولهم: هو فارس حرب أي فارس في الحرب، والتقدير: غير مضار الورثة في وقت
الوصية. اهـ
قوله: (وليستا صفتين لـ جنات) و (نارا) وإلا لوجب إبراز الضمير .. ).
إذا لم يلبس وقد جوزه في هذه الزجاج والتبريزي.
قوله: (يستوفي أرواحهن الموت).
قال الطَّيبي: فهو استعارة تبعية أو مكنية: جعل الموت كالشخص المستوفي، والمتوفى
كأخذ الرجل حقه على التخييلية. اهـ
قوله: (أو يتوفاهن ملائكة الموت).
قال الطَّيبي: فهو من الإسناد المجازي كقوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا) أي:
(3/137)
أصحابها. اهـ
قوله: (وقيل: الأولى في المساحقات، وهذه في اللوطيين).
قال الإمام: هذا القول اختيار أبي مسلم الأصفهاني، واحتج بأن قوله (وَاللاّتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) إشارة إلى النسوان وقد ذكر فيها (مِنْ نِسَائِكُمْ)،
وقوله (وَاللَّذَانِ) إشارة إلى الرجال ومذكور فيها (مِنْكُمْ)، وعلى هذا التقدير
لا يحتاج إلى النسخ. اهـ
قوله: (كالمحتوم على الله بمقتضى وعده).
قال الإمام: إنه سبحانه وتعالى وعد بقبول التوبة، فإذا وعد شيئاً لا بد أن ينجز
وعده؛ لأن الخلف في وعده محال سبحانه. اهـ
قوله: (من تاب عليه إذا قبل توبته).
قال الشيخ سعد الدين: لا من تاب العبد بمعنى رجع إليه. اهـ
قوله: (ولذلك قيل: من عصى الله فهو جاهل).
أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا
يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة.
قوله: (وقوله عليه الصلاة والسلام: يقبل الله توبة العبد ما لم يغرغر)
أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن عمر، وأخرجه
ابن جرير من حديث أبي أيوب واسمه بشير بن كعب وهو تابعي فهو
(3/138)
مرسل، وهو الذي أورده في الكشاف.
قال الطَّيبي: غرغر المريض: إذا تردد روحه في حلقه. اهـ
قوله: (ومن للتبعيض).
زاد غيره أو لابتداء الغاية.
قوله: (سلطان الموت).
قال الشيخ سعد الدين: أي غلبته وظهور آثاره. اهـ
قوله: (كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
قوله: (يقال: عضلت الدجاجة ببيضها).
أي تعسر خروجها، ومثله: عضلت المرأة بولدها، وداء عضال: صعب البرء.
قوله: (باهتين).
أي رامين إياهن بالبهتان، و (آثمين) تفسير قوله (وَإِثْمًا مُبِينًا) قاله
الطَّيبي.
قوله: (والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه).
قال الزجاج: البهتان: الباطل الذي تتحير من بطلانه. اهـ
قوله: (أو ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أخذتموهن بأمانة الله
واستحللتم فروجهن بكلمه الله).
أخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن ... إلى آخره.
وروى ابن جرير من حديث ابن عمر: أيها الناس إن النساء عوان في أيدكم أخذتموهن ...
إلى آخره.
والعوان: الأسرى جمع عانية.
(3/139)
قوله: (أو من اللفظ).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه. اهـ
قوله: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب)
هو للنابغة الذبياني.
قال الطَّيبي: فلول: جمع فل وهو كسر في حده، يعني إذا لم يكن العيب إلا الشجاعة
-وهي من أخص أوصاف المدح- فإذاً لا عيب فيهم. اهـ
وأول القصيدة:
كليني لهمٍّ يا أميمة ناصبٍ ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلتُ ليس بمنقضٍ ... وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ
قوله: (عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة وابن عباس.
قوله: (لأن (من) إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية، فإن علقتها بالأمهات لم يجز
ذلك بل وجب أن تكون بياناً لـ (نِسَائِكُمْ)).
قال الطَّيبي: (من) البيانية تقتضي اتحاد الأول بالثاني، والابتدائية إنشاء الأول
من الثاني، فبينهما تناف. اهـ
قوله: (اللهم إلا إذا جعلتها للاتصال).
قال أبو حيان: لا نعلم أحداً ذهب إلى أن من معاني (من) الاتصال، والبيت مؤول. اهـ
قوله: (فإني لست منك ولست منى).
هذا للنابغة، وصدره: إذا حاولت في أسد فجوراً
قال الأعلم: يقول هذا لعيينة بن حصن الفزاري وكان قد دعاه وقومه إلى مقاطعة بني
أسد ونقض حلفهم فأبى عليه، وأراد بالفجور: نقض الحلف.
(3/140)
قوله: (على معنى أنَّ أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن).
قال أبو حيان: إذا جعلنا (مِنْ نِسَائِكُمُ) متعلقاً بالنساء والربائب كما زعم
الزمخشري فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب، أما تركيبه مع الربائب ففي
غاية الفصاحة والحسن وهو نظم الآية، وأما تركيبه مع قوله (وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ) فإنه يصير: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فهذا تركيب لا
يمكن أن يقع في القرآن ولا في كلام فصيح لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى
قوله (مِنْ نِسَائِكُمُ). اهـ
قوله: (لكن الرسول فرق بينهما فقال فى رجل تزوج امرأة ... ) الحديث.
أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بمعناه.
قوله: (رُوي عن علي).
أخرجه ابن أبي حاتم.
قوله: (قال عثمان وعلي: حرمتهما آية وأحلتهما آية).
أخرج قول عثمان مالك في الموطأ، وقول علي ابن مردويه في تفسيره.
قوله: (ولقوله عليه الصلاة والسلام: ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام)
قال الحافظ زين الدين العراقي في تخريج أحاديث منهاج الأصول: لا أصل لهذا الحديث.
اهـ
وقال السبكي في كتاب الأشباه والنظائر: هو كما قال البيهقي: حديث رواه جابر الجعفي
رجل ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود وهو منقطع غير أنَّها قاعدة صحيحة في نفسها.
قال الشيخ أبو محمد الجويني في السلسلة: لم يخرج عنها إلا ما ندر.
قال القاضي تاج الدين السبكي: وقد عورض الحديث المذكور بما رواه ابن ماجة
(3/141)
والدارقطني من حديث ابن عمر: لا يحرم الحرام الحلال، وليس
بمعارض لأن المحكوم به في الأول إعطاء الحلال حكم الحرام تغليباً واحتياطاً لا
صيرورته في نفسه حراماً. اهـ
وقال الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابة (المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج
والمختصر): هذا الحديث لا يعرف مرفوعاً، ورواه عبد الرزاق في مصنفه موقوفاً عن
سفيان الثوري عن جابر عن الشعبي قال: قال عبد الله: ما اجتمع حلال وحرام إلا غلب
الحرام الحلال. اهـ
قال سفيان: ذلك في الرجل يفجر بامرأة وعنده ابنتها أو أمها فإنه يفارقها.
قوله: (أو منقطع معناه لكن ما سلف مغفور).
قال الطَّيبي: تحقيقه ما ذكره أبو البقاء أنَّ (ما) في (مَا قَد سَلَفَ) مصدرية،
والاستثناء منقطع؛ لأنَّ النهي للمستقبل وما سلف ماض فلا يكون من جنسه، وهو في
موضع نصب، ومعنى المنقطع: أن لا يكون داخلاً في الأول بل في حكم المستأنف ويقدر
فيه (إِلا) بـ (لكن) أي: لا تجمعوا بين الأختين لكن ما سلف من ذلك فمعفو عنه،
ونحوه قوله: ما مررت برجل إلا بامرأة، أي: لكن بامرأة، والغرض منه بيان معنى زائد،
لأن قولك ما مررت برجلٍ صريحٌ في نفي المرور برجل ما غير متعرض لإثبات المرور
بامرأة أو نفيه، فإذا قلت: إلا بامرأة؛ كان إثباتاً لمعنى مسكوت عنه غير معلوم
بالكلام الأول نفيه ولا إثباته.
فإن قلت: لم فرق بين هذا الاستثناء حيث جعله منقطعاً وبين ما سبق حيث جعله من باب
قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... البيت؟
قلت: لاقتضاء المقام، والفرق بين نكاح الأمهات والجمع بين الأختين، واستدعاء كل من
التعليلين أعني قوله (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) وقوله
(إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) ما يقتضيه من المعنى، فإن التعليل بالغفران
والرحمة يستدعي كلاماً
(3/142)
متضمناً للذنب والخطأ، ولذلك قال: ما مضى مغفور بدليل قوله
(إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، كأنه قيل: حرم عليكم الجمع بين الأختين
لأنه خطأ وذنب ومن فعل ذلك يؤاخذ به لكن ما قد سلف فإنه مغفور غير مؤاخذ به لأن
الله كان غفوراً رحيماً، والتعليل بالفاحشة والمقت وسوء السبيل يوجب تأويل الكلام
السابق بما ينبئ عن المبالغة في القبح والفحش وأن المنهي عنه مما ينبغى أن لا يوجد
أصلاً، وأنه مناف لحال المؤمنين وأصحاب المروءة وأرباب التمييز، وذلك لا يتم إلا
بجعل التركيب من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح.
قال: وما قاله القاضي -يعني البيضاوي- هناك: (إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ) استثناء من
المعنى اللازم للنهي وكأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد
سلف، أو استثناء منقطع ومعناه: لكن ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه؛ لا أنه مقرر
وإن كان كلاماً حسناً لكن عن المرام بمنازل، وعن اقتضاء المقام بمراحل، والقول ما
قالت حذام. اهـ
قوله: (لقول أبي سعيد: أصبنا سبياً يوم أوطاس ... ) الحديث.
أخرجه مسلم.
قوله: (وإياه عنى الفرزدق بقوله:
وذات خليل انكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلق).
قال الطَّيبي: روي أن الحسن سئل وعنده الفرزدق: ما تقول فيمن يقول: لا والله، بلى
والله؟ فقال الفرزدق: أما سمعت قولي في ذلك؟
قال الحسن: ما قلت؟ فقال الفرزدق قلت:
فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
فقال الحسن: أحسنت.
[أثم قيل: ما تقول فيمن سبى امرأة ولها حليل؟
فقال الفرزدق: أما سمعت قولي وأنشد: وذات حليل ... البيت.
(3/143)
فقال الحسن: أحسنت كنت أراك أشعر فإذا أنت أشعر وأفقه.]
قوله: ((وأحل لكم) عطف على الفعل المضمر الذي نصب (كتاب الله)، وقرأ حمزة والكسائي
وحفص عن عاصم البناء للمفعول عطفاً على (حُرِّمَتْ))
قال أبو حيان: فَرَّقَ في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار
لأن انتصاب (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون
الجملة السابقة من قوله (حُرِّمَتْ) والعامل فيه وهو كتب إنما هو تأكيد لقوله
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) ولم يأت بهذه الجملة على سبيل التأكيد فإنما يناسب أن تعطف
على جملة مؤمسسة مثلها لا سيما والجملتان متقابلتان إحداهما للتحريم والأخرى
للتحليل فناسب أن يعطف هذه على هذه، وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ
(وَأُحِلَّ) مبنياً للمفعول، فكذلك يجوز مبنياً للفاعل. اهـ
قال الحلبي: في هذا الرد نظر. اهـ
قوله: (مفعول له، والمعنى: أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا ... ) إلى آخره.
تبع في ذلك الزمخشري، وقد قال أبو حيان: إن فيه تحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه،
وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد، ودس مذهب الاعتزال في غضون ذلك دساً خفياً إذ
جعل قوله (أَنْ تَبْتَغُوا) على حذف مضافين أي: إرادة كون ابتغائكم بأموالكم، وفسر
الأموال بعد بالمهور وما يخرج في المناكح فتضمن اختصاص إرادته بالحلال الذي هو
النكاح دون السفاح، وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري إذ الظاهر أنه تعالى
أحل لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان لاحالة
السفاح، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب (أَنْ تَبْتَغُوا) مفعولاً له كما قال
الزمخشري لأنه فات شرط من شروط المفعول له وهو اتحاد العامل في الفاعل والمفعول،
لأن الفاعل في قوله تعالى (وَأُحِلَّ) هو الله، والفاعل في (أَنْ تَبْتَغُوا) هو
ضمير المخاطبين فقد اختلفا، ولما أحس الزمخشري بهذا جعل (أَنْ تَبْتَغُوا) على حذف
إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله (وَأُحِلَّ) وفي المفعول له، ولم يجعل (أَنْ
تَبْتَغُوا) مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر
بغير داع إلى ذلك. اهـ
قوله: (أو صفة مصدر محذوف، أي: إيتاءً مفروضاً، أو مصدر مؤكد).
(3/144)
قال الطَّيبي: الفرق بين هذا والأول أن هذا منصوب بفعل مقدر
بمعناه؛ والأول منصوب بفعل مذكور من غير لفظه. اهـ
قوله: (وقيل نزلت الآية في المتعة ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها ثم أصبح يقول: يا أيها الناس إنى كنت
أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرَّم ذلك إلى يوم القيامة.)
أخرجه مسلم من حديث سبرة الجهني بلفظ: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع.
قوله: (وجوزها ابن عباس ثم رجع عنه).
أخرجه ابن المنذر في تفسيره والبيهقي في سننه من طريق سعيد بن جبير: قال: قلت لابن
عباس ماذا صنعت ذهبت الركاب بفُتياك وقالت فيه الشعر؟ قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا:
أقول للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فُتيا ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى يصدر الناس
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا والله ما بهذا أفتيت، ولا هذا أردت، ولا
أحللتها إلا للمضطر.
وفي لفظ: ولا أحللت منها إلا ما أَحلَّ الله من الميتة والدم ولحم الخنزير.
قوله: (أنتم وأرقاؤكم متناسبون).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ (من) في قوله (من بعض) للاتصال. اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: الحرائر صلاح البيت والإماء هلاكه).
أخرجه الثعلبي والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة.
(3/145)
قال الطَّيبي: وأنشدوا:
ومن لم يكن في بيته قهرمانةٌ ... فذلك بيتٌ لا أبا لك ضائعُ. اهـ
وأنشد غيره:
إذا لم يكن في منزل المرءِ حرةٌ ... تدبره ضاعت مصالح داره.
قوله: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما تعبدكم به من الحلال والحرام، أو ما
خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم).
قال الطَّيبي: فيه إشعار بتلفيق الآيات اللاحقة بالسابقة، فإنَّ السوابق كانت في
بيان النساء والمناكحات، واللواحق في بيان الأموال والتجارات وهي قوله (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ)، فهذه الآيات التي توسطت
بينهما كالتخلص من باب إلى باب لجامع التبيين. اهـ
قوله: (و (لِيُبَيِّنَ) مفعول (يريد)، واللام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال ... )
قال أبو حيان: هذا خارج عن مذهب البصريين والكوفيين معاً، لأن البصريين يجعلون
مفعول (يريد) محذوفاً واللام للعلة، أي: يريد الله تحليل ما حلل وتحريم ما حرم
وتشريع ما شرع لأجل التبيين، فمتعلق الإرادة غير التبيين حذراً من تعدي الفعل
المتعدي إلى مفعول متأخر بواسطة اللام، ومن إضمار (أن) بعد لام ليست لام (كي) ولا
لام الجحود، وكلاهما لا يجوز عندهم، والكوفيون يجعلون متعلق الإرادة التبيين لكن
اللام عندهم هي الناصبة بنفسها لا (أن) مضمرة بعدها. اهـ
وفي حاشية الشيخ سعد الدين: التصريح بأن اللام زائدة تصريح بأن المذكور بعدها
مفعول به فلا يرد ما يقال: إن أراد متعدٍ؛ فلا بد له من مفعول به، وأما حمله على
حذف المفعول وجعل اللام للتعليل فليس بسديد من جهة المعنى. اهـ
وفي حاشية الطَّيبي: قال صاحب الفرايد: قيل: لا يبعد أن يكون مفعول (يريد) محذوفاً
للعلم به، كأنه قيل: يريد إيراد هذه الأحكام ليبين لكم، وكذا في قوله تعالى
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ) أي يريدون كيدهم وعنادهم ليطفئوا، وقال:
هذا الوجه أقرب إلى التحقيق لأنه فعل متعد لا بد له من مفعول.
(3/146)
وقال ابن الحاجب في شرح المفصل: يجوز لزيد ضربت، وامتنع ضربت
لزيد، لأن المقتضي إذا تقدم كان أقوى منه إذا تأخر، والجواب: إن المقام إذا اقتضى
التأكيد لا بد من المصير إليه، وإذا كان المعنى على ما قال: يريد الله أن يبين لكم
ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم وأن يهديكم مناهج من تقدمكم ... إلى
آخره، فخلو الكلام عن التأكيد بعيد عن قضاء حق البلاغة.
قال الزجاج: اللام في (ليبين لكم) كاللام في لكي في قوله:
[أردت لكيما لا ترى لي عثرة ... ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل.
وقال صاحب اللباب: إن اللام في: شكرت لزيد تكملة للفعل في نحو: مررت بزيد. وقال
الشارح: إن معنى المرور وهو المجاوزة يقتضي متعلقاً والباء تكميل لذلك المعنى
بخلاف التعدية نحو: خرجت بزيد فإن معنى الخروج لا يقتضي متعلقاً بل حصل اقتضاؤه
المتعلق بحرف الجر فتلك هي التعدية. اهـ
وفي إعراب السفاقسي: جوز الزمخشري أن يكون من باب الإعمال؛ فيكون مفعول
(لِيُبَيِّنَ) ضميراً محذوفاً يفسره مفعول (وَيهْدِيَكُمْ)؛ نحو: ضربت وأهنت
زيداً، أي: ليبينها لكم، أي: سنن الذين من قبلكم.
قال السفاقسي: جعله من باب الإعمال حسن، وأما تقديره مفعول أول ضمير ففيه نظر،
لأنهم أوجبوا حذفه إذا كان فضلة مستغنى عنه، ولم يجوزوا إضماره لما يلزم عليه من
الإضمار قبل الذكر، فالأولى أن يقال: ومفعول الأول محذوف إلا أن يقال: إنما يمتنع
إضماره مع التلفظ به، وأما تقديره كذلك فلا. اهـ
وهذا الذي نقله عن الزمخشري ليس في الكشاف.
قوله: (كما في قول قيس بن سعد:]
أردت لكيما يعلم الناس أنه ... سراويل قيس والوفود شهود)
في الغريب لابن الدهان: ورد أن عظيم الروم بعث إلى معاوية بهدية مع رسولين
(3/147)
أحدهما جسيم والآخر أيد (1) ففطن لها معاوية فقال لعمرو بن
العاص: أما الطويل فإني أجد مثله فمن الأيد؟ فقال: أجد القوة في شخصين محمد بن
الحنفية، والآخر عبد الله بن الزبير.
فقال: بردت قلبي، ثم أرسل إلى قيس فعرفه الحال فحضر، فلما مثل بين يدي معاوية وعرف
ما يراد منه نزع سراويله ورمى بها إلى العلج فلبسها فنالت ثندوته فأطرق مغلوباً،
وليم قيس على تبذله وقيل: هلا بعثت بها؟ فقال:
أردت لكيما تعلم الناس أنَّها ... سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاديَّ نمته ثمود
وأني من القوم اليمانيين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
وبذَّ جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وجسم به أعلو الرجال مديد
وحضر محمد بن الحنفية وعلم ما يراد منه؛ فخير العلج بين أن يقعد ويقوم العلج
ويعطيه يده فيقيمه أو يقعد العلج ويقوم محمد ويعطيه يده فيقعده، فاختار العلج
الحالتين، وغلبه فيهما محمد فأقام العلج وأقعده.
أخرجه ابن عساكر في تأريخه من طرق.
قوله: (يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي).
قال الطَّيبي: إشارة إلى قوله أن (يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) من وضع المسبب موضع السبب
وذلك من عطف (وَيَتُوبَ) على قوله (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) على سبيل البيان كأنه قيل: ليبينْ لكم ويهديكم ويرشَدكم إلى الطاعات
فوضع موضعه (ليَتُوبَ عَلَيكم). اهـ
قوله: ((والله يريد أن يتوب عليكم) كرره للتأكيد (والمقابلة)).
أي أنه قوبل بقوله (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ... )
قال الطَّيبي: وإنما بنى (وَاللهُ يُرِيدُ) على تقوي الحكم وقدم الاسم وفي المقابل
الفعل
_________
(1) الأيد: هو القوي. انظر: لسان العرب 1/ 386.
(3/148)
مقدم ليفرق بين الإرادتين إرادة الله وإرادة الزائغين. اهـ
قوله: (ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمهّ).
قلت: هو مما خفف به في هذه الشريعة على هذه الأمة، ولم يبح ذلك في الشرائع
السابقة.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر في التفسير عن مجاهد قال: مما وسع الله
به على هذه الأُمَّة نكاح الأَمَة النصرانية واليهودية.
قوله: (وعن ابن عباس: ثمان آيات فى سورة النساء هن خير لهذه الأمة ... )
الحديث.
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة وابن جرير في تفسيره.
قوله: ((إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) استثناء منقطع).
قال الشيخ سعد الدين: إذ لم يسبق لفظاً أو تقديراً مفردٌ يصح وقوع التجارة
استثناءً عنه. اهـ
وقال أبو البقاء: الاستثناء منقطع ليس من جنس الأول، وقيل: هو متصل أي: لا تأكلوا
بسبب إلا أن تكون تجارة. وهذا ضعيف لأنه قال (بِالْبَاطِلِ) والتجارة ليست من جنس
الباطل، وفي الكلام حذف مضاف أي: إلا في حال كونها تجارة. اهـ
قال الطَّيبي: قوله (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) يدل
بحسب المفهوم على أن عدم المراضاة منهي عنه، ومن ثم قدر: ولكن كون تجارة عن تراض
غير منهي، فكأنه قيل: المنهي هو أن يكون التصرف بالباطل وعدم الرضى لكن غير المنهي
هو أن يكون التصرف بالحق وحصول المرضاة. اهـ
قوله: (روي أنّ عمرو بن العاص تأوله في التيمم بخوف البرد ولم ينكره عليه النبى -
صلى الله عليه وسلم -).
أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه.
(3/149)
قوله: (جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال).
قال الطيبي: قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) إلى قوله (الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) كالاعتراض بين حديث النساء ونكاحهن والقيام عليهن
فيكون تأكيداً لمعنى التعليل في قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) لما فيه من الإشعار بأن التمتع بالمال إنما يكون
معتدًّا به إذا أنفق على العيال، ومن ثم ضم مع حفظ المال لأجل الإنفاق على العيال
حفظ النفس من يد الإرادة التحريض على طلب الإحصان والاجتناب عن السفاح. اهـ
قوله: (معناه: إنه كان بكم يا أمة محمد رحيماً لما أمر بنى إسرائيل بقتل الأنفس
ونهاكم عنه).
ذكر الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في فتاويه: أن من تحتم قتله بذنب من الذنوب لم
يجز له أن يقتل نفسه، وستره على نفسه مع التوبة أولى به، وإن أراد تطهيراً بالقتل
فليقر بذلك عند ولي الأمر ليقتله على الوجه الشرعي، فإن قتل نفسه لم يجز له ذلك،
لكنه إن قتل نفسه قبل التوبة كان ذنبه صغيرة لافتياته على الإمام، ويلقى الله
فاسقاً بالجريمة الموجبة للقتل، وإن قتل نفسه بعد التوبة فإن جعلت توبته مسقطة
لقتله فقد لقي الله فاسقاً بقتله نفسه لأنه قتل نفساً معصومة، وإن قلت لا يسقط
قتله بتوبته لقي الله عاصياً لافتياته على الأئمة، ولا يأثم بذلك إثم مرتكب
الكبائر، لأنه فوت حياة يستحق الله تفويتها، وأزهق روحاً يستحق الرب إزهاقها، وكان
الأصل يقتضي أن يجوز للآحاد الاستبداد به في النفس. اهـ
قوله: (وعن النبى - صلى الله عليه وسلم -: إنها سبع: الإشراك بالله ... ) الحديث.
أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عمر وابن أبي حاتم.
قوله: (وعن ابن عباس: الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع).
أخرجه ابن أبي حاتم.
قوله: (ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص)
أوردوا هنا قول من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنشدوا:
لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ... في السهو فيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر
(3/150)
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: ليس الإيمان بالتمنى).
سيأتي.
قوله: (روي عن أم سلمة قالت يا رسول الله: يغزوا الرجال ولا نغزو ... ) الحديث.
أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديثها.
قال الطَّيبي: لا بأس في أن يكون السبب خاصاً والحكم عاماً؛ إذ أكثر الأحكام واردة
على هذا المنهج، فإن قلت: هذا تمنٍ محمود فكيف نهوا عنه؟ قلت: كان التمني أن يكتب
عليهن الجهاد كما كتب على الرجال، وهذا التمني غير جائز لأنه تعالى كتب لكل من
الرجال والنساء على حسب حاله واستعداده؛ ولذا استدركه بقوله (وَاسْأَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ) أي: اسألوا الله ما يليق بحالكم وما يصلحكم، ألا ترى كيفى ذيل
بقوله (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). اهـ
قوله: (أي ولكل تركة جعلنا وارثاً ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني المضاف إليه (وَلِكُلٍّ) محذوف وهو تركة، والمفعول الأول لـ
(جَعَلْنَا) هو (مَوَالِيَ) والثاني (وَلِكُلٍّ)، و (مِمَّا تَرَكَ) متعلق بمحذوف
وهو صفة (وَلِكُلٍّ)، المعنى: وجعلنا لكل مال تركه الوالدان وراثاً يحوزونه.
قال السجاوندي: وفيه ضعف للفصل بين الموصوف والصفة إذ يصير بمنزلة من يقول: لكل
رجل جعلت درهماً فقير. اهـ
قوله: (أو: ولكل ميت جعلنا وارثاً ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فعلى هذا (وَلِكُلٍّ) أحد مفعولي (جَعَلْنَا)، و (مَوَالِيَ) بمعنى
الوارث، و (مِما تَرَكَ) صلته، المعنى: جعلنا لكل موروث وارثاً حائزاً لتركته، ثم
قيل: من الوارث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. اهـ
قوله: (أو لكل قوم ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فعلى هذا لكل قوم خبر، والمبتدأ متعلق (مِمَّا تَرَكَ) وهو نصيب
المقدر، و (جَعَلْنَا) صفة (وَلِكُلٍّ)، ومفعوله الأول محذوف وهو ضمير الموصوف،
(3/151)
و (مَوَالِيَ) ثاني مفعوليه، المعنى: لكل من جعلناه وارثاً نصيب
من التركة. اهـ
قوله: (أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده).
قال الشيخ سعد الدين: ينبغى أن يكون هذا هو المختار لئلا يقع الخبر جملة طلبية.
قال: وكأنه إنما لم يختره لأنَّ مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا،
وكذا الوجه الثالث وهو العطف على (الْوَالِدَانِ) لشهرة الوقف على
(وَالْأَقْرَبُونَ) دون (أَيْمَانُكُمْ). اهـ
قوله: (أو معطوف على الوالدين -إلى قوله- والضمير للموالي).
قال الطَّيبي: فيدخل فيه (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ)، وعلىٍ هذا الوجه الفاء جزاء شرط
مقدر و (من) صلة موالي، أي: جعلنا لكل موروث وارثاً حائز التركة.
فقيل: من هم؟ قيل: الوالدان والأقربون والعاقدون.
ثم قيل: وإذا كان كذلك فآتوهم نصيبهم. اهـ
قوله: (بمعنى عقدت عهودهم).
قال الطَّيبي: أي عهود الموالي، وهو مفعول (عَقَدَت)، وفاعله (أَيْمَانُكُمْ). اهـ
قوله: (روي أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته ... .) الحديث.
ذكره الثعلبي والواحدي عن مقاتل، وأخرج ابن مردويه من حديث علي نحوه، وأخرج ابن
أبي شيبة في مصنفه وأبو داود في المراسيل من مرسل الحسن نحوه.
قوله: (لمواجب الغيب).
قال الطَّيبي: قيل المواجب جمع موجب، والمراد بموجب الغيب: ما يوجبه الغيب، أي ما
تجب المحافظة عليه في حال غيبة الزوج. اهـ
قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإن
أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها، وتلا الآية).
أخرجه ابن جرير من حديث أبي هريرة لكن بلفظ (في مالك ونفسها)، وروى النسائي عن أبي
هريرة: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خير النساء فقال: التي تطيع إذا أمر،
وتسر إذا
(3/152)
نظر، وتحفظه في نفسها وماله. رواه الحاكم وصححه بلفظ (ومالها).
قال الطَّيبي: أراد بمالها مال الزوج، ولما كانت هي المتصرفة فيه في حال الغيبة
وأنه مما ينفق عليها منه كان كأنه مالها، ونحوه قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) بعثاً لها على الحفظ، أي: ليحفظن ماله حفظاً مثل حفظ
أموالهن. اهـ
وكذا حمله الشيخ سعد الدين على إضافة الملابسة بتصرفها فيه، لكن أكثر طرق الحديث
بلفظ: في نفسها وماله وكذا رواه ابن ماجة من حديث أبي أمامة فيخشى أن يكون في
رواية الحاكم تحريف من بعض الرواة والنساخ فإن مخرج حديثه وحديث النسائي واحد.
قوله: (بحفظ الله إياهن ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فسر الحفظ بوجوه ثلاثة: أحدها: أنه حقيقة، أي: حافظات للغيب لأنَّ
الله تعالى حفظهن من أن يقعن في الذنب.
الثاني: أنه من باب الكناية، أي أنهن حافظات الغيب لأن الله تعالى وعدهن الثواب
عليه ولذلك سعين في حفظ الغيب؛ كأنه قيل: احفظن الغيب حتى لا أضيع أجركن لما يلزم
من عدم ضياعهن إيتاء أجورهن.
الثالث: أنه مجاز من إطلاق المسبب على السبب؛ لأن الظاهر أن يقال: حافظات للغيب:
أنَّ الله تعالى وصى الأزواج بحفظهن رعاية لحقهن فهن قضين حق تلك النعمة بحفظ غيب
الأزواج. اهـ
قوله: (وقرئ (بما حفظ اللهَ) بالنصب ... ) إلى آخره.
قال أبو البقاء: (ما) على قراءة النصب بمعنى: الذي، أو نكرة والمضاف محذوف؛
والتقدير: بما حفظ أمر الله أو دين الله.
وقال قوم: هي مصدرية، والتقدير: بحفظهن الله، وهذا خطأ لأنه إذا كان كذلك
(3/153)
خلا الفعل عن ضمير الفاعل، لأن الفاعل هنا جمع المؤنث فكان يجب
أن يكون بما حفظهن الله. اهـ
قال الطَّيبي: وقد صوب هذا القول وجعل الفاعل فيه للجنس وهو مفرد مذكر فلا يظهر له
ضمير. اهـ
قوله: (والأمور الثلاثة مرتبة).
قال ابن المنير: الترتيب غير مأخوذ من الآية لأنَّها واردة بواو العطف، وإنما
استفيد من أدلة خارجة. اهـ
وقال الطَّيبي: ما أظهر دلالة الفاء يعني في قوله (فَعِظُوهُنَّ) عليه، ومنه نبه
على ترتيب قرينيه. اهـ
قوله: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
أخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود، والطبراني من حديث أبي سعيد، والديلمي في مسند
الفردوس منْ حديث أنس وابن عباس.
قوله: (الضمير الأول للحكمين ... ) إلى آخره.
قال الإمام: وهنا قسم رابع وهو أن الأول للزوجين، والثاني للحكمين أي: إن يرد
الزوجان إصلاحاً يوفق الله بين الحكمين اختلافهما حتى يعملا بالصلاح. اهـ
قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام: الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار،
وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان حق الجوار، وحق الإسلام، وجار له حق واحد
وهو المشرك).
أخرجه الحسن بن سفيان والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في كتاب الثواب، وأبو نعيم
في الحلية من حديث جابر بن عبد الله، وابن عدي في الكامل من حديث عبد الله
(3/154)
بن عمرو وكلاهما ضعيف.
قوله: ((الذين يبخلون) بدل من قوله (من كان)).
قال أبو حيان: يجوز عندي -ولم يذكروه- أن يكون صفة لـ (مَن). اهـ
قوله: (أو مبتدأ خبره محذوف).
قال الطَّيبي: فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين أن يكون خبر مبتدأ محذوف كما عليه
الوجه الذي قبله؟ قلت: على ذاك يتصل بقوله (مُخْتَالاً فَخُورًا) محكوم عليهم
بأنهم هم الذين لا يحبهم الله، وهو أبلغ من البدل؛ لما يؤذن بأن البخل أخس
أوصافهم؛ وهو الذي حملهم على أن يتكبروا عن إكرام أقاربهم وأصحابهم، وأنهم معروفون
مشهورون بكونهم مختالين فخورين؛ لما تقرر أن النصب أو الرفع على المدح أو الذم
يقتضي أن يكون الموصوف مشهوراً معروفاً والصفة [صالحة للمدح أو للذم، وعلى أن يكون
مبتدأ خبره محذوف الجملة منقطعة عما قبلها جيء بها مستطردة لحكاية من يمنع إحسانه
على الوالدين والأقربين، والوجه الاتصال لأن قوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ
كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) تذييل لقوله (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا) وقد رمز إليه تفسيره المختال بالمتكبر الذي يأنف عن إكرام أقربائه
وجيرانه، ثم لا بد من انضمام قوله (الذِينَ يَبخَلُونَ) ليتم المقصود.
فإن قلت: هل يجوز (وَالذِينَ يَبْخَلُونَ) القطع للاستئناف؟
قلت: لا يحسن ذلك الحسن لأنه لا يخلو من أن يكون استئنافاً بإعادة اسم (من)
المستأنف عنه الحديث أو صفته، والأول ظاهر البطلان لأن (الذي) وضع صلة إلى وصف
المعارف بالجمل، والثاني يوجب أن يكون الموصوف بحيث ينبئ عن الوصف ليكون ذريعة
لبيان الموجب ليصح التعليل كقوله تعالى (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، ولا دلالة في قوله (مُخْتَالاً فَخُورًا) على هذا الوصف
بل فيه ما يدفعه لأن التيّاه الفخور أغلب ما يكون جواداً، اللهم إلا أن يقال إنَّ
قوله (مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) لما كان تذييلاً للكلام السابق واستئنافاً
تضمن معنى البخل الذي يعطيه قوله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ
(3/155)
إِحْسَانًا ... ) إلى آخره وهذا لا يصير إليه صاحب ذوق. اهـ
قوله: (والآية نزلت في طائفة من اليهود ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن إسحاق وابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس.
قوله: (وقيل: الذين يكتمون صفة محمد - صلى الله عليه وسلم).
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي -وهو ضعيف- عن ابن عباس.
قوله: (وأنث الضمير لتأنيث الخبر).
قال الشيخ سعد الدين: لا يقال تأنيث الخبر إنما يصح بعد اعتبار تأنيث الاسم؛ لأنّا
نقول الحسنة والسيئة التحقتا بالاسم، ليس دخول التاء فيها مبنياً على تأنيث ما
يجريان عليه، ولهذا نقول: الصوم حسنة. اهـ
قوله: (يضاعف ثوابها).
قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما
لا يعقل، وما جاء في الحديث من أن التمرة يربيها الرحمن تبارك وتعالى حتى تصير مثل
الجبل محمول على هذا للقطع بأن الثمرة أكلت ولم ترب، على أن الحسنة هي التصدق بها
لا نفسها، وما يقال إن مضاعفة الحسنة أن يكتب ثوابها مضاعفاً في صحيفة العمل وأنه
ينزلها منزلة أضعافها راجع إلى مضاعفة الثواب. اهـ
قوله: (ويعط صاحبها من عنده).
قال الطَّيبي: جعل (مِن لدُنهُ) بمعنى من عنده، وقد قال الزجاج: (لدن) لا تتمكن
تمكن (عند) لأنك تقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: لدي صواب، وتقول: عندي مال،
ولا تقول: لدي مال، والمال غائب. اهـ
قوله: (وإنما سماه أجراً لأنه تابع للأجر).
قال الطَّيبي: أي هو مجاز عن التفضل لأنه تعالى قال (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا)، ومضاعفة الحسنة هي الأجر لأنَّها جزاء الحسنات، وقال بعده
(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) فوجب حمله على معنى زائد على الأجر
وليس ذلك إلا التفضل.
قال: وهذا على ما قرره صاحب الكشاف من أنَّ (يُضَاعِفْهَا) على تقدير مضاف أي:
(3/156)
يضاعف ثواهما وأنه بالاستحقاق لا بالتفضل، وتسميته التفضل
بالأجر تسمية للشيء باسم مجاوره، وهذا تعسف وتأويل القرآن بالرأي والمذهب، وأما
إذا جعلنا الحسنة بنفسها مضاعفة كما دل عليه حديث تربية الصدقة حتى تكون كالجبل
العظيم و (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) على ظاهره ليعلم أن الأجر
تفضل منه سبحانه وأنه من لدنه لا باستحقاق العمل كما عليه مذهب أهل الحق فأي حاجة
لنا إلى ارتكاب تلك التعسفات وكان لنا مخلصاً من تلك الورطات.
قال: والعجب من القاضي وصاحب التقريب كيف قررا في هذا المقام كلام صاحب الكشاف ولم
ينبه عليه صاحب الانتصاف. اهـ
قوله: (فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ الإشارة بقوله (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)
إلى جميع من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذه الآية ناظرة إلى
فاتحة السورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)، وهي
كالتخلص إلى قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى) كما كان قوله (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ
وَيَهْدِيَكُمْ) إلى قوله (مَيْلاً عَظِيمًا) مخلصاً إلى قوله (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ). اهـ
قوله: (تسوى بهم الأرض كالموتى).
قال الطَّيبي: (الباء) بمعنى (على) كقوله (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينَارٍ)، ويجوز أن تكون للسببية، أي: سبب دفنهم، وعلى القولين الأخيرين بمعنى
(مع). اهـ
قوله (ولا يكذبونه).
قال الطَّيبي: هو عطف تفسير لأنَّ معنى الكتمان هو جحدهم شركهم. اهـ
قوله: (رُوي أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم ... ) إلى آخره.
أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس.
(3/157)
قوله: (روي أن عبد الرحمن بن عوف صنع مأدبة ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه من حديث علي بن أبي
طالب.
قوله: (والجنُب ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: بيان لصحة عطفه وهو مفرد على الحال ضمير الجمع. اهـ
قوله: (لأنه يجري مجرى المصدر).
قال الطَّيبي: من هذا يعلم أن كل اسم يقع موقع المصدر يجري فيه ما ذكر ولا تختص به
المصادر كرجل عدل وامرأة عدل. اهـ
قوله: (لا تقربوا الصلاة جنباً في عامة الأحوال إلا في السفر).
قال الطَّيبي: يعني لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب على تقدير من التقادير وفي حال من
الأحوال إلا في حال السفر. اهـ
قوله: (أو صفة).
قال الطَّيبي: الفرق بين أن يكون حالاً وبين أن يكون صفة هو أنه على الحال يفيد
أنه لا يجوز قربان الصلاة في حال الجنابة قط إلا أن يكون مسافراً؛ فدل الحصر على
أن العذر غير متعدد ثم يجيء قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ)
يبطل معنى الحصر، بخلافه إذا جعل صفة ويكون المعنى: لا تقربوا الصلاة جنباً
مقيمين؛ فيحسن (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) لجواز ترادف القيد.
اهـ
قوله: (أو ماسستم بشرتهن بشرتكم -إلى قوله- أو جامعتموهن).
قلت: ما أورده من حكاية قولين في الملامسة هل هي مماسة البشرة أو الجماع أطبق عليه
الناس، والتحقيق أنه لا خلاف وإن التفسيرين بحسب القراءتين، فمن قرأ (لَمَسْتُمُ)
أراد مس البشرة ومن قرأ (لامَسْتُمُ) أراد الجماع، وهذا تحقيق حسن يندفع به كثير
من حكايات الخلاف كما بينته في الإتقان.
(3/158)
قوله: (واليد: اسم العضو إلى المنكب).
سئلت عن هذا أهو على سبيل الحقيقة وإطلاقها على بعضه كالكف إلى الكوع في قوله ً
(فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وكالكف إلى الذراع إلى المرفق في قوله
(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) مجاز من إطلاق اسم الكل على البعض، أو على
سبيل المجاز وهي حقيقة في الكف إلى الكوع أو مشترك في جميع ذلك أو متواطئ؟
والجواب: أنه على سبيل الحقيقة، هذا مقتضى نصوص الأئمة.
ً (قال ابن الرفعة في الكفاية: اختلف الناس في اليد تطلق حقيقة على ماذا، فالمشهور
أنها إلى المنكب؛ وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب واختار أنَّها تتناول الكفين مع
الأصابع دون ما زاد عليها بدليل قوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)
دل على أن هذا زيادة على ما يتناوله الاسم وليس بنقصان فإنه يجري مجرى قولهم: سرت
من الكوفة إلى البصرة). اهـ
قوله: (وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه، والقياس على
الوضوء دليل على أن المراد هنا: وأيديكم إلى المرافق).
قلت: الحديث رواه أبو داود بسند ضعيف عن ابن عمر قال: مر رجل على النبي - صلى الله
عليه وسلم - في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى
كاد الرجل يتوارى في السكة، فضرب بيده على الحائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى
فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل السلام.
زاد أحمد عد بن عبيد الصفار في مسنده من هذا الوجه: فمسح ذراعيه إلى المرفقين.
ومداره على محمد بن ثابت العبدي وهو ضعيف، وقد أنكر البخاري عليه هذا الحديث.
(3/159)
قال النووي في شرح المهذب: احتج أصحابنا بأشياء كثيرة لا يظهر
الاحتجاج بها، وأقربها أن الله تعالى أمر بغسل اليدين إلى المرافق في الوضوء وقال
في آخر الآية (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) فظاهره أن المراد الموصوفة أولاً بقوله (إِلَى
الْمَرَافِقِ)؛ وهذا المطلق محمول على ذلك المقيد لا سيما وهي آية واحدة، وقد أجمع
المسلمون على أن الوجه يستوعب في التيمم كالوضوء فكذلك اليدان.
قال الشافعي والبيهقي: أخذنا بحديث مسح الذراعين لأنه موافق لظاهر القرآن والقياس،
وأحوط. اهـ
قوله: (فكذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ قوله (إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) كالتعليل
لقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ... ) إلى آخره والعفو والغفران يستدعيان سبق جرم؛
وليس في ذكر الأعذار ما يشم منه رائحة؛ فلا يصح إجراؤه على ظاهره؛ فوجب أن يكون
ذكرهما كناية عن الترخيص والتيسير، ويؤيده مجيء قوله (مَا يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) في مثل هذه
الآية في المائدة. اهـ
قوله: (بيان للذين أوتوا -إلى قوله- وما بينهما اعتراض).
قال أبو حيان: إذا كان الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بثلاث. اهـ
قال الحلبي: وفيه نظر؛ فإن الجمل هنا متعاطفة والعطف يصير الشيئين شيئاً واحداً.
اهـ
قوله: (أو بيان لـ (أَعْدَائِكُمْ)).
قال الطَّيبي: بيان أنَّ قوله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) بعد قوله
(الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) المشتمل على الفريقين اليهود
والنصارى مشعر بتهديد عظيم ووعيد شديد لبعض منهم على سبيل الإبهام فبين بقوله
(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) ذلك البعض المبهم، والآية تنظر إلى معنى قوله تعالى
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)، وعلل العداوة على سبيل الاستئناف بقوله
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) كأنَّ سائلاً سأل: لم تفردت اليهود
بعداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقيل: لأنهم حرفوا اسمه ووصفه من التوراة
وكتموا الحق وأخذوا على ذلك الرشى وأظهروا على سبيل ذلك المشتبه بقولهم (رَاعِنَا)
إخفاءً لأمره وحطًّا
(3/160)
لمنزلته، ولما كان الكلام فيه نوع تسلية لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ووعد على نصرته وقهرٌ لأعدائه كان قوله (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا
وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا) اعتراضاً مؤكداً له، وفي تكرير الاعتراض دلالة على
الانتقام الشديد والتسلية العامة. اهـ
قوله: (أو صلة لـ (نصيرا)).
قال الشيخ سعد الدين: يقال نصرته على عدوه ونصرته منه لما فيه من معنى الغلبة
والاستيلاء عليه والإنجاء منه. اهـ
وقال الطَّيبي: يجوز أن يكون مضمناً معنى انتقم. اهـ
قوله: (جمع كلمة).
قال الشيخِ سعد الدين: أراد بالجمع ما هو على حد تمر وركب بما يطلق عليه لفظ الجمع
نظراً إلى المعنى وإلى أنَّ له لفظاً يطلق على الواحد مثل كلمة وتمرة وراكب وإن لم
يكن هو صيغة جمع بدليل رجوع الضمير إليه مفرد أو وصفه بالمفرد مثل الكلم الطيب،
وحيث ينفي عنه الجمع يراد إنه ليس مجموعاً على حد رجال وأفراس. اهـ
وأقول: لو كانت المسألة متفقاً عليها بين النحويين أنَّ الكلم ليس بجمع اتجه له
هذا التأويل، ولكن الخلاف فيها شديد؛ فإن طائفة من النحويين ذهبوا إلى أنه جمع
ورجحه مع حكاية الخلاف عن طائفة من المتأخرين، فما المانع أن يكون صاحب الكشاف قد
يجنح إلى هذا؛ وتبعه المصنف على اختياره.
قوله: (تخفيف كلمة).
قال الشيخ سعد الدين: يعني بنقل كسرة اللام إلى الكاف. اهـ
قوله: (وإنما قالوه نفاقاً).
قال في الكشاف: هو قول ذو وجهين. اهـ
قال الطَّيبي: وهو المسمى في البديع بالتوجيه؛ وهو إيراد كلام محتمل لوجهين
مختلفين بالذم والمدح. اهـ
(3/161)
قوله: (ولو ثبث قولهم هذا).
قال أبو حيان: سبك من أنَّهم قالوا مصدراً مرتفعاً يثبت على الفاعلية وهو قول
المبرد، وهو مذهب مرجوح في علم النحو، وسيبويه يرى أنَّ (أن) بعد (لو) مع ما عملت
فيه يقدر باسم مبتدأ، وهل الخبر محذوف أو لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند
والمسند إليه في صلة (أن)؟ قولان أصحهما الثاني. اهـ
قوله: (ويجوز أن يراد بالقلة العدم كقوله: قليل التشكي للمهم يصيبه ... ).
قال أبو حيان: ما ذكره من أنَّ القليل يراد به العدم صحيح في نفسه؛ لكن هذا
التركيب الاستثنائي من تراكيبه؛ فإذا قلت: لا أقوم إلا قليلاً؛ لم يوضع هذا
لانتفاء القيام ألبتَّة، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك،
وإذا قلت: قلما يقوم أحد إلا زيد، وقلَّ رجل يقول ذلك احتمل أن يراد به التقليل
المقابل للكثير، واحتمل أن يراد به النفي المحض وكأنك قلت: ما يقوم أحد إلا زيد،
وما رجل يقول ذلك، أما أن تنفي ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي
فلا؛ إذ تكون (إلا) وما بعدها على هذا التقدير جيء بها لغواً لا فائدة فيه؛ إذ
الانتفاء فهم من قولك: لا أقوم، فأي فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء
المفهوم من الجملة السابقة، وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد (إلا) موافقاً
لما قبلها في المعنى؛ وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد (إلا) موافقاً لما قبلها.
اهـ
والبيت المستشهد به قيل لأبي كثير الهذلي ولم أجده في شعره، وقيل لتأبط شراً
وتمامه:
كثير الهدى يثني الهوى والمسالك.
قال الطَّيبي: أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق، لا يقف أهله على فن واحد بل
يتجاوز إلى فنون مختلفة، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها، فاستعمل لفظ
(3/162)
القليل وقصد به إلى نفي الكل. اهـ
قوله: (أو إلا قليلاً منهم آمنوا).
قال الطَّيبي: فعلى الأول (إِلاّ قَلِيلاً) مستثنى من مصدر (يؤمِنُونَ)، وعلى هذا
(من) فاعله. اهـ
قوله: (أو (للذين) على طريقة الالتفات).
قال الطَّيبي: أراد الانتقال من الخطاب المستفاد من النداء في قوله (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) إلى الغيبة في قوله (أَوْ نَلْعَنَهُمْ). اهـ
قوله: (ارتكب ما يستحقر دونه الآثام -إلى قوله- والافتراء كما يطلق على القول يطلق
على الفعل).
قال الطَّيبي: لا يعلم من كلام القاضي أنه مشترك أو مجاز وحقيقة، والظاهر من قول
الكشاف: أي ارتكبه، أنه استعارة تبعية، شبه ما لا يصح كونه من الفعل بما لا يصح
ثبوته من القول، ثم استعمل في الفعل ما كان مستعملاً في القول من الافتراء. اهـ
قوله: (وقيل ناس من اليهود جاءوا بأطفالهم ... ) إلى آخره.
ذكره الثعلبي عن الكلبي.
قوله: (وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها).
قال في الكشاف: إلا إذا كان لغرض صحيح في الدين وطابق الواقع. اهـ
قوله: (وأصل التزكية: نفى ما يستقبح فعلا أو قولاً).
قال الراغب: التزكية: إما بالفعل وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهير بدنه؛ وذلك
يصح أن ينسب إلى العبد كقوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)، أو إلى من
يأمره بفعله كقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)، وإما بالقول وذلك الإخبار عنه بذلك ومدحه ومحظور على
الإنسان أن يفعل ذلك بنفسه، فالتزكية في الحقيقة هي الإخبار عما ينطوي عليه
الإنسان ولا يعرف ذلك إلا الله؛ ولهذا قال (بَلِ
(3/163)
اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ). اهـ
قوله: (وقيل في حيي بن أخطب ... ) إلى آخره.
أخرجه الطبراني، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.
قوله: (ويجوز أن يكون المعنى إنكار أنهم أوتوا ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: الفرق بين الوجهين أنَّ الإنكار على الأول متوجه إلى أن يكون لهم
نصيب من الملك فقط أي ليس لهم نصيب من الملك، وعلى الثاني متوجه إلى أن يكون لهم
نصيب وإلى أنَّهم لا يؤتون أحداً شيئاً، [فالإنكار ينصب على الأمرين يعني: أوتوا
نصيباً من الملك ويشكروا لينفقوا في سبيل الله فجعلوه سبباً للإمساك] كقوله تعالى
(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، فالفاء سببية نحو اللام في
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا). اهـ
قوله: (بأن يعاد ذلك الجِلْد ... ) إلى آخره.
قال الطيبي: فالمغايرة في الصفة لا في الذات. اهـ
قال الإمام: المعذب هو الإنسان، والجلد ليس منه بل هو كالشيء الملتصق به، فإذا جدد
الله تعالى الجلد حتى صار سبباً لوصول العذاب إليه لم يكن إلا تعذيباً للعاصي. اهـ
قال الطَّيبي: وهذا أيضاً عن القاضي والزجاج، وهو مبني على أنَّ الإنسان غير
البدن، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، بل إنه سبحانه قادر على أن يوصل إلى أبدانهم
آلاماً عظيمة من غير إدخالهم النار مع أنه تعالى أدخلهم النار. اهـ
قوله: (نزلت يوم الفتح في عثمان بن أبي طلحة ... ) الحديث.
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس نحوه.
(3/164)
قال الشيخ سعد الدين: وللشيعة هنا كلام آخر وهو أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - حمل علياً على عاتقه حتى صعد سطح الكعبة وأخذ المفتاح وقال: قد
خُيِّل إليَّ أني لو أردت لبلغت السماء.
قلت: هذا أخرجه الحاكم في مستدركه.
قوله: (روي عن ابن عباس أن منافقاً خاصم يهودياً ... ) الحديث.
أخرجه الثعلبي عنه بلفظه، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود
مرسلاً بلفظه أيضاً، وأخرجه ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس مختصراً.
قوله: (ويؤثر فيهم).
قال الطَّيبي: عطف تفسيري على قوله يبلغ منهم، يعني متمكن منهم من جهة الإبلاغ.
اهـ
قوله: (وتعليق الظرف بـ (بَلِيغًا) على معنى: بَلِيغًا في أنفسهم مؤثراً فيها
ضعيفٌ لأن معمول الصفة لا يتقدم الموصوف).
رد به على صاحب الكشاف حيث ذكر ذلك بادءً به، وقد وافقه أبو حيان في الرد قال:
تعليق (فِي أَنْفُسِهِمْ) بقوله (بَلِيغًا) لا يجوز على مذهب البصريين، لأن معمول
الصفة لا يتقدم عندهم على الموصوف، لو قلت: هذا رجلٌ ضاربٌ زيداً؛ لم يجز أن تقول:
هذا زيداً رجل ضارب، لأنَّ حق المعمول أن لا يحل إلا في محل يحل فيه العامل،
ومعلوم أن النعت لا يتقدم على المنعوت لأنه تابع والتابع (لا يتقدم على المتبوع،
وأجاز ذلك الكوفيون)، والزمخشري يأخذ في ذلك بقولهم.
وقال الحلبي: قول البصريين لا يتقدم المعمول إلا حيث يتقدم العامل فيه بحث، وذلك
أنا وجدنا هذه القاعدة منخرمة في قوله (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) فـ (الْيَتِيمَ) معمول لـ (تَقْهَرْ)، و
(السَّائِلَ) معمول لـ (تَنْهَرْ)، وقد تقدما على
(3/165)
(لا) الناهية، والعامل فيهما لا يجوز تقديمه عليها إذ المجزوم
لا يتقدم على جازمه، فقد تقدم المعمول حيث لا يتقدم العامل، وللنظر في هذا البحث
مجال. اهـ
وقال ابن المنير: يشهد لتعلقه بـ (بَلِيغًا) أن مساقه التهديد قوله (فَكَيْفَ
إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وهو إخبار بما سيقع، ولتعلقه بـ (وَقُل لهم) أي:
قل لهم في معنى أنفسهم قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ)، ولقوله وقل لهم في أنفسهم خالياً بهم سيرته - صلى الله عليه وسلم -
في ستر أحوال المنافقين حتى عد حذيفة باطلاعه على ذلك صاحب سر النبي - صلى الله
عليه وسلم -. اهـ
قال الطَّيبي: هذا الوجه يشترك مع الوجه الذي قبله من حيث أنَّ (في أَنفُسِهمْ)
متعلق بـ (قُل)، ومع الوجه الأول في التأثير، والفرق بين التأثيرين اختلاف الجهة
وهو أن المؤثر هناك إيقاع (أَنْفُسِهِمْ) ظرفاً للقول وهاهنا النصيحة في السر. اهـ
قوله: (والقول البليغ فى الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به).
قال الراغب: القول البليغ إذا اعتبر بنفسه فهو ما يجمع أوصافاً ثلاثة: أن يكون
صواباً، مطابقاً للمعنى المقصود به لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، وصدقاً في
نفسه، وإذا اعتبر بالمقول له والقائل فهو الذي يقصد به قائله الحق، ويجد من المقول
له قبولاً، ويكون وروده في الموضع الذي يجب أن يورد فيه. اهـ
قال الطَّيبي: وإذا تعلق (فِي أَنْفُسِهِمْ) بقوله (بَلِيغًا) فالبليغ من البلوغ
والوصول، ولهذا قال مؤثراً في قلوبهم، فجعل (أَنْفُسِهِمْ) ظرفاً ليتمكن القول في
قلوبهم تمكن المظروف في الظرف. اهـ
قوله: (إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت).
قال الطَّيبي: إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله (إِلَى الذِين يَزعُمُونَ) إلى
قوله (يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ). اهـ
قوله: (و (لا) مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر (لا) فى قوله (لا يؤمنون) لأنها تزداد
أيضاً فى الإثباث كقوله تعالى (لا أقسم بهذا البلد)).
قال الطَّيبي: يريد أن (لا) في (فَلا وَرَبِّكَ) جاءت لتوكيد معنى القسم لا لتوافق
(3/166)
(لا) في (لا يُؤمِنُون)؛ لأنَّ إثبات (لا) في القسم سواءً كان
الجواب منفياً أو مثبتاً جائز فإن قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
مثبت، وقد جاء بالقسم مؤكداً بـ (لا) في قوله (فَلا أُقسِمُ) فلو كان للتظاهر لما
جاءت في المثبت.
قال صاحب التقريب: وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يقال إنه تأكيد النفي في المنفي فقط، بل
وجه المنع أنَّ (لا) حينئذ تتمة الجواب فيلزم الفصل بين أجزاء الجواب بالجملة
القسمية، فيقال: إن القسم لما اتحد مع الجواب اتحاد المفرد في قوله تعالى (وَإِنَّ
مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) حتى اكتفى بالجواب في إيقاعه صلة للموصول اغتفر
الفصل به.
قال أبو البقاء: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الأولى زائدة، وقيل إنَّ الثانية زائدة والقسم معترض بين النفي
والمنفي.
وثانيهما: أن (لا) لنفي أمر مقدر أي: فلا يعقلون ثم قال: وربك لا يؤمنون.
في الانتصاف: أراد الزمخشري أنَّها لما زيدت حيث لا يكون القسم نفياً دلت على أنها
تزاد لتأكيد القسم فجعلت كذلك في النفي، والظاهر عندي أنَّها هاهنا لتوطئة القسم،
والزمخشري لم يذكر مانعاً منه إنما ذكر مجيئها لغير هذا وذلك لا يأبى مجيئها في
النفي على الوجه الآخر من التوطئة، على أن دخولها على المثبت فيه نظر، فلم يأت في
الكتاب العزيز إلا مع القسم بالفعل (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) (لا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (فَلا أُقْسِمُ
بِمَا تُبْصِرُونَ)، ولم يأت إلا في القسم بغير الله، وله سر يأبى أن يكون هنا
لتأكيد القسم وذلك أن المراد بها تعظيم المقسم به فِى الآيات المذكورة فكأنه
بدخولها يقول: إعظامي لهذه الأشياء المقسم بها كلا إعظام إذ هي تستوجب فوق ذلك،
وإنما يذكر هذا التوهم وقوع عدم تعظيمها فيؤكد بذلك وبفعل القسم ظاهراً، والوهم
زائل بالقسم بالله تعالى فلا يحتاج إلى تأكيد فتعين حملها على التوطئة، ولا تكاد
تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت، أما في
(3/167)
النفي فكثير. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: يعني إن قيل: لم لا يجوز أن تكون مزيدة لمظاهرة (لا) في (لا
يُؤمِنُونَ) ومعاونتها والتنبيه من أول الأمر على أن المقسم به نفي؟
فالجواب: أنَّ مجيئها قبل القسم سواءً كان الجواب نفياً أو إثباتاً يدل على أنَّها
لتأكيد القسم لا لمظاهرة النفي في الجواب، وذلك لأنَّ الأصل إجراء المحتمل على
المحقق والمشكوك على المقطوع واتخاذ نهج اللفظ على اتخاذ نهج المعنى وترك التصرف
في الحرف، وبهذا يندفع اعتراض صاحب التقريب بأنه يجوز أن يكون نفي المنفي لمظاهرة
النفي وفي المثبت لتأكيد معنى القسم، وما يقال إنه لا يجوز أن يكون في النفي
لتأكيده وفي الإثبات لتأكيده فليس على ما ينبغي. اهـ
قوله: (وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء، أو على: إلا فعلاً قليلاً).
قال الطَّيبي: فعلى هذا الاستثناء مفرغ، و (منهم) بيان للضمير في (فعلوه) كقوله
تعالى (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) على التحديد، وعلى أصل
الاستثناء (منهم) للتبعيض. اهـ
وقال أبو حيان: أما النصب على الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة،
وأما قوله: إلا فعلاً قليلاً؛ فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع ولقوله
(منهم) فإنه تعلق على هذا التركيب؛ لو قلت: ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم
لم يحسن أن يكون (منهم) لا فائدة في ذكره. اهـ
وقال السفاقسي: أجاب بعضهم بأن هذا لازم على تقدير الزمخشري، ورد بأنها على تقدير
الرفع للربط لأنه بدل بعض من كل، وعلى تقدير النصب على الاستثناء يكون في معنى
الرفع لأنه أيضاً إخراج بعض من كل، وأجيب بأنهم اكتفوا في مثل هذا بالربط بـ
(إلا)، وأجيب بأنَّ الربط بالضمير هو الأصل و (إلا) كالنيابة عن ذلك الأصل،
(3/168)
وإذا وجد (إلا) فلا يعد غير مفيد بخلاف تقدير الزمخشري. اهـ
فائدة: قال ابن الحاجب: لا بُعد أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على
الوجه الذي هو دونه، بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء على قراءة غير
الأقوى. اهـ
قال الطَّيبي: بل يكون إجماعهم بل قراءتهم دليلاً على أن ذلك هو الأقوى؛ لأنهم هم
المتقنون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأنَّ تعليل النحاة غير ملتفت إليه. اهـ
قوله: (والآية أيضاً نزلت فى شأن المنافق واليهودي).
هو في رواية أبي الأسود السابقة.
قوله: (وقيل إنها والتى قبلها نزلتا فى حاطب ابن أبى بلتعة خاصم زبيراً فى شراج من
الحرة كانا يسقيان بها النخل فقال عليه الصلاة والسلام: اسق يا زبير ثم أرسل الماء
إلى جارك. فقال حاطب: أن كان ابن عمتك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اسق يا زبير ثم
احبس الماء إلى الجدر).
أخرجه الأئمة الستة إلا أن فيه: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار ولم يسمه.
قال الطَّيبي: تسمية حاطب ابن أبي بلتعة خطأ، وجل جانب حاطب أن يتكلم بما يتغير به
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلحقه من الحفيظة ما لحقه، وقد شهد الله عز وجل
له بالإيمان في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، وأنه شهد بدراً والحديبية، وقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية، وأنه حليف الزبير
بن العوام. ذكره في الاستيعاب.
وقال صاحب الجامع: هو حاطب بن راشد اللخمي وهو حليف قريش، ويقال إنه من
(3/169)
مذحج، وقيل: هو من أهل اليمن، والأكثر على أنه حليف لبني أسد بن
عبد العزى.
قال الطَّيبي: فلا خلاف إذن أنه لم يكن أنصارياً. اهـ
قلت: القصة أخرجها ابن أبي حاتم من مرسل سعيد بن المسيب بسند قوي وفيه تسمية حاطب
ابن أبي بلتعة.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ذكر جماعة أنه حاطب ابن أبي بلتعة، وتعقب
بأنه من المهاجرين لا من الأنصار، فإن ثبت فقول من قال إنه من الأنصار على إرادة
المعنى الأعم كما استعمل ذلك غير واحد، وذكر الداودي والزجاج أن خصم الزبير كان
منافقاً.
قال القرطبي: فقوله من الأنصار يعني نسباً لا ديناً. قال: وهذا هو الظاهر من حاله،
ويحتمل أنه لم يكن صدر ذلك منه بادرة النفس.
وقواه بعضهم قائلاً: لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بالنصرة التي هى صفة مدح
ولو شاركهم في النسب، بل هي زلة من الشيطان تمكن منه بها عند الغضب، وليس ذلك
بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحال.
قال الحافظ ابن حجر: وحكى الواحدي بلا مستند أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وحكى ابن
بشكوال عن شيخه أبي الحسن بن مغيث أنه ثابت بن قيس بن شماس؛
ولم يأت على ذلك بشاهد. اهـ
قال الطيبي: قال في النهاية: الشرجة: مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والشرج جنس
لها لها والشِرَاج جمعها، والحرة: أرض ذات حجارة سود، والجدر: المُسَنَّاة وهو ما
رفع حول المزرعة كالجدار. اهـ
(3/170)
قوله: (لأن (إذن) جواب وجزاء).
قال الطَّيبي: تعليل للتقدير، يعني لما قال الله تعالى (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) اتجه لسائلٍ أن يسأل عن جزاء التثبيت على الإيمان فأوقع
(وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ) جواباً لهذا السؤال وجزاءً للتثبيت، واللام في
(لَآتَيْنَاهُمْ) جواب لـ (لو) محذوفاً كما قدره، وفي هذا التقدير تكلفات شتى:
أحدها: أنه لم يعلم أنَّ المعطوف عليه لهذه الجملة -أعني (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ)
- ماذا؟ والثاني: تقدير السؤال وهو مستغني عنه، والثالث: حذف (لو) والظاهر أنها
معطوفة على قوله (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) في الدنيا (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) في
الدين (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ) في الآخرة (أَجْرًا عَظِيمًا) تفضلاً من عندنا لا
وجوباً، هذا هو الوجه ذهاباً ومذهباً، ويؤيده ما قاله المرزوقي في قوله:
إذن لقام بنصري معشر خشن
إذ القيام جواب (لو)، كأنه أجيب بجوابين، واللام في (لقام) جواب يمين مضمرة،
والتقدير: إذن والله لقام. اهـ
وقال أبو حيان: قوله لأنَّ إذن جواب وجزاء يفهم أنَّها تكون للمعنيين في حال واحدة
على كل حال، وبه قال أبو علي الشلوبين وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه، والصحيح قول
الفارسي أنَّها تكون جواباً فقط في موضع، وجوباً وجزاءً في موضع، ففي مثل: أظنك
صادقاً لمن قال: أزورك هي جواب خاصة، وفي مثل: إذن أكرمك لمن قال: أزورك هي جواب
وجزاء. اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم).
أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس.
(3/171)
قوله: (روي أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أتاه يوماً ... ) الحديث.
قال الشيخ ولي الدين: ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسناد ولا راو، وحكاه الواحدي في
أسباب النزول عن الكلبي، وروي الطبراني في معجمه الصغير عن عائشة وابن مردويه في
تفسيره عن ابن عباس والبيهقي في شعب الإيمان عن الشعبي وابن جرير عن سعيد بن جبير
كل منهم يحكي عن رجل فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه.
قوله: (أو الفضل خبره).
قال الراغب هو كقولك: ذاك الرجل، وهذا المال تنبيهاً على كماله؛ فإنَّ الشيء إذا
عظم أمره يوصف باسم جنسه. اهـ
قوله: (و (من الله) حال).
زاد الراغب: أو خبر لمبتدأ مضمر. اهـ
قوله: (كوكبة واحدة).
قال الجوهري: كوكب الشيء معظمه، وكوكب الروضة: نورها. اهـ
وإيراده هنا مجاز.
قوله: (منقولاً من بطؤ).
قال الطَّيبي: أي متعدياً بالتثقيل. اهـ
قوله: (والقسم بجوابه صلة (من)).
قال الشيخ سعد الدين: إذ لا خفاء في أنَّها خبرية مؤكدة بالقسم، وإنما الإنشائية
هي مجرد القسم أعني أقسم بالله. اهـ
وقال الطَّيبي: بهذا يعلم أن الجملة القسمية مع جوابها خبرية فلا يمتنع وقوعه صلة
(3/172)
للموصول، وقيل: الصلة بالحقيقة جواب القسم والقسم كالتأكيد.
قال ابن الحاجب في شرح المفصل: القسم جملة إنشائية يولد بها جملة أخرى.
وقال الزجاج: (من) موصولة بالجالب للقسم تقديره: وإن منكم لمن أحلف والله ليبطئن،
والنحويون مجمعون على أن (ما) و (من) و (الذي) لا يوصلن بالأمر والنهى إلا يضمر
معها ذكر خبر، لأن لام القسم إذا جاءت مع الحروف فلفظ القسم وما أشبهه مضمر معها.
اهـ
قوله: (وقرئ بضم اللام إعادة للضمير على معنى من).
قال ابن جني: ذلك لأن قوله (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) لا يعني به
رجلاً واحداً ولكن معناه أن هناك جماعة هذا وصف كل واحد منهم، فلما كان جمعاً في
المعنى أعيد الضمير إلى معناه دون لفظه. اهـ
وقال ابن المنير: في هذه القراءة نكتة غريبة وهي العود على معنى (من) بعد الحمل
على لفظها، وأنكر بعضهم وجودها في القرآن العظيم لما يلزم من الإجمال بعد البيان
وهو خلاف البلاغة، لأن العود إلى لفظها ليس بمفصح عن معناها بل تناوله المعنى
مبهم، فوقوعه بعد البيان عي، ومنهم من عد موضوعين وهذه القراءة في هذه الآية
ثالثة. اهـ
قوله: ((كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل
ومفعوله).
قال الطَّيبي: قيل هذا الاعتراض في غاية الجزالة إذ يفيد أنَّهم يحسدونكم مما يصل
إليكم من الخير كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة. اهـ
قوله: (وقيل إنه متصل بالجملة الأولى).
زاد الراغب في حكايته وتقديره: قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً كأن لم
يكن بينكم وبينه مودة، فأخر. قال الراغب: وذلك مستقبح في العربية فإنه
(3/173)
لا يفصل بين بعض الجملة التي ذاك في أثنائها. اهـ
قوله: (ويجوز نصبه على الاختصاص).
زاد الزمخشري: يعني وأخص من سبيل الله خلاص المستضعفين.
قال أبو حيان: ولا حاجة إلى تكلف ذلك؛ إذ هو خلاف الظاهر. اهـ
وقال ابن المنير: فيه على هذا مبالغة من وجهين: التخصيص بعد التعميم، والنصب على
الاختصاص كأنه قال: أخص هؤلاء. اهـ
قوله: (فاستجاب الله دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج).
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: إن كان قصدهم الجمع بين الدعوتين فلم يجابوا
إليهما، وإن كان إلى إحداهما لكونها كافية في المقصود كان المناسب العطف بـ (أو)؟
قلنا: إن قدر: ويقولون اجعل لنا؛ على معنى أنه كانت فيهم الدعوتان فلا إشكال، وإن
لم يقدر فيجوز أن يكون ذلك على سبيل التوزيع، ولو سلم فمعلوم أن المقصود الأصلي
والمطلوب الأولي هو النجاة والخلاص من الظلمة والوصول إلى خير ولي ناصر وقد حصل.
اهـ
قوله: (عتاب بن أَسيد).
بفتح الهمزة وكسر السين.
قوله: (وتذكيره لتذكير ما أسند إليه).
قال ابن المنير: هنا نكتة وهي أن الظلم ينسب في القرآن إلى القرية مجازاً
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ) (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
مَعِيشَتَهَا) (قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) إلى قوله (فَكفَرَتْ)
وهنا نسب الظلم إلى أهلها إذ المراد مكة فرفعت عن نسبة الظلم إليها. اهـ
قوله: (من إضافة المصدر إلى المفعول).
قال الشيخ سعد الدين: يعني لا يعتبر المصدر من المبني للمفعول بحيث تكون الإضافة
(3/174)
إلى ما هو قائم مقام الفاعل كما في قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ) أي مغلوبيتهم وذلك لأنه حينئذ لا يكون لإضافة الأهل إليه كبير معنى
بمنزلة قولك: حال كونهم مثل أهل مخوفية الله، بل المعنى: مثل أهل الخائفة من الله
وهم الخائفون، فليتنبه للفرق بين المصدر المبني للمفعول والمضاف إلى المفعول. اهـ
قوله: ((أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف عليه إن جعلته حالاً، وإن جعلتته مصدراً فلا
... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: أي ذلك مبناه على أن التمييز في المعنى فاعل فإن المجرور بـ
(من) التفصيلية يكون ما يقابل الموصوف بأفعل التفضيل، فالمعنى على تقدير الحالية
أنهم أشد خشية من غيرهم، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشية غيرهم، [وهو مستقيم، وعلى
تقدير المصدرية أن خشيتهم أشد خشية من خشية غيرهم] بمعنى أن خشية خشيتهم أشد؛ ولا
يستقيم إلا على طريق: جد جده على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني ويكون كقولك: زيداً
جد جداً، بخلاف ما إذا قلت: أو أشد خشية -بالجر- فإن معناه تفضيل خشيتهم على سائر
الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة. اهـ
وقال أبو حيان وتبعه الحلبي: يصح نصب (خشية) ولا يكون تمييزاً، فلا يلزم عليه ما
ألزمه الزمخشري بأن يكون (خشية) معطوفاً على الحال و (أشد) منصوب على الحال لأنه
كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير: يخشون الناس مثل خشية الله أو
خشية أشد منها وقد تقدم نظر ذلك في قوله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا). اهـ
قوله: (استزادة في مدة الكف ... ).
قال الطَّيبي: يعني في (لولا) معنى التمني والطلب، المعنى: ليتنا أخرتنا، فوكد
(لولا) معنى السؤال. اهـ
(3/175)
قوله: (من يفعل الحسنات الله يشكرها).
تمامه: والشر بالشر عند الله مثلان.
وبعده:
فإنما هذه الدنيا وزهرتها ... كالزاد لابد يوماً أنه فاني.
وهما لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وقيل لكعب بن مالك.
قال أبو جعفر النحاس في شرح شواهد سيبويه: قال أبو الحسن على بن سليمان حدثني محمد
بن زيد قال حدثني المازني أنَّ الأصمعي قال: هذا البيت غيَّره النحويون والرواية:
من يفعل الخير فالرحمن يشكره. اهـ
قوله: (أو على أنه كلام مبتدأ و (أينما) متصل بـ (لا تظلمون)).
قال أبو حيان: هذا التخريج ليس بمستقيم لا من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة، أما
المعنى فلأنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) لأنَّ
ظاهره انتفاء الظلم في الآخرة لقوله (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ
خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)، وأما الصناعة فإنه يلزم أن يكون العامل في (أَيْنَمَا)
(تُظْلَمُونَ) واسم الشرط لا يتقدم على عامله. اهـ
وأجاب الحلبي والسفاقسي بأن المراد اتصال معنى لا اتصال عمل.
قوله: (كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية).
قال الشيخ سعد الدين: يجوز أن يكون باشتراك اللفظ بحسب الوضعين اللغوي والشرعي،
وأن يكون باشتراك المعنى؛ أي ما ينبغي ويلائم طبعاً أو شرعاً وما لا ينبغي ولا
يلائم كذلك. اهـ
قوله: (ما أصابك يا إنسان).
زاد الزمخشري: خطاباً عاماً.
قال الطَّيبي: يعني أنه من باب قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.
(3/176)
أي الخطاب لفخامته بحيث لا يختص بأحد دون أحد.
قوله: (قال عليه لصلاة والسلام: ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله. قيل: ولا أنت؟
قل: ولا أنا ... ).
أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة نحوه: لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ.
قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلاّ أَنْ
يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ.
قوله: (قالت عائشة: ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع
شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر)
قلت: دخل على المصنف حديث في حديث، فإن حديث عائشة أخرجه البخاري ومسلم عنها
مرفوعاً بلفظ: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها
إلا كفر الله من خطاياه.
وأخرج الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يصيب
العبد نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفوا الله عنه أكثر.
قوله: (والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا ولا للمعتزلة).
يعني لما قرره من أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية.
قال الطيبي: وأما الإمام فقد أطنب كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار
منها العموم.
قال: وقوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يفيد
العموم في كل الحسنات من النعم والطاعات، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) تفيد
العموم في كل السيئات من البلايا والمعاصي، ثم قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) صريح في أنَّ الجميع من الله تعالى، فكانت الآية الكريمة دالة على أن جميع
الطاعات والمعاصي من الله؛ وهو
(3/177)
المطلوب.
قال الطَّيبي: وما اختاره المصنف من اختصاصهما بالنعمة والبلية أولى؛ والمقام له
أوعى لا سيما سبب النزول، ولفظة الإصابة إنما تستعمل فيما ذكر شائعاً ذائعاً وفي
الطاعة والمعصية نادراً، لكن يشكل بأنه تعالى نفى أن يكون الحسنة والسيئة
المخصوصتان من عند غيره بقوله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثم أثبت أن تلك
السيئة من نفس العبد؟ ويجاب باختلاف جهتي نفي السيئة وإثباتها من حيث الإيجاد
والسبب. اهـ
قوله: ((رسولاً) حال قصد بها التأكيد).
قال أبو البقاء: أي ذا رسالة. اهـ
قوله: (والتعميم إن علق بها أي: رسولاً للناس جميعاً).
قال الطيبي: يريد أن تقديم (لِلناس) على عامله وهو (رَسُولا) يفيد في هذا المقام
معنى القصر القلبي، وبيانه أنَّ اللام في (لِلناس) للاستغراق وهو في مقابلة البعض؛
لأنه رد لزعم اليهود أنه مبعوث إلى العرب خاصة دون كل الناس.
ومعنى القصر القلبي: رد المخاطب إلى إثبات ما ينفيه ونفي ما يثبته من الحكم. اهـ
قوله: (ويجوز نصبه على المصدر).
قال الطَّيبي: إنما اختار المصنف الوجه الأول ليطابق المقام؛ لأن الكلام مع
اليهود، ولهذا استشهد بالآيتين الدالتين على العموم؛ على أن تكون (كافة) صفة مصدر
محذوف؛ أي: الرسالة كافة عامة محيطة بهم، وعلى أن يكون حالاً من الكاف: أي جامعاً
للناس في الإنذار على أنا أرسلناك كافة للناس عن الكفر والمعاصي. اهـ
قوله: (كقوله: ولا خارجاً من فيَّ زور كلام).
هو للفرزدق وأوله:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاج قائم ومقام
(3/178)
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من فيّ زور كلام
الرتاج: باب الكعبة.
قال الزمخشري في شرح شَواهد سيبويه: أضمر الفعل قبل كان خارجاً كأنه قال: ولا يخرج
خارجاً، جعل خارجاً في موضع خروجاً وعطف الفعل المضمر الذي هو (ولا يخرج) على (لا
أشتم)، (ولا أشتم) جواب قسم أي: حلفت بعهد الله لا أشتم الدهر مسلماً ولا يخرج من
فيّ زور كلام خروجاً. اهـ
قال النحاس: فيه قولان آخران: ولا أمثل خارجاً أي: حلفت على هذا، والثاني أنَّ
المعنى: ولا أقدر. اهـ
قوله: (لأنه فى الحقيفة مبلغ والآمر هو الله تعالى).
قال الطيبي: هذا التعليل يقيد لفظ الرسول لا من وضع المظهر (موضع المضمر) للإشعار
بعلية إيجاب الطاعة لله ويدل عديه السياق وهو قوله (وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) وكان مقتضى الظاهر: ومن تولى فقد عصى الله في
مقابلة قوله (فقد أطاع الله) فوضع ذلك موضعه ليدل على المبالغة. اهـ
قوله: (روي عنه عليه الصلاة والسلام قال: من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد
أطاع الله. فقال المنافقون: لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ما يريد إلا نتخذه ربًّا
كما اتخذت النصارى عيسى. فنزلت).
قال الشيخ ولي الدين: لم أقف عليه كذا. اهـ
قوله: (أي زورت).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: ضبط بتقديم الزاي على الراء أي: حسنت وهيأت
وأصلحت، وبتقديم الراء على الزاي يقال: روزت في نفسي كلاماً ثم قلته، أي: دبرت.
قال الطَّيبي: وقد خُطِّئ من قدم الزاي وليس بخطأ، ففي الفائق في حرف الزاي: عن
ابن زيد: كلام مزور أي: محسن، وقيل: مهيأ مقوي، وفي النهاية في باب
(3/179)
الزاي نحوه. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: كلا اللفظين مما أثبته الثقات. اهـ
قوله: (خلاف ما قلت لها أو ما قالت).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن (تقول) يحتمل أن يكون للخطاب والعدول إلى المضارع
لقصد الاستمرار والاستحضار، وأن يكون للغيبة مسنداً إلى ضمير (طائفة) وعلى تقدير
العائد إلى الموصول محذوف. اهـ
قوله: (ورأي كبار الصحابة).
قال الطَّيبي: أي المجتهدون منهم. اهـ
قوله: (أو الأمن).
قال الطَّيبي: الوجهان مبنيان على تفسير قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). اهـ
قوله: (وأصل الاستنباط: إخراج النبط وهو الماء يخرج من البئر أول ما يحفر).
قال الراغب: الاستنباط: إخراج الشيء من أصله، كاستنباط الماء من البئر والجوهر من
المعدن وذلك كالإثارة، وفي إخراج التراب، واستعير للحديث. اهـ
قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بإرسال الرسل وإنزال الكتب
... ) إلى آخره.
[مبني على أن الاستثناء من الجملة الأخيرة لا من قوله (أَذَاعُوا بِهِ) ولا من
قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ثم فسر القليل بمن تحنث
قبل البعثة واقتصر في تفصيل الفضل والرحمة على إرسال الرسول وإنزال الكتب]، وحذف
قول الكشاف (والتوفيق) هو توفيق اندفع به ما أورد على الكشاف من اقتضائه أنَّ
القليل المستثنى حصل له ترك اتباع لا بفضل الله، ومعاذ الله منه بحيث قال
الطَّيبي: إنَّ كلام الكشاف لا يمكن تصحيحه لتقييده بالتوفيق.
(3/180)
قال الإمام: ظاهر هذا الاستثناء يوهم أنَّ ذلك القليل وقع لا
بفضل الله ولا برحمته، ومعلوم أنَّ ذلك محال، فعند ذلك اختلف المفسرون فقيل:
الاستثناء راجع إلى قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي:
لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل.
قال الفراء والمبرد: والقول الأول أولى؛ لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه
والأكثر يجهله.
وقيل: الاستثناء متعلق بقوله (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُم)؛ لأن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى، وهذا القول لا يتمشى
إلا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص وفيه وجهان:
الأول: وهو قول جماعة من المفسرين أنَّ المراد بفضل الله ورحمته: إنزال القرآن
وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، المعنى: لولا بعثة الرسول وإنزال القرآن
لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله إلا القليل منكم فإنهم ما تبعوا الشيطان وما كفروا
مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل.
والثاني: ما ذكره أبو مسلم أنَّ المراد بفضل الله ورحمته: النصرة والمعونة،
المعنى: لولا حصول النصرة والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدِّين
إلا القليل وهم أهل البصائر النافذة والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين
يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقاً حصول الدولة في الدنيا أو باطلاً الإنكار
والانهزام، بل مدار الأمر في كونه حقاً أو باطلاً على الدليل، وهذا أحسن الوجوه
وأقربها إلى التحقيق. انتهى كلام الإمام.
قال الطَّيبي: ويشهد للقول الأول من هذين القولين قوله تعالى (من يُطِع الرسُولَ)
وقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، وللقول الثاني (وَإِذَا جَاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) وبعده (فَقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ). اهـ
قوله: ((لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ) لا يكلف الله إلا فعل نفسك).
قال الراغب: إن قيل كيف قال (لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ) وقد بعث لتكليف الناس؟
(3/181)
قيل: لم يعن بالتكليف استدعاء الذي رشح له بل التحريض وحث الناس
على الخروج معه ألا ترى أنه قال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ). اهـ
قال الطَّيبي: وهذه الآية تقتضي أنََّ على الإنسان أن لا ينيَ في نصرة الحق وإن
تفرد، وقال بعض العارفين: من طلب رفيقاً في سلوك طريق الحق فلقلة يقينه وسوء
معرفته، فالمحقق للسعادة والعارف بالطريق إليها لا يعرج على رفيق ولا يبالي بطول
الطريق، قال: ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر. اهـ
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام دعا الناس إلى بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه
بعضهم فنزلت فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد).
أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
قوله: (وقرئ (لا تكلف) على الجزم).
قال أبو حيان: اللام للأمر. اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال
له الملك: ولك مثل ذلك).
أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بلفظ: إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت
الملائكة: آمين ولك مثل ذلك، وأخرجه أحمد والبخاري في الأدب بلفظ: دعوة المرء
المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال: آمين
ولك بمثله، وأخرج أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو قال:
(3/182)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أسرع الدعاء) دعوة غائب
لغائب.
قال الطَّيبي: الظهر قد يراد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً. اهـ
قوله: (وذي ضغن كففت الضغن عنه ... وكنت على مساءته مقيتا).
أخرج أبو بكر الأنباري في كتاب الوقف والابتداء والطبراني في المعجم الكبير عن ابن
عباس أنَّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
مُقِيتًا)؟
قال: قادراً مقتدرا.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أحيحة ابن الأنصاري:
وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا.
قال الطَّيبي: الضغن: الحقد، يقول رب ذي ضغن علي كففت السوء عنه مع القدرة. اهـ
قوله: (واشتقاقه من القوت).
قال الزجاج وزاد: يقال: قُتُّ الرجلَ أقوته قوتاً إذا حفظت نفسه بما يقوته، والقوت
اسم لذلك الشىء الذي تحفظ به النفس. اهـ
قوله: (روي أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السلام ... ) الحديث.
أخرجه أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه من
حديث سلمان الفارسي.
قوله: (وهذا الوجوب على الكفاية وحيث السلام مشروع فلا يُرَدُّ في الخطبة وقراءة
القرآن وفى الحمام وعند قضاء الحاجة ونحوها).
قلت: أصح الأوجه وجوب الرد حالة الخطبة، والثاني: استحبابه، والثالث: جوازه.
(3/183)
وأما القارئ فنقل النووي في الروضة عن أبي الحسن الواحدي من
أصحابنا أنَّ الأولى ترك السلام عليه، وأنه إن سلم كفاه الرد بالإشارة، ثم قال
النووي: وفيما قاله نظر، والظاهر أنه يسلم عليه ويجب الرد باللفظ. اهـ
وقول المصنف (ونحوها) كالأكل والمصلي وحال الأذان والإقامة والجماع.
قوله: (وذلك أن أناساً منهم استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج
إلى البدو ... ) إلى آخره.
أخرجه أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف، واجتوو المدينة أي: استوخموها.
قوله: (وقيل: نزلت فى المتخلفين يوم أُحد).
أخرجه الشيخان من حديث زيد بن ثابت.
قوله: (أو فى قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة).
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
قوله: (وأصل النكس: رد الشيء مقلوباً).
قال الراغب: الركس والنكس: الرد، والنكس أبلغ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه،
والركس: ما جعل ظرفاً بعد ما كان طعاماً؛ فهو كالرجس، يقال: ركسه وأركسه، وأركس
أبلغ كما في أسقاه. اهـ
قوله: (لو نصب على جواب التمنى لجاز).
قال أبو حيان: كون التمني بلفظ الفعل يكون له جواب فيه نظر، وإنما المنقول أنَّ
الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو (ليت)، و (لو) و (ألا) إذا أشربتا
معنى التمني، أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب، بل لو جاء لم يتحقق
فيه الجوابية لأن (ودّ) التي تدل على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذوات، فإذا
نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون (فاء) جواب لاحتمال أن يكون من
(3/184)
باب عطف المصدر المقدر على المصدر المنوي. اهـ
وقال الحلبي: لم يرد الزمخشري بالتمني المفهوم من (ودوا) بل المفهوم من (لو) فظهر
من غير توقف. اهـ
قوله: (فلا توالوهم حتى يؤمنوا).
قال الطَّيبي: جعل (حتى) غاية للمقدر وهو الإيمان، لأنَّ الهجرة غير نافعة بدونه.
اهـ
قوله: (جانبوهم رأساً).
ْقال الطَّيبي: بيان لمعنى الاستمرار وذلك من تكرير قوله (فَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا). اهـ
قوله: (استثناء من قوله (فخذوهم))
قال الطَّيبي: أي من الضمير في (خذوهم) لا من الضمير في (وَلا تَتخِذُوا) وإن كان
الأقرب لأن الاتخاذ لولي منهم حرام. اهـ
قوله: (فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر ... )
الحديث.
أخرجه ابن أبي حاتم من مرسل الحسن نحوه.
قوله: (والأول أظهر لقوله (فإن اعتزلوكم)).
قال الطَّيبي: يعني مجيء قوله (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) بعد قوله (فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ) يشعر بأن السبب في المنع من التعرض لهم شيئان:
أحدهما: اتصالهم بقوم معاهدين، وثانيهما: كفهم عن القتال بسبب إظهار أن قلوبهم تنقبض
عن مقاتلتكم فيكون قوله (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) مقرر للمسبب الثاني، يعني:
(3/185)
إن جاءوكم يريدون الإمساك عن القتال لا لكم ولا عليكم فإن تموا
على هذا بأن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم فلا تتعرضوا لهم ألبتَّة، وإذا عطف على
الصفة يبقى سبب عدم التعرض واحداً وهو أن يصلوا إلى قوم معاهدين أو إلى قوم كافين
فلا يكون قوله (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) مقرراً لقوله (حَصِرَتْ
صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ) لأنَّ ذلك وصف لقوم آخرين غير من ترتب عليه قوله
(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) لأنه مترتب على قوله (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ). اهـ
ولخصه الشيخ سعد الدين فقال: لأنَّ الاستثناء يشعر بأنَّ سبب ترك التعرض لهم
أمران: أحدهما: الاتصال بالمعاهدين، والآخر: الاتصال بالكافين عن القتال إن كان
العطف على الصفة، ونفس الكف عن القتال إن كان العطف على الصلة، وقوله (فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ ... ) إلى آخره يشعر بأنه الكف لأنَّ معناه: إن كفوا عن قتالكم فلا
سبيل لكم عليهم، فينبغي أن يحمل الاستثناء على وجه يفيد ذلك أي: اقتلوهم إلا الذين
اتصلوا بالمعاهدين أو الذين كفوا عن قتالكم ليكون هذا تقريراً له وذلك في العطف
على الصلة، إذ معنى العطف على الصفة: اقتلوهم إلا الذين اتصلوا بالمعاهدين أو
الكافين. اهـ
وقال أبو حيان: إنما كان الأول أظهر لأنَّ المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم
المستثنى منه وإذا عطف على الصلة كان محدثاً عنه، وإذا عطف على الصفة لم يكن
محدثاً عنه إنما تقييداً في (قوم) الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها ومتى
دار الأمر بين أن يكون النسبة إسنادية في المعنى وبين أن تكون تقييدية فإن حملها
على الإسنادية أولى للاستقبال الحاصل بها دون التقييدية، هذا من جهة الصناعة
النحوية، وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين (فإنه يكون تركهم القتال
سبباً لترك التعرض لهم؛ وهو سبب قريب على العطف على الصلة، ووصولهم إلى قوم كافين
عن القتال هو سبب ترك التعرض لهم؛ وهو سبب بعيد وذلك على العطف على الصفة)
(3/186)
ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة السبب البعيد. اهـ
قوله: (أوبيان لـ (يصلون)).
ضعفه أبو حيان بأنَّ البيان لا يكون في الأفعال، وزاد في الكشاف (أو بدل)؛ وضعفه
أبو حيان أيضاً بأنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملاً عليه.
قال الحلبي: ويحتاج الجواب عنه إلى تأمل ونظر. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لما كان الانتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عنِ
قتال المسلمين فصح أن يجعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة وعلى هذه العزيمة
بياناً لاتصالهم بالمعاهدين أو بدلاً منه كلاً أو بعضاً أو اشتمالاً على ما قبل.
اهـ
قوله: (أو استئنافاً).
قال الشيخ سعد الدين: على أنه جواب كيف وصلوا إلى المعاهدين ومن أين علم ذلك. اهـ
قوله: (أو بيان لـ (جاءوكم)).
قال الطَّيبي: وذلك أن مجيئهم غير مقاتلين وحصرت صدورهم أن يقاتلوكم في معنى واحد.
اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: من جهة أنَّ المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة
والمقاتلة لا حقيقة المجيء، ومن جهة أنه بيان لكيفية المجيء. اهـ ولم يحك أبو حيان
هذا الوجه، كأنه لما تقدم من أن البيان لا يكون في الأفعال وحكى بدله أنه بدل
اشتمال لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره.
قوله: (أي: جاءوكم قوماً حصرت صدورهم).
قال الطَّيبي: فعلى هذا (قوماً) حال موطئة كقوله تعالى (قرآناً عربياً). اهـ
(3/187)
قوله: (بنو مدلج).
بضم الميم قبيلة من كنانة.
قوله: (أقبح قلب).
قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ معنى أركسه: قلبه على رأسه. اهـ
قوله: (نزلت في عياش ابن أبي ربيعة ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن عكرمة.
قوله: (لقول الضحاك بن سفيان الكلابي: كتب إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يأمرني أن أورث امرأة أشْيم الضبابى من عقل زوجها).
أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وأشْيم: بشين معجمة ساكنة ثم تحتية، والضبابي: بضاد
معجمة وموحدتين بينهما ألف، ووقع في بعض نسخ البيضاوي (الغساني) وهو تحريف، وكذا
وقع الضحاك بن أبي سفيان وهي زيادة وهم إنما هو ابن سفيان.
قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل معروف صدقة).
أخرجه البخاري من حديث جابر، ومسلم من حديث حذيفة.
قوله: (فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف).
قال أبو حيان: كلا التخريجين خطأ لأن (أن) والفعل لا يجوز وقوعهما حالاً ولا
منصوباً على الظرف، نصوا عليه، فالصواب أنه في محل نصب على الاستثناء المنقطع. اهـ
وقال السفاقسي: قدره ابن مالك: إلا بأن يصدقوا، فعلى هذا يكون متصلاً وليس
(3/188)
فيه إلا حذف حرف جر داخل على (أن) وهو مطرد، بخلاف الوجهين
اللذين ادعاهما الزمخشري وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع (أن) وصلتها موقع ظرف
الزمان بقوله:
فقلت لها لا تنكحيه فإنه ... لأول سهم أن يلاقي مجمعا
أي: لأول سهم زمان ملاقاته، وقدره بأن يلاقى كما قدر في الآية. اهـ
قوله: (قال ابن عباس: لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدًا).
أخرجه البخاري.
قوله: (و لعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه).
أخرجه سعيد بن منصور والبيهقى في السنن من طريق كردم عن عباس أن رجلاً أتاه فقال:
ملأت حوضي انتظر بهيمتي ترد علي فلم استيقظ إلا برجل قد أشرع ناقته وثلم الحوض
وسال الماء، فقمت فزعاً فضربته بالسيف.
فقال: ليس هذا مثل الذي قال، فأمره بالتوبة.
وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة قال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا
توبة، فإذا ابتلى رجل قالوا له: تب.
قوله: (والجمهور أنه مخصوص ممن لم يتب ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: الذي يمكن أن يقال والعلم عند الله أنَّ الذي يقتضيه نظم الآيات
أنَّ الآية من أسلوب التغليظ كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعَالَمِينَ) فإنه قال (وَمَنْ كَفَرَ) أي: لم يحج، تغليظاً وتشديداً على
تاركه، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك
قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال.
وبيانه أن قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا) دل على
أنَّ قتل المؤمن ليس
(3/189)
من شأن المؤمن ولا يستقيم منه ولا يصح له ذلك، فإنه إن فعل خرج
عن أن يقال إنه مؤمن، ثم استثنى من هذا المقام قتل الخطأ تأكيداً ومبالغة؛ أي: لا
يصح ولا يستقيم إلا في هذه الحالة، وهذه الحالة منافية لقتل العمد، فإذاً لا يصح
منه قتل العمد ألبتَّة، ثم ذيل هذه المبالغة تغليظاً وتشديداً بقوله (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) الآية، يعني كيف
يستقيم من المؤمن قتل المؤمن عمداً فإنه من شأن الكفار الذين جزاؤهم الخلود في
النار وحصول غضب الله ولعنته عليهم، وقد ذكر الزمخشري هذا المعنى في قوله تعالى
(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) إلى قوله (وَحُرِّمَ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤمِنينَ) وفى قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) إلى قوله (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال: جعل
ترك الزكاة من صفات الكفار أي الكافرون هم الذين يتركون الزكاة، فعلى المؤمن ألا
يتصف بصفتهم، وكتابه مشحون من هذا الأسلوب، فإذا لا مدخل لذكر التوبة وتركها في
الآية، ولا يفتقر لإخراج المؤمن من النار إلى دليل كما قال، ولا إلى تخصيص العام
كما ذهب إليه الإمام، ولا إلى تفسير الخلود بالمكث الطويل كما قال القاضي، والله
يقول الحق وهو يهدي السبيل. اهـ
وحديث نزول الآية في مقيس بن ضبابة أخرجه ابن جرير عن عكرمة مرسلاً، لكن روى أبو
داود في ناسخه عن عكرمة قال: كل شيء أقول لكم في التفسير فهو عن ابن عباس. فعلى
هذا يكون متصلاً.
قوله: (روي أن سرية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزت أهل فدك ... ).
أخرجه الثعلبي عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن جابر.
قوله: (وقيل نزلت في المقداد ... ) إلى آخره.
أخرجه البزار من حديث ابن عباس.
قوله: (بالرفع صفة للقاعدين لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم).
قال الطَّيبي: يعني هو مثل قولهم: ولقد أمر على اللئيم يسبني. اهـ
(3/190)
قال الزجاج: (غير) صفة القاعدين وإن كان أصلها أن تكون صفة
للنكرة، المعنى: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر -أي الأصحاء-
والمجاهدون وإن كانوا كلهم مؤمنين، والرفع أيضاً يجوز على الاستثناء أي: لا يستوي
القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر فإنَّهُم يساوون المجاهدين لأنَّ الذي أقعدهم
عن الجهاد الضرر. اهـ
وتبعه الواحدي في هذا الوجه.
قوله: (بالنصب على الحال).
قال الزجاج: المعنى: لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون، كما تقول: جاء
زيد غير مريض، أي: صحيحاً. اهـ
قوله: (وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ... )
الحديث.
أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: (أن ترضها).
أي: تدقها وتكسرها.
قوله: (سري عنه).
أي كشف ما به من برحاء الوحي.
قوله: (جملة موضحة لما نفى الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق).
قال الطَّيبي: أي من أنَّ المراد به (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)، وذلك لأنَّ المراد
أنه وما عطف عليه من دوله (فَضَّلَ اللهُ) الثاني كلاهما بيان وإيضاح للجملة
الأولى وهو قوله (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ) ولا بد من التطابق بين البيان والمبين، وفي المبين
ذكر (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فالواجب أن يقدر ما يوافقه. اهـ
(3/191)
قوله: (و (أَجْرًا) على الحال منها، تقدمت عليها لأنها نكرة).
قال أبو حيان: هذا لا يظهر لأنه لو تأخر عن (دَرَجَاتٍ) لم يجز أن يكون نعتاً لها
لعدم المطابقة لأن (دَرَجَاتٍ) جمع و (أَجْرًا) مفرد. اهـ
وقال الحلبي: هذه غفلة من أبي حيان فإن (أَجْرًا) مصدر والأفصح فيه أن يُوحد
ويُذكر مطلقاً. اهـ
قوله: (الأضراء).
جمع ضرير.
قوله: (وعليه قوله عليه لصلاة والسلام: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد
الأكبر).
سيأتي.
قوله: (يحتمل الماضي والمضارع).
قال الزجاج: على الأول ذُكِّر الفعل لأنه فعل بهم، وعلى الثاني حذفت التاء الثانية
لاجتماع التاءين. اهـ
قال الطَّيبي: وإذا حمل على المضارع يكون من باب حكاية الحال الماضية ولذلك أوقع
(قالوا) خبر لإنّ. اهـ
قوله: (نزلت في ناس من مكة أسلموا بها ولم يهاجروا).
أخرجه الطبراني عن ابن عباس.
قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان
شبرًا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق خليل الله إبراهيم ونبيه عليه الصلاة
والسلام).
أخرجه الثعلبي من حديث الحسن مرسلاً.
قال الطَّيبي: استوجبت قيل معناه: وجبت، وحقيقته: طلبت له الجنة الوجوب،
(3/192)
ويروي اُستوجبت مجهولاً. اهـ
قوله: (صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه).
قال أبو حيان: هذا تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)، وهو هدم القاعدة المشهورة أنَّ النكرة لا
تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، والذي يظهر أنَّها جملة مفسرة
لقوله (الْمُسْتَضْعَفِينَ) لأنه في معنى إلا الذين استضعفوا فجاء بياناً وتفسيراً
لذلك. اهـ
قوله: (وقرئ (يُدركُه) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: ثم هو يدركُه).
قال ابن المنير: في هذا عطف الجملة الإسمية على الفعلية والأولى خلافه مهما وجد
إليه سبيل. اهـ
زاد الكشاف: وقيل رفع الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها ثم نقل حركة
الهاء إلى الكاف على حد قوله:
عجبت والدهر كثير عجبه ... من عَنَزِي سبني لم أضربه. اهـ
وفي هذا تخريج ابن جني.
قال ابن المنير: وإجراء الوصل مجرى الوقف شاذ مع أن الأفصح في الوقف أن لا ينقل
فزاده شذوذاً.
قال: وعندي أنه من فروع العطف على ما يقع موقع (من) مما يكون الفعل الأول معه مرفوعاً
كأنه قال: والذي يخرج من بيته مهاجراً ثم يدركه، وقد ذكره
(3/193)
الزمخشري عند قوله (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ) فيمن قرأ بالرفع وهو هنا أقرب منه. اهـ
قوله: (وبالنصب على إضمار (أن) كقوله:
سأترك منزلي ببني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا)
قال ابن جني: والآية على كل حال أقوى من البيت لتقدم الشرط قبل المعطوف، وقيل: هو
مثل أكرمني وأكرمك أي: ليكن منك إكرام ومني، المعنى: من يكن له خروج من بيته
وإدراكه الموت، والتقدير في البيت: سيكون ترك وإلحاق، وقيل: نصب (وألحق) ضعيف لأنه
ليس في جواب الأشياء الستة، وأجيب أن الفعل المضارع كالتمني والترجي. اهـ
والبيت المذكور أنشده سيبويه ولم يسم قائله، وعزاه غيره إلى المغيرة بن حنين
الحنظلي هـ
(وقال الأعلم في شرح شواهده: يروي: وألحق بالحجاز لأستريحا، وعلى هذا لا ضرورة
فيه. اهـ
قوله: (والآية نزلت في ضمرة ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه، وقد اختلف في اسمه فقيل ضمرة بن جندب، وقيل
جندب بن ضمرة وصححه صاحب الاستيعاب.
قوله: (اللهم هذه لك ... ).
(3/194)
قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنَّ هذه الإشارة إلى اليمين وهذه
إلى الشمال لا على قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى على سبيل التصوير وتمثيل
مبايعته الله على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه،
وقيل إشارة إلى البيعة والصفقة والمعنى: أن بيعته كبيعة رسول الله لا كبيعة الناس.
اهـ
قوله: (ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر).
أخرجه الشافعي في الأم، وابن أبي شيبة والبزار والدارقطني عن عائشة أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم.
قوله: (وأن عائشة اعتمرت ... ) الحديث.
أخرجه النسائي والدارقطني وحسنه، والبيهقي وصححه.
قوله: (لقول عمر: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم).
أخرجه النسائي وابن ماجة.
قوله: (ولقول عائشة: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ... ) الحديث.
أخرجه الشيخان.
قوله: (تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول).
قال الشيخ سعد الدين: قيل هو أبو يوسف ولم نجد ذلك في كتب الفقه والخلافيات. اهـ
قلت: هو موجود فيها، قال النووي في شرح المهذب: قال الشيخ أبو حامد:
(3/195)
وسائر أصحابنا قالوا بمشروعية صلاة الخوف واستمرارها إلى آخر
الزمان والأمة بأسرها إلا أبا يوسف والمزني، فقال أبو يوسف: كانت مختصة بالنبي -
صلى الله عليه وسلم - ومن يصلي معه وذهبت بوفاته، وقال المزني: كانت ثم نُسخت في
زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ
قوله: (كما فعله عليه الصلاة والسلام ببطن نخل).
أخرجه الشيخان من حديث جابر.
قوله: (كما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع).
أخرجه الشيخان.
قوله: (جعل الحذر آلة ... ) إلى آخره.
جواب سؤال مقدر تقديره أن الحذر مجاز وأخذ الأسلحة حقيقة فلا يجوز جمعها في لفظ
واحد؟ وتقرير الجواب: أنه حقيقة إذ لم يتعلق بالحذر إلا بعد جعله بمنزلة الآلة
استعارة بالكناية. قاله الشيخ سعد الدين.
قوله: (أديتم وفرغتم منها).
قال الأزهري: القضاء على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أحكم عمله
وختم وأدي وأوجب وأعلم وأنفذ وأمضى فقد قضى. اهـ
قال الطَّيبي: فالقضاء موضوع للقدر المشترك بين هذه المفهومات وهو انقطاع الشيء في
النهاية. اهـ
والآية نزلت في بدر الصغرى
قوله: (نزلت فى طعمة بن أبيرق ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وأصله عند الترمذي والحاكم من حديث قتادة بن النعمان
(3/196)
بمعناه.
قال الطَّيبي: طعمة بفتح الطاء عن الصاغاني، وروي بكسرها. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هو بكسر الطاء وفتحها. اهـ
قوله: (بما عرفك الله).
قال الطَّيبي: يعني بما أراك الله من الرأي الذي هو الاعتقاد. اهـ
قوله: (لأجلهم).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن اللام ليست صلة (خَصِيمًا). اهـ
قوله: (للبرآء).
قال الشيخ سعد الدين: يروي بالضم كالهزاء إلا أن المراد به اليهودي، لكن الأصح
الفتح على أن المراد به الجمع، ويجوز برآء على صيغة الجمع ككرماء. اهـ
قوله: (روي أن طعمة هرب إلى مكة فارتدَّ، ونقب حائطاً بها ليسرق أهله فسقط الحائط
عليه فقتله).
أخرجه الطبراني في معجمه من حديث قتادة بن النعمان نحوه.
قوله: (ووحد الضمير لمكان (أو)).
قال أبو البقاء: الهاء في (يَرْمِ بِهِ) تعود على الإثم، وفي عودها عليه دليل على
أن الخطيئة في حكم الإثم، وقيل تعود على أحد الشيئين المدلول عليه [بـ (أو)، وقيل
تعود على الكسب المدلول عليه] بقوله (وَمَنْ يَكْسِبْ). اهـ
قوله: (بسبب رمى البريء وتنزيه النفس الخاطئة).
(3/197)
قال الطيبي: إشارة إلى أن في لفظ التنزيل لف ونشر من غير ترتيب،
والأسلوب من باب تكرير الشرط والجزاء نحو: من أدرك الصمان فقد أدرك، فينبغي أن
يحمل التنكير في (بُهْتَانًا وَإِثْمًا) على التهويل والتفخيم، وفي (ثم) الدلالة
على بُعد مرتبة البهتان من ارتكاب الإثم نفسه. اهـ
قوله: (وليس القصد فيه إلى نفي همِّهِم بل إلى نفي التأثير فيه).
قال الراغب: إن قيل قد كانوا هموا بذلك فكيف قال (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ)؟ قيل: في ذلك جوابان: أحدهما: أن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا
بإضلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك عندهم صواباً، والثاني: أن القصد
إلى نفي تأثير ما هموا به كقوله: فلان شتمك وأهانك لولا أن تداركت، تنبيهاً على
أنَّ أثر فعله لم يظهر. اهـ
قوله: (من متناجيهم).
قال أبو البقاء: يجوز أن يراد بالنجوى القوم الذين يتناجون، ومنه قوله (وَإِذْ
هُمْ نَجْوَى)، فالاستثناء متصل إما خبرًا بدلاً من (نَجْوَاهُمْ)، وإما نصباً على
أصل الاستثناء. اهـ
وكذا قال الراغب.
قوله: (أو من تناجيهم).
أي الحديث، وعلى هذا يفرع ما ذكره المصنف من الإعراب.
قوله: (أو على الانقطاع).
قال الطَّيبي: أي على الاستثناء المنقطع. اهـ
قوله: (الأعمال بالنيات).
متفق عليه من حديث عمر.
(3/198)
قوله: (والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع).
قال الطَّيبي: نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله
تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة (1) مرة حتى وجد هذه الآية. اهـ
قلت: قال الحاكم في مناقب الشافعي: أخبرني الزبير بن عبد الواحد الأسد آبادي قال
سمعت أبا سعيد محمد بن عقيل الفاريابي يقول: قال المزني أو الربيع: كنا يوماً عند
الشافعي بين الظهر والعصر قد استند إلى إسطوانة إذ جاء شيخ عليه جبة صوف وإزار صوف
وفي يده عكازة فقام الشافعي وسوى عليه ثيابه واستوى جالساً وسلم الشيخ وجلس وأخذ
الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة إذ قال الشيخ: أسأل؟ قال: سل.
قال: ايش الحجة في دين الله؟ قال الشافعي: كتاب الله.
قال: وماذا؟ قال: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة.
قال: من أين قلت اتفاق الأمة؟ قال: في كتاب الله.
قال: ومن أين كتاب الله؟
قال: فتدبر الشافعي ساعة، فقال للشافعي: قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليهن فإن جئت
بحجة من كتاب الله في الاتفاق وإلا تب إلى الله تعالى.
فتغير لون الشافعي، ثم ذهب فلم يخرج ثلاثة أيام ولياليهن، فخرج إلينا في اليوم
الثالث في ذلك الوقت يعني بين الظهر والعصر قد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام،
فجلس فلم يكن بأسرع أن جاء الشيخ فسلم وجلس وقال: حاجتي؟ فقال الشافعي: نعم أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل (وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) لا يصليه
على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض.
قال: صدقت، وقام وذهب.
قال الفاريابي: قال المزني أو الربيع قال الشافعي: لما ذهب الرجل قرأت القرآن في
كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه.
قال الراغب: لا حجة في الآية على ثبوت الإجماع، لأن المراد بقوله (سَبِيلِ
__________
(1) هكذا في حاشية الطيبي على الكشاف والمشهور أنه ثلاث مرات، ولعله خطأ من
الناسخ. والله أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).
(3/199)
الْمُؤْمِنِينَ) الإيمان لا سواه، فكل موصوف بوصف علق به نحو أن
يقال: اسلك سبيل الصائمين والمصلين يعني بذلك الحث على الاقتداء بهم في الصلاة
والصيام لا في فعل آخر، فكذا إذا قيل سبيل المؤمنين يعني سبيلهم في الإيمان لا
غيره. اهـ
وأجاب الطَّيبي بأنَّ المراد من (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) الجامعين لكل فضيلة
ومنقبة لأن ذكره هنا للمدح للعلة وكونهم متبعين مقتدين تعريضاً بدليل قوله
(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)، ويعضده قضية النظم وذلك أنَّ
الطائفة التي جادلت عن طعمة هموا بأن نزلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
طريق العدل وليس ما فعلوا بمتابعة لسبيل المؤمنين فإن سبيلهم التجانب عما يضاد
الحق والعدل فعلى هذا قوله (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) كالتذييل
لقصة طعمة وقومه فيدخل في هذا المقام كل ما فيه مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم
- ومخالفة سبيل المؤمنين بأي وجه كان.
ثم قال الطَّيبي: فإن قيل إن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فلزم في المعطوف ذلك
فإذن لم يكن في المعطوف فائدة لأن الهدى عام بجميع الهداية ومنها دليل الإجماع
وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة؟ أجيب: بأن المراد بالهدى الدليل على
التوحيد والنبوة فالمعنى مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام فيكون
الإجماع مفيداً في الفروع بعد تبين الأصول. اهـ
قوله: (لأنه تعالى رتب الوعيد ... ) إلى آخره.
أوضحه الطَّيبي بقوله: فإن قيل الوعيد مترتب على الكل كقولك: إن دخلتِ الدار
وكلمتِ زيداً فأنتِ طالق.
أجيب: إن الوعيد مترتب على كل واحد من المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين لأن
المشاقة وحدها كافية في اقتضاء الوعيد فيكون ذكر اتباع غير سبيل المؤمنين لغو. اهـ
قوله: (وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرماً ... ) إلى آخره.
أوضحه الطَّيبي بقوله: فإن قيل: لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه
اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل
المؤمنين.
فالجواب: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير
المؤمنين
(3/200)
أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين
سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعاً لهم.
اهـ
قوله: (كرره للتأكيد).
يعني بعد ذكره في أوائل السورة.
قوله: (أو لقصة طعمة).
قال الطَّيبي: ليكون كالتكميل بذكر الوعد بعد الوعيد. اهـ
وأقول من أساليب القرآن أنَّ كل سورة من طواله وأوساطه يذكر في أولها أو في صدرها
آية أو جملة ثم تعاد بعينها في آخرها أو قريباً من أواخرها، وهذه من ذلك، وقد
أفردت في ذلك تأليفاً سميته (مراصد المطالع في تناسب المطالع والمقاطع)، ومن أمثلة
ذلك قوله في أوائل آل عمران (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) بعد قوله (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)
إلى قوله (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وقال في آخرها (لَكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ) بعد قوله (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ)، وقال في أول (ص) (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) وفي
آخرها (إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)، وفي أول (ن) (ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)) وفي آخرها
[(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ)، ومن دقيقه قوله تعالى في أول المؤمنين (قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وفي آخرها] (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)، وبحار
أساليب القرآن زاخرة، وأنوار أعاجيبه باهرة، فسبحان منزله جل وعلا وصلى الله على
سيدنا محمد المنزل عليه صلوات متتابعات على الولا.
(3/201)
قوله: (وقيل: جاء شيخ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال الشيخ: إني منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به ولم
أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جرأة على الله وما توهمت طرفة عين أني أعجز
الله هرباً وإنى لنادم تائب فما ترى حالي عند الله فنزلت).
أخرجه الثعلبي عن ابن عباس.
قوله: (أنث على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث).
زاد أبو البقاء ويجوز أن تكون صفة مفردة مثل: امرأة جنب. اهـ
وقال الزجاج: أُنُث جمع إناث كمثال ومُثل. اهـ
قوله: ((وأثنا) بالتخفيف والتثقيل).
أي بالسكون والضم.
قوله: (وهو جمع وثن).
قال الزجاج: الواو إذا ضمت جاز إبدالها همزة نحو (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ).
اهـ
قوله: (جامعاً بين لعنة الله وهذا القول).
قال الطَّيبي: وذلك أن الواو حين دخلت بين الصفتين أفادت مجرد الجمعية دون
المغايرة. اهـ
قال أبو البقاء: يجوز أنَّ (لَعَنَهُ اللهُ) مستأنفاً على الدعاء أي: فعل ما يستحق
به اللعن من استكبار عن السجود، فعلى هذا (وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ) جملة مستطردة و
(لَعَنَهُ اللهُ) معترضة كقولهم للملوك في أثناء الكلام: أبيت اللعن. اهـ
قوله: (من فقىء عين الحامي).
قال الطَّيبي: الفقء: القلع، والحامي: العجل الذي طال مكثه عندهم فإذا لقي ولد
(3/202)
ولده حمى ظهره فلا يركب ولا يجز وبره ولا يمنع من مرعى. اهـ
قوله: (والوشم).
هو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحثى بكحل.
والوشر: بالراء أن تحد المرأة أسنانها وترققها.
قوله: (لكن الفقهاء رخصوا فى خصاء البهائم للحاجة).
قال النووي في شرح المهذب: قال البغوي والرافعي: لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في
صغره ولا في كبره. قالا: ويجوز خصاء المأكول في صغره لأنَّ فيه غرضاً وهو طيب لحمه
ولا يجوز في كبره.
ووجه قولهما أنه داخل في عموم قوله تعالى إخبار عن الشيطان (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) مختص منه الختان والوسم ونحوهما وبقى الباقي
داخلاً في عموم الذم والنهي. اهـ
قوله: (فالأول مؤكد لنفسه).
قال الطَّيبي: لأن قوله (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يدل على الوعد إذ الوعد هو الإخبار عن
إيصال المنافع قبل وقوعه. اهـ
قوله: (والثانى مؤكد لغيره).
قال الطيبي نحو قولك هو عبد الله حقاً، فقوله حقاً يفيد معنى لم يفده هذا عبد الله
لا لفظاً ولا عقلاً، ولكن الخبر من حيث هو خبر يحتمل الصدق والكذب فقولك حقاً يقصر
الجملة على أحد الاحتمالين أي أحق حقاً فقولك حقاً تأكيد للمقدر لا للمذكور. اهـ
قوله: (جملة مؤكدة بليغة).
(3/203)
قال الطَّيبي: وذلك أن الجملة تذييل للكلام السابق، والتذييل
مؤكد للمذيل، وأما المبالغة في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجامع ربنا افعل
وإيقاع القول تمييزاً وكل ذلك إعلام منه بأن حديثه صدق محض، وإنكار أن قول الصدق
متعلق بقائل آخر أحق. اهـ
قوله: (والمقصود من الآية معارضة للمواعيد الشيطانية ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: إشارة إلى بيان النظم، يعني كما أوقع قوله (يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاّ غُرُورًا) تذييلاً لقوله
(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثًا ... ) الآية أوقع قوله (وَعْدَ اللهِ
حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) خاتمة لقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ) الآية ليوازي بين الوعدين ويقابل بين النزعتين
فيختار المؤمنون الأعمال الصالحة عما يدعوا إليه الشيطان بأمانيه الباطلة ومواعيده
الكاذبة فيتخلصوا من غصص إخلاف مواعيده بما يفوزون به من إنجاز الوعد ما وعدوا به
من الله تعالى الذي هو أصدق القائلين، ثم قارن بين قوله (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ
إِلاّ غُرُورًا) وبين قوله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) من جهة وضع المظهر
موضع المضمر فيهما ومن النفي المستفاد من الاستفهام ومن (ما)، إلى غير ذلك لتتحقق
المعارضة. اهـ
قوله: (ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل).
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن الحسن موقوفاً عليه، وأخرجه ابن النجار في
تأريخه من طريق يوسف بن عطية عن قتادة عن الحسن عن أنس مرفوعاً: ليس الإيمان
بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، العلم علمان: علم
باللسان وعلم بالقلب، فأما علم القلب فالعلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على بني
آدم.
(وقال أبو نعيم ثنا سهل بن عبد الله التستري ثنا الحسين بن إسحاق عن عبد السلام بن
صالح عن يونس بن عطية عن قتادة عن أنس رفعه: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن
ما وقر في القلب وصدقه العمل).
قال الشيخ سعد الدين: وقر في القلب: أي أثر فيه، يقال وقر في الصخرة إذا أثر
(3/204)
فيها، وقيل وقر في القلب: سكن فيه وثبت من الوقار. اهـ
قال الراغب: المنا كالقنا: المقدر، يقال: منى لك الماني، أي قدر لك المقدر،
والتمني: تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن وقد يكون عن
روية وبناءً على أصل، ولما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك، فأكثر التمني
تصور ما لا حقيقة له قال تعالى (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى) والأمنية:
الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء، ولما كان الكذب تصور ما لا حقيقة له
وإيراده باللفظ صار المتمني كالمبتدي الكذب فصح أن يعبر عن الكذب بالتمني. اهـ
قوله: (روي أنَّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير عن مسروق مرسلاً.
قوله: (وقيل: الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم).
قال الطَّيبي: يعني قوله (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثًا) وإقسام
الشيطان (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ). اهـ
فائدة: قال الطَّيبي: لما ذكر (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ
الْكِتَابِ) عقبه بقوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وقوله (وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) كما ذكر في البقرة (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) وهو
التمني وبعده (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) ثم قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ). اهـ
قوله: (اصطفاه وخصه بكرامةٍ تشبه كرامة الخليل عند خليله).
قال الشيخ الطيبي: أي أنه من باب الاستعارة التمثيلية. اهـ
قوله: (والجملة استئناف).
(3/205)
في الكشاف أنَّها اعتراضية.
وتعقبه أبو حيان كعادته بأنَّ الاعتراض المصطلح عليه شرطه أن يقع بين مفتقرين كصلة
وموصول، وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول وليست هذه كذلك.
قال: إلا أن يعني به غير المصطلح عليه فيمكن. اهـ
وقد تقدم الجواب عنه بأنه يعني به التذييل.
قال الطَّيبي: لا يجوز أن تكون معطوفة لأنه لا يخلو من أن يعطف على قوله (وَمَنْ
أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) اعتراضاً وتوكيداً لمعنى قوله
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)
وبيان الصالحات ما هي وأن المؤمن من هو وليس في (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلاً) ذلك على أن عطف الإخبارية على الإنشائية من غير جامعٍ قويٍّ يدعو إليه
ممتنع، ولا يجوز الثاني والثالث من له أدنى مسكة.
فإن قلت: لم لا يجوز أن تكون الجملة استطرادية كقوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي
الْبَحْرَانِ) إلى قوله (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا)، عَطف
(وَمِنْ كُلٍّ) على أنهما استطرادية؟ قلت: لا يجوز لأن من شرط العطف في الاستطراد
أن يكون للمعطوف نوع مناسبة بأصل الكلام وهو (يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ... )
الآية، وهي هنا مفقودة كما في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)، ولا يحسن أن تكون حالاً لما يفوت من
فائدة وضع المظهر موضع المضمر، وتخصيص ذكر الخلة للتنصيص على أنه ممن يجب أن يرغب
في اتباع ملته، فتعين أن يكون اعتراضاً أو تذييلاً لما في اعتبارهما من مظنة
العلية وبيان الموجب، أي: ومن أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم لاصطفاء الله إياه؛
ولأنه الممدوح المستعد لخلة الله لما
فيه من غاية الكمالات البشرية. اهـ
قوله: (روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمنة أصابت
الناس ... ) إلى آخره.
(3/206)
قلت: الوارد في ذلك ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم في تفاسيرهم عن زيد بن أسلم قال: إنَّ أول جبار كان في الأرض نمرود،
وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم ممتار مع من يمتار فإذا
مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت.
حتى مر به إبراهيم قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت.
قال: أنا أحيي وأميت.
قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.
فبهت، فرده بغير طعام، فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أعفر فقال: ألا
آخذ من هذا فآت به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى أهله فوضع
متاعه، ثم نام، فقامت امرأته ففتحته فإذا هى بأجود طعام رآه أحد، فصنعت منه فقربته
إليه -وكان عهده بأهله أن ليس عندهم طعام- فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي
جئت به فعرف أن الله رزقه فحمد الله.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي صالح قال: انطلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام
يمتار فلم يقدر على الطعام فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما
هذا؟ قال: حنطة حمراء.
ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها شيء خرج سنبله من أصلها إلى فرعها
حباً متراكباً.
في الأساس: سنة: أزمنة أمسك فيها المطر.
في النهاية: البطحاء: الحصى الصغار.
قال الطَّيبي: الحوارى: بضم الحاء وتشديد الواو وفتح الراء، ومنه الخبز إذا نخل
مرة بعد مرة من التحوير وهو التبيض. اهـ
قوله: (قيل هو متصل بذكر العمال).
قال الطيبي: يعني بقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ... ) الآية ويكون
كالتعليل
(3/207)
لوجوب العمل، ويكون قوله (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) اعتراضاً بين
العلة والمعلول حثاً على الترغيب في العمل الصالح وردعاً وزجراً عن المعاصي على
أبلغ الوجوه. اهـ
قوله: (إذ سبب نزوله أن عيينة بن حصن أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
أخبرنا أنك تعطى الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز
الغنيمة. فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك أُمرت).
لم أقف عليه هكذا، والثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: كان الرجل
تكون عنده اليتيمة وهو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق فيركب أن
ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية.
وله طرق كثيرة مرفوعة مرسلة، وأقرب ما رأيته ما يوافق ما ذكره المصنف ما أخرجه
الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس قال: أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى
يكبر ولا يورثون المرأة فلما كان الإسلام قال الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ) في أول السورة من الفرائض.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث النساء إلا الرجل
الذي قد بلغ، لا يرث الصغير ولا المرأة شيئاً فلما نزلت المواريث في سورة النساء
شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير والمرأة كما يرث الرجل؟ فسألوا النبي - صلى
الله عليه وسلم - فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) الآية).
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء
والصبيان شيئاً كانوا يقولون: لا يغزون ولا يغنمون خيراً، فنزلت. اهـ
قوله: (كأنه قيل: وأقسم).
قال الشيخ سعد الدين: المناسب أقسم بدون الواو. اهـ
قوله: (ولا يجوز عطف على المجرور في (فيهن) لاختلاله لفظاً ومعنى).
(3/208)
قال الزجاج: أما لفظاً فلأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور
من غير إعادة الجار، وأما معنى فلأنه يصير التقدير: يفتيكم في حق ما يتلى عليكم،
ومعلوم أنه ليس المراد ذلك وإنما المراد أنه تعالى يفتي في ما سألوه من المسائل.
اهـ
وتبعه الطَّيبي والشيخ سعد الدين، وزاد الطَّيبي فقال: إن قلت: لم لا يجوز: الله
يفتيكم في الكتاب بما يرويه المستفتي من قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا
فِي الْيَتَامَى)؟ قلت: لا يجوز لأن معنى (فِيهن): في حقهن وشأنهن يأباه للاختلاف
بين المعطوف والمعطوف عليه. اهـ
وقال أبو حيان: لا نسلم اختلاله لا لفظاً ولا معنى، أما اللفظ فلأن الراجح جواز
العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار لكثرة وروده وإن منعه جمهور
البصريين، وأما المعنى فيقدر محذوف أي: يفتيكم في متلوهن وفيما يتلى عليكم في
الكتاب في يتامى النساء، وحذف لدلالة قوله (وَمَا يُتلَى)، وإضافة متلو إلى ضميرهن
سائغ إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة على حد (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)
وكوكب الخرقاء. اهـ
وقال السفاقسي: فيما قاله أبو حيان نظر لأن حذف متلوهن لا يرفع السؤال لأن ما
ألزمه من وقوع الفتيا فيما يتلى لازم سواء كان ذلك الحذف أم لم يكن.
قال: نعم حق المنع أن يقال: لا نسلم أنَّ المراد بقوله (وَمَا يتلَى) أنه يفتي في
ما سألوه من المسائل بل أفتى، وسنده ما روي عن عائشة قالت: نزلت هذه الآية (وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) أولاً ثم سأل ناس بعدها عن أمر النساء
فنزلت (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ)، فالمراد على هذا بـ (يفتي) و (يتلى) المضى.
اهـ
وقال غيره: يجوز أن يكون (فِيهن) بمعنى الصلة، أي: في حقهن، وفي (وَمَا يُتلَى)
بمعنى الظرف، أي: يفتيكم في الكتاب.
(3/209)
قوله: (صلة (يتلى) على أن عطف الموصول على ما قبله ... ).
قال أبو حيان: هذا لا يتصور إلا إذا كان (فِي يَتَامَى) بدلاً من (الْكِتَابِ)، أو
يكون (في) للسبب لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد وهو لا يجوز إلا إذا كان
على طريقة البدل أو بالعطف. اهـ
قال السفاقسي: لا إلا أن يكون (فِي الْكِتَابِ) متعلق بـ (يُتلَى)، وأما إذا كان
حالاً فلا. اهـ
وجوز في الكشاف على هذا الوجه أن يكون بدلاً من (فيهن)، وأسقطه المصنف فإنَّ أبا
حيان تعقبه وقال: الظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف. اهـ
قوله: (وإلا فبدل من (فيهن)).
قال الشيخ سعد الدين: هو بدل بعض من كل لأن ضمير (فِيهن) يعود إلى النساء. اهـ
قوله: (وهذه الإضافة بمعنى (من) لأنها إضافة الشىء إلى جنسه).
قال أبو حيان: الذي يظهر أنَّها بمعنى اللام ومعناها الاختصاص. اهـ
وقال الحلبي: ما قاله أبو حيان ليس بشيء فإنَّهُم ذكروا في ضابط الإضافة التي
بمعنى (من) أن تكون إضافة جزءٍ إلى كل بشرط صدق اسم الكل على البعض، ولا شك أنَّ
يتامى بعض النساء من النساء، والنساء يصدق عليهن، وتحرزنا بقولنا بشرط صدق الكل
على البعض من نحو: يد زيد فإن زيد لا يصدق على اليد وحدها. اهـ
وقال السفاقسي: ليس كلهم على ذلك فقد قال السيرافي وابن كيسان إن كلّ
(3/210)
بعضٍ أضيف إلى كل هو بمعنى (من)، وزاد غيرهما في صحة الإخبار عن
الأول بالثاني فيد زيد إضافة بمعنى (من) على الثاني لا على الأول.
قال السفاقسي: وعلى التقديرين لا يمتنع في يتامى النساء لأنك تقول اليتامى نساء.
اهـ
تنبيه: قال الطَّيبي: هذه الآيات مرتبطة بالآيات الواردة في أول السورة وهي سابقة
عليها بالرتبة لأنَّ جواب الاستفتاء قد أجل عليها والآيات المتخللة بين الكلامين
للافتنان. اهـ
قال الإمام: إن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم واقعة على أحسن الوجوه وهو
أنه تعالى يذكر شيئاً من الأحكام ثم يذكر عقبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد
والترغيب والترهيب ويمزج بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظم إلهيته
ثم يعود إلى ما بدأ به من بيان الأحكام، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى
التأثير لأنَّ التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقروناً
بالوعد والوعيد وهما لا يؤثران إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد
والوعيد. اهـ
قوله: ((وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) عطف على يتامى النساء).
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: هذا لا يستقيم إلا على تقدير كونه صلة لا بدلاً؟
قلنا: بل هو مستقيم على البدل إذ ليس القصد بعطفه على البدل أن يكون في موقع البدل
على ما هو مقتضى الحال بل في موضع المبدل منه بناءً على أن البدل هو المقصود
بالنسبة، وأن المبدل منه ضمير مجرور لا يصح العطف عليه حسب اللفظ. اهـ
قوله (فالوجه نصْبُها عطفاً على موضع (فيهن))
قال أبو البقاء: أي ويبين لكم أن تقوموا. اهـ
قوله: (ويجوز أن ينصب (وأن تقوموا) بإضمار فعل أي: ويأمركم).
قال السفاقسى: فيه تكلف إضمار من غير ضرورة تدعوا إليه. اهـ
(3/211)
قوله: (توقعت منه).
قال الشيخ سعد الدين: استعمال الخوف في معنى التوقع شائع في كلام العرب. اهـ
قوله: (وعلى هذا جاز أن ينصب (صُلْحًا) على المفعول به).
[قال الشيخ سعد الدين: أي على نزع الجار. اهـ
والأصل: يصلح أي شيء يصلحان عليه.
قوله: (بيان أنه من الخيور).]
قال الشيخ سعد الدين: أي من الخيرات بمعنى المصدر أو الصفة لا على وجه التفصيل.
اهـ
وقال الطَّيبي: قال صاحب الكشاف: الخيور ورد في كلام فصيح فاقتديت به وهو قياس
واستعمال. اهـ
قوله: (وهو اعتراض).
قال أبو حيان: كأنه يريد أن قوله (وَإِن يَتَفَرقَا) معطوف على قوله (فَلا
جُنَاحَ) فجاءت الجملتان بينهما اعتراضاً. اهـ
قال الحلبي: وفيه نظر فإنَّ بعدهما جملاً أُخر فكان ينبغي أن يقول في الجميع إنها
اعتراض ولا يخص الجملتين بذلك وإنما أراد الاعتراض بين قوله (وَإِنِ امْرَأَةٌ)
وقوله (وَإِنْ تُحْسِنُوا) فإنهما شرطان متعاطفان. اهـ
قوله: (ومعنى إحضار الأنفس الشح جعلها حاضرة مطبوعة عليه).
عدل عن قول الكشاف: إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا ينفك لأن أبا حيان
تعقبه بأنه من باب القلب، وليس بجيد لأنَّ الأنفس هي النائب عن الفاعل وهي الفاعل
قبل دخول الهمزة، وإن كان يحتمل إنه من إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل لكن
الأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه. اهـ
(3/212)
قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه
فيعدل ويقول: هذا قسمى فيما أملك ... ) الحديث.
[أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث عائشة.
قوله: (من كانت له امرأتان ... ) الحديث.]
أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة.
قوله: (على إرادة القول أي: وقلنا لكم ولهم إن تكفروا).
قال الشيخ سعد الدين: لأن الجملة الشرطية لا تصح أن تقع بعد (أن) المصدرية أو
المفسرة، فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواءً كان إنشاء أو إخباراً. اهـ
وقال الحلبي: في كلامه نظر لأن تقديره القول ينفي كون الجملة الشرطية مندرجة في
حيز الوصية بالنسبة إلى الصناعة النحوية، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط بل قصده هو
تفسير الإعراب. اهـ
قال الطَّيبي: يمكن أن يقال إنه من باب: علفتها تبناً وماءً بارداً. اهـ
قوله: (أو خلقاً آخرين مكان الإنس).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز لأنَّ مدلول (آخر) في اللغة خاص بجنس ما تقدمه، فلو
قلت: جاءني زيد وآخر معه، أو امرأة وأخرى معها، أو فرس وآخر معه لم يكن
(3/213)
الآخر إلا من جنس ما قبله ولو قلت: اشتريت ثوباً وآخر وعنيت غير
ثوب لم يجز، وهذا بخلاف (غيره) فإنَّها تقع على المغاير مطلقاً في جنس أو صفة
فتقول: اشتريت ثوباً وغيره، وتريد غير ثوب أو ثوباً.
قال: وقل من يعرف هذا الفرق. اهـ
(وهذا الفرق) الذي ذكره ورد به غير موافق عليه ولم يستند فيه إلى نقل، ولكن قد يرد
ذلك طريق أخرى وهي أن (آخرين) صفة لموصوف محذوف والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا
إذا كانت خاصة بالموصوف نحو: مررت بكاتب، أو يدل عليه دليل، وهنا ليست بخاصة فلا
بد أن يكون من جنس الأول ليحصل بذلك الدلالة على الموصوف المحذوف.
قوله: (بليغ القدرة لا يعجزه مراد).
قال الطَّيبي: إنما قال ذلك لمجيء (قدير) على فعيل، ولتخصيص الاسم الجامع وإثبات
ذلك والمشار إليه قريب. اهـ
قوله: (وقيل هو خطاب لمن عادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم).
قال الطَّيبي: وعلى الأول خطاب عام تابع للكلام السابق. اهـ
قوله: (لما روي أنه لما نزل يعني (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ) ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على ظهر سلمان وقل: هم قوم
هذا).
أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة.
تنبيه: وقع في الحاشية للشيخ ولي الدين العراقي: لما نزل (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ... ) الآية وهو سهو نبهت
عليه لئلا يغتر به.
قوله: (كالمجاهد).
(3/214)
قال الطَّيبي: إنما خصه بالذكر لأنه أقدمهم لأن بذل الروح
والمال أقرب إلى الرياء. اهـ
قولة: (فما له يطلب أخسهما).
قال الطَّيبي: هذا التوبيخ والإنكار مستفاد من إيقاع قوله (فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) جزاءً للشرط، ولا يستقيم أن يقع جزاءً إلا بتقدير الإخبار
والإعلام المتضمن للتوبيخ والتقريع لأن الجزاء ينبغى أن يكون مسبباً عن الشرط. اهـ
قال أبو حيان: الظاهر حذف الجواب أي: فلا يقتصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله
ثواب الدنيا والآخرة. اهـ
قوله: (مواظبين على العدل).
قال الراغب: أمر الله كل إنسان بمراعاة العدل، ونبه بلفظ (قَوَّامِينَ) على أن ذلك
لا يكفي مرة أو مرتين بل يجب أن يكون على الدوام فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما
لم تكن على الدوام، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلاً. اهـ
قوله: (ولو كانت الشهادة على أنفسكم).
قال أبو حيان: هذا التقدير ليس بجيدٍ لأنَّ المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به
قبل ليدل عليه، فإذا قلت: كن محسناً ولو لمن أساء إليك فالتقدير: ولو كنت محسناً
لمن أساء إليك فتحذف كان واسمها وخبرها وتبقي متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا
تقدره ولو كان إحسانك لمن أساء، ولو قلت: ليكن منك إحسان ولو لمن أساء فيقدر ولو
كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه، ولو قدرته: ولو كنت محسناً لمن أساء
إليك لم يكن جيداً لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق. اهـ
وقال الحلبي: هذا الرد ليس بشيء، فإنَّ الدلالة اللفظية موجودة لاشتراك المحذوف
والملفوظ في المادة ولا يضر اختلافهما في النوع. اهـ
وقال السفاقسي: ما ذكر من أنَّ المقدر إنما يكون من جنس الملفوظ به فيه نظر، ولو
سلم فما ذكره الزمخشري تقديره معنى، وقد نحى سيبوبه إلى ذلك فقال في زيد إنما ضربه
أي
(3/215)
عليك زيداً مع أنه لا يجوز تقديره عليك عند البصريين وإنما أراد
معناه. اهـ
قوله: (والضمير فى (بهما) راجع إلى ما دل عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير).
حكى الطَّيبي تقريراً آخر أنه عائد على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا
عليه وتحت ذلك أقسام أربعة: أن يكونا فقيرين، أو غنيين، أو الأول فقير والثاني
غني، أو عكسه.
قوله: (ويشهد عليه أنه قرئ (فَاللهُ أَوْلَى بِهِم)
قال الطَّيبي: هي قراءة أبي، أي أنَّها تشهد على أنَّ المراد الجنس لأنَّ الجمع
والمطلق يلتقيان في العموم. اهـ
قوله: ((وَإِنْ تَلْوُوا) بمعنى وإن وليتم إقامة الشهادة).
قال الشيخ سعد الدين: عدل إلى الماضي لتظهر الواو، يعني أنه على هذه القراءة من
اللفيف المفروق وعلى الأول من اللفيف المقرون. اهـ
وفيها أوجه أخر: أنَّها كالقراءة الأولى أصلها (تلووا) إلا أنه أبدل الواو الأولى
همزة ثم ألقي حركتها على اللام حكاه أبو البقاء.
قوله: (روي أنَّ ابن سلام وأصحابه ... ) الحديث.
أخرجه الثعلبي عن ابن عباس.
قوله: (اثبتوا على الإيمان ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: لما كان الأمر بالإيمان (لمن أخبر بحصول إيمانهم طلباً
لتحصيل الحاصل بين تغاير الإيمان) الحاصل والإيمان المطلوب بتغاير الزمان أعني
فيما مضى وفيما يستقبل، أو المورد أعني اللسان والقلب، أو المتعلق أعني البعض من
الكتب والرسل والكل. اهـ
(3/216)
قوله: (أي ومن يكفر بشىء من ذلك).
قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو قد يرجع إلى
كل واحد وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهنا قد دلت القرينة على
الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل
الواو بمعنى (أو) في شيء فليتأمل. اهـ
قوله: (فإن قلوبهم ضريت بالكفر).
قال في النهاية: يقال ضري بالشيء ضراوة أي اعتاد به ولهج بحيث لا يصبر عنه. اهـ
قوله: (وخبر كان فى أمثال ذلك محذوف تعلق به اللام).
هذا مذهب البصريين في هذا الباب قالوا: نصب الفعل المذكور بأن المضمرة بعد اللام
وهي والفعل المنصوب في تقدير مصدر وذلك لا يصح أن يكون خبراً لأنه معنى والمخبر
عنه جثة فيجعل الخبر محذوفاً واللام مقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر وهي كالعوض
من (أن) المضمرة ولذلك لا يجوز حذفها ولا يجمع بينهما وبين (أن) الظاهرة، ومذهب
الكوفيين في ذلك الفعل هو الخبر واللام زيدت فيه للتأكيد وهي الناصبة بدون إضمار
(أن) ومشى عليه هنا صاحب الكشاف، وطعن عليه أبو البقاء والناس آخرهم أبو حيان
فلذلك أصلحه المصنف.
قوله: (وإنما سمي ظفر المسلمين فتحاً ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: وأيضاً فإن الواقع إذ ذاك من ظفر المسلمين ما يجعل به الاستيلاء
على ديارهم وأموالهم، والحاصل للكافرين أمر في الندرة لا يبلغ أن يكون فتحاً. اهـ
قوله: (في دُبَّة).
بضم الدال وتشديد الموحدة قال:
طها هذربان قلَّ تغميضُ عينه ... على دُبَّة مثل الخنيف المرعبل.
(3/217)
قوله: (ثلاث من كن فيه فهو منافق ... ) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
قال الشيخ سعد الدين: (ثلاث) مبتدأ والجملة بعده صفة له، (من إذا حدث) خبره على حذف
المضاف أي خصال من إذا حدث.
قال: والأحسن أن يجعل (ثلاث) خبراً مقدماً أو مبتدأ محذوف الخبر، و (خصال من إذا)
مفسر له أي في الوجود ثلاث. اهـ
قوله: (بعضها فوق بعض).
قال الشيخ سعد الدين: الأنسب بعضها أسفل من بعض وما ذكر إنما هو تفسير للدرج. اهـ
قوله: (والتحريك أوجه لأنه يجمع على أدراك).
قال الزجاج: الدرك بالحركة والسكون لغتان حكاهما أهل اللغة إلا أن الاختيار الفتح
لإجماع الناس عليها، ولأنَّ أحداً من المحدثين ما رواه إلا بالفتح. اهـ
ولأنَّ (أفعالاً) لا يكون جمع (فعل) بالسكون إلا في الشذوذ وإنما هو جمع (فعل) بالحركة.
قوله: (وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعمة أولاً فيشكر شكراً مبهماً ثم يمعن
النظر حتى يصف المنعم فيؤمن به).
أخذه من الكشاف، وقاله أيضاً الإمام.
قال صاحب التقريب: فيه نظر لأنَّ الإيمان لا يستدعي عرفان المؤمن به بذاته بل
بعارض فكان حاصلاً حين ما عرف الإنعام، فما أوجب الشكر أوجب الإيمان.
قال: والجواب أنَّ الواو لا توجب الترتيب. اهـ
قال الطيبي: أما الكلام الأول فلا بأس به، وأما الجواب فمنظور فيه وحاشا المقتني
علمي الفصاحة والبلاغة أن يرضى في كلام الله المجيد بمثل هذا القول، فإن في كل
تقديم
(3/218)
ما مرتبته التأخير لله سبحانه أسراراً لا يعلم كنهها إلا هو،
ألا ترى إلى قوله تعالى (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ
الْإِنْسَانَ (3)) كيف استلزم التقديم أن معرفة الغايات والكمالات سابقة في
التقديم لاحقة في الوجود تنبيهاً على أن المقصود الأولي من خلق الإنسان تعليم ما
به يرشد إلى ما خلق له من العبادة، وكذا أشير بهذا التقديم إلى معرفة مرتبة أخرى
من الشكر وموجبه.
قال الشيخ العارف المحقق أبو إسماعيل الأنصاري: الشكر اسم لمعرفة النعمة لأنَّها
السبيل إلى معرفة المنعم، ومعاني الشكر معرفة النعمة ثم قبول النعمة ثم الثناء
بها، ودرجاته ثلاث -إلى آخره- فليقرر ذلك بلسان أهل المعاني وهو أن المكلف في بدء
الحال إذا نظر إلى ما عليه من نعمة الخلق والرزق والتربية ينبعث منه حركة إلى
معرفة المالك المنعم، فهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم، فإذا
شكر العبد هذا الشكر وفق لنعمة أرفع من تلك النعمة وهي المعرفة بأنه الواحد الأحد
الصمد الواسع الرحمة فيسجد شكراً فوق ذلك ويضيف إلى الشكر القلبي الشكر بآداب
الجوارح والنداء على الجميل ويقول:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
وهذا هو الشكر المفصل، وحاصله أنَّ الكلام فيه إيجازان لأنَّ الشكر المذكور في
التلاوة شكر مبهم وموجبه نعمة سابقة مستتبعة لمعرفة مبهمة، والإيمان المذكور إيمان
مفصل مستتبع لشكر مفصل غير مذكور. اهـ
قوله: (روي أنَّ رجلاً استضاف قوماً فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت).
أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مرسلاً.
قوله (هم الكاملون في الكفر).
قال الطيبي: يدل عليه توسيط الفصل بين المبتدأ والخبر المعرف بلام الجنس كقوله
(3/219)
(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ)، فجئ بقوله (حَقّاً) لتأكيد مضمون
الكمال، أي قولي بأنَّ هذا كفرٌ كاملٌ حقٌ لا باطل، وعلى تقدير أن يكون (حَقّاً)
صفة للمصدر المؤكد للمسند يكون بمعنى ثابتاً والكلام حينئذ للعهد أي هم الذين صدر
منهم الكفر ألبتَّة، وهذا أبلغ من الأول بحسب تأكيد الإسناد، والأول أبلغ من جهة
إثبات الكمال. اهـ
قوله: (وتصديره بـ (سوف) لتوكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة).
قال الطَّيبي: (روي عن صاحب الكشاف أنه قال: الفعل الذي هو للاستقبال موضوع لمعنى
الاستقبال، فإذا دخل عليه (سوف) أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا
أن يعطي ما ليس فيه من أصله، فهو في مقابلة (لن) ومنزلته من يفعل كمنزلة (كن) (1)
في لا تفعل لنفي المستقبل، فإذا وضع (لن) موضع (لا) أكد المعنى الثابت وهو نفي
المستقبل، فإذاً كل واحد من سوف ولن حقيقته التوكيد ولهذا قال سيبويه: لن يفعل نفي
سوف يفعل. اهـ
قوله: (نزلت فى أحبار اليهود ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي.
قوله: (افترحوه).
أي ابتدعوه.
قوله: (ويجوز أن يتعلق بـ (حرمنا عليهم طيبات)).
زاد الكشاف: على أن قوله (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) بدل من قوله
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ). اهـ
قال أبو حيان: وفيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأنَّ المعطوف على
السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم، فلا
يمكن أن يكون جزء سبب أو سبباً إلا بتأويل بعيد، وبيان ذلك أن (وَقَوْلِهِمْ عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ)
متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم فالأولى أن يكون التقدير لعنَّاهم، وقد
جاء مصرحاً به في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً). اهـ
__________
(1) في الأصل (كن) والتصويب من حاشية الطيبي. (مصحح النسخة الإلكترونية)
(3/220)
وقال السفاقسي: هذا إلزام حسن، وقد يتكلف لحله بأنَّ دوام
التحريم في كل زمن كابتدائه، وفيه بحث. اهـ
قوله: (لا ما دل عيه قوله (بل طبع الله عليها) مثل (لا يؤمنون) لأنه رد لقولهم
(قلوبنا غلف) فتكون (من) صلة، و (قولهم) المعطوف على المجرور فلا يعمل فى جاره).
قال أبو حيان: هذا جواب حسن وممتنع من وجه آخر وهو أن العطف بـ (بل) يكون للإضراب
عن الحكم الأول وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول أو الانتقال، فأما في كتاب
الله تعالى في الأخبار فلا يكون إلا للانتقال، ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد
من الأول، والتقدير المشار إليه لا يسوغ فيه ذلك لأن قوله فبما نقضهم ميثاقهم
وكفرهم بآيات الله وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله على قلوبهم هو مدلول الجملة التي
صحبتها (بَل) وهو قوله تعالى (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) أفادت
الجملة الثانية ما أفادت الأولى وهو لا يجوز، لو قلت: مر زيد بعمرو بل مر زيد
بعمرو لم يجز، وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم
وكذا طبع على قلوبهم، وقيل التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلاً،
والفاء مقحمة. اهـ
قال الطَّيبي: قدر أبو البقاء (طَبَع) مقدر الدلالة بل طبع عليه، وعليه يصير
التقدير: فبما نقضهم وكفرهم وقولهم قلوبنا غلف طبع الله عليها بكفرهم، فيكون رداً
لهذا الكلام وإنكاراً له لا لقولهم قلوبنا غلف. اهـ
قوله: (أو على قوله (فبما نقضهم) ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع
ما قبله).
قال الطَّيبي: ولا يلزم عليه محذور عطف الشىء على نفسه، لأن للهيئة الاجتماعية
اعتباراً غير اعتبار الأفراد، والواو الداخلة عليه على هذا غير الواوات السابقة
واللاحقة لأن تلك لعطف المفرد على المفرد وهذه لعطف المجموع على المجموع. اهـ
قوله: (روي أن رهطاً من اليهود ... ) إلى آخره.
أخرجه النسائي عن ابن عباس نحوه.
(3/221)
قوله: (قتلاً يقيناً أو متيقن).
قال الطَّيبي: (يَقِيناً) يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، وأن يكون حالاً، وعلى
التقديرين يعود المعنى إلى عدم يقين القتل منهم. اهـ
قوله: (قتلت الشيء علماً).
قال الزجاج: تقول أنا أقتل الشىء علماً، أي: أعلمه علماً. اهـ
في الأساس: ومن المجاز قتلته علماً وخُبراً، ومنه قتلت الخمر إذا مزجتها. اهـ
قوله: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لـ (أحد)).
قال أبو حيان: هذا غلط فاحش إذ زعم أن (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة
لموصوف محذوف، وصفة (أحد) المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو (مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ)، والتقدير: وإن أحد من أهل الكتاب، وأما قوله (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ)
فليست صفة لموصوف، ولا هي جملة قسمية كما زعم إنما هي جواب القسم والقسم محذوف،
والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو (أحد) المحذوف إذ لا ينتظم من أحد
والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها فذلك
هو محط الفائدة. اهـ
وقال الحلبي: أساء أبو حيان العبارة بما زعم أنه غلط وهو صحيح مستقيم، وليت شعري
كيف لا ينتظم الإسناد من (أحد) الموصوف بالجملة التي بعده ومن الجار قبله؟! ونظيره
أن تقول: ما في الدار رجل إلا صالح، فكما أنَّ (في الدار) خبر مقدم، و (رجل) مبتدأ
مؤخر و (إلا صالح) صفته وهو كلام مفيد مستقيم فكذلك هذا، غاية ما في الباب أن
(إلا) دخلت على الصفة لتفيد الحصر، وأما رده عليه حيث قال جملة قسمية وإنما هي
جواب القسم فلا يحتاج إلى الاعتذار عنه. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: أطلق عليها قسمية لكون اللام فيها جواب قسم محذوف، أي:
والله قال، ولو جعل الظرف صفة مبتدأ محذوف والاستثناء في موقع الجزاء
(3/222)
أي: وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن لم يبعد، ولكنه جزم
بالأول. اهـ
قوله: (روي أنه ينزل من السماء ... ) الحديث.
رواه أبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة بدون قوله (فلا ييقى أحد من أهل الكتاب
إلا يؤمن به)، وروى هذه الزيادة ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً.
قوله في هذا الحديث: ويلبث في الأرض أربعين سنة.
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: يشكل عليه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمرو
أنه يمكث في الأرض سبعين سنة.
قال: اللهم إلا أن تجعل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزولة ويكون ذلك مضافاً إلى
مكثه فيها رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين على المشهور والله
أعلم. اهـ
أقول: وقد أقمت سنين أجمع بذلك ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور: هكذا
في الحديث أنَّ عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة، وفي صحيح مسلم من حديت عبد الله بن
عمرو وفي قصة الدجال: فيبعث الله عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده
أي موته، فلا يكون مخالفاً للأول فترجح عندي هذا التأويل من وجوه: أحدها: أن هذا
الحديث ليس نصاً في الإخبار عن مدة لبث عيسى وذلك نص فيها، والثاني: أنَّ (ثم)
تؤيد هذا التأويل لأنها للتراخي، والثالث: قوله (يلبث الناس بعده) فيتجه أنَّ
الضمير فيه لعيسى لأنه أقرب مذكور، والرابع: أنه لم يرد ذلك سوى هذا الحديث
المحتمل ولا ثاني له، وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث من طرق مختلفة منها
الحديث المذكور وهو صحيح، ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: ينزل عيسى ابن مريم في الأرض أربعين سنة لو يقول
للبطحاء سيلي لسالت.
ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعاً في حديث الدجال: فينزل عيسى
(3/223)
ابن مريم فيقتله ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إماماً
عادلاً وحكماً مقسطاً.
وأيضاً من حديث ابن مسعود عند الطبراني.
فهذه الأحاديث المتعددة الصريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل.
قوله: (فبأي ظلم).
قال الطَّيبي: التعظيم من التنكير. اهـ
قوله: (نصب بمضمر دل عليه (أوحينا إليك) كأرسلنا).
قال الطَّيبي: أي (أوحينا) لا يجوز أن يعمل في (رُسُلاً) لأنه تعدى بـ (إلى).
قال: ويمكن أن يقال بالحذف والاتصال، لأن الكلام في الإيحاء لا في الإرسال فعلى
هذا (قَصَصْنَاهُمْ) (لَمْ نَقْصُصْهُمْ) صفتان لـ (رُسُلاً) وعلى أن يكون
(قَصَصْنَاهُمْ) مفسر للعامل يبقى (رُسُلاً) مطلقاً. اهـ
قوله: (نصب على المدح أو الحال).
قال الطَّيبي: وأنت تعلم أنَّ الشرط في النصب على المدح أن يكون الممدوح مشهوراً
معروفاً بصفات الكمال، ويكون بهذا الوصف المذكور منتهي في بابه فكم بين
الاعتبارين. اهـ
قوله: (روي أنه لما نزل (إنا أوحينا إليك ... ) قالوا: ما نشهد لك فنزلت).
أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
قوله: (روي أن وفد نجران ... ) إلى آخره.
عزاه الواحدي في أسباب النزول للكلبي.
قوله: (الكروبيون).
قال في الفائق: هم سادة الملائكة منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وهم المقربون من
كرب إذا قرب قربا بالغاً والياء للمبالغة كأحمري. اهـ
(3/224)
وفي القاموس: الكروبيون مخففة سادة الملائكة. اهـ
وفي تذكرة الشيخ تاج الدين ابن مكتوم ومن خطه نقلت: سئل أبو الخطاب ابن دحية عن
الكروبيين هل يعرف في اللغة أم لا؟ فقال: الكروبيون بتخفيف الراء: سادة الملائكة
وهم المقربون من كرب إذا قرب.
وأنشد أبو علي البغدادي: كروبية منهم ركوع وسجد.
وقال الطيبي عن بعضهم: في هذه اللفظة ثلاث مبالغات: أحدها: أن كرب أبلغ من قرب حيث
وضع موضع كاد، تقول: كربت الشمس أن تغرب، كما تقول كادت، الثانية: أنه على وزن
فعول وهو للمبالغة، الثالتة: زيادة الياء فيه، وهي تزداد للمبالغة كأحمري. اهـ
قوله: (وإن سلم اختصاصها بالنصارى ... ).
قال الطَّيبي: الجواب الصحيح أن يقال إن الكلام إنما سبق للرد على النصارى، وإنما
تنتهض الحجة عليهم به إذا سلموا أنَّ الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد،
فكيف والنصارى يرفعون درجته إلى الإلهية، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما قال
محي السنة رداً على الذين يقولون الملائكة آلهة وكما رد على النصارى وأنه من باب
التتميم لا من باب الترقي. اهـ
قوله: (والاستكبار دون الاستنكاف).
قال الراغب: الفرق بينهما أنَّ الاستنكاف تكبر في تركه أنفة، وليس في الاستكبار
ذلك. اهـ
(3/225)
قوله: (روي أن جابر بن عبد الله كان مريضاً ... ) الحديث.
أخرجه الأئمة الستة من حديثه.
قوله: (وهي آخر ما نزل من الأحكام).
أخرجه الأئمة الخمسة عن البراء بن عازب.
قوله: (و (ليس له ولد) صفة أو حال عن المستكن فى (هلك)).
سبقه إلى الحال أبو البقاء، وقال أبو حيان: الذي يقتضيه النظر أن ذلك ممتنع، وذلك
أنَّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي
ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب
فصارت كالمؤكدة لما سبق، فإذا تجاذب الإتباع أو التقييد مؤكد ومؤكد فالحكم إنما هو
للمؤكد إذ هو معتمد الإسناد الأصلي. اهـ
ووافقه الحلبي، وقال السفاقسي: الأظهر أنه مرجح لا موجب.
قال: ولأبي البقاء معارضته بترجيح آخر وهو أنا إذا جعلنا (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) صفة
لـ (امْرُؤٌ) لزم الفصل بين النعت والمنعوت، وإن كان حالاً من ضمير (هَلَكَ) لم
يلزم الفصل. اهـ
ومنع الزمخشري كونه حالاً من (امْرُؤٌ).
(3/226)
ووجهه الطيبي بأنه نكرة غير موصوفة لأن (هَلَكَ) مفسر للفعل
المحذوف لا صفة.
وقال الحلبي: يصح كونه حالاً منه، و (هَلَكَ) صفة. اهـ
قوله: (الضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى).
قال أبو حيان: هكذا أخرجوا الآية وهو تخريج لا يصح، والذي يظهر لي في تخريجها
وجهان: أحدهما: أن ضمير (كَانَتَا) لا يعود على أختين بل يعود على الوارثتين وثم
صفة محذوفة لـ (اثْنَتَيْنِ)، و (اثْنَتَيْنِ) بصفته هو الخبر، والتقدير: فإن كانت
الوارثتان اثنتين من الأخوات، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم، وحذف الصفة
لفهم المعنى جائز، الثاني: أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكر، ويكون خبر
(كان) محذوفاً لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلاً، ويكون (اثْنَتَيْنِ) حالاً
مؤكدة، والتقدير: فإن كانت أختان له؛ أي للمرء الهالك، ويدل على حذف الخبر الذي هو
له (وَلَهُ أُخْتٌ). اهـ
قوله: (أي يبين الله لكم ضلالكم ... ) إلى آخره.
حكى ثلاثة أقوال: الأول للجرجاني صاحب النظم قال: أي يبين الله لكم الضلالة
لتعلموا أنَّها ضلالة فتجتنبوها، والثاني للبصريين قالوا: المضاف محذوف أي: كراهة
أن تضلوا كقوله (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، والثالث للكوفيين قالوا: حرف النفي
محذوف.
قال الزجاج في الترجيح: (لا) لا تضمر لأن حذف حرف النفي لا يجوز، ولكن تزاد
للتوكيد، ويجوز حذف المضاف وهو كثير. اهـ
وقال الطَّيبي: النظم مع صاحب النظم، لأنَّ هذه الخاتمة ناظرة إلى الفاتحة وهي قوله
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)، فإنَّ براعة الاستهلال دلت إجمالاً
على أمور يجب
اجتنابها وضلالة ينبغي أن يتقي منها، ومن ثم فصلت أولاً بقوله (وَآتُوا
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)، وثانياً
بقوله (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، وثالثاً بقوله (وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)، ورابعها بقوله (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ)،
وخامسها بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)،
وسادسها
(3/227)
بقوله (وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)،
وسابعاً بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّسَاءَ كَرْهًا ... ) الآيات، وثامناً بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ ... ) الآية، وتاسعاً بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، وعاشراً بقوله (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) وهلم جرا إلى هذه الغاية ومن ثم رجع
عوداً إلى بدء من حديث الميراث بقوله (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ)
فظهر أن التقدير: يبين الله لكم ضلالكم لئلا تضلوا، فالعلة محذوفة والمفعول مذكور
على خلاف تقدير الجمهور. اهـ
قوله: (من قرأ سورة النساء ... ) الحديث.
رواه الثعلبي والواحدي من حديث أبي بن كعب وهو موضوع كما تقدم التنبيه عليه في
سورة آل عمران.
(3/228)
سورة المائدة
قوله: (قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا).
مدح به بنوا أنف الناقة وكان هذا نبزاً في غاية الشناعة، فأبرزه الحطيئة في صورة
المدح وكمال الرئاسة حيث قال بعد هذا البيت:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا.
قال الشيخ سعد الدين: وفي البيت إشارة إلى كون العقد بمعنى العهد، مستعار من عقد
الحبل حيث رشح ذلك بذكر الحبل والدلو وما يتعلق بهما، والعناج: حبل يشد في أسفل
الدلو ثم يشد إلى العَراقي ليكون عوناً لها وللوذم فإذا انقطعت الأوذام أمسكها
العناج، والعرقوتان: الخشبتان المعترضتان على الدلو كالصليب، والأوذام: السيور
التي بين آذان الدلو وأطراف العراقي، والكرب: الحبل الذي يشد في وسط العراقي ثم
يثنى ويثلث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير، ويقال: ملأ الدلو إلى
عقد الكرب لمن يبالغ فيما يلي من الأمر. اهـ
قوله: (ولكل المراد بالعقود: ما يعم العقود التي عقدها الله تعالى ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: لأنَّ العقود جمع محلى باللام مستغرق لجميع ما يصدق عليه أنه عقود
الله تعالى من الأصول والفروع، والمذكور في السورة أمهاتها وأصولها منصوصاً، وسائر
ما يستتبعه مفهوماً ومرموزاً، فقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى)، وقوله (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)، وقوله
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) الآيات من
الجوامع التي تحتوي على جميع المسائل التي هي مفتقر إليها من الحكمة العلمية
والعملية الفرعية والأصولية، أما العبادات فأشار إلى عمودها وأسها وهي الصلاة، ثم
هي متوقفة على الطهارة وإليه الإشارة بقوله (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا)،
ثم كر إلى
(3/229)
ذكر الصلاة وعلق به قرينتها التي هي الزكاة في قوله (وَقَالَ
اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ)،
وأومأ إلى الحج بتعظيم شعائر الله في قوله (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)، وأما المعاملات فقد أدمج (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ما يمكن أن يستنبط منه بعض أحكامها، وكذا
المناكحات في قوله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ... ) الآية، هذا وإن
قسم الجراحات والحدود والجهاد والأطعمة والأشربة والحكومات وغيرها السورة مملوءة
منها، مشحونة بها، ومن أراد أن يستوعب جميع ما يتعلق بربع الجراح فلا يعوزه ذلك
نصاً وإشارةً، ولأمر ما أخر نزول هذه السورة، وفذلكت بقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ). اهـ
قوله: (والبهيمة كل حي لا يميز).
قال الطَّيبي: لأنه أنَّهم عن أن يميز. اهـ
وقال الراغب: البهيمة ما لا نطق له من الحيوان، ثم اختص في المتعارف بما عدا
السباع والطير، ثم استعملت في الأزواج الثمانية إذا كانت معها الإبل، ولا يدخل في
ذلك الخيل والبغال والحمير. اهـ
قوله: (وإضافتها إلى الأنعام للبيان ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: قد اشترطوا فيها كون المضاف إليه جنس المضاف كالفضة للخاتم،
وهنا الأمر بالعكس. اهـ
قوله: (وقيل هما المراد بالبهيمة).
قال الراغب: لما علم في سورة الأنعام تحليل الله الأنعام نبه بقوله (بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ) على تحليل ما يجري مجرى الأنعام، فيكون لهذه الآية دلالة على تحليل
البهيمة وتحليل الأنعام لأن المخاطبة للمسافرين إذا كانوا حلالاً، وعلى ذلك قول من
قال بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: هي بقر الوحش والظباء. اهـ
(3/230)
قوله: (إلا محرم ما يتلى عليكم بقوله (حرمت عليكم الميتة)، أو
إلا ما يتلى عليكم تحريمه).
قال الطَّيبي: إنما قدر ذلك لأنه لا بد من المناسبة بين المستثنى والمستثنى منه في
الاتصال، فلا يستقيم استثناء الآيات من البهيمة فيقدر إما المضاف كما يقال: إلا
محرم ما يتلى عليكم أي: الذي حرمه المتلو، وإما الفاعل بأن يقال: إلا البهيمة التي
يتلى عليكم آية تحريمها، ثم حذف المضاف الذي هو آية وأقيم المضاف إليه مقامه وهو
تحريمه، ثم حذف المضاف ثانياً وأقيم المضمر المجرور مقامه فانقلب الضمير مرفوعاً
واستتر في (يُتلَى) وعاد إلى (ما). قال أبو البقاء: (إِلاّ مَا يتلَى عَلَيكُم)
استثناء متصل والتقدير: أحلت لكم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلا الميتة وما أهل لغير
الله به مما ذكره في الآية الثالثة من السورة. اهـ
ولخصه الشيخ سعد الدين فقال: يعني إن (مَا يُتلَى) استثناء متصل من (بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ) وليس من جنسها، لأن المتلو لفظ فحاول جعل المستثنى من جنس المستثنى
منه بتقدير مضاف محذوف من (مَا يُتلى) يكون عبارة عن البهائم المحرمة، أو من فاعل
(يُتلَى) أي: يتلى تحريمه ليكون (مَا) عبارة عن البهيمة المحرمة لا عن اللفظ
المتلو. اهـ
قوله: ((غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من الضمير فى (لكم)).
قال أبو حيان: هو قول الجمهور، وهو مردود إذ يصير المعنى: أحلت لكم بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ في حال انتفاء كونكم محلي الصيد وأنتم حرم، وهم قد أحلت لهم
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال إذا أريد بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ أنفسها، وإذا أريد بها الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى: وأحل
لكم هذه في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد ينزه
القرآن أن يأتي فيه مثل هذا، ولو أريد هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه.
قال: والقول بأنه من واو (أَوْفُوا) قول الأخفش وفيه الفصل بين الحال وصاحبها
بجملة غير اعتراضية بل هي منشئة أحكاماً وذلك لا يجوز، وفيه أيضاً تقييد الإيفاء
بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم، وهم يؤمرون بإيفاء العقود بغير قيد
(3/231)
ويصير التقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلي الصيد
وأنتم حرم فإذا لم توجد هذه الحال فلا توفوا بالعقود. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا يخفى أن قول الأخفش أقرب معنى وإن كان أبعد لفظاً، وذلك
لأن جعله حالاً من ضمير (لكم) إنما يصح إذا أريد ببهيمة الأنعام الظباء، وإذا أريد
الأنعام المستثنى منها البعض ففي جعله حالاً من ضمير (لَكُم) تقييد للإحلال بهذه
الحال وليس كذلك.
قال: ويمكن دفعه بأنَّ المراد بالأنعام أعم من الإنسي والوحشي مجازاً أو تغليباً
أو دلالة أو كيف ما شئت، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين للصيد في
الإحرام إذ معه تحريم البعض وهو الوحشي.
قال: ومنهم من جعله حالاً من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ)
ويستلزم جعل (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أيضاً حالاً من مقدر أي: حال كوننا غير محلين
الصيد لكم في حال إحرامكم.
قال: وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ.
اهـ
وقال أبو حيان: جعل بعضهم صاحبَ الحالِ الفاعلَ المحذوف من (أُحِلَّتْ) المقام
مقامه المفعول وهو الله تعالى، وهو فاسد لأنهم نصوا على أنَّ الفاعل المحذوف في
مثل هذا يصير نسياً منسياً فلا يجوز وقوع الحال منه، وجعله بعضهم الضمير المجرور
في (عَلَيكمْ) ويرده أن الذي (يُتلَى عَلَيكمْ) لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم
الصيد وهم حرم بل هو يتلى عليكم في هذه الحال وفي غيرها.
ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله (إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) استثناء من
(بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ)، وقوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) استثناء مما يليه
وهو الاستثناء، وأبطله بأنه يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأنه مستثنى من الجرم
الذي هو مستثنى من الإباحة.
قال ابن عطية: قد خلط الناس في هذا الموضع في نصب (غَيْرَ)، وقدروا تقديرات
(3/232)
كلها غير مرضية لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد
استثناء. اهـ
وقال أبو حيان: إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كونه رسم
(مُحِلِّي) بالياء، فظنوا أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم
الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة وأصله: غير محلين
الصيد، والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ) من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، وكذا هذا أصله: غير
الصيد المحل، والمحل صفة للصيد لا للناس، ووصف الصيد بأنه محل إما على معنى: دخل
في الحل، كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل، وأحرم الرجل: دخل في الحرم، أو على
معنى صار ذا حل أي: حلالاً بتحليل الله، ومجيء (أفعل) على الوجهين المذكورين كثير
في لسان العرب، فمن الأول: أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتمم إذا حلوا هذه المواضع،
ومن الثاني: أعشبت الأرض وأبقلت أي صارت ذا عشب وبقل، وكذا أغد البعير وألبنت
الشاة وأحرم النخل وأحصد الزرع وأنجبت المرأة، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه
محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل أو صار ذا حل اتضح كونه
استثناء ثانياً، ولا يمكن كونه استثناء (من استثناء) لتناقض الحكم لأن المستثنى من
المحرم حلال، ثم إن كان المراد ببهيمة الأنعام أنفسها فهو استثناء منقطع، أو
الظباء ونحوها فمتصل على أحد تفسيري المحل، (استثنى الصيد) الذي بلغ الحل في حال
كونهم محرمين.
فإن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل، والصيد الذي في الحرم لا يحل
أيضاً؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، والقصد بيان
تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم.
فإن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء
(3/233)
والوقف عليه بها؟ قلت: قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق
نحو (لا أذبحَنهُ) بالألف، و (بِأييد) بياءين إلى غير ذلك، والوقف اتبعوا فيه
الرسم. اهـ
وأقول: هذا التخريج الذي خرجه أبو حيان فيه تكلف كبير، وهو خلاف ما يتبادر من
اللفظ والسياق، والصواب تخريج الجمهور أنه حال من ضمير (لَكم)، وما رد به من لزوم
تقييد الإحلال بهذه الحال لا يرد عند التأمل، وكم من حال وصفة لم يعتبر مفهومها،
ثم رأيت السفاقسي ذكر مثل ما ذكرت فقال: هذا التخريج الذي ذكره أبو حيان فيه تكلف
وتعسف لا يخفى على منصف من حيث زيادة الياء وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرون
منه بزيادة أو نقصان في الرسم فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة
الصفة للموصوف وهو غير مقيس، ولا شك أن ما ذكره الجمهور من أن (غَيْرَ) حال وإن
لزم منه الترك للمفهوم فهو أولى من تخريج ينبو عنه المفهوم، والمفهوم هنا متروك
لدليل خارج، وكثير في القرآن مفهومات متروكة لعارض. اهـ
وقال الحلبي: هذا الذي ذكره أبو حيان وأجازه وغلط فيه الناس ليس بشيء وفيه خرق
للإجماع، فإنَّهُم لم يعربوا (غَيْرَ) إلا حالاً حتى نقل عن بعضهم الإجماع على
ذلك، وإنما اختلفوا في صاحب الحال.
قال: وقديماً وحديثاً استشكل الناس هذه الآية. اهـ
ثم قال السفاقسي: ويمكن فيه تخريجان:
أحدهما: أن يكون (غَيْرَ) استثناء منقطعاً، و (مُحِلِّي) جمع على بابه والمراد به:
الناس الداخلون حل الصيد؛ أي: لكن إن دخلتم حل فلا يجوز لكم الاصطياد.
والثاني: أن يكون متصلاً من بهيمة الأنعام، وفي الكلام حذف مضاف إلى (مُحِلِّي)
أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وأنتم حرم فلا يحل.
ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل ويكون الاستثناء متصلاً والمضاف محذوف؛ أي:
إلا صيد مُحِلِّي الاصطياد وأنتم حرم، والمراد بالمحلين: الفاعلون فعل من يعتقد
التحليل فلا يحل، ويكون معناه: أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقاً.
ثم قال السفاقسي: وعندي تخريج آخر حسن وهو أن يكون حالاً من ضمير (لَكم)
(3/234)
وحذف المعطوف للدلالة عليه، وهو كثير وتقديره: غير محلي الصيد
ومحليه كما قال تعالى (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد. اهـ
قوله: ((وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عن ما استكن فى (مُحِلِّي)).
هي عبارة مكي.
قال الحلبي: وهي أصح من قول الكشاف حال عن (مُحِلِّي الصَّيْدِ) فإن فيه مجيء
الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة. اهـ
قال الطَّيبي: والحالان متداخلتان. اهـ
قوله: (وهو اسم ما أشعر).
قال الشيخ سعد الدين: التصريح في مثل هذا بلفظ الاسم لئلا يتوهم أنه صفة حيث له
اشتقاق ظاهر ودلالة على معنى زائد على الذات، ودليل عدم الوصفية أنه لا يجري على
الموصوف ولا يعمل عمل الفعل. اهـ
قوله: (كجدي فى جمع جدية السرج هى بالجيم والدال المهملة).
في الصحاح: الجَديَة: بتسكين الدال شيء محشو تحت دفتي السرج والرحل، وهما جديتان،
والجمع جَدًى وجَدَيَات بالتحريك، وكذلك الجدية على فعيلة والجمع الجدايا. اهـ
قوله: (أو لحاء شجر).
بلام وحاء مهملة ومد: قشر الشجر.
قوله: (والجملة في موضع الحال من المستكن فى (آمِّينَ) وليست صفة له) إلى آخره.
يشير إلى الرد على صاحب الكشاف حيث أعربه صفة.
وقال الشيخ سعد الدين: إنما أراد أن (آمِّينَ) و (يَبْتَغُون) صفتان لموصوف محذوف
ولم يرد أن (يَبتَغُون) صفة لـ (آمِّينَ).
قوله: (روي أن الآية نزلت في عام القضية ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن عكرمة وسمى المذكور الحطم بن هند البكري.
(3/235)
قوله: (قرئ بكسر الفاء).
قال أبو حيان: ليس عندي كسراً محضاً بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسر
همزة الوصل كما أمالوا الفاء في (فإذا) لوجود كسرة إذا. اهـ
وقال الطيبي: قيل كسر الفاء إمالة لإمالة ما بعده نحو (عمادا) على مذهب من يميله.
اهـ
قوله: (لا يحملنكم أو لا يكسبنكم).
أتى بـ (أو) وهو أحسن من تعبير الكشاف بالواو لأن أبا حيان قال: يمتنع أن يكون
مدلول (جرم) حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون
(تَعْتَدُوا) في محل مفعول به ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر. اهـ
قوله: (وهو مصدر).
جوزوا كونه وصفاً و (فعلان) بالفتح في الأوصاف موجود نحو حمار قطوان: عسر السير،
وتيس عدوان: كثير العدو.
قوله: (أضيف إلى للمفعول أو الفاعل).
قال أبو حيان: الأظهر الأول. اهـ
قوله: (كليان).
مصدر لويت ذنبه لياناً.
قوله: (أو نعت).
وهو الأظهر.
قوله: (ثاني مفعولى يجرمنكم).
هذا إن كان بمعنى يكسبنكم، فإن كان بمعنى يحملنكم كان نصباً على نزع الخافض وهو
(على).
قوله: (فإنه يتعدى إلى واحد وإلى اثنين).
هذان الاستعمالان معاً للذي بمعنى كسب، ومن تعديه إلى واحد: جرم فلان ذنباً أي:
كسب.
قوله: (جعله منقولاً من المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين).
(3/236)
قال الشيخ سعد الدين: ذهب إلى هذا نظراً إلى أنَّ الأصل هو أن
تكون الهمزة للتعدية، وإلا فيجوز أن تكون من: جرمته ذنباً، للمبالغة. اهـ
قوله: (غفل).
أي لا سمة عليها.
قوله: (نزلت بعد عصر يوم الجمعة حجة الوداع).
أخرجه الشيخان وغيرهما عن عمر.
قوله: (أو بالتنصيص ... ) إلى آخره.
قال الامام: المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيَّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص
وبعضها بطريق تعرف الحكم بها، وأمر بالاستنباط وتعبد المكلفين به وكان ذلك بياناً
في الحقيقة. اهـ
قوله: (اخترته لكم).
قال الشيخ سعد الدين: المنصوب الثاني بعد (وَرَضِيت) يحتمل أن يكون حالاً أو
تمييزاً، وأن يكون مفعولاً ثانياً على تضمين معنى التصيير. اهـ
قوله: (وما بينهما اعتراض).
قال الطَّيبي: هي سبع جمل أولها (ذَلِكُمْ فِسْقٌ).
قال: وفي هذا الاعتراض البليغ وتقديم بيان تحريم المطعوم على سائر الأحكام إيذان
باهتمام أمر المطعوم، وأن قاعدة الأمر وأساس الدين مبني عليه، لأن به قوام البدن
الذي به تمكن المكلف من العبادة. اهـ
قوله: (لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة).
وقال أبو حيان: لا يحتاج إلى ذلك لأنه من باب التعليق كقوله (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ
بِذَلِكَ زَعِيمٌ)، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لـ
(يَسْأَلُونَكَ)، ونصوا على أن فعل السؤال يعلق وإن لم يكن من أفعال القلوب لأنه
سبب للعلم فكما يعلق العلم فكذا سببه. اهـ
(3/237)
قوله: (على تقدير: وصيد ما علمتم).
قال الشيخ سعد الدين: أي مصيده فإنه الذي أُحل، فعطفه على الطيبات من عطف الخاص
على العام. اهـ
قوله: (وجملة شرطية إن جعلت شرطاً).
قال أبو حيان: وهذا أجود لأنه لا إضمار فيه. اهـ
قال الطَّيبي: هي شَرطية على تقدير المضاف أيضاً.
قال: وروي عن صاحب الكشاف أنه سئل عنه وقيل: فإذاً يبطل كونها شرطية؟
فقال: لا، لأن المضاف إلى الاسم الحامل لمعنى الشرط في حكم المضاف إليه تقول: غلام
من تضرب أضرب.
وقال صاحب الكتاب: فإن تقدم اسما الشرط الجار فالمعنى الموجب لها الصدر مقدر قبله
لاتحاده بها، فعلى هذا يكون تقدير غلام من تضرب أضرب: إن تضرب غلام زيد أضرب، وفيه
بحث لأنه ليس من مواضع وضع المظهر موضع المضمر في الجزاء، فمعنى قوله (فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وضع موضع ضمير صيد ما علمتم لما دل على التعظيم
والفحامة، لكن هو من التكرير الذي لا يناط به حكم آخر من قوله (وَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ ... ) الآية، ويمكن أن يقال إن السائل كأنه كان
متردداً في حل ما أمسكته الضواري فقدم في الجواب (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)
وعطف عليه صيد ما علمتم اختصاصاً له، ثم زيد في المبالغة بأن جعل الجزاء عين
الشرط، ويجوز أن لا يقدر المضاف فتكون الجملة الشرطية معطوفة على قوله (أُحِلَّ
لَكُمُ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا يحتاج على الشرطية إلى حذف المضاف وإن نقل عن صاحب
الكشاف أنه قال: تقدير المضاف لا يبطل كون (ما) شرطية لأن المضاف إلى الاسم الشرطي
في حكم المضاف إليه تقول: غلام من تضرب أضرب. اهـ
قوله: (ومضريها بالصيد).
قال الطيبي: التضرية: الإغراء.
في الأساس: سبع ضاري، وقد ضري بالصيد ضرواة، وأضرى الصائد الكلب والجارح، ومن
المجاز: ضرى فلان بكذا، وعلى كذا: إذا لهج به، وأضريته وضريته وضريت
(3/238)
عليه. اهـ
قوله: (مشتق من الكلب لأن التأديب يكون أكثر فيه أو لأن كل سبع يسمى كلباً).
قال أبو حيان: لا يصح هذا الاشتقاق لأن كون الأسد هو وصف فيه، والتكليب من صفة
المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها وكلاب بنفسها لا بجعل المعلم. اهـ
قال الحلبي: ولا طائل تحت هذا الرد. اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك).
زاد في الكشاف: فأكله الأسد.
قال الطَّيبي: الحديث موضوع.
قلت: معاذ الله بل صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي نوفل ابن أبي عقرب
عن أبيه قال: كان لهب ابن أبي لهب يسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: اللهم سلط عليه كلبك، فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا
منزلاً فقال: إني أخاف دعوة محمد، فحطوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء الأسد
فانتزعه منهم فذهب.
قال الحاكم: صحيح الإسناد.
قوله: ((تُعَلِّمُونَهُنَّ) حال ثانية).
قال الطَّيبي: دلت الحال الأولى على أن معلِم الكلب ينبغي أن يكون مدرباً في تلك
الصنعة يعلم لطائف الحيل وطرق التأديب فيها، ولا شك أن ذلك لا يتم إلا بالإلهام
والعقل الذي منحه الله تعالى، والحال الثانية على أنه ينبغي أن يكون فقيهاً عالماً
بالشرائط المعتبرة في الشرع من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه
بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه، وفيه إدماج لتلك الفائدة
(3/239)
الجليلة التي ذكرها مع الإشارة إلى العالم وإن كان أوحدياً
متبحراً في العلوم ينبغي أن لِكون محدثاً ملهماً من عند الله، مجانباً مضارب علمه
عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمارة، مستعداً لفيضان العلوم الدينية، مقتبساً من
مشكاة الأنوار النبوية. اهـ
قوله: (أو استئناف).
زاد أبو حيان: على تقدير أن لا تكون (ما) شرطية إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط
وجوابه. اهـ
قوله: (أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد).
قال الطَّيبي: (أن تعلموه) مفعول ثان لقوله (مما علمكم الله)، والضمير المنصوب في
(تعلموه) عائد إلى (ما) والمفعول الثاني محذوف أي: مما علمكم الله أن تعلموه
الكلب، وقوله (من اتباع) بيان (ما). اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم: وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك
على نفسه).
أخرجه الأئمة الستة من حديثه.
قوله: (وقال بعضهم: لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر).
هو رأي إمام الحرمين.
قوله: (الضمير لما علمتم ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان: الظاهر عوده إلى المصدر المفهوم من (فَكُلُوا) أي على الأكل. اهـ
قوله: (واستثنى عليٌّ نصارى بني تغلب).
أخرجه عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي عن عليٍّ أنه كان يكره ذبائح نصارى
(3/240)
بني تغلب ونسائهم ويقول هم من العرب.
وروى الشافعي بإسناد صحيح عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا
آكلي ذبائحهم).
أخرجه مالك في الموطأ والشافعي عنه عن جعفر بن أبيه عن عمر أنه قال: ما أدري ما
أصنع في أمرهم (يعني المجوس)؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت من رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
قال مالك: يعني في الجزية.
ولم يذكر فيه الجملة الأخيرة.
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال: كتب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل
ومن أصر ضربت عليه الجزية على أن لا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة.
وفي رواية عبد الرزاق: غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم.
وهو مرسل وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف.
قال البيهقي: وإجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده.
قوله: (وقال ابن عباس: لا يحل الحربيات).
قوله: (يريد بالإيمان شرائع الإسلام).
زاد الكشاف: لأنَّ الكفر بالمُؤْمَن به لا بالإيمان نفسه.
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: فهو كالتذييل لقوله (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ) تعظيماً لشأن الإحلال والتحريم، وتحريضاً على المحافظة عليها،
وتغليظاً على المخالفة.
(3/241)
قوله: (إذا أردتم القيام ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء ولا خلاف في أنه ليس المراد وجوب الوضوء في الصلاة
حال القيام إلى الصلاة، ولأنه إذا أريد به مباشرة الصلاة فقط عقب القيام لزم في أن
يكون الوضوء في الصلاة أو بعدها، وإن أريد القيام المنتهي إلى الصلاة أو متوجهاً إليها
لزم أن يكون الوضوء متصلاً بالصلاة بعد القيام فلا يتمكن من الصلاة قط، فجعل
القيام مجازاً عن إرادته بعلاقة كونه مسبباً عنها أو عن قصد الصلاة وإرادتها
بعلاقة كونه من لوازم التوجه إلى الصلاة فعبر عن لازم الشيء بالقيام إليه والتوجه،
فيكون من إطلاق أحد لازمي الشيء على لازمه الآخر لا من إطلاق اسم الملزوم على
لازمه أو المسبب على سببه بناء على أنَّ إرادة الشيء لازم له وسبب. اهـ
قوله: (وإذا قصدتم الصلاة ... ).
قال الطَّيبي: قيل في الفرق إنَّ المعنى على الأول: إذا أردتم القيام إلى الصلاة،
وعلى هذا: إذا أردتم الصلاة وقصدتموها، وفيه نظر لأنَّ الإرادة هي القصد المخصوص
ويجاب بأن المراد من القصد مطلق الميل من غير الداعية الخالصة التي تستلزم النية،
وأيضاً يفهم من إرادة القيام إلى الصلاة الأخذ في مقدماتها وشرائطها ومن ثم عقبها
بقوله (فاغسلوا) وليس كذلك القصد إلى مطلق الصلاة، والأول أوجه. اهـ
قوله: (وظاهر الآية توجب الوضوء على كل قائم).
قال الشيخ سعد الدين: نظر إلى عموم (الَّذِينَ آمَنُوا) من غير اختصاص المحدِثين
وإن لم يكن في اللفظ دلالة على تكرار الفعل وإنما ذلك من خارج. اهـ
قوله: (والإجماع على خلافه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام صلى الخمس بوضوء واحد
يوم الفتح ... ) الحديث.
أخرجه مسلم والأربعة من حديث بريدة.
(3/242)
قوله: (فقيل: مطلق أريد به التقييد، والمعنى: إذا قمتم إلى
الصلاة محدِثين).
قال الشيخ سعد الدين: بقرينة دلالة الحال، واشتراط الحدث في البدل أعني التيمم.
قال: وهذا أولى مما يقال إن الخطاب على عمومه لكن خص بحال الحدث كأنه قيل: وأنتم
محدثون، وذلك لأنه لا دلالة في اللفظ على عموم الأحوال ليخص بالبعض. اهـ
قوله: (وقيل: الأمر فيه للندب).
زاد في الكشاف: ويفهم الوجوب للمحدث من السنة.
قال الشيخ سعد الدين: وهذا بعيد جداً لما فيه من مخالفة ظاهر كون الأمر المطلق
للإيجاب، وإطباق العلماء على أن وجوب الوضوء مستفاد من الآية، مع الافتقار إلى
تخصيص الخطاب بغير المحدِثين من غير دليل ضرورة أنه لا ندب بالنسبة إلى المحدث،
فالوجه هو الأول. اهـ
قال الطَّيبي: قال صاحب الفرائد: لا يجوز أن يكون للندب لأنَّ الإجماع منعقد على
أنَّ الوضوء للصلاة فرض، ولأنَّ الأمر للوجوب إلا لمانع.
قال: وأما الجواب عن السؤال الذي في الكشاف فهو أن يقال: تقدير الآية: وأنتم
محدثون لوجهين: أحدهما أنه يستحيل بدون هذا التقدير أن يتفصى المكلف عن عهدة
التكليف لأنه إذا أراد القيام إلى الصلاة وجب عليه أن يتوضأ، فإذا توضأ وأراد
القيام إلى الصلاة وجب عليه مرة أخرى أن يتوضأ وهلم جرا.
وثانيهما: أنَّ التيمم بدل من الوضوء لقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) والبدل لا يمكن أن يكون مخالفاً للمبدل منه في
السبب وإلا لا يكون البدل بدلاً، فلما كان موجب التيمم عند عدم الماء حالة الحدث
كان كذلك في الوضوء لأنه إما سبب أو شرط. اهـ
قوله: (وقيل: كان ذلك أول الأمر ثم نسخ، وهو ضعيف).
قال الشيخ سعد الدين: من جهة أنه لا يظهر له ناسخ من الكتاب والسنة المتواترة. اهـ
وأقول: روى الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في
المستدرك والبيهقي عن عبد الله بن حنظلة ابن الغسيل أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -
(3/243)
أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر فلما شق ذلك على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من
حدث.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: المائدة آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلاها وحرموا
حرامها).
رواه أحمد والحاكم وصححه عن عائشة موقوفاً.
قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أجده مرفوعاً.
قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته).
أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة.
قوله: (وجره الباقون على الجوار ... ) إلى آخره.
المعروف في النحو اختصاص الجر على الجوار بالنعت والتأكيد، وأنه في العطف ضعيف،
وقد نبه عليه أبو حيان.
وقال ابن الحاجب: الخفض على الجوار ليس بجيد إذ لم يأت في الكلام الفصيح وإنما هو
شاذ في كلام من لا يؤبه له من العرب.
لكن قال أبو البقاء في إعرابه: (وَحُورٍ عِينٍ) -على قراءة من جر- معطوف على قوله
(بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) والمعنى مختلف إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون
بحور عين، والجوار مشهور عندهم في الإعراب والصفات وقلب الحروف والتأنيث.
(3/244)
فمن الإعراب ما ذكر، ومن الصفات قوله (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)
وإنما العاصف الريح، ومن قلب الحروف: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، ومن التأنيث:
ذهبت بعض أصابعه، ومنه قولهم: قامت هند، ولم يجيزوا حذف التاء إذا لم يفصل بينهما
فإن فصلوا أجازوا ولا فرق بينهما إلا المجاورة وعدمها. اهـ
وقال الطيبي: يمكن أن يجاب عن قول ابن الحاجب بأن العطف على الجوار إنما يكون
محذوراً إذا وقع الإلباس، وأما إذا انتهضت القرينة على توخي المراد وارتفع بها
اللبس فلا بأس، كما أنه تعالى لما عطف الأرجل على الرءوس وأوهم الكلام اشتراكاً في
المسح استدرك ذلك بضرب الغاية في الأرجل ليؤذن أن حكمها حكم المغسولة مع رعاية
الاقتصاد في صب الماء.
قال: وحمل الزجاج الجر على غير الجوار فقال: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالخفض على معنى
فاغسلوا، لأن قوله (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قد دل عليه لأن التحديد يفيد الغسل كما
في قوله (إِلَى الْمَرَافِقِ) ولو أريد المسح لم يحتج إلى التحديد كما قال في
الرءوس (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) من غير تحديد، وتنسيق الغسل على المسح كما قال
الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحاً
أي متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً.
واختار صاحب الانتصاف هذا الوجه، وكذا ابن الحاجب في الأمالي ورد الأول قال: هذا
الأسلوب أي عطف (وَأَرْجُلَكُمْ) على (بِرُءُوسِكُمْ) مع إرادة كونه مغسولاً من
باب الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى
ولكل واحد متعلق جوزت ذكر أحد الفعلين وعطف متعلق المحذوف على المذكور على حسب ما
يقتضيه لفظه حتى كأنه شريكه في أصل الفعل كقوله: علفتها تبناً وماءً بارداً
قال الطَّيبي: وهذا الوجه والعطف على الجوار متقاربان في المعنى، لأن صاحب المعاني
إذا سئل عن فائدة إضمار قوله: (حاملاً) والاكتفاء بقوله (متقلداً) دون
(3/245)
العكس لا بد أن يزيد على فائدة الإيجاز بأن يقول: إن الرمح صار
في عدم الكلفة في حمله كالسيف، لا سيما إذا ورد مثل هذا التركيب في الكلام الحكيم
سبحانه وتعالى، وهنا مرادف منه وذلك أنه تعالى لما بين حد الأيدي راعى المطابقة
بين الأيدي والمرافق بالجمع، وحين بين حد الأرجل وضع التثنية موضع الجمع، وأنت قد
عرفت أن البلغاء إنما يعدلون عن مقتضى الظاهر إلى خلافه لنكته، والنكتة هاهنا: أنه
تعالى لما قرن الأرجل مع الرأس الممسوح اهتم بشأنه وأخرجه هذا المخرج لئلا يتوهم
متوهم أنَّ حكمه حكم الممسوح بخلاف المرفقين كأنه قيل: يا أمة محمد اغسلوا أيديكم
إلى المرافق ويعمد كل واحد منكم إلى غسل ما يشمل الكعبين من الرجْل الواحدة. اهـ
قلت: وأحسن ما قيل في الآية أنه معطوف على الممسوح لإفادة مسح الخف، كما أفادت
قراءة النصب غسل الرجلين المتجردة منه، فتكون كل قراءة أفادت حكماً مستقلاً، ومن
ذهب من العلماء إلى أنه يخير في الرجل بين الغسل والمسح فلا إشكال، ويمكن أن يدعي
لغيرهم أن ذلك كان مشروعاً أولاً ثم نسخ بتعين الغسل وبقيت القراءتان ثابتتين في
الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتاً.
قوله: (وقرئ بالرفع على وأرجلكم مغسولة).
قال الطَّيبي: دل على الإضمار قوله (فاغسلوا).
قال: ولا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة
ثبوتها وظهورها وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس، وإنما يكون كذلك إذا جعلت
القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما. اهـ
قوله: (أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه).
قال الطَّيبي: المعنى جعل الله تعالى نعمة الرخصة تتميماً لنعمة العزائم، ثم تمم
بهما نعمة الإسلام وتخلص إلى قوله تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ).
اهـ
قوله: (حين بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى العسر
واليسر والمنشط
والمكره).
(3/246)
أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة ابن الصامت.
قال في النهاية: المنشط: مفعل من النشاط وهو الأمر الذي تنشط له وتؤثر فعله، وهو مصدر
بمعنى النشاط. اهـ
قال ابن الجوزي: كانت هذه المبايعة في العقبة الثانية في سنة ثلاث عشرة من النبوة،
وأما العقبة الأولى ففي سنة إحدى عشرة. اهـ
قوله: (أي العدل أقرب إلى التقوى).
قال الراغب: إن قيل كيف قال (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) و (أفعل) إنما يقال في شيئين اشتركا
في أمر واحد لأحدهما مزية، وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو
من جملة العدالة؟ قيل: إن (أفعْل) وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء
الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعاً لكلامه وإظهاراً لتبكيته، فيقال
لمن اعتقد مثلاً في زيدٍ فضلاً وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمراً
أفضل منه: أخدم عمروا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله تعالى (آللَّهُ خَيْرٌ
أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد علم أن لا خير فيما يشركون. اهـ
قوله: (فإن الوعد ضرب من القول).
قال الزجاج: وَعَدَ بمنزلة قال، لأن الوعد لا ينعقد إلا بالقول. اهـ
وقال السفاقسي: إجراء وعد مجرى قال مذهب الكوفيين لا البصريين، لأنه لا تحكى الجمل
عندهم إلا بصريح القول. اهـ
قوله: (روي أن المشركين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعسفان ...
) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث جابر، والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، وابن
(3/247)
جرير من حديث ابن عباس.
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام: أتى قريظة ... ) الحديث.
أخرجه أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس، وأخرجه ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن
يزيد بن رومان والذي في روايتهم أن للمقتولين عهداً بأنهما كانا مسلمين وأن الخروج
إلى بني النضير لا إلى قريظة.
قوله: (وقيل نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً وعلق سلاحه ... )
الحديث.
أخرجه الشيخان من حديث جابر.
قوله: (يقال بسط إليه يده: إذا بطش به، وبسط إليه لسانه: إذا شتمه).
قال الشيخ سعد الدين: أصل البسط فيهما المد، وإنما البطش والشتم حاصل المعنى فلا
يكون (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ) من الجمع بين
المعنيين المختلفين للفظ واحد.
قوله: (ينقب عن أحوال قومه).
قال الزجاج: النقب الطريق في الجبل، وإنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم
ويعلم مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم.
ويقال فلان حسن النقيبة: أي جميل الخليقة، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء
الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط: أي بلغت في النقب إلى آخره. اهـ
قوله: (روي أن بنى إسرائيل لما فرغوا ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن السدي نحوه.
(3/248)
قوله: (وأصله الذب).
قال الزجاج: (عَزَّرْتُمُوهُم): نصرتموهم، لأن العزر في اللغة: الرد، وعزرت
فلاناً: أدبته، معناه: فعلت به ما يردعه عن القبيح، كما أن نكلت به معناه: فعلت به
ما يجب أن ينكل معه عن المعاودة، والناصر يرد عن صاحبه عداه، وهو يستلزم التعظيم
والتوقير، ومن فسر التعزير بالتعظيم أراد هذا. اهـ
قال الطَّيبي: فهو حقيقة في الرد والمنع، وكناية عن التعظيم والنصرة.
وقال الراغب: التعزير: النصرة مع التعظيم قال تعالى (وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ)، والتعزير: ضربٌ دون الحد وذلك يرجع إلى الأول وأنه تأديب،
والتأديب نصرةٌ ما، لكن الأول: نصرة بقمع العدو عنه، والثاني: نصره بقهره عن عدوه،
فإن أفعال الشر عدو للإنسان فمتى قمعته عنها فقد نصرته، وعلى هذا قوله صلى الله
عليه وسلم: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
فقال: انصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تكفه عن الظلم. اهـ
قوله: (ومنه التعزير).
قال في الكشاف: التعزير والتأديب من واد واحد. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: لاشتراكهما في معنى التأكيد والتقوية، وفي أكثر الحروف مع
قرب مخرجي العين والهمزة. اهـ
قوله: (جواب للقسم المدلول عيه باللام فى لئن ساد مسد جواب الشرط).
قال أبو حيان: ليس كما ذكر، لا يسد (لَأُكَفِّرَنَّ) مسدهما، بل هو جواب للقسم فقط
وجواب الشرط محذوف. اهـ
وقال الحلبي: إذا اجتمع قسم وشرط أجيب سابقهما إلا أن يتقدم ذو خبر فيجاب الشرط
مطلقاً، وقوله (لَأُكَفِّرَنَّ) هذه اللام هي جواب القسم لسبقه وجواب الشرط محذوف
لدلالة جواب القسم عليه، وهذا معنى كلام الكشاف لا كما فهمه أبو حيان
(3/249)
ورده عليه. اهـ
قوله: (بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم).
عبارة الكشاف: المعلق بالوعد العظيم.
وقد أورد عليها أنَّ الوعد بتكفير السيئات وإدخال الجنات جزاء للشرط، والجزاء هو
المتعلق بالشرط لا الشرط بالجزاء، فالعبارة مقلوبة فلذلك أصلحها المصنف.
وقال الطَّيبي: انظر إليهم كم خبطوا في الحواشي وكادوا يضلون كثيراً بعد أن ضلوا
لولا أن الله تعالى أعطى القوس باريها، والحق أن الوعد العظيم في كلام الكشاف هو
قوله (إِنِّي مَعَكُمْ) وأي وعد أعظم من ذلك لأنه مشتمل على جميع ما يصح فيه الوعد
من النصرة وتكفر الذنوب وإدخال الجنة والغفران والرضوان والروية وغيرها، وتعلق
الشرط به -وهو قوله تعالى (لَئِنْ أَقَمْتُمُ ... ) إلى آخره- من حيث المعنى كما
تقول لصاحبك: أنا مُعنى في حقك جداً إن خدمتني لم أضيع سعيك، أفعل بك وأصنع بك كيت
وكيت، فالشرط مع الجزاء مقرر لمعنى الجملة الأولى. اهـ
قوله: (وتركوا نصيباً وافياً)
يشير إلى أن التنكير في (حظاً) للتعظيم، قاله الطَّيبي.
قوله: (روي عن ابن مسعود قال: ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية).
أخرجه أحمد بن حنبل في الزهد نحوه، ولفظه: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه
بالخطيئة يعملها.
قوله: (خيانة)
أي فيكون مصدراً كالعاقبة.
قال أبو حيان: ويدل على ذلك قراءة الأعمش (على خيانة). اهـ
(3/250)
قوله: (وإنما قالوا إنا نصارى ... ).
قال الطَّيبي: يعني ما فائدة العدول من النصارى إلى الإطناب؟
وحاصل الجواب: أنه إنما عدل لتصور تلك الحالة في ذهن السامع، وتقرر عندهم أنهم
ادعوا نصرة دين الله تعالى ونحوه قوله تعالى (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِهَا) عدل عن اسمها زيادةً لتقرير المراودة. اهـ
في الانتصاف: لما كان المقصود من هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم بنصرة
الله أتى بما يدل على أنَّهم لم يوفوا بما عاهدوا عليه من النصرة، فحاصل ما صدر
منهم قول بلا فعل. اهـ
قوله: (يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال).
تعليل لتسمية القرآن بالنور، قاله الطَّيبي.
قوله (والكتاب الواضح الإعجاز).
تعليل لوصفه بالمبين على أنه من بَانَ الشيء، قاله الطيبي.
قوله: (وقيل يريد بالنور محمد - صلى الله عليه وسلم)
هو اختيار الزجاج.
قال الطَّيبي: والأول أوفق لتكرير قوله (قد جاءكم) بغير عاطف فعلق به أولاً وصف
الرسول وثانياً: وصف الكتاب.
قال: وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم
الثلاث التي خص بها العباد وهي النبوة والعقل والكتاب، وذكر في الآية الثالثة
ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم، فقوله تعالى (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) يرجع إلى قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا) أي يهدي بالبيان إلى طريق السلام من اتبعه، وقرئ مرضاة الله، وقوله
(وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ) يرجع إلى قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ)، وقوله (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى
(3/251)
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يرجع إلى قوله (وَكِتَابٌ مُبِينٌ) كقوله
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ). اهـ
قوله: (أو سبل الله).
قال الشيخ سعد الدين: على أن يكون السلام من أسماء الله تعالى وضع موضع المضمر
رداً على اليهود والنصارى القائلين باتصافه بنقيصة شبه المخلوقين. اهـ
قوله: (فمن يمنع من قدرته ... ).
قال الشيخ سعد الدين: ظاهره أن (يَملِك) مجاز عن يمنع أو متضمن معناه، و (مِنَ
اللهِ) متعلق به على حذف المضاف، لكن ذكر في الكشاف في سورة الأحقاف في قوله تعالى
(فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا) [فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي، ولا
تطيقون دفع شيء من عقابه، ثم قال ومثله (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ
شَيْئًا)] وحقيقته: فمن يستطيع إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد أن يهلكه
الله تعالى وإن لم يستطع إمساكه ودفعه عنهم فلن يمنعهم منه، فلذا أفسره بالمنع
أخذاً بالحاصل، وحقيقة الملك: الضبط والحفظ عن حزم، تقول: ملكت الشيء إذا دخل تحت
حفظك دخولاً تاماً، ولن أملك رأس البعير إذا لم تستطعه. اهـ
قوله: (كما قيل لأشياع ابن الزبير الخبيبون لأنه كان يكنى أبا خبيب باسم ابنه
خبيب).
قال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدى.
روى بلفظ التثنية يريد ابن الزبير وابنه، وبلفظ الجمع قال ابن السكيت: يريد أبا
خبيب ومن كان على رأيه.
قال ابن المنير: ومنه قول الملائكة لأنهم خواص عباد الله تعالى (إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إلى أن قالوا (إِلاّ امْرَأَتَهُ
قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)
(3/252)
والمقدر هو الله تعالى، وكذلك قول دابة الأرض لأنَّها من خواص
آيات الله (أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ). اهـ
قوله: (على حين فتور).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن يعلق بـ (جاءكم) تعلق الظرفية كما في قوله
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)، وهذا أولى من
جعله حالاً من ضمير (يُبَيِّنُ) على ما لا يحفى. اهـ
وزاد أبو البقاء أنه حال من الضمير المجرور في (لَكُم)، و (مِنَ الرُّسُلِ) نعت لـ
(فَترَة).
قوله: (كراهة أن تقولوا).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أنه في موقع المفعول له، ولو لم يقدر المضاف جاز
حذف اللام بلا تأويل لكن لا بد من تقدير لا، أي: لئلا يقولوا. اهـ
قولة: ((فقد جاءكم) متعلق بمحذوف).
قال الشيخ سعد الدين في فاء الفصيحة: إنَّها تفصح عن المحذوف، وتفيد بيان سببه
كالتي تذكر بعد الأوامر والنواهي بياناً لسبب الطلب، لكن كمال حسنها وفصاحتها أن
تكون مبنية على التقدير، منبئة عن المحذوف، بخلاف قولك: اعبد ربك فالعبادة حق له،
ومبنى الفاء الفصيحة على الحذف اللازم بحيث لو ذكر لم تكن تلك الفصيحة، وتختلف
العبارة في تقدير المحذوف، فتارة أمراً ونهياً كما في هذه الآية، وتارةً شرطاً كما
في قوله تعالى (فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ)، وتارة معطوفاً عليه كما في قوله
(فَانفَجَرَتْ)، وقد يصار إلى تقدير القول كما ذكر في قوله (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ
بِمَا تَقُولُونَ). اهـ
(3/253)
(فائدة): قال الطيبي: يناسب هذا المقام ما قال الإمام في
المعالم أن عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان العالم مملوءاً من الكفر
والضلالة، أما اليهود فكانوا في المذاهب الباطلة من التشبيه والافتراء على
الأنبياء وتحريف التوراة، وأما النصارى فقد قالوا بالتثليث والأب والابن والحلول والاتحاد،
وأما المجوس فأثبتوا إلهين، وأما العرب فانهمكوا في عبادة الأصنام والفساد في
الأرض، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - انقلبت الدنيا من الباطل إلى الحق
ومن الظلمة إلى النور، وانطلقت الألسن بتوحيد الله، واستنارت العقول بمعرفة الله،
ورجع الخلق من حب الدنيا إلى حب المولى. اهـ
قوله: (وقيل لما كانوا مملوكين ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: فيكون المجاز في لفظ الملوك، وعلى الأول في الإثبات للكل
وإنما كان للبعض. اهـ
قوله: (وقيل المراد بـ (العالمين) عالمي زمانهم).
قال الطَّيبي: يعني إن جعلت العالمين عاما وجب تخصيص (ما) لئلا يلزم أنَّهم أوتوا
ما لم تؤت هذه الأمة من الكرامة والفضل وغير ذلك، وإن خصصته بعالمي زمانهم فـ (ما)
باقية على عمومها إذ لا محذور. اهـ
قوله: (ورفعه عطفاً على الضمير في (لا أملك)).
زاد في الكشاف: وجاز للفصل.
قال أبو حيان: يلزم من ذلك أن موسى وهارون لا يملكان إلا نفس موسى فقط، وليس
المعنى على ذلك بل على إن موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط.
قال الحلبي: هذا الرد ليس بشيء لأن القائل بهذا الوجه صرح بتقدير المفعول بعد
الفاعل المعطوف، وأيضاً اللبس مأمون فإن كل أحد يتبادر إلى ذهنه أنه يملك أمر نفسه.
اهـ
وقال السفاقسي: أراد بعطفه على الضمير المستكن أنه بتقدير فعل، فيكون من جملة
فعلية، أي: ولا يملك أخي إلا نفسه، فلا يلزم ما ذكر. اهـ
(3/254)
[وقال ابن هشام في شرح الشذور: في هذا الإعراب نظر، لأن المضارع
المبدوء بالهمزة لا يرفع الاسم الظاهر، لا تقول: أقوم زيد، فكذلك لا يجوز أن يعطف
الاسم الظاهر على الاسم المرفوع به. اهـ
قلت: يجاب عن هذا بأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل.]
قوله: (عامل الظرف).
قال الطيبي: أي أربعين سنة إما محرمة (وإما يتيهون) فيكون التحريم مؤقتاً. اهـ قال
الزجاج: نصبه بـ (محرمة) خطأ، لأنه جاء في التفسير أنَّها محرمة عليهم أبداً،
فنصبه بـ (يتيهون). اهـ
قوله: (أو بدل على حذف مضاف، أي أتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت).
قال أبو حيان: هذا ممنوع لأن (إذ) لا يضاف إليها إلا الزمان، و (نبأ) ليس بزمان.
اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: إنما قدر المضاف ليصح كونه متلواً، وإلا فمجرد الظرفية كاف
في الإبدال لحصول الملابسة. اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل).
أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات من حديث خباب ابن الأرت.
قوله: (وإنما قال (بباسط) فى جواب لأن بسطت ... ) إلى آخره.
في الكشاف: فإن قلت لم جاء الشرط بلفظ الفعل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل؟ قلت: ليفيد
أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفى. اهـ
(3/255)
قال الطَّيبي: أي لا أفعل فعلاً يشتق منه هذا الوصف بأن يقال
مثلاً: هو باسط اليد فإن الفعل الصادر عن الشخص ملزوم كونه فاعلاً، فإذا انتفى
اللازم لينتفى الملزوم على الكناية كان أبلغ وأدل على شناعة الفعل. اهـ
في الانتصاف: صيغة الفعل لا تعطي إلا حدوث معناه من الفاعل لا غير، وأما اتصاف
الذات به فذلك أمر يعطيه اسم الفاعل، تقول: قام زيد فهو قائم، تجعل اتصافه بالفعل
ناشئاً عن صدوره، ومنه (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
الْمَسْجُونِينَ) عدل عن الفعل إلى الاسم تغليظاً، إذ يصير ذلك كالسمة والعلامة
الثابتة. اهـ
قال أبو حيان: قوله (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ) ليعر جزاءً للشرط بل هو جواب للقسم
المحذوف قبل اللام في (لَئِنْ)، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. اهـ
(قال السفاقسي: إنَّ مراد الزمخشري أنه جواب الشرط في المعنى لأنه دال عليه) لا من
حيث الصناعة، وكثيراً ما يتكلم الزمخشري من حيث ما يعطيه المعنى. اهـ
وكذا قال الحلبي.
وقال الطيبي: في التركيب تأكيدٌ ومبالغةٌ، لأن اللام في (لَئِنْ) موطئة للقسم و
(مَا أَنَا بِبَاسِطٍ) جواب القسم ساد مسد جواب الشرط. اهـ
قوله: (الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ
الْمَظْلُومُ).
أخرجة مسلم من حديث أبي هريرة.
قال الطَّيبي: (الْمُسْتَبَّانِ) مبتدأ وقوله (مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ) جملة
شرطية خبر له، و (ما) في قوله (مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ) مصدرية فيها معنى
المدة، وهي ظرف لمتعلق
(3/256)
الجار والمجرور الذي هو خبر المبتدأ، المعنى: الْمُسْتَبَّانِ
الذي قالا فيه استقر ضرورة على الذي بدأ بالسب مدة عدم اعتداء المظلوم، أي ما لم
يجاوز المظلوم حد ما سبه البادئ، فإذا جاوز استقر ضرر ما قالاه عليهما معاً. اهـ
قوله: (وقيل معنى بإثمي ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: هنا معنى آخر رواه محي السنة عن مجاهد: أني أريد أن تكون عليك
خطيئتي التي عملتها إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً. اهـ
قوله: (و (له) لزيادة الربط).
قال أبو حيان: يعني أنه لو جاء: فطوعت نفسه قتل أخيه، لكان كلاماً جارياً على كلام
العرب، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام، إذ الربط يحصل بدونه كما أنك لو
قلت: حفظت مال زيد، كان كلاماً تاماً. اهـ
قوله: (عقبة حِراءٍ).
(بكسر الحاء) والمد والتنوين.
قوله: (روي أنه لما قتله تحير في أمره ... ) إلى آخره.
أخرجه عبد بن حميد عن عطية العوفي.
قوله: ((فَأُوَارِيَ) عطف على (أكون) وليس جواب الاستفهام ... ) إلى آخره.
يشير إلى الرد على صاحب الكشاف حيث جعله منصوباً على جواب الاستفهام.
قال أبو حيان: هذا خطأ فاحش، لأن الفاء الواقعة جواب للاستفهام تنعقد من الجملة
الاستفهامية، والجواب شرط وجزاء، وهنا (لا تنعقد)، تقول: أتزورني فأكرمك، والمعنى:
إن تزرني أكرمك، وقال تعالى (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا)،
ولو قلت هنا: أن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوءة أخي لم يصح، لأن المواراة
لا تترتب على عجزه. اهـ
(3/257)
وسبقه إلى ذلك أبو البقاء، وتابعه ابن هشام والحلبي والسفاقسي.
وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر هو العطف على (أكُون)، لا جواب الاستفهام إذ من شرطه
كون الأول سبباً للثاني، والعجز لا يصلح سبباً للمواراة، ولا يصح: أن عجزت واريت.
اهـ
قوله: (أو على تسكين المنصوب تخفيفاً).
قال أبو حيان: الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفاً، وتسكين المنصوب عند النحويين
ليس بلغة كما زعم ابن عطية، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها إذا
وجد حملها على وجه صحيح، وقد وجد وهو في الاستئناف، أي: فأنا أواري. اهـ
وقال الطَّيبي: قال المبرد هذا من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر. اهـ
قوله: (روي أنه لما قتله أسود جسده).
قوله: (أي: مفسدين).
يعني أنَّ (فسادا) نصب على الحال بجعله في معنى اسم الفاعل.
قوله: (وفي الحديث (الوسيلة منزلة في الجنة)).
أخرجه مسلم.
قوله: (واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه (لو) ... ) إلى آخره.
وهو على رأي الزمخشري من أنَّ (أنَّ) إذا وقعت بعد (لو) كانت فاعلاً يثبت مقدراً،
وهو خلاف مذهب سيبويه.
ولذا قال أبو حيان: أن اللام متعلقة بما تعلق به خبر (أنَّ) وهو (لهم).
قوله: (أو لأن الواو فى (ومثله) بمعنى مع).
قال أبو حيان: هذا ليس بشيء لأنه يصير التقدير: مع مثله معه، وإذا كان ما في
(3/258)
الأرض مع مثله (كان مثله) معه ضرورةً، فلا فائدة في ذكره معه
لملازمة معية كل منهما للآخر. اهـ
وأجاب الطَّيبي بأنَّ (مَعَهُ) على هذا تأكيد.
وقال السفاقسي: جوابه أنَّ التقدير ليس كالتصريح، والواو مضمنة معنى مع، وإنما
يقبح لو صرح بمعنى مع، وكثيراً ما يكون التقدير بخلاف التصريح كقولهم: رب شاة
وسخلتها، لم يجز. اهـ
وقال الحلبي: قد يجاب بأنَّ الضمير في (مَعَهُ) عائد على (مِثلَهُ)، ويصير المعنى
مع مثلين، وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد. اهـ
قوله: (والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم).
قال الشيخ سعد الدين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية، بل إيراد مثالٍ وحكمٍ يفهم
منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن
منه إلى هذا المعنى.
قال: ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال: حالهم في عدم التفصي عن الجواب
بمنزلة حال من يكون له أمثال ما في الأرض جميعاً يحاول بها التخلص من العذاب ولا
يتقبل منه ولا يخلص. اهـ وقال الطَّيبي: أي إذا أخذته بجملته [كان كناية عن أنَّ
الوسائل حينئذ غير نافعة، فيكون وزان الآية مع قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) وزان قوله (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ).
قوله: (وجملة عند المبرد ... ) إلى آخره.
إنما لم يجز عند سيبويه ذلك لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ولا بما
(3/259)
قام مقامها من ظرف أو مجرور، بل الموصول هنا (ال) وصلة (ال) لا]
تصلح لأداة الشرط، وقد امتزج الموصول بصلته حتى صار الإعراب في الصلة بخلاف الظرف
والمجرور فإن العامل فيها جملة لا تصلح لأداة الشرط.
قوله: (وقرئ بالنصب، وهو المختار في أمثاله لأنّ الإنشاء لا يقع خبراً إلا بإضمار
وتأويل).
زاد في الكشاف: وقولك زيداً فاضربه أحسن من قولك زيدٌ فاضربه. اهـ
وعلله خارج الكشاف بأنَّ الفاء لمعنى الشرط، والشرط يختص بالفعل، والمنصوب أدعى
للفعل من المرفوع، فتقدير المثال زيداً أي شيء كان فلا تدع ضربه.
وقال الزجاج: الجماعة أولى بالاتباع، ولا أحب القراءة بالنصب لأن اتباع القراءة
سنة، والذي يدل على أن الرفع أجود في (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) و
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) قوله تعالى (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ
فَآذُوهُمَا). اهـ
وقال المبرد: الاختيار أن يكون (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) رفعا بالابتداء، لأن
القصد لا إلى واحد بعينه، وليس هو مثل: زيدا فاضربه وإنما هو كقولك: من سرق فاقطع
يده، ومن زنى فاجلده.
وقال الطَّيبي: قال شارح اللب في قوله: وقائلة خولان فانكح فتاتهم، أن (خولان)
مبتدأ، (فانكح) خبره وقد دخل عليه الفاء، والتقدير: هؤلاء خولان فانكح، كما تقول:
زيد فلتقم إليه، أي: هذا زيد، فدخول الفاء يدل على أن وجود هذه القبيلة علة لأن
يتزوج منها ويتقرب إليها لحسن نسائها وشرفها.
قال الطَّيبي: فرجع معنى قوله زيد فاضربه بالرفع إلى استحقاق زيد للضرب بما اكتسب
ما يستوجبه، فإن ذلك معهود بين المخاطب والمتكلم فيكون من باب ترتب الحكم على
الوصف المناسب مثل قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا)، وليس كذلك
زيدا فاضربه لأنه من باب الاختصاص مع التأكيد كما في قوله (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ)، فصح قول المبرد وليس هو مثل زيداً فاضربه.
(3/260)
وقال صاحب الفرائد: الأمر لا يصح أن يكون خبراً فيؤول إما
بتقدير: فمقول فيهما اقطعوا، أو أنَّ المبتدأ لما كان متضمناً للشرط وأنه جواب له
صح أن يكون خبراً كأنه قال: إن سرق فاقطعوا.
وقال ابن المنير: الاستقراء يدل على أنَّ العامة لا تتفق في القراءة على غير
الأفصح، وجدير بالقرآن ذلك وهو أحق به من كلام العرب، وسيبويه يحاشي عن اعتقاد
ورود القرآن عن الأفصح وحمله على الشاذ، وهذا لفظ سيبويه لتعلم براءته من ذلك.
قال في باب الأمر والنهى بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب وتلخيصه: أنَّ
من بنى الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال: كالموضح لامتياز هذه
الآية عما اختار فيه النصب وأما قوله عز وجل (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا) و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) فلم يبن على الفعل لكنه
على مثال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ثم قال بعد (فِيهَا
أَنْهَارٌ). يريد سيبويه تمييز هذه الآية عما يختار فيه النصب فإنه في هذه الآية
ليس الاسم مبيناً على الفعل بخلاف غيرها، ثم قال سيبويه: وإنما وقع المثل للحديث
الذي ذكر بعده، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة فهو محمول على هذا فكذلك
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) لما قال تعالى (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا
وَفَرَضْنَاهَا) قال في جملة الفرائض (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم جاء
(فَاجْلِدُوا) بعد أن قضى فيهما الرفع، يريد سيبويه إنه لم يكن الاسم مبنياً على
الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف وجاء الفعل طارئاً عليه.
قال سيبويه: وقد جاء:
وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم
جاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، كذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي: فيما
فرض عليكم، وقد قرأ ناس (وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ) بالنصب وهو في العربية على
ما ذكرت لك من القوة ولكن أبت العامة إلا الرفع.
يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنياً على الفعل غير معتمد على ما تقدم، فكان
قوياً بالنسبة إلى الرفع حيث بنى الاسم على الفعل لا على الرفع حين يعتمد الاسم
على المحذوف المتقدم، فقد سبق منه أنه يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب،
والتبس على الزمخشري لأنه ظن الكل باباً واحداً ألا تراه قال: زيداً
(3/261)
فاضربه أحسن من رفع زيد، رجح النصب مطلقاً، وسيبويه صرح بأن
الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، وحققه بأن الكلام واقع بعد قصص
وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير إضمار خبر بل يرفعه
بالابتداء والأمر خبره، فتلخص أنَّ النصب له وجه واحد وهو بناء الاسم على الفعل،
والرفع على وجهين أضعفهما: بناء الكلام على الفعل، وأقواهما: رفعه بخبر مبتدأ
محذوف، فتحمل القراءة المشهورة على القوي. اهـ
وذكر أبو حيان نحو ذلك فقال: وأما قوله يعني الزمخشري في قراءة عيسى أن سيبويه
فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح، وتعليله بقوله: فإن زيداً فاضربه أحسن من زيد
فاضربه تعليل ليس بصحيح، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه أنهما تركيبان أحدهما زيداً
والثاني زيد فاضربه، فالتركيب الأول اختار فيه النصب ثم جوز الرفع بالابتداء،
والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء، وتكون الجملة الأمرية خبراً له لأجل
الفاء، وأجاز نصبه على الاشتغال أو على الإغراء، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون
جملتين، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف، أي هذا زيد فاضربه، ثم ذكر الآية فخرجها على
حذف الخبر، ودل كلامه على أن هذا التركيب لا يكون إلا على جملتين الأولى ابتدائية،
ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ولم يرجحها على قراءة العامة إنما قال: وهي في العربية
على ما ذكرت لك من القوة، أي نصبها على الاشتغال أو على الإغراء وهو قوي لا ضعيف، وقد
منع سيبويه رفعه على الابتداء والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء، وقد ذكرنا الترجيح
بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره أو خبر حذف مبتدأه وبين نصبه على الاشتغال بأن
الرفع يلزم منه حذف خبر واحد، والنصب فيه حذف جملة وإضمار أخرى وزحلقة الفاء عن
موضعها. اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: القطع فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ... )
الحديث.
أخرجه الشيخان من حديث عائشة بلفظ: تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ
فَصَاعِدًا.
(3/262)
قوله: (ويؤيده قراءة ابن مسعود (أيمانهما)).
أخرجه ابن جرير وابن المنذر.
قوله: (ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا) اكتفى بتثنية المضاف إليه).
قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على
الجمع لأنَّ الإضافة تبينه فإذا قلت: أشبعت بطونهما، علم أنَّ للاثنين بطنين فقط.
اهـ
قال الطَّيبي: فعلى هذا لا يستقيم تشبيه ما في الآية بقوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا) لأنَّ لكل من السارق والسارقة يدين اثنين فيجوز الجمع وأن تقطع
الأيدي كلها جميعاً من حيث ظاهر اللغة. اهـ
وكذا قال أبو حيان: لا يصح هذا التنظير لأن باب (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) يطرد فيه
وضع الجمع موضع التثنية، لأنه ليس في الجسد منه إلا واحد بخلاف اليدين لا يطرد.
اهـ
وقال الحلبي: هذا الرد ليس بشيء لأنَّ الدليل دل على أن المراد اليمنيان. اهـ
وقال السفاقسي: التنظير صحيح لأن الدليل الشرعي قد قام على أنَّ محل القطع اليمين،
وليس في الجسد إلاّ يمين واحدة فجرت مجرى آحاد الجسد، فجمعت كما جمع الوجه والظهر
والقلب. اهـ
قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه).
أخرجه البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحارث بن عبد الله بن ربيعة.
قوله: ((جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ) منصوبان على المفعول له).
قال أبو حيان: هذا ليس بجيد، لأن المفعول له لا يتعدد إلا بحرف العطف إلا إذا كان
الجزاء هو النكال فيكون ذلك على طريق البدل. اهـ
(3/263)
قوله: (قدم التعذيب على المغفرة إيتاءً على ترتيب ما سبق).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ في الآية لفاً ونشراً. اهـ
قوله: (أو لأن استحقاق التعذيب مقدم).
قال ابن المنير: إنما قُدم لأن السياق للوعيد. اهـ
قال الطَّيبي: وهذا هو الحق لأن قوله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل للكلام السابق من لدن قصة موسى
عليه الصلاة والسلام ومقاتلته الجبارين، وقصة قابيل وهابيل، وأحكام قطاع الطريق،
وتحريض المؤمنين على الجهاد، وقطع السارق، وقد تخلص إلى نوع آخر من الكلام كأنه
قيل: له الحكم سبحانه في ملكه كيف يشاء، منع أو أعطى عذب أو عفا، وهو على كل شيء
قدير. اهـ
قوله: (والباء متعلقة بـ (قالوا) لا بـ (آمنا)).
قال الشيخ سعد الدين: لفساده لفظاً ومعنى.
قال: وهو من الظهور بحيث لم يكن به حاجة إلى ذكره. اهـ
قوله: (أي إن أوتيتم هذا المحرف).
زاد الكشاف: المُزال عن مواضعه.
قال الطَّيبي: هذا ليس بمقول لهم، بل المصنف وضعه موضع مقولهم كقولهم (إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ). اهـ
وأقول: ما المانع أن يكون ذلك مقولهم، فإنَّهُم كانوا عالمين بأنهم حرفوه ومعترفين
بذلك فيما بينهم.
قوله: (روي أنَّ شريفاً من خيبر زنا بشريفة ... ) الحديث.
أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة لكن ليس فيه أنهما من خيبر.
(3/264)
والتحميم: تسويد الوجه، من الحمَمَة وهي الفحمة.
قوله: (وقرئ بفئتح السين على لفظ المصدر).
قال الشيخ سعد الدين: وهو بمعنى المفعول. اهـ
قوله: (بين الحكم والإعراض).
أحسن من قول صاحب الكشاف: بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم.
قال الطَّيبي: لأنَّ الحريري منع مثل هذا التكرير في درة الغواص.
قال: يقولون: المال بين زيد وبين عمرو بتكرير (بين) فيوهمون فيه، والصواب: بين زيد
وعمرو كما قال تعالى (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)، والعلة فيه أن لفظة (بَيْنِ)
تقتضي الاشتراك، ولا تدخل إلا على مثنى أو مجموع كقولك: المال بينهما والدار بين
الإخوة، وأظن أنَّ الذي أوهمهم لزوم تكرير (بين) مع الظاهر وجوبَ تكريره مع المضمر
في مثل قوله تعالى (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) وقد وهموا في المماثلة بين
الموطنين (وخفي عليهم الفرق الواضح بين الموضعين) وهو أنَّ المعطوف على الضمير
المجرور من شرط جوازه تكرير الجار فيه نحو مررت بك وبزيد. اهـ
قوله: ((وفيها حكم الله) حال من التوراة إن رفعتها بالظرف).
زاد أبو البقاء: والعامل ما في (عند) من معنى الفعل، و (حُكمُ اللهِ) مبتدأ أو
معمول الظرف. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: وجَعْلُ (التَّوْرَاةُ) مرفوعاً بالظرف المصدر بالواو
الحالية محل نظر. اهـ
(3/265)
وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن في الظرف الخبر، قاله
الطَّيبي.
قوله: (وتأنيثها ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن التوراة اسم أعجمي وتاء التأنيث إنما تكون في
العربي. اهـ
قوله: (كموماة).
قال الجوهري: هي المفازة، وأصلها مؤموة على وزن فعللة، وهو مضاعف قلبت واوه ألفاً.
اهـ
قوله: (ودوداة).
قال الطَّيبي: ما وجدتها في كتب اللغة، وفي الحاشية: أنَّها أرجوحة الصبي. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هي الأرجوحة التي يلعب بها الصبيان.
قوله: (وبهذه الآية تمسك القائل به).
قال الإمام: وتقريره أنه سبحانه قال في التوراة هدى ونور، والمراد هدى ونور في
أصول الشرع وفروعه، ولو كان الحكم غير معتبر بالكلية لما كان فيه هدى ونور، ولأنَّ
هذه الآية نزلت في مسألة الرجم فيجب أن تدخل الأحكام أيضاً في الهدى والنور. اهـ
وقال الطَّيبي: هذا استدلال ضعيف لأنه يكفي في صدق كونها هدى (أن تكون
هدى) قبل النسخ، وأما مسألة الرجم فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أولاً بالرجم
فلما أبوا دعا بالتوراة تقريراً. اهـ
قوله: ((الذين أسلموا) صفة أجريت على النبيين مدحاً لهم).
قال ابن المنير: لما كانت النبوة تستلزم الإسلام حملها على المدح، وفيه نظر،
(3/266)
فالمدح يقع غالباً بصفة يتميز بها الممدوح عن غيره، ولا يجوز أن
يقتصر في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - على كونه رجلاً مسلماً، والوجه أن
الصفة تذكر لتعظيم في نفسها وينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر كما يعظم الموصوف
بالصفة، ومنه وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)
ولذلك قال في الذين يحملون العرش (وُيؤمِنُونَ بِهِ) تعظيماً لقدر الإيمان وبعثاً
للبشر على الدخول فيه ليساووهم فيه، وقد قيل أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وقال:
ولئن مدحت محمد بقصيدتي ... فلقد مدحت قصيدتي بمحمد. اهـ
قال العلم العراقي: ومن أمثلته ما يكرر في الصافات عقب ذكر نبي بعد نبي (إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). اهـ
قال ابن المنير: فالنبوة أعظم من الإسلام، فلولا حملها على هذا لخرجنا عن قانون
البلاغة في الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول من الأعلى إلى الأدنى، وقد قال
المتنبي:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت
أديم صناعته لذلك. اهـ
وقال الطَّيبي بعد حكاية كلام ابن المنير: الذي يقتضي العجب من هذا الفاضل قوله
إنَّ الصفة ذكرت لتعظيم نفسها وتنويه شأنها إذا وصف بها عظيم القدر وليست بصفة
مدح، فيقال: إذا لم تكن صفة مدح فهل تكون للتي للتفصيل والتمييز، أو للكشف
والتوضيح، أو للتقرير والتوكيد إذ لا خامس، أم كيف يتسنى لك ما يقصد به من التعظيم
أو التنويه وكونها مرغوباً بها إذا لم تحملها على المدح وتقول إذا كان النبيون
صلوات الله وسلامه عليهم مع جلالة قدرهم ورفعة منصبهم يمدحون بوصف الإسلام فما بال
الغير، فعند ذلك يحصل التنوية والترغيب.
(3/267)
وإليه أشار صاحب المفتاح بقوله: لو أريد اختصاره لما انخرط في
الذكر (وُيؤمِنُونَ بِهِ) إذ ليس أحد من مصدقي حملة العرش يرتاب في إيمانهم، ووجه
حسن ذكره إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه. اهـ
ولخص الشيخ سعد الدين الكلام فقال: اعترض عليه بأنَّ النبوة أعظم من الإسلام فكيف
يمدح نبي بأنه رجل مسلم، فالوجه أنه للتنويه بشأن الصفة والتنبيه على عظيم قدرها
حيث وصف بها عظيم كما في وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان فإن أوصاف
الأشراف أشراف الأوصاف، وإلا فلا خفاء في أنَّ النزول من الأعلى إلى الأدنى قصور
في البلاغة.
قال: والجواب أنَّ المراد أنَّها صفة أجريت عليهم على طريق المدح دون التخصيص أو
التوضيح لكن لقصد المدح لئلا يلزم ما ذكرتم بل لقصد التعريض باليهود وأنهم برآء من
ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم. اهـ
قال الطَّيبي: ثم في إقران (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) بقوله (لِلَّذِينَ هَادُوا)
والإرادة أن الأنبياء المسلمين يحملون اليهود على أحكام التوراة تصريح فيما عرض به
أولاً.
قال: والحاصل أنَّ في كل من اللفظين واختصاصه بالذكر رمز إلى معنى وإشارة دقيقة
على سبيل الإدماج. اهـ
قوله: (و (مِن) للتبيين).
قال الطَّيبي: هذا لا يوافق تفسيره حيث قال: بسبب ... إلى آخره، لأنَّ (من)
التبينية تستدعي موصولة، وقد فسره بما ينبني عن كونها مصدرية لكن مراده تلخيص
المعنى. اهـ
قوله: (ويداهنوا فيها).
في الأساس: ومن المجاز أدهن في الأمر وداهن: صانع ولاين. اهـ
قوله: (كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم، والظالمون في اليهود، والفاسقون
فى النصارى).
(3/268)
(قيل: يلزم على هذا أنَّ يكون المؤمنون أسوأ حالاً من اليهود
والنصارى).
قال الطيبي: ويمكن أن يقال إن المسلمين إذا نسب إليهم الكفر حمل على التشديد
والتغليظ، والكافر إذا وصف بالظلم والفسق أشعر بعتوهم في الكفر وتمردهم فيه. اهـ
قوله: (معطوفة على (أن) وما فى حيزها باعتبار المعنى)
قال أبو حيان: هو من العطف على التوهم لا من العطف على المحل لأنه محصور وليس هذا
منه إذ طلب الرفع في الأول مفقود. اهـ
وعبارة الزجاج: العطف على موضع (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) والعامل فيها
المعنى، (وكتبنا عليهم) أي: قلنا لهم النَّفْس بِالنَّفْسِ. اهـ
قوله: (العين مفقودة بالعين ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان: يحمل هذا على (تفسير المعنى لا على) تفسير الإعراب، لأن المجرور إذ
وقع خبراً يكون العامل فيه الكون المطلق لا المقيد كما قرره هنا الحوفي وغيره، أي:
يستقر أخذها بالعين ونحوه. اهـ
قال الشيخ ولي الدين: وهذا من الزمخشري على حد ما قدره في البسملة من قوله اقرأ
ولم يقدر ما قدره غيره.
قوله: (أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن فى قوله (بِالنَّفْسِ)).
قال الطَّيبي: المعنى أنَّ النفس هي مأخوذة بالنفس والعين معطوفة على هي. اهـ
قوله: (أي: واتبعناهم على آثارهم [فحذف المفعول ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: إشارة إلى أنَّ الأصل: قفيناهم على آثارهم] كقولك: قفيته بفلان. اهـ
وقال أبو حيان: هذا الكلام يحتاج إلى تأمل (1) فإنه جعل (وَقَفينَا) متعدياً
لمفعول بنفسه
__________
(1) في الأصل [تَأْوِيلٍ] والتصويب من البحر المحيط. اهـ (مصحح النسخة
الإلكترونية).
(3/269)
ثم عداه لثان بالباء قَلَّ أَنْ يُوجَدَ حَتَّى زَعَمَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ [لا يُوجَدُ] (1) وَلا يَجُوزُ، وقوله إن المفعول الأول محذوف
والجار والمجزور كالساد مسده لا يتجه لأن المفعول به الصريح لا يسد مسده الظرف.
اهـ
قوله: (على أنَّ (أن) موصولة بالأمر).
قال الشيخ سعد الدين: جرت عادة صاحب الكشاف بتجويز صلة (أن) بالأمر والنهي، ومعناه
مصدر طلبي ولا بد له من موقع من الإعراب، وهو هنا بالنصب عطفاً على الإنجيل، كأنه
قيل: آتيناه الإنجيل، والحكم الطلبي من أهل الكتاب وحاصله: أنا أمرنا بأن [يحكم
أهل الكتاب فلذا قدره كذلك.
قال: ولا يخفى أنَّ الكلام بعد موضع حقاً، وقد حققه في سورة نوح، قوله (إِنَّا
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أنَّ أن الناصبة
للمضارع، والمعنى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا بأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ، أي بأن
قلنا له أن أنذر قومك، أي الأمر بالإنذار، وعلى هذا يكون المعنى: وآتينا الأمر بأن
يحكم أهل الإنجيل، وهو معنى أمرنا بأن] يحكم أهل الإنجيل. اهـ
قوله: (وقرى ببنية المفعول).
أي: ومهيمَناً بفتح الميم.
قال الطَّيبي: فعلى هذا لا يكون فيه ضمير، والضمير في (عَلَيْهِ) يعود إلى الكتاب
الأول، وعلى قراءة كسر الميم فيه ضمير يعود إلى الكتاب الأول وضمير (عَلَيْهِ) إلى
الكتاب الثاني. اهـ
قوله: (أو الحفاظ فى كل عصر).
قال الطَّيبي: هذا أيضاً من حفظ الله سبحانه، وفي الحقيقة الحافظ هو الله وحده
لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
اهـ
قوله: (فـ (عن) صلة لـ (لا تتبع) (2) لتضمنه معنى لا تنحرف).
__________
(1) ما بين المقوفتين زيادة من البحر المحيط. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
(2) في الأصل (ألا تتبع) والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة
الإلكترونية).
(3/270)
قال الطَّيبي: المعمول عليه في التضمين إيقاع الفعل المضمن فيه
حالاً وإقامة المضمن مقامه لتعم الفائدة.
قال صاحب الكشاف في سورة الكهف: الغرض في هذا الأسلوب إعطاء مجموع معنيين، وذلك
أقوى من إعطاء معنى واحد. اهـ
قال الطَّيبي: فإن قلت هلا حمله على الحال ليكون المعنى: لا تتبع أهواءهم منحرفاً
عما جاءك من الحق؟ قلت: المقام يستدعي ذم القوم وهذا أدخل في الذم، كأنه نهى عن
الانحراف عن الحق مطلقاً ثم أتى بما ظهر أن ذلك الانحراف هو متابعة أهواء أولئك
الزائغين إيذاناً بأن أولئك أعلام في الانحراف عن الحق، ولا كذلك الحال فإنه قيد
للفعل فيوهم أنه يجوز المتابعة إذا زال الانحراف، ويقرب منه قولك: هل أدلك على
أفضل الناس وأكرمهم فلان، فإنه أبلغ من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل. اهـ
قوله: (واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة).
قال الشيخ سعد الدين: وجه الدلالة أنَّ الخطاب يعم الأمم، والمعنى لكل أمة لا لكل
أحد من أفراد الأمة، فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كانت متعبدة بشريعة أخرى لم يكن
ذلك الاختصاص.
قال: والجواب بعد تسليم دلالة الإلزام على الاختصاص الحصري منع الملازمة لجواز
أن نكون متعبدين بشرائع من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الاختصاص.
اهـ
قال الإمام: الخطاب في قوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً) الأمم
الثلاث، أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد - صلى الله عليهم وسلم -، لأن الآيات
السابقة واللاحقة فيهم.
وقال: الشرعة: عبارة عن مطلق الشريعة، والمنهاج: عن مكارم الشريعة.
وقال: فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) إلى قوله تعالى (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وقال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ)؟ فالجواب: أنَّ الثانية مصروفة إلى ما
(3/271)
يتعلق بأصول الدين، والأولى بفروعه. اهـ
قال الراغب في الجمع بين الآيتين: الذي استوى فيه الشرائع هو أصل الإيمان والإسلام
أعني التوحيد والصلاة والزكاة والصوم، فإن أصول هذه الأشياء لا ينفك منها شرع
بوجه، وأما الذي ذكر أنه تفرد كل واحد من الأنبياء به ففروع العبادات من كيفياتها
وكمياتها فإن ذلك مشروع على حسب مصالح كل واحد وعلى مقتضى الحكمة في الأزمنة
المختلفة. اهـ
قوله: (استئناف فيه تعليل الأمر ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني هو جواب ما تعقبه بسؤال مورده (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ما
هو مترتب عليه بالفاء يعني أنه تعالى لما خاطب الأمم من المسلمين واليهود والنصارى
وغيرهم بقوله (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً) أي شريعة بحسب ما تقتضيه
الأوقات من المصالح لنختبركم أيكم يعتقد أنَّها حكمة من الله تعالى، وإن خفي عليه
وجه الحكمة فيستبق إلى ما شرعه الله تعالى في كل وقت وأيكم لا يتبع هواه، واتجه
لهم أن يسألوا ما تلك الحكمة ومن يعلم حقيقتها؟ فأجيبوا إذا ما رجعتم إلى الله
تعالى في دار الجزاء فيجازيكم إما بالثواب أو بالعقاب ليفصل بين المحق والمبطل
وبين العالم والمفرط فحينئذ تعلمون وجه الحكمة فيه ولا تشكون فيه. اهـ
قوله: (عطف على (الكتاب) ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: لو جعل عطفاً على (فاحكم) من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله
تعالى (واحذرهم أن يفتنوك) كان أحسن. اهـ
قوله: (روي أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.
قوله: (وفيه دلالة على التعظيم كما في التكرير).
قال الطَّيبي: يعني كما يدل التكرير على ذلك كذلك حكم البعض، وهو استعارة
(3/272)
تمليحية ضد التهكمية. اهـ
قوله: (ونظيره قوله لبيد: أو يرتبط بعض النفوس حمامها).
هو من معلقته المشهورة وصدره:
تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرضَها
وقبله:
أو لم تكن تدري نوار بأنني ... وصالُ عقد حبائلٍ جَذامُها.
قال الطيبي: تراك: مرتفع تباعاً لوصال وجذام، أو يرتبط: عطف على أرضها، أي ألم تدر
المحبوبة أني وصال عقد من يحاول مودتي، وقطاع لمن يقطع محبتي، وأني جوال الفيافي
قطاع المهامه، وأني تراك أمكنه إذا لم أرضها ولم يقدر أني أموت فيها، يعني أنه
يجتهد في الرحلة إذا لم تعق العوائق.
وقال الزوزني: المعنى أترك الأماكن أجتويها إلا أن أموت. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: المعنى أترك الأمكنة على تقدير انتفاء الرضى والموت جميعاً
أما إذا حصل الرضى أو الموت فلا ترك. اهـ
وقال أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات: المعنى أني أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما
أكره إلا أن يدركتي الموت فيحبسني ترتبط نفسي، والحمام: الموت، ويقال: القدر.
وجزم يرتبط عطفاً على قوله إذا لم أرضها، هذا أجود الأقوال، والمعنى على هذا: إذا
لم أرضها وإذا لم يرتبط بعض النفوس حمامها.
وقيل: إن يرتبط في موضع رفع إلا أنه أسكنه لأنه رد الفعل إلى أصله لأن أصل الأفعال
أن لا تعرب، وإنما أعربت للمضارعة.
وقيل: في موضع نصب ومعنى (أو) معنى (إلا أن)، والمعنى: إلا أن يرتبط
(3/273)
بعض النفوس حمامها، إلا أنه أسكن لأنه رد الفعل أيضاً إلى أصله.
قال: وإنما اخترنا القول الأول لأن أبا العباس قال: لا يجوز للشاعر أن يسكن الفعل
المستقبل لأنه قد وجب له الإعراب لمضارعته الأسماء، وصار الإعراب فيه يفرق بين
المعاني فلو جاز أن يسكنه لجاز أن يسكن الاسم ولو جاز أن يسكن الاسم لما بينت
المعاني. اهـ
قوله: (واستضعف ذلك في غير الشعر).
قال أبو حيان: حسنه في الآية شبه (يَبْغُونَ) برأس الفاصلة. اهـ
قوله: (أي عندهم).
قال أبو البقاء: (لقوم) هو في المعنى: عند قوم يوقنون، وليس المعنى أن الحكم لهم
وإنما المعنى أنَّ الموقن يتدبر حكم الله تعالى فيحسن عنده، ومثله (إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ).
وقيل: هي على أصلها، أي: حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين. اهـ
قال الطَّيبي: فقول المصنف (هم الذين يتدبرون الأمور ... ) إلى آخره هو معنى قول
أبي البقاء: إنَّ الموقن يتدبر حكم الله تعالى فيحسن عنده، أي: هم الذين ينتفعون
به. اهـ
قوله: (لا أحسن حكماً من الله تعالى).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أنَّ الاستفهام في قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ) للإنكار،
والجملة حال مقررة لجهة الإشكال، والخطاب عام، أي: أتبتغون حكم أهل الجاهلية
والحال أنه لا أحسن حكماً من الله تعالى لمن له إيقان يتدبر حكم الله ويعلم أنه لا
أعدل من الله تعالى. اهـ
قال أبو البقاء: (وَمَنْ أَحْسَنُ) مبتدأ وخبر، وهو استفهام في معنى النفي. اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: (لا تتراءى ناراهما ... )).
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بعث
(3/274)
سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك
النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر لهم بنصف العقل، وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم
بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى ناراهما.
قال في النهاية: الترائي: تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم، إذا رأى بعضهم
بعضاً، وإسناد الترائي إلى النار مجاز، من قولهم داري تنظر إلى دار فلان، أي:
تقابلها.
يقول: ناراهما مختلفتان، هذه تدعوا إلى الله تعالى، وهذه تدعوا إلى الشيطان فكيف
يتفقان، والأصل في تراءى: تتراءى، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، والمعنى: لا ينبغي
لمسلم أن ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تظهر لنار المشرك إذا أوقدها
منزله، ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. اهـ
قوله: (وتكون الدولة للكفار).
قال الطَّيبي: لم يفرق المصنف بين الدولة والدائرة، وفرق بينهما الراغب حيث قال:
الدائرة: عبارة عن الخط المحيط، ثم عبر بها عن الحادثة، وإنما يقال في المكروه،
ويقال دولة في المحبوب. اهـ
قوله: (روي أن عبادة ابن الصامت قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لى
موالى ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير من حديث عطية، وأخرجه ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت.
قوله: (يقطع شأفة اليهود).
قال الجوهري: الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، يقال في المثل: استأصل
الله شأفته، أي: أذهبه الله تعالى كما أذهب تلك بالكي. اهـ
قوله: (أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم).
قال الطَّيبي: عطف على قوله (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) يقطع شأفة اليهود، فعلى
الأول
(3/275)
الأمر بمعنى الشأن، وعلى الثاني أحد الأمور. اهـ
قوله: (على أنه كلام مبتدأ).
قال الطَّيبي: المعنى عسى الله أن يأتي بالفتح فيصير الكافرون نادمين، ويقول الذين
آمنوا تشفياً عن الغيظ: أهولاء الذين أقسموا وكيت وكيت. اهـ
قوله: (عطفاً على (أَنْ يَأْتِيَ) باعتبار المعنى).
اقتصر في الكشاف على قوله: عطفاً على (أَنْ يَأْتِيَ)، فزاد المصنف قوله: باعتبار
المعنى تحقيقاً لما هو المراد.
قال الحلبي: في إعرابه لم يعترض أبو حيان على الكشاف بشىء، وقد رد ذلك بأنه يلزم
عطف ما لا يجوز أن يكون خبراً على ما هو خبر، وذلك أن قوله تعالى (أَنْ يَأْتِيَ)
خبر (عسى) وهو صحيح، لأنَّ فيه رابطاً عائداً على اسم (عسى) وهو ضمير الباري
تعالى، وقوله (ويقُول) ليس فيه ضمير يعود على اسم (عسى) فكيف يصح جعله خبراً؟ وقد
اعتذر من أجاز ذلك عنه بثلاثة أوجه:
أحدها: أنه من باب العطف على المعنى، والمعنى: فعسى أن يأتي الله بالفتح ويقول
الذين آمنوا، فتكون (عسى) تامة لإسنادها إلى (أنْ) وما في حيزها فلا تحتاج حينئذ
إلى رابط، وهذا قريب من قولهم العطف على التوهم نحو (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ).
الثاني: أن يأتي بدل من اسم الله تعالى لا خبر، وتكون (عسى) حينئذ تامة، كأنه قيل:
فعسى أن يقول الذين آمنوا.
وهذان الوجهان منقولان عن أبي علي الفارسي، إلا أنَّ الثاني لا يصح لأنهم نصوا على
أن عسى واخلولق وأوشك من بين سائر أخواتها يجوز أن تكون تامة بشرط أن يكون مرفوعها
(أن يفعل)، قالوا: ليوجد في الصورة مسند ومسند إليه كما قالوا ذلك في ظن وأخواتها
إنَّ (أنْ) و (أنَّ) تسد مسد مفعوليها.
(3/276)
والثالث: أن ثَمَّ ضميراً محذوفاً هو مصحح لوقوع (ويقُول) خبراً
عن (عسى)، والتقدير: ويقول الذين آمنوا به، أي: بالله، ثم حذف للعلم به.
ذكر ذلك أبو البقاء.
وقال ابن عطية بعد حكايته نصب (وَيَقُول) عطفاً على (يَأْتِيَ): وعندي في منع (عسى
الله أن يقول المؤمنون) نظرٌ، إذ الله تعالى يُصيرهم يقولون ذلك بنصره وإظهار
دينه.
قال الحلبي: قول ابن عطية في ذلك يشبه قول أبي البقاء في كونه قدر ضميراً عائداً
على اسم عسى يصح به الربط. اهـ
وقال الطَّيبي: فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: عسى الله أن يقول الذين آمنوا، لأنَّ
(أَنْ يَأْتِيَ) خبر (عسى) والمعطوف عليه في حكمه فيفتقر إلى ضمير يرجع إلى اسم
(عسى) ولا ضمير في قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) فيصير كقولك: عسى
الله أن (يأتي بالفتح) ويقول الذين آمنوا؟ قيل: هو محمول على المعنى، لأنّ معنى
(فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) ومعنى عسى الله أن يأتي بالفتح واحد،
كأنه قال: عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا، كما قال (فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ)، وأن يبدل (أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) من اسم الله تعالى كما أبدل
(أَنْ أَذْكُرَهُ) من الضمير في قوله تعالى (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، أو يعطف على لفظ (أَنْ يَأْتِيَ) على حذف الضمير،
أي: ويقول الذين آمنوا به، أو يعطف على الفتح، أي: عسى الله أن يأتي بالفتح وبأن
يقول الذين آمنوا، وقريب من كل ذلك ما ذكره أبو البقاء. اهـ
قوله: (أو على الفتح ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان: هذا لا يصح لأنه قد فصل بينهما بقوله (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)،
(3/277)
والمعطوف على المصدر من تمامه فلا يفصل بينهما، وبقوله
(فَيُصْبِحُوا) [إلى آخره وذلك أجنبي من المتعاطفين لأن الظاهر عطف
(فَيُصْبِحُوا)] على (يَأْتِيَ) والفصل بالأجنبي لا يجوز. اهـ
قوله: (وهو كذلك في الإمام).
قال الحلبي: نقل غيره أنها في مصاحف الشام والمدينة (يرتدد) بدالين، وفي الباقية
(يرتد) بدال واحدة، وكل قارئ وافق مصحفه. اهـ
قوله: (وذو الخمار).
قال الشيخ سعد الدين: لأنه كان له حمار يقول له قف فيقف وسر فيسير، وكانت النساء
يتعطرن بروث حماره، وقيل يعقدن روث حماره بخمورهن، فسمي ذو الخمار بالخاء المعجمة.
اهـ
قوله: (الأسود العنسي).
بفتح العين وسكون النون، منسوب إلى عنس وهو يزيد بن مدحج بن أزد بن زيد بن يشجب.
قوله: (مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من مسيلمة رسول
الله إلى محمد رسول الله أما بعد: فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك.
فأجاب: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد: فإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
قوله: (طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد ...
).
الصواب: فبعث إليه أبو بكر خالد.
قوله: (جبله بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام).
الجمهور أنه مات على ردته، وذكرت طائفة أنه عاد إلى الإسلام.
وروى الواقدي: أنَّ عمر بن الخطاب كتب كتاباً إلى أجناد الشام أن جبلة ورد إليّ في
سراة قومه وأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه
جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه فاستعدى الفزاري على جبلة إليَّ فحكمت إما العفو وإما
القصاص فقال: اتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة، فقلت: شملك
(3/278)
وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعاقبة، فسأل جبلة التأخير إلى
الغد فلما كان من الليل ركب في بني عمه ولحق بالشام مرتداً، وفي رواية أنه ندم على
ما فعل وأنشد:
تنصرت بعد الحق عاراً للطمة ... ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركني فيها لجاج حمية ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... صبرت على القول الذي قاله عمر.
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسَّلام أشار إلى أبي موسى وقال: هم قوم هذا).
أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر
الأشعري.
قوله: (وقيل: الفرس، لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان
فقال: هذا وذووه).
قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه هكذا، ولعله وهم، وإنما ورد ذلك في قوله
تعالى آخر سورة القتال (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)
أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. اهـ
قوله: (واستعماله مع على).
قال الطَّيبي: أي استعير على بدل اللام ليؤذن بأنهم علوا غيرهم من المؤمنين في
التواضع حتى علوهم بهذه الصفة. اهـ
قوله: (أو حال بمعنى أنهم مجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين).
قال الحلبي: تبعه الشيخ أبو حيان ولم ينكر عليه، وفيه نظر لأنهم نصوا على أن
المضارع المنفي بـ (لا) أو (ما) كالمثبت في أنه لا يجوز أن تباشَره واو الحال وهذا
كما ترى مضارع منفي بـ (لا)، إلا أن يقال إنَّ ذلك الشرط غير مجمع عليه. اهـ
وقال الطَّيبي: فإن قلت: أي فرق بين أن يكون قوله (وَلا يَخَافُونَ) حالاً وبين أن
يكون عطفاً؟ قلت: إذا جعل حالاً كان قيدا لـ (يُجَاهِدُونَ) فيكون تعريضاً
(3/279)
بمن يجاهد ولم يكن حاله كذلك، ومن ثم قال: وحالهم خلاف حال
المنافقين، وإذا جعل عطفا كان تتميماً لمعنى (يجاهدون) فيفيد المبالغة والاستيعاب.
اهـ
قوله: (وفيها وفي تنكير (لائم) مبالغان).
قال الطَّيبي: لأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن
النكرة في سياق النفي تعم، ثم إذا انضم معها تنكر فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع
اللوام، وهذا تتميم في تتميم، أي: لا يخافون شيئاً من اللوم من أحد من اللوام. اهـ
قوله: (لما نهى موالاة الكفرة ذكر عقبه من هو حقيق بها).
قال الطَّيبي: إشارة إلى اتصال قوله (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ)
بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وما توسط بينهما من
الآيات لشد من المضاد النهي. اهـ
قوله: (وإنما قل (وليكم) ولم يقل أولياؤكم للتنبيه على أنّ الولاية لله على
الأصالة، ولرسوله وللمؤمنين على التبع).
قال صاحب الفرائد: وما ذكره بعيد عن قاعدة الكلام، لأنه جعل ما يستوي فيه الواحد
والجمع جمعاً وهو الولي، ويمكن أن يقال التقدير: إنما وليكم الله وكذلك رسوله
والمؤمنون، فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة التفصيل في الخبر هي التنبيه
على أن كونهم أولياء بعد كونه ولياً لهم لجعله إياهم أولياء ففي الحقيقة هو الولي.
اهـ
وقال الطَّيبي: مراد المصنف غير ما قدره لا أن قوله (وَلِيُّكُمُ اللهُ) جمع لأنه
هرب من هذا المعنى إلى التبعية فكأنه قال إنما وليكم الله وكذلك رسوله والمؤمنون
لتصح التبعية، ففيه ما ذكر صاحب الفرائد رعاية حسن الأدب مع حضرة الرسالة، لأن ذكر
المؤمنين بعد ذكر الرسول حينئذ لم يكن للتبعية بل لمجرد الأفضلية. اهـ==
4. نواهد الأبكار
وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)
قلت: وبهذا التقرير يعلم أنَّ قول الحلبي: ويحتمل وجهاً آخر وهو
أنَّ ولي بزنة فعيل، وفعيل قد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع
تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد كصديق، غيرُ واقع موقعه، لأن الكلام في سر بياني وهو
نكتة العدول من لفظ إلى لفظ.
قوله: (صفة للذين آمنوا).
لم يذكره الزمخشري بل اقتصر على البدل.
وقال أبو حيان: لا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هى المتبادر إلى الذهن، ولأنَّ
المبدل منه في نية الطرح ولا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه الوصف الذي يترتب عليه
صحة ما بعده من الأوصاف. اهـ
وقال الحلبي: لا نسلم أن المتبادر إلى الذهن الوصف، بل البدل هو المتبادر أيضاً
فإن الوصف بالموصول على خلاف الأصل، لأنه مؤول بالمشتق وليس بمشتق، ولا نسلم أن
المبدل منه على نية الطرح وهو المنقول عن سيبويه. اهـ
وقال الطَّيبي: إنما عدل عن الوصف لأنَّ الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل،
والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ولذلك قال القاضي: (الذِينَ يُقِيمُونَ) صفة للذين
آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لم يجعله وصفاً لاشتراك الموصلين في كونهما وصفين، والوصف
لا يوصف إلا إذا أجري مجرى الاسم كالمؤمن مثلاً. اهـ
قوله: (نزلت فى عليٍّ حين سأله سائل ... ) الحديث.
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وعمار بن ياسر، وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل،
والثعلبي عن أبي ذر، والحاكم في علوم الحديث عن علي.
قوله: (نزلت فى رفاعة ... ) إلى آخره.
(3/281)
أخرجه بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
قوله: (أي اتخذوا الصلاة أو المناداة).
قال الحلبي: في الوجه الثاني بُعد إذ لا حاجة تدعو إليه مع التصريح بما يصلح أن
يعود الضمير عليه بخلاف قوله تعالى (اعدلوا هو أقرب للتقوى). اهـ
قوله: (وفيه دليل على أنَّ الأذان مشروع للصلاة).
قال الشيخ سعد الدين: من جهة أنه لما دل على اتخاذ المناداة هزوًا من منكرات الشرع
دل على أن المناداة المذكورة من معروفاته. اهـ
وعبارة الكشاف: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب؛ لا بالمنام وحده. اهـ
قال الطَّيبي: وذلك أنه تعالى أخبر أن نداء الصلاة سبب لاتخاذهم إياها هزواً،
وعلله بجهلهم، فدلت الآية على سبيل الإدماج وإشارة النص على ثبوته.
قال: ولقائل أن يقول إن قوله تعالى (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُوًا) إخبار بحصول الاستهزاء عند النداء والظاهر أن يكون الأذان
قبل نزول الآية، والواقع كذلك لأنَّ الأذان شرع عند مقدم النبي - صلى الله عليه
وسلم - المدينة. اهـ
وكذا قال أبو حيان: لا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ) ولم يقل ونادوا على سبيل الأمر وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق
المشروعية لا على إنشائها بالشرط. اهـ
وقال الشيخ ولي الدين العراقي: ولا شك أن فيه دليلاً على مشروعيته وإن لم يكن
بصيغة الأمر، ولا يلزم من كونه دليلاً على المشروعية أن لا يفعل إلا بعد نزول
الآية فنزول الآية على وفق ما فعل دليل على مشروعيته.
قال: وهذا استنباط حسن لا ينبغي إنكاره.
(3/282)
قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال: قد ذكر الله
الأذان في كتابه فقال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).
قوله: (روي أنَّ نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا
الله أشهد أن محمداً رسول الله قال: أحرق الله الكاذب ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن السدي.
قوله: (وأن أكثركم فاسقون) عطف على (أن آمنا)).
قال أبو حيان: ذكروا في موضع (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) سبعة وجوه، ويظهر وجه ثامن
ولعله يكون الأرجح وذلك أن (نقم) أصلها أن تتعدى بـ (على)، تقول: نقمت على الرجل
أنقم ثم تبنى منها أفتعل فتعدى إذ ذاك بـ (من) وتضمن معنى الإصابة بالمكروه، قال
تعالى (وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنهُ)، ومناسبة التضمين فيها أنَّ من عاب
على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه إن قدر فجاءت هنا فعل
بمعنى افتعل كقولهم: قدر واقتدر؛ ولذلك عدت بـ (من) دون (على (فصار المعنى: وما
تنالون منا أو ما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي لأن آمنا فيكون (أَنْ آمَنَّا)
مفعولاً لأجله (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) عطف عليه. اهـ
تنبيه: الوجه السابع فات المصنف وهو أن تكون الواو بمعنى مع، و (أن) بصلتها في
موضع نصب على المفعول معه.
قوله: (أو رفع على الابتداء والخبر محذوف، أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم).
قال الشيخ سعد الدين: في جواز حذف الخبر إن كان المبتدأ (أنَّ) المفتوحة مع اسمها
وخبرها بحث لأنَّ علة امتناع وقوعها في أول الكلام وهو الالتباس بـ (أنَّ) التي
بمعنى (لعل) قائمة هنا.
قال: ثم ما قدر من الخبر متأخراً عن المبتدأ إنما هو لبيان المعنى وعلى تقدير
التعبير عن المبتدأ بلفظ المصدر، وإلا فلابد أن يقدر الخبر مقدماً أي: ثابت معلوم
أنكم فاسقون. اهـ
(3/283)
وكذا قال أبو حيان: لا ينبغى أن يقدر الخبر إلا مقدماً أي:
ومعلوم فسق أكثركم لأنَّ الأصح أن (أن) لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط. اهـ
وقال الطَّيبي: يمكن أن يقال يفتقر في الأمور التقديرية ما لا يفتقر في اللفظية لا
سيما وهذا جار مجرى تفسير المعنى، والمراد إظهار ذلك الخبر كيف ينطق به. اهـ
قوله: (والآية خطاب ليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يؤمن به ...
) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قوله: (على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع)
قال الشيخ سعد الدين: أي في التهكم وإن كان ما في الآية استعارة لطي ذكر المشبه
وما في البيت تشبيهاً انتزع وجهه من التضاد على طريق التهكم لذكر الطرفين بطريق
حمل أحدهما على الآخر لكن على عكس قولك زيد أسد إذ التحية مشبه به والضرب مشبه.
اهـ
قوله: (بدل من (شر) على حذف مضاف).
قال الطَّيبي: أي قيل ذلك، أو قيل (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) لأن الإيمان المشار إليه
غير مطابق لقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) في معنى يشترك فيه لفظ (شر) فيقدر (أهل)
عند (ذَلِك)، أو (دين) عند (مَن) ليطابقه. اهـ
قوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ... ) إلى آخره.
ذكر فيه ثمان قراءات، ومجموع ما نقل فيه إحدى وعشرون قراءة ذكرتها موجهة في أسرار
التنزيل ونظمتها في أبيات وهي هذه:
عَبَد الطاغوتَ فيما نقلوا ... فوق عشرين قراءات تعد
فثلاث بعدها نصب وجر ... عَبُدَ الطاغوت مع عَبْدٍ عَبَد
عَبَدُوا أعبدُ عُبَّاد عِبَادَ ... وعُبيداً عُبُداً ثم عبِد
عُبَدَ الطاغوت يتلو عُبدَت ... عُبدَ الطاغوت والرفع ورد
عابدوا الطاغوت يتلو عابدي ... عَابُدُ مع عبدة فأحفظ بجد
(3/284)
قوله: (جعل مكانهم شرًّا ليكون أبلغ).
قال الطَّيبي: لأنه إذا نظر إلى أن التمييز فاعل في الأصل، أي: شر مكانهم كان
إسناداً مجازياً، وإذا نظر إلى المعنى في إثبات الشر للمكان والمراد أهله كان من
الكناية لأنَّ المكان من حيث هو لا يوصف بالشر بل بسبب من حلَّ فيه، فإذا وصف به
يلزم إثباته للحال فيه بالطريق البرهاني. اهـ
قوله: (والجملتان حالان من فاعل (قالوا)، و (به) و (بالكفر) حالان من فاعلي
(دخلوا) و (خرجوا)).
قال الطَّيبي: فعلى هذا في الكلام حالان مترادفان وكل واحدة منهما مشتملة على حال
فتكونان متداخلتين. اهـ
قوله: (دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً).
قال الشيخ سعد الدين: لتكسر سَوْرَة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا
فـ (قد) إنما تقرب إلى حال التكلم.
قال: والظاهر أنَّ هذا في (وَقَد دَّخَلُوا) وأما (وَهُم قَد خَرَجوا) أعني الجملة
الاسمية التي خبرها ماض فلم يقولوا فيها بلزوم (قد) إذا وقعت حالاً، وإنما لم يحتج
إلى الواو لكونها معطوفة على الحال ولكون الرابط في صدر الجملة. اهـ
وما أشار إليه الشيخ سعد الدين من الفرق بين الحالتين أوضحه السيد في حاشية
المتوسط فقال: قيل إنَّ الماضي إنما يدل على الانقضاء قبل زمان التكلم والحال الذي
بين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإنَّ كان العامل ماضياً كان الحال أيضاً
ماضياً بحسب المعنى، وإن كان حالاً (كان حالاً)، وإن كان مستقبلاً (كان مستقبلاً)
فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر
(3/285)
وهو الذي يقابل الماضي وبين ما (يبين الهيئة) المذكورة.
قال: ويمكن أن يقال إنَّ الفعل إذا وقع قيداً لشيء يعتبر كونه ماضياً أو حالاً أو
مستقبلاً بالنظر إلى ذلك القيد، فإذا قيل: جاءني زيد راكب، يفهم منه أنَّ الركوب
كان متقدماً على المجيء فلا بد من قد حتى تقربه إلى زمان المجيء فتقارنه فتأمل.
وقال شيخنا العلامة محي الدين الكافيجي في شرح القواعد عند قوله والخامس تقريب
الماضي من الحال: ولهذا تلزم (قد) مع الفعل الماضي الواقع حالاً، والسبب الداعي
إلى هذا دفع التدافع بين الماضي والحال بقدر الإمكان، فاعترض على هذا بأن لفظة
الحال مشتركة بين معان، فيقال على قيد العامل سواء كان ماضياً أو مضارعاً أو
غيرهما، ويقال على زمن التكلم بمعنى الآن، والمقصود هاهنا الأول لا الثاني، و (قد)
إنما هي للتقريب من الحال بمعنى الآن.
قال: وأجيب عن هذا الاعتراض بأنَّ المضي والحال والاستقبال أمور إضافية، فطوفان
نوح عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلينا ماض وبالنسبة إليه حال، ونزول عيسى عليه
الصلاة والسلام مستقبل بالنسبة إلينا حال بالنسبة إلى قوم ذلك الزمان، فإذا تمهد
هذا فالمضي والحال المستعملان هنا منسوبان إلى زمان وقوع الفعل لا إلى زمان
تكلمنا، فإذا قلت: جاء زيد يركب، كان معناه أن الركوب يقارن المجيء، وإذا قلت: جاء
زيد وقد ركب، كان معناه أنَّ الركوب قد مضى في وقت المجيء ولذلك اشترط فيه (قد)
ليقرب الركوب إلى ذلك الوقت.
قال: وحاصل الجواب أنَّ الحال قيد العامل، وأن زمان وقوع ذلك القيد وجب أن يكون
مقترناً بزمان وقوع مضمون العامل تحقيقاً أو تقديراً سواء كان مقترناً بزمان التكلم
أو لا.
قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قد لمجرد استحسان لفظي فإنما هو
تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي. انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
قوله: (وقيل الكذب لقوله (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ)).
قال ابن المنير: هذا الاستدلال لا يصح لأنَّ الإثم مقولٌ يحتمل كونه كذباً وشركاً.
اهـ
(3/286)
وقال الطَّيبي: قولهم (آمنا) قرينة على أن المراد الكذب فخُصَّ
به. اهـ
قوله: (وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود).
قال الشيخ سعد الدين: يعني في من لا تصلح له الحقيقة أصلا كما في هذا المقام،
بخلاف قولك: يد فلان مغلولة أو مبسوطة فإنه كناية عن ذلك. اهـ
وكذا قاله الطيبي جامعاً بين ما هنا وما في سورة طه.
وقال ابن المنير: حكمة هذا المجاز تصوير الحقيقة بصورة حسية تلازمها غالباً،
والصور الحسية أثبت في الذهن من المعاني، والجود والبخل معنيان فمُثِّلا للحس. اهـ
قوله: (ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابلٍ ... شكرت نداه تلاعه ووهاده)
بسط اليدين: هو السحاب، والتلاع: جمع تلعة وهي ما ارتفع من الأرض، والوهاد: جمع
وهدة وهي ما اطمأن منها.
قوله: (كقوله: سبنى سبَّ اللهُ دابره).
أي: فإنَّ المطابقة فيه من حيث اللفظ فإن المراد من سبِّ اللهِ: قَطعُ الدابرِ.
قال الطَّيبي: وهذا نوع من المشاكلة لطيف المسلك بخلافه في قول الشاعر:
قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً.
فإنه وضع (اطبخوا) موضع (خيطوا) لمجرد مراعاة اللفظ دون المعنى. اهـ
قوله: ((ينفق كيف يشاء) تأكيد لذلك، أي: هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى
... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: هذا تقييد للمطلق وهو ينفق كيف يشاء يعني من مقتضى الحكمة أن لا
يؤدي بسط اليدين في العطاء إلى التبذير والإسراف والاصطناع إلى غير الأهل وهو شرط
السخاء في الشاهد، وهذا تكميل لا تأكيد كقوله:
(3/287)
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
والتأكيد أن يقال: ينفق كيف يشاء لا يمنعه مانع ولا يكفه من الإنفاق نقص ولا
إعدام. اهـ
قوله: (ومقتضى حكمته).
قال الشيخ سعد الدين: وجه الدلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة التعليق
بمشيئة الحكيم الذي لا يشاء إلا ما هو حكمة ومصلحة. اهـ
قوله: (ولا يجوز جعله حالاً ... ) إلى آخره.
ذكرِ الحوفي أنه يجوز أن يكون حالاً من الضمير في (مَبسُوطَتَان) وأن يكون خبراً
بعد خبر.
قال أبو حيان: ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على ذي الحال
أو المبتدأ محذوفاً، والتقدير: ينفق بهما.
قال: والأولى أن يكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. اهـ
قوله: (والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال: ذلك).
أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في تفسيره عن ابن عباس، وأخرجه ابن جرير عن عكرمة.
قوله: (فطرس الرومي)
بالفاء والراء، قاله الطَّيبي.
قوله: (أي يبين ما تعملونه، وفيه معنى التعجب، أي: ما أسوأ عملهم).
قال الشيخ سعد الدين: هو مستفاد من المقام. اهـ
قوله: (فما أديت شيئاً منها، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان
(3/288)
الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به، أو فكأنك ما بلغت شيئاً منها
... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: حاصل الجواب الأول أن ترك تبليغ أدنى شيء يستوجب عذاب كتمان
الكل من جهة أن كتمان البعض يضيع ما أدى منها لعدم حصول غرض الدعوة، بمنزلة من ترك
بعض أركان الصلاة، وحاصل الثاني أن ترك تبليغ أدنى شيء كترك التبليغ بالكلية وهو
في غاية الشناعة، وهذا ما قاله ابن الحاجب إذا اتحد الشرط والجزاء كان المراد
بالجزاء المبالغة، كأنه قيل: وإن لم تبلغ فقد ارتكبت أمراً عظيماً.
قال الشيخ سعد الدين: وهذا الجواب هو الوجه، والأول قد يناقش فيه. اهـ
وقال الإمام: الآية على حد قوله: وشعري شعري، أي: شعري الذي يبلغ مبلغاً بحيث أنه
لا يوصف بأعظم من أن يقال فيه إنه شعري، وكذلك لا وعيد على ترك التبليغ أعظم من أن
يقال أنه لم يبلغ. اهـ
قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعاً
... ) الحديث.
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة، وأخرجه أبو الشيخ ابن حيان في
تفسيره من مرسل الحسن.
قوله: (وعن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه
من قبة من أدم فقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس).
أخرجه الترمذي والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة من حديث عائشة،
وأخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وعصمة بن مالك الحطمي، وأخرجه أبو نعيم
في الدلائل من حديث أبي ذر، وله طرق أخرى، ولم يرد من حديث أنس وقد نبه عليه
الطَّيبي والشيخ سعد الدين.
(3/289)
قوله: (فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه).
هذا منزع صوفي، قال أرباب المعرفة: قال تعالى (بلغ ما أنزل إليك) ولم يقل ما
تعرفنا به إليك.
قوله: (والصابئون رفع بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير).
قال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرح الشواهد: قد يستبعد هذا التخريج لأنَّ فيه
تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجمل المعطوف عليها وإنما يتقدم المعطوف على
المعطوف عليه في الشعر فكذلك ينبغى أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه.
قال: ويجاب بأنَّ الواو للاستئناف كسائر الواوات المقترنة بالجملة المعترضة كقوله
تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ).
قوله: (فإني وقيار بها لغريب).
هو لضابئ -بالضاد المعجمة والباء الموحدة بعدها همزة- ابن الحارث البرجمي بالجيم.
كان عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه حبس ضابياً هذا حين تعدى عليه فقال:
من يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب
وما عاجلات الطير يدنين بالفتى ... رشاداً ولا عن ريثهن يخيب
ورُبَّ أمور لا تضيرك ضيرة ... والقلب من مخشاتهن وجيب
ولاخير في من لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب
ولست بمستبق صديقاً ولا أخاً ... إذا لم يعد الشيء وهو يريب
قال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرح الشواهد: قوله (من يك) روي بالفاء وبإسقاطها
على الجزم، وقوله (أمسى بالمدينة رحله): كناية عن السكنى بالمدينة واستيطانها،
وقيار: اسم فرسه، عن الخليل، وقال أبو زيد: اسم جمله.
قال: والحذف في هذا البيت من الثاني، لأنَّ (غريب) خبر لأن لا للمبتدأ لاقترانها
باللام، والتقدير: فإني بها لغريب وقيار كذلك، وقيل هو خبر عن الاسمين جميعا لأنَّ
فعيلا يعبر به عن الواحد فما فوقه نحو (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).
(3/290)
قال: ورده الخلخالي بأنه لا يكون للاثنين وإن جاز كونه للجمع،
وكذلك قال في فعول: لا يقال رجلان صبور، وإن صح في الجمع.
قال الشيخ حمال الدين ابن هشام: وقد قيل في قوله تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ) إن المراد قعيدان، قال: ثم كلامه يوهم أن ذلك يقال بالقياس،
وليس كذلك وإنما المانع في البيت من أن يكون (غريب) خبراً عن الاسمين لزوم توارد
عاملين على الخبر، وإنما يصح هذا على رأي الكوفيين لقولهم إنَّ الخبر على ما كان
عليه. اهـ
قوله: (وقوله: وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقينا فِي
شِقَاق).
قال الشيخ جمال الدين بن هشام: هو لبشر بن أبي خازم -بالخاء والزاي المعجمتين-
الأسدي، وقبله:
إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق
وسبب قوله ذلك أن قوماً من آل بدر جاوروا الفزاريين من بني لأم من طي فجزوا
نواصيهم وقالوا مننا عليكم ولم نقتلكم، فغضب بنو فزارة لذلك، فقال بشرٌ ذلك،
ومعناه: إذ قد جززتم نواصيهم فاحملوها إلينا، واحملوا الأسرى معهم، وإلا فإنا
متعادون أبدا، و (ما) في البيت مصدرية ظرفية. اهـ
قوله: (وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان
كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإِيمان والعمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك).
قال الطَّيبي: إنما كان جارياً مجرى الاعتراض لا إياه لأن الاعتراض هو ما يتخلل في
أثناء الكلام لتأكيد مضمون المعترض فيه، وهذا تأكيد لما يلزم من إيراد الكلام لا
من مضمونه فجرى مجراه لكونه جملة في أثناء الكلام لقصد التأكيد وهو استطراد. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون (والنصارى) معطوفاً عليه و (مَنْ آمَنَ) خبرهما، وخبر (إنَّ)
مقدر دل عليه ما بعده).
(3/291)
(إنَّ) مقدر دل عليه ما بعده).
قال الشيخ جمال الدين ابن هشام: قد يستبعد هذا لأنَّ فيه حذفاً من الأول لدلالة
الثاني.
قال: ويجاب بأنه واقع وإن كان عكسه أكثر. اهـ
قوله: (كقوله: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ
وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ).
هذا لرجل من الأنصار، وقيل لقيس بن الخطم -بالخاء المعجمة- بن عدي الظفري شاعر
جاهلى، وقيل لعمرو بن امرئ القيس الأنصاري من أبيات أولها:
أبلغ بني جحجبى وقومهم ... خطمة أنا وراءهم أُنُف
وإنا دون ما يسومهم ... الأعداء من ضيم خطة نكف
الحافظو عورة العشرة لا ... يأتيهم من ورائنا وكف
يا مال والسيد المعمم قد ... يبطره بعد رأيه الشرف
نحن بما عندنا ...
جحجبى: بفتح الجيمين بينهما حاء مهملة ساكنة آخره موحدة مقصور بطن من الأنصار،
وخطمة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء بطن من الأنصار أيضاً، وأُنُف: بضم الهمزة
والنون: محامون واحدهم آنف كضارب وهو مأخوذ من الأنفة وهي الحمية، ويسومهم: أي
يكلفهم، وضيم: ظلم، وخطة: أي أمر وشأن، ونكف: بضم النون والكاف جمع ناكف من نكف
بمعنى إستنكف وأنف، والعورة: ما لم تُحمَ، وقال الثعلبي: كل مخوف عورة، ومن
وارئنا: أي عيبنا والوكف العيب، وقيل: الإثم، وقيل: الخوف، وقيل: المكروه، وقيل:
النقص، ومال: ترخيم مالك، والسيد المعمم: ذكر العمامة لأنَّها من مناقب العرب، وقد
وصف أبو الأسود الدؤلي العمامة فقال: جنة في الحرب ومكنة في الحر ومدفأة من
القر ووقار في الندى ووقاية من الأحداث وزيادة في القامة وعادة من عادات العرب.
ذكره الجاحظ في البيان.
قوله: (ولا يجوز عطفه على محل (إنَّ) واسمها -إلى قوله- فيجتمع عليه عاملان).
قال الطَّيبي: معناه أنه لو رفع (وَالصَّابِئُونَ) بالابتداء بأن يكون عطفاً على
محل (إنَّ) واسمها لكان العامل في المبتدأ التجريد وفي الخبر (إنَّ) فيلزم أن يكون
العامل في
(3/292)
واسمها لكان العامل في المبتدأ التجريد وفي الخبر (إنّ) فيلزم
أن يكون العامل في المبتدأ غير العامل في الخبر والواجب أن يكون الخبر مرفوعاً بما
ارتفع به المبتدأ ولا يمكن تقدير عاملين فيه بأن يقال إنه مرفوع بـ (إنَّ)
والابتداء معاً للقطع بأنَّ اسما واحداً لا يكون فيه رفعان. اهـ
وقال صاحب الفرائد وتبعه الشيخ سعد الدين: في هذا نظر، لأنه إنما يلزم ذلك لو لم
ينو التأخير وكان المذكور خبراً عنهما، وأما على نية التأخير واعتبار معنى الخبر
تقديراً فيكون المذكور معمول (إنَّ) فقط وخبر المعطوف محذوف.
قال: ولو تم ما ذكر لجرى في جميع صور معنى الخبر تقديراً. اهـ
قوله: (وقيل: (إنَّ) بمعنى نعم).
قال أبو حيان: هذا ضعيف، لأنَّ ثبوت (إنَّ) بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين، وعلى
تقدر ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها فيكون تصديقاً له ولا تجيء أول الكلام. اهـ
قوله: (على البدل من اسم (إنَّ) وما عطف عليه).
زاد في الكشاف: أو من المعطوف عليه. اهـ
قال الطَّيبي: قالوا أراد أنَّ (مَنْ آمَنَ) إما بدل من المجموع في المعطوف عليه
والمعطوف أو بدل من اسم (إنَّ) فحسب.
قال: فإذا كان بدلاً من المجموع فالمعنى على ما سبق: إنَّ الصابئين أشَد غياً،
وأما إذا كان بدلاً من اسم (إنَّ) وحده لزم أنَّ يكون حكم (وَالذِين هَادُوا) و
(النَّصَارَى) حكم (وَالصَّابِئُونَ) في الرفع وتقدير الخبر على ما سبق في
(وَالصَّابِئُونَ) وحده، كأنه قيل: إنَّ الذين آمنوا من آمن منهم فلا خوف عليهم
والذين هادوا والصابئون والنصارى كذلك، فحينئذ يخرج الكلام عن المقصود. اهـ
قوله: (جواب الشرط).
قال أبو حيان: سمى (كلما) شرط، وليس بشرط بل (كل) نصب على الظرف
(3/293)
قال السفاقسي: سماها ظرفاً من حيث المعنى لاقتضائها جواباً
كالشرط. اهـ
قوله: (وقيل: الجواب محذوف).
قال ابن المنير: يدل عليه مجيئه ظاهراً في الآية التي هي توأمة هذه الآية
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ ... ) إلى آخره.
قال: الأولى أن يقدر المحذوف: استكبروا، لظهوره في هذه الآية. اهـ
قوله: (على أن الله عماهم).
قال الشيخ سعد الدين: يعني على تقدير فعل متعد بكون (عموا) بالضم مبيناً للمفعول
منه. اهـ
قوله: (كما يمنع المحرم ... ).
قال الطَّيبي: أي (حَرَّمَ) هاهنا استعارة تبعية من المنع. اهـ
قوله: (و (من) مزيدة للاستغراق).
قال صاحب الإقليد: إفادة (من) الاستغراقية للاستغراق لأنَّها تدخل لابتداء الجنس
إلى انتهائه، فقولك: هل من رجل؟ تقديره: هل من واحد هذا الجنس إلى أقصاه، إلا أنه
اكتفى بذكر (من) عن ذكر (إلى) لدلالة إحدى الغايتين على الأخرى، وإنما قيل: إن مثل
لا رجل متضمن لمعنى (من) الاستغراقية لأنَّ لا رجل في الدار أبلغ في النفي من (لا
رجل في الدار) بالرفع، ومن (ليس رجل في الدار) ولا يمكن تقدير ما يكون به كذلك إلا
صرف مؤكد مثبت للاستغراق فوجب تقدير (من)، ولو كانت (لا) مفيدة للاستغراق لذاتها
لما جاز قولهم لا رجل في الدار بل رجلان. اهـ
قال الإمام: قدر النحويون لا إله في الوجود وذلك غير مطابق للتوحيد الحق لأن هذا
نفي لوجود الإله الثاني ولو لم يضمر هذا الإضمار لكان لا إله نفى لماهية الإله
الثاني ومعلوم أن نفي الماهية أقوى بالتوحيد الصرف من نفي الوجود.
(3/294)
وقال غيره: لو ترك التقدير ليبقى مطلقاً فيتناول الوجود
والإمكان وما يجري مجراها لكان أولى.
قوله: (كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدقن الأنبياء).
قال الحلبي والسفاقسي: القياس يقتضي أنه من صَدَق الثلاثي المجرد لأن أمثلة
المبالغة تطرد منه دون المزيد.
قوله: (أي لا ينهى بعضهم بعضاً).
قال الطَّيبي: فوضع يتفاعلون موضع يفعلون للمبالغة.
قال: وإنما احتيج إلى هذه التأويلات لأنَّ التناهي من منكر قد سبق ومضى محال. اهـ
قوله: (هو المخصوص بالذم).
قال أبو حيان: لا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفراء والفارسي من أن (ما)
موصولة، أو على مذهب من جعل في (بئس) ضميرًا، أو جعل (ما) تمييزاً بمعنى شيئاً
وقدمت صفة للتمييز، وأما على مذهب سيبويه فلا يتأتى ذلك لأنَّ (ما) عنده اسم تام
معرفة بمعنى الشيء والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف، والتقدير: لبئس الشيء شيء
قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا (أَنْ سَخِطَ) في موضع رفع على البدل من المخصوص
المحذوف، وعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو أن سخط. اهـ
قوله: (والمعنى: موجب سخط الله).
قال الحلبي: في تقدير هذا المضاف من المحاسن ما لا يخفى على متأمله، فإن نفس السخط
المضاف إلى الباري تعالى لا يقال هو المخصوص بالذم إنما المخصوص بالذم أسبابه،
وذهب إليه أيضاً الواحدي ومكي وأبو البقاء. اهـ
قوله: (والفيض (1) انصباب ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: هنا عبارات أولها: فاض دمع عينه وهو الأصل، والثانية: المحولة
فاضت عينه دمعا حول الفاعل تمييز مبالغة، والثالثة: فاضت عينه من الدمع
__________
(1) في الأصل (الغيض) والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)
(3/295)
فلم يحول عن الأصل كما في الثانية بل أبرز تعليلاً وهذا أبلغ
لأنَّ التمييز قد اطرد وضعه في هذا الباب موضع الفاعل والتعليل لم يعهد فيه ذلك.
اهـ
قوله: ((ونطمع) عطف على (نؤمن)).
هو أصوب من قول الزمخشري: عطف على (لا نُؤمِنُ) لفساد المعنى إذ يصير التقدير
إنكار عدم الإيمان وإنكار الطمع وليس كذلك، وإنما المراد إنكار عدم الطمع أيضاً
وذلك بالعطف على (نُؤمِن) المنفي فيكون النفي متعيناً على المعطوف عليه.
قوله: (أو خبر محذوف والواو للحال، أي: ونحن نطمع والعامل فيهما عامل الأول).
قال أبو حيان: هذا ليس بجيد لأنَّ الأصح أنه لا يعمل عامل واحد في حالين بلا عطف
إلا أفعل التفضيل.
قال: والأحسن والأسهل أن يكون استئنافاً. اهـ
وقال السفاقسى: أما تعدد الحال واتحاد صاحبها فالحق جوازه. اهـ
قوله: (مقيداً بها).
قال الطَّيبي: فيعود المعنى: أي شىء حصل لنا غير مؤمنين طامعين (أي لو لم نكن
مؤمنين طامعين). اهـ
قوله: (أو نؤمن).
قال الطَّيبي: فالحالان على هذا متداخلان، وعلى الأول مترادفان، والمعنى: أي شيء
حصل لنا غير مؤمنين في حال الطمع، وتحريره: ما لنا لا نوحد الله ونطمع من ذلك في
مصاحبة الصالحين. اهـ
قوله: (روي أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، بعث إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم
بكتابه فقرأه، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين،
فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن).
قال الشيخ ولي الدين: لم أقف عليه.
قلت: قد أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والواحدي من طريق ابن شهاب عن
(3/296)
سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة
بن الزبير مرسلاً.
قوله: (وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة مريم فبكوا وآمنوا.).
أخرجه بن جرير عن سعيد بن جبير.
قوله: (روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف القيامة ... ) الحديث.
ذكره الواحدي في أسباب النزول بلفظ المصنف عن المفسرين، وروى ابن جرير معناه
بزيادة ونقص عن مجاهد وعكرمة والسدي، وللقصة شاهد في الصحيحين من حديث عائشة.
وعثمان بن مظعون يكنى أبا السائب قرشي جمحي أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً وهاجر
الهجرتين وشهد بدراً وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة على رأس ثلاثين شهراً
من الهجرة وقيل بعد اثنين وعشرين شهراً ودفن بالبقيع، ومظعون: بالظاء المعجمة وعين
مهملة، والمسوح: جمع مِسْح وهو البلاس.
قوله: (أو صفة لمصدر محذوف).
قال الطَّيبي: هذا أولى أي: أكلاً حلالاً ليكون توسعة في الكل ودفعاً للتضييق سيما
إذا اعتبر معنى (طَيِّبًا) معه وذلك أن ورود هذا الأمر عقب النهي عن التحريم
للطيبات والتشديد فيه بقوله تعالى (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ
لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يقتضى ما يقابله
من التوسعة، وسياق النظم ما أشار إليه
(3/297)
الراغب قال: لما ذكر حال الذين قالوا إنا نصارى وأن منهم قسيسين
ورهباناً ومدحهم بذلك، وكانت الرهبان قد حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم
ورأى الله قوماً تشوفوا إلى حالهم وهمّوا أن يقتدوا بهم نهاهم عن ذلك. اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: من حلف على يمين ... ) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
قوله: (من أقصده).
في الأساس: من المجاز قصد في معيشته واقتصد وقصد في الأمر: إذا لم يجاوز فيه الحد
ورضي بالتوسط. اهـ
قوله: (أو من أوسط إن كان بدلاً).
قال الطَّيبي: نقل في الحواشي عن صاحب الكشاف: ووجهه أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ)
بدلاً من (إِطْعَامُ) والبدل هو المقصود، ولذلك كان البدل منه في حكم المنحى،
فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون.
وقال صاحب التقريب: قول صاحب الكشاف إنما يصح إذا كان محله مرفوعاً إما بدلاً من
(إِطْعَامُ) على حذف موصوف، أي: إطعام من أوسط، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد
خبر، والأظهر أنَّ (كِسْوَتُهُمْ) عطف على (إِطْعَامُ) لأن المشهور التخيير بين
الخصال الثلاث وعدوا الكسوة منها، و (مِنْ أَوْسَطِ) إما منصوب على صفة المصدر
المقدر أي إطعاماً من أوسط، أو على المفعول بإضمار أعني، أو على المفعول الثاني لـ
(إِطْعَامُ) أي أن نطعمهم من الأوسط، أو مرفوع كما سبق، ولعله إنما عدل عن الأظهر
لأنَّ الكسوة اسم ظاهر لا مصدر.
قال الراغب: الكساء والكسوة اللباس، فلا يليق عطفه على المصدر أو لأدى به إلى ترك
ذكر كيفية الكسوة وهي كونها أوسط، ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر قال
الزجاج في تفسيره: والكسوة أن يكسوهم نحو إزار. أو يضمر مصدراً نحو واللباس
الكسوة، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما
(3/298)
الكسوة إما مصدر قال الزجاج في تفسيره: والكسوة أن يكسوهم نحو
إزار. أو يضمر مصدراً نحو واللباس الكسوة، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط
ما تكسون فحذف لقرينة ذكرها في المعطوف عليه، أو بأن تترك على إطلاقها، أو بإحالة
بيانها إلى غيره (أي غير ما ذكر)، وأيضاً العطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) لا يفيد
هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام
المعطوف عليه وهو غير سديد. انتهى كلام صاحب التقريب.
قال الطَّيبي: ويمكن أن يقال إنما يصار إلى البدل إذا اعتبر معنى المبدل نحو: زيد
رأيت غلامه رجلاً صالحاً، لا أن ينحى معناه كما في الحواشي، ولأنَّ أهل المعاني
يعتبرون معنى المبدل وجوباً والنحوي يقول إن البدل ليس في حكم المنحى من جميع
الوجوه ولذا يوجبون ضمير المبدل في بدل البعض والاشتمال، والتقدير: فكفرته إطعامٌ
من أوسط ما تطعمون أهليكم لعشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين من أوسط ما تكسون
أهليكم، هذا وإن المصير إلى البدل يورث الكلام إبهاماً وتبييناً وتوكيداً وتقريراً
بخلافه إذا أخلى عنه. اهـ
وقال العلم العراقي: قول الكشاف (أو كسوتهم): عطف على محل (مِن أوسَطِ)؛ غلط لم
يتنبه له ابن المنير، وصوابه أنه عطف على قوله (إِطعَام). اهـ
وقال الحلبي: ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ)
خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله، تقديره: طعامهم من أوسط، فالكلام تام على
هذا عند قوله (عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكون من
أوسط كذا، وأما إذا قلنا إن (مِنْ أَوْسَطِ) هو المفعول الثاني فيستحيل عطف
(كِسْوَتُهُمْ) عليه لتخالفهما إعراباً. اهـ
قوله: (والكاف فى محل الرفع).
قال أبو حيان: هذا إن قدر (مِنْ أَوْسَطِ) في محل رفع وإلا فهي في محل نصب مثله.
اهـ
قوله: (وتقديره: أو إطعامهم كأسوتهم).
قال الشيخ سعد الدين: ولا خفاء في زيادة الكاف وفي أنَّ التخيير على هذا بين
(3/299)
الإطعام والتحرير. اهـ
وقال أبو حيان: هذه القراءة تنفي الكسوة. اهـ
وقال السفاقسى: قدر أبو البقاء أي: مثل أسوة أهليكم في الكسوة، وعلى هذا لا تكون
الآية عارية منها. اهـ
قلت: في هذا التقدير نظر لأنه لم يتقدم ما يدل عليه.
قوله: (فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه).
قال الطَّيبي: قيل الضمير المجرور عائد إلى الحنث. اهـ
وأقول: الظاهر عوده إلى الحلف أو إلى الشكر في قوله: ونعمه الواجب شكرها.
قوله: ((رجس) قذر تعاف منه العقول).
قال الراغب: الرجس والنجس متقاربان، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجس
أكثر ما يقال فيما يستقذر بالعقل. اهـ
قوله: (وإفراده لأنه خبر للخمر، وخبر المعطوفات محذوف).
قال الحلبي: ويجوز على هذا عكسه وهو أن يكون خبراً عن الآخر وحذف خبر ما قبله لدلالة
خبر ما بعده عليه لأن لنا في نحو قوله تعالى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) هذين التقديرين. اهـ
قوله: (أو المضاف محذوف، كأنه قال: إنما تعاطي الخمر والميسر).
قال أبو حيان: لا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها
أنَّها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ). اهـ
(3/300)
قال الحلبي: وهو كلام حسن. اهـ
قوله: (شرٌّ بحْت).
بفتح الموحدة وبسكون الحاء المهملة ومثناة فوقية، أي: خالص.
قوله: (شارب الخمر كعابد الوثن).
أخرجه البزار من حديث عبد الله بن عمرو، وهو عند ابن ماجه وابن حبان بلفظ: مدمن
الخمر، قال ابن حبان: يشبه أن يكون فيمن استحلها.
قوله: (وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم).
قال الطَّيبي: هذا من باب قوله تعالى (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ) من حيث الاختصاص بالذكر، ومن حيث التكرير،
لأنَّ تكرير (عن) في قوله تعالى (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) كتكرير
(رَأَيْتُهُمْ). اهـ
قوله: (روي أنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة فكيف بإخواننا ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس بلفظه، وأحمد في مسنده من حديث أبي هريرة بمعناه،
وأصله في الصحيحين من حديث أنس.
قوله: (نزلت عام الحديبية ... ) إلى آخره.
(3/301)
أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
قوله: (والتقليل والتحقير في (بشيء) للتنبيه على أنه ليس من العظائم ... ) إلى
آخره.
قال ابن المنير: ورد مثل هذه الصيغة في الفتن العظيمة في قوله تعالى (بِشَيْءٍ
مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) بل هو إشارة إلى أنما يقع به الابتلاء من هذه الأمور
فهو بعض من كل بالإضافة إلى مقدور الله تعالى فإنه قادر على أن يبتليكم بأعظم
وأهول منه ليبعثهم بذلك على الصبر، ويدل على ذلك أنه سبق الوعد به قبل حلوله ليوطن
النفس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم، فإذا فكر العاقل وجد ما صرف عنه من
البلاء أكثر مما وقع به بأضعاف لا تقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده. اهـ
قوله: (كرداح ... ).
في الصحاح: الرداح: المرأة الثقيلة الأوراك، والجفنة العظيمة، وكتيبة رداح: ثقيلة
السير لكثرتها. اهـ
قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام خمس يقتلن في الحل والحرم ... ) الحديث.
أخرجه الشيخان من حديث عائشة.
قوله: (وفي رواية: الحية، بدل العقرب).
أخرجها مسلم.
قوله: (واختلف في هذا النهي هل يلغى حكم الذبح فليلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح
الوثنى أو لا؟).
الأصح من المذهب الأول.
قوله: (روي: أنه عنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله
فنزلت).
إنما هو أبو قتادة والحديث مخرج في الصحيحين من روايته وأنه هو الذي فعل.
__________
(1) في الأصل (التعليل) والتصويب من تفسير البيضاوي. (مصحح النسخة الإلكترونية).
(3/302)
قال الطَّيبي: وما وجدت حديث أبو اليسر في الأصول. اهـ
قوله: (واللفظ للأول أوفق).
قال الطَّيبي: لأنَّ قوله (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) حقيقة
فيه، وفي جعله القيمة ارتكاب المجاز، ويؤيده قراءة ابن مسعود (فجزاءه مثل ما قتل
من النعم). اهـ
قوله: (أو من (جزاء)).
قال الطَّيبي: إنما يستقيم على مذهب الأخفش وهو أن يكون التقدير: فعليه جزاء مثل
ما قتل هدياً، فهو حال من فاعل الجار والمجرور من غير اعتماد. اهـ
قوله: (وإن نون لتخصيصه بالصفة).
قال الحلبي: وكذا خصصه الشيخ أبو حيان، وهذا غير واضح، بل الحالية جائزة مطلقاً
سواء قرئ مرفوعاً أو منصوباً منوناً أم مضافاً. اهـ
قوله: (وقرأ نافع واين عامر (كَفَّارَةُ طَعَامُ) بالإضافة للتبيين).
قال الإمام: إنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء الهدي والطعام والصيام حسنت
الإضافة فكأنه قيل: كفارةُ طعامٍ لا كفارةُ صيامٍ. اهـ
وإليه الإشارة بقول الكشاف: وهذه الإضافة مبينة.
قوله: (كقولك: خاتمُ فضةٍ).
قال أبو حيان: ليست هذه الإضافة من هذا الباب، لأنَّ خاتم فضة من باب إضافة الشيء
إلى جنسه، والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيدٍ جداً.
قال: وإنما هي إضافة الملابسة لأنَّ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة
صيام. اهـ
قوله: (وقرئ بكسر العين ... ) إلى آخره.
قال الراغب: العَدْل والعِدْل متقاربان، لكن العَدل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة
(3/303)
كالأحكام، وعلى ذلك قوله (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)، والعدل
والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعدل: هو التقسيط
على سواءٍ وعلى هذا روي: بالعَدل قامت السماوات، تنبيهاً على أنه لو كان ركن من
الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً عنه على خلاف مقتضى الحكمة
لم يكن العالم منتظماً. اهـ
قوله: ((لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) متعلق بمحذوف، أي: عليه الجزاء).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف (فَجَزَاءٌ) أو نون ونصب، وأما
على قراءة من نون ورفع (مِثْلُ) فلا يجوز أن تتعلق اللام به، لأنَّ (مِثْلُ) صفة
لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة، لو قلت: أعجبني ضربُ
زيدٍ الشديدَ عمروا لم يجز، فإنْ تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك، والصواب أن
يتعلق على هذه القراءة بفعل محذوف، التقدير: جوزي بذلك ليذوق وبال أمره، ووقع لبعض
المعربين أنَّها تتعلق بـ (عَدْلُ ذَلِكَ) وهو غلط. اهـ
قال الحلبي: وكذا لو جعله بدلاً أيضاً أو خبراً لما تقدم من أنه يلزم أن يُتبعَ
الموصول أو يُخبرَ عنه قبل تمام صلته وهو ممنوع.
قال الحلبي: وقد أفهم كلامُ الشيخ أبي حيان بصريحه أنه على قراءة إضافة الجزاءِ إلى
(مِثْلُ) يجوز ما قاله صاحب الكشاف، وأنا أقول: لا يجوز ذلك أيضاً، لأنَّ
(لِيَذُوقَ) من تمام صلة المصدر وقد عطف عليه قوله (أَوْ كَفَّارَةٌ) (أَوْ
عَدْلُ) فيلزم أن يعطف على الموصول قبل تمام صلته وذلك لا يجوز، لو قلت: جاء الذي
ضرب وعمروٌ زيداً لم يجز للفصل بين الصلة -أو أبعاضها- والموصول بأجنبي فتأمل فإنه
موضع حسن. اهـ
وقال السفاقسي: تنظير أبي حيان بقوله أعجبني ضرب زيد الشديد عمروا ليس بسديد؛
لأنَّ عمروا مفعول به وليس هو كالمجرور. اهـ
قوله: (فهو ينتقم الله منه).
(3/304)
قال الطَّيبي: يعني (ينتقم) خبر مبتدأ محذوف (فهو جملة اسمية
تحتاج إلى الفاء ولو لم تكن خبر مبتدأ محذوف لم يحتج إلى الفاء، لأنَّ الشرط إذا
كان ماضياً والجزاء مضارعاً جاز الرفع وترك الفاء. اهـ
قوله: (وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكى عن ابن عباس ... ).
قال الإمام: دليل ابن عباس من أنه أعظم من أن يُكفَّر بالتصدق بل الله ينتقم منه
لأن قوله تعالى (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) جزاء والجزاء كاف وكونه كافياً يمنع
من وجوب شيء آخر. اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام فى البحر: هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته).
أخرجه مالك والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان
والحاكم والدارقطني وصححوه من حديث أبي هريرة.
قوله: (نصب على الغرض).
أي المفعول له كما عبر به في الكشاف.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: لحم الصيد حلال لكم، ما لم تصطادوه أو يصد
لكم).
أخرجه أحمد والحاكم وصححه من حديث جابر.
قوله: ((جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ): صيرها).
أقول: فسر (جَعَل) بمعنى صير، وقال بعد ذلك: إن نصب (قِيَامًا) على المصدر
(3/305)
أو الحال، والذي ذكره أبو البقاء أنه إن كان (جَعَل) بمعنى صير
فـ (قِيَامًا) مفعول ثان، أو بمعنى خلق فهو حال.
قوله: (وإنما سمي البيت كعبة لتكعبه).
(روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد قال: إنما سميت الكعبة لتربيعها)، (ورويا
أيضاً عن عكرمة قال: إنما سميت الكعبة لتربعها).
قوله: (البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح).
قال أبو حيان: ليس كما ذكر، لأنهم شرطوا في عطف البيان الجمود، والجامد ليس فيه
إشعار بمدح إنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال إنه لما وصف عطف البيان بقوله
(الحرام) اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك. اهـ
قوله: (انتعاشاً لهم).
في الصحاح: نعشه الله: رفعه، وانتعش العاثر: نهض من عثرته.
قوله: (وأشياء اسم جمع كطرفاء ... ) إلى آخره.
قال ابن الشجري في أماليه: ذهب الأخفش والفراء إلى أن أصل أشياء أَشْيِئاء بوزن
أَفْعلاء فحذفت الهمزة التي هي لام فوزنها الآن أفعاء، فعورضا بأنَّ الواحد مثاله
(فَعْل) وليس قياس (فَعْل) أن يجمع على (أفعلاء)، فاحتجا بقولهم في جمع سمح سمحاء.
وروي عن الفراء أنه قال: أصل شيء شيِّءٌ، كهين، وخفف كما خفف هين إلا أن
(3/306)
شيئاً لزم التخفيف، ولما كان أصله (فيعل) جمعوه على (أفعلاء)
كهين وأهوناء.
وقوله في شيء أنَّ أصله التثقيل دعوى لا دليل عليها.
وذكر أبو على في التكملة مذهب الخليل وسيبويه في أشياء ثم قال: فيه قول آخر وهو أن
يكون أفعلاء ونظيره سمح وسمحاء وحذفت الهمزة التي هي لام كما حذفت من قولهم سواية
حيث قالوا سوااية، ولزم حذفها في (أفعلاء) لأمرين أحدهما: تقارب الهمزتين، وإذا
كانوا قد حذفوا الهمزة مفردة فجدير إذا تكررت أن يلزم الحذف، والآخر: أنَّ الكلمة
جمع وقد يستثقل في المجموع ما لا يستثقل في الآحاد بدلالة إلزامهم (خطايا) القلبَ،
وإبدالهم من الأولى في ذوائب الواو.
قال: وهذا قول أبي الحسن، فقيل له: كيف تحقرها؟ قال: أقول في تحقيرها أُشَيّاء،
فقيل له: هلا رددت إلى الواحد فقلت شييئات، لأن (أفعلاء) لا يصغر؟ فلم يأت بمقنع.
قال ابن الشجري: الذي ناظره في ذلك أبو عثمان المازني فأراد أن (أفعلاء) من أمثلة
الكثرة، وجموع الكثرة لا تحقر على ألفاظها ولكن تحقر بآحادها ثم يجمع الواحد
بالألف والتاء كقولك في تحقير دراهم دريهمات، ثم قال أبو علي بعد ذلك فلم يأت
بمقنع.
والجواب عن ذلك أن (أفعلاء) في هذا الموضع جاز تصغيرها وإن لم يجز التصغير فيها في
غير هذا الموضع لأنها قد صارت بدلاً من أفعال (بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها
كما ضيف إلى أفعال ويدل على كونها بدلاً من أفعال) تذكيرهم العدد المضاف إليها في
قولهم ثلاثة أشياء، فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة التي ذكرت كذلك
يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع
تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو
أنها صارت بمنزلة أفعال، وإذا كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة
التقليل والتكثير في شىء واحد. انتهى كلامه.
(3/307)
قال ابن الشجري: وأقول في تفسير قوله (أن أفعلاء في هذا الوضع
صارت بدلاً من أفعال): يعني أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروف كقولك في جمع
فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد، ولكنهم أقاموا أشياء التي
همزتها للتأنيث مقام أشَياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على
لفظها بأنها صارت بدلاً من أفعال بدلالة أنَّهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء
فقالوا: ثلاثة أشَياء مما لا تقوم به دلالة، لأنَّ أمثلة القلة وأمثلة الكثرة
يشتركن في ذلك، ألا ترى أنَّهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة
فيقولون ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا ثلاثة أشياء وإن كان
أشياء مؤنثاً لأنَّ الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول: ثلاثة أنبياء وخمسة أصدقاء
وسبعة شعراء، فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثاً، وذلك لأنَّ الواحد نبي وصديق
وشَاعر كما أنَّ واحد أشياء شَيء، فأي دلالة في قوله: (ويدل على كونها بدلاً من
أفعال تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم ثلاثة أشياء)؟.
قال ابن الشجري: وأقول إنَّ الذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال: إنما جاز
تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأنَّ وزنه نقص بحذف لامه فصار
أفعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وقول أبي علي في أشياء إن أصلها أفعلاء وحذفت الهمزة
التي هي لام كما حذفت من قولهم سواية ولزم حذفها من أفعلاء لأمرين أحدهما: تقارب الهمزتين،
وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة مفردة فجدير إذا تكررت أن يلزم الحذف، يعني إن
الهمزتين في أشياء تقاربتا حتى لم يكن بينهما فاصل إلا الألف مع خفائها فهي كلام
فاصل، وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة المفردة في سواية فحذف الهمزة التي وليتها همزة
أولى، فأما مذهب الخليل وسيبويه في أشياء فإنَّها اسم يراد به الجمع، وكان القياس
فيه شيئاء ليكون فعلاء كطرقاء وحلفاء فاستثقلوا تقارب الهمزتين فأخروا الأولى التي
هي اللام إلى أول الحرف فصار أشياء وزنه لفعاء.
قال أبو علي: والدلالة على أنَّها اسم مفرد ما روي من تكسيرها على أشاوي؛ كسروها
كما كسروا صحراء على صحاري حيث كانت مثلها في الإفراد.
قال ابن الشجري: وأقول إن أشياء يتجاذبها أمران: الإفراد والجمع، فالإفراد في
(3/308)
اللفظ، والجمع في المعنى كطرفاء وحلفاء وقصباء هن في اللفظ
كصحراء وفي المعنى جمع طرفة وقصبة وحلفة بكسر لامها وفتحه على الخلاف، وكذلك أشياء
لفظها لفظ الاسم المفرد من نحو صحراء وهو في المعنى جمع شيء، ودليل ذلك ما ذكره
أبو علي من قولهم في جمعها أشاوي كصحاري، وأصله أشاياء فأبدلوا الياء واواً على
غير قياس كإبدالها واواً في قولهم: جبيت الخراج جباوة، ودليل آخر وهو قولهم في تحقيرها
(أُشيَّاء كصحراء، ولو كانت جمعاً لفظاً ومعنى وجب أن يقال في تحقيرها) شييئات،
ويدل على أنَّها في المعنى جمعٌ إضافةُ العدد إليها في قولهم ثلاثة أشياء، ولو
كانت اسما مفرداً لفظاً ومعنى لم يجز إضافة العدد إليها ألا ترى أنه لا يجوز ثلاثة
صحراء. اهـ
وقد لخص ابن يعيش هذا الكلام وزاده تحقيقاً فقال في كتابه شرح التعريف الملوكي:
وأما أشياء فظاهر اللفظ يقضي بكونها جمع شيء لأنَّ فعلاء إذا كان معتل العين يجمع
فيه القلة على أفعال، نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ، إلا أنهم رأوها غير مصروفة في
حال التنكير نحو قوله تعالى (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ)
فحينئذ تشعبت أرآء الجماعة فيها، فذهب سيبويه والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث،
وأنَّ الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو العضاء والحلفاء والطرفاء في أنها اسم
للجمع ليس بتكسير، ومثله حامل وباقر، فأشياء في الأصل شيئاء وزنه فعلاء مقلوبه إلى
لفعاء كأنهم فعلوا ذلك استثقالاً لتقارب الهمزتين، وإذا كانوا قد قبلوا نحو قسي مع
عدم الثقل فمع الثقل أولى، فإذن الهمزة الأولى في أشياء لام والثانية زائدة
للتأنيث ولذلك لا ينصرف، وذهب أبو الحسن إلى أن أصلها أشياء على زنة أفعلاء فحذفت
الهمزة الأولى تخفيفاً على حد حذفها من سؤية سواية ثم فتحت الياء المجاورة للألف
وشذ عنه جمع فعل على أفعلاء كما قالوا شاعر وشعراء وسمح وسمحاء، جمعوا فاعلاً
وفعلا على فعلاء كأنه استبعد القلب فلم يحملها عليه ورآها غير مصروفة فلم يحملها
على أفعال، وذهب الفراء إلى مثل مذهبه في أنها أفعلاء إلا أنه استبعد جمع فعل على
أفعلاء، فادعى أنَّ شيًْء مخفف من شيِّء كهيْن وهيِّن فكما جمعوا هيناً على أفعلاء
فقالوا أهوناء كذلك جمعوا شيئا على أفعلاء لأنَّ أصله شيِّء عنده، وذهب الكسائي
إلى أنَّ أشياء أفعال بمنزلة أبيات وأشياخ إلا
(3/309)
أنهم لما جمعوها على أشياوات أشبهت ما واحده فعلاء فلم ينصرف
لأنَّها جرت مجرى صحراء وصحراوات كأنه تبع اللفظ وحمله على حي وأحياء، واحتال لمنع
الصرف.
والأظهر مذهب سيبويه والخليل لقولهم في جمعه أشاوي، فجمعوا جمع الأشياء على حد
صحراء وصحارى، وكان القياس أشياياء بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوا واواً
شاذاً كما قالوا: جبيت الخراج جباوة، وقالوا: رجاء بن حيوة وحيوان وأصلهما حية
وحيياء فأشياء عند سيبويه لفعاء، وهي عند أبي الحسن أفاعل، كأنه لما جمع أفعلاء
حذف الألف والهمزة التي بعدها للتأنيث للتكسير كما حذفهما من القاصعاء قالوا قواصع
فصار أشياواء ثم قلب كما قلب مدارى، ومما يؤيد كونه مفرداً أنَّهم قد قالوا في
التصغير أُشيَّاء فحقروه على لفظه، كما قالوا في قضباء قضيباء، وفي طرفاء طريفاء،
ولو كان أفعلاء كما ظن أبو الحسن والفراء لرد في التحقير إلى واحده فقيل شييئات
لأنَّ أفعلاء من أبنية الكثرة فيرد إلى واحده في التحقير كما ترد أنصباء في
التحقير إلى نصييبات، وشعراء إلى شويعرون.
قال المازني: سألت أبا الحسن عن تصغير أشياء فقال: العرب تقول أُشيَّاء فاعلم
فيدعونها على لفظها.
فقلت: لم لا ردت إلى واحدها كما ردوا شعراء إلى واحده؟ فلم يأت بمقنع.
وأما ما ذهب إليه الفراء من أن أصل شيء شيِّء بالتشَديد فهو جيد لو أنَّ عليه
دليلاً، وأما اعتلال الكسائي في منع الصرف من أنه عنده أفعال ففيه تعسف فلا يصار
إليه ما وجد عنه مندوحة، وإذا جاز أن يكون فعلاء كقضباء وطرفاء فلا يحمل على ما
ذكره وليس فيه تكلف سوى القلب، وهو كثير في الكلام فأعرفه. انتهى.
قوله: (على أن أصله شيئ كهين، أو شيء كصديق).
قال أبو حيان: فعلى الأول اجتمع همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة
التي هي اللام لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافاً.
قال: وزنها إلى أفلا، وعلى الثاني: حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المد لكون ما
بعدها ألفاً.
(3/310)
قال: وزنها إلى أفياء. اهـ
قوله: (رُوي أنه لما نزل (ولله على الناس حج البيت) قال سراقة ابن مالك ... )
الحديث.
أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة، لكن فيه أن القائل عكاشة بن محصن.
قوله: (وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات
يوم ... ) الحديث.
أخرجه البخاري نحوه، وهو بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة أخرجه الفريابي في تفسيره.
قوله: (الضمير للمسألة).
أي راجع إلى المصدر لا إلى المفعول ليحتاج إلى تعديته بـ (عن).
قال أبو حيان: ولا يتجه ذلك إلا على حذف مضاف، وقد صرح به بعض المفسرين، أي: قد
سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات. اهـ
قال الراغب: (قَدْ سَأَلَهَا) يحتمل وجهين أحدهما: أنه استخبار إشارة إلى نحو قول
أصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله تعالى (قَدْ
سَأَلَهَا) وبين قوله قد سأل عنها، والثاني: أنه استعطاء إشارة إلى نحو المستنزلين
للمائدة من عيسى، والسائلين من صالح الناقة، فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها.
اهـ
قال الطَّيبي: اعلم أنَّ الطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام ألفاظ
متقاربة ومترتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك
وفيما تطلبه من نفسك، والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك، فكل سؤال طلب وليس
كل طلب سؤالاً، والسؤال يقال في الاستعطاء فيقال: سألته كذا، ويقال في الاستخبار
فيقال: سألته عن كذا، وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر وذلك أخص من السؤال، فكل
استخبار سؤال وليس كل سؤال استخباراً، والاستفهام طلب الإفهام
(3/311)
وهو أخص من الاستخبار فإن قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) استخبار وليس استفهام، فكل استفهام استخبار وليس كل استخبار استفهاماً،
والاستعلام طلب العلم فهو أخص من الاستفهام، وليس كل ما يفهم يعلم بل قد يظن
ويخمن، وكل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاما. اهـ
قوله: (وليس صفة لـ (قوم) فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة).
قال أبو حيان: هذا إنما هو في ظرف الزمان المجرد من الوصف، أما إذا وصف فإنه يكون
خبراً وقبل وبعد وصفان في الأصل، فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو، فالمعنى: جاء في
زمان قبل زمان مجيئه، أي متقدم عليه، ولذا صح وقوعه صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه
الوصف وكان ظرف زمان مجرداً لم يجز أن يقع صلة، قال تعالى (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) ولا يجوز: والذين اليوم. اهـ
قوله: (نتجت ... ).
بالبناء للمفعول.
قوله: (ومعنى ما جعل: ما شرع ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان: ولم يذكر النحويون في معاني جعل: شرع، فالأولى جعلها بمعنى صيَّر
والمفعول الثاني محذوف أي: ما صير الله بحيرة مشروعة بل هي من شرع غير الله تعالى.
اهـ
قوله: (الواو للحال).
قال الشيخ سعد الدين: الزمخشري يجعل الواو في مثل هذا الموضع للحال، مع أنَّ ما
دخلته الواو ليس حالاً من جهة المعنى بل ما دخلته لو، أي: ولو كان الحال أنَّ
آباءهم لا يعلمون، وبعضهم على أنَّها للعطف على مقدر. اهـ
قوله: (من رأى منكم منكرًا ... ) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد.
(3/312)
قوله: ( ... على ليقم).
قال أبو حيان: هذا مخالف لقول النحاة: لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا إن أشعر
بالفعل ما قبله كقوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ ... ) الآية، أو أجيب به نفي أو
استفهام، وليست الآية واحداً من الثلاثة، فالذي عندي تخريجها على وجهين: أحدهما:
أن تكون (شَهَادَةَ) منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و (اثْنَانِ) مرتفع
به، والتقدير: ليشهد بينكم اثنان، فيكون من باب ضربا زيداً، إلا أن الفاعل في ضربا
مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه: اضرب، وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه: ليشَهد،
الثاني: أن يكون مصدراً لا بمعنى الأمر بل خبراً ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان
ذلك قليلاً كقوله: وقوفاً بها صحبي علي مطيهم، فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله
وقوفاً فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير: وقف صحبي على مطيهم،
والتقدير في الآية: يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان. اهـ
قوله: (من الذين جُنى عليهم).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن استحقاق الإثم عليهم كناية عن هذا المعنى، وذلك
لأنَّ معنى استحق الشيء: لاقَ به أن ينسب إليه، والجاني للإثم (المرتكب له يليق أن
ينسب إليه الاثم)، ثم استحق الإثم في معنى ارتكبه وجناه، فالذي استحق عليهم الإثم
أي: جُني عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة. اهـ
قوله: (ومعنى الآيتين: أنّ المحتضر ... ) إلى آخره.
قال الطيبي: هذا تلخيص المعنى وهو في غاية من الجودة.
قال: واعلم أنَّ هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب. قاله الزجاج.
وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من
الأحكام.
وقال الإمام: اتفق المفسرون على أنَّ هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً
(3/313)
وحكماً. اهـ
قوله: (روي أنّ تميماً الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام ... ) الحديث.
أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس.
قوله: ((يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف له).
قال الحلبي: فيه نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا.
قال: وفي تقدير الزمخشري: لا يهديهم طريق الجنة نُحوٌ إلى مذهبه من أنَّ نفي
الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى، ولذلك خصص المهدي إليه ولم يذكر غيره،
والذي سهل ذلك عنده أيضاً كونه في يومٍ لا تكليف فيه، وأما في دار التكليف فلا
يجيز المعتزلي أن ينسب إلى الله تعالى نفي الهداية مطلقاً. اهـ
قوله: (وقيل: بدل من مفعول (واتقوا)).
قال أبو حيان: فيه بعد لطول الفصل بالجملتين. اهـ
وقال الحلبي: لا بعد فإنَّ هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى. اهـ
قوله: (بدل الاشتمال).
زاد في الكشاف: كأنه قيل: واتقوا الله يوم جمعه. اهـ
قال العلم العراقي في الإنصاف: بدل الاشتمال هنا ممتنع، لأنه لا بد فيه من اشتمال
البدل على المبدل منه (أو اشتمال المبدل منه) على البدل، وهنا يستحيل ذلك، وإنما
يتم ذلك ببيان الإضمار، فإن تقديرها: واتقوا عذاب الله يوم. .، فيكون حينئذ بدلاً
لاشتمال اليوم على العذاب. اهـ
وكذا قال الحلبي: لابد من حذف مضاف على هذا الوجه حتى تصح له هذه العبارة
(3/314)
التي ظاهرها ليس بجيد، لأنَّ الاشتمال لا يوصف به الباري تعالى
على أي مذهب فسرناه من مذاهب النحويين في الاشتمال، والتقدير: واتقوا عقاب الله
يوم يجمع رسله، فإنَّ العقاب مشتمل على زمانه، أو زمانه مشتمل عليه، أو عاملها
مشتمل عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدل الاشتمالي. اهـ
وقال ابن المنير: إذا أعرب بدلاً يكون منصوباً مفعولاً به لا ظرفاً. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية
والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف، بل
بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي، مثلاً إذا قيل: اتقوا
الله، يتبادر الذهن إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم (من أيام) أفعاله يجب
الاتقاء يوم جمعه للرسل وللأمم أم غير ذلك. اهـ
قوله: (أو منصوب بإضمار اذكر).
قال ابن المنير: وعلى هذا يكون مفعولاً به. اهـ
تنبيه:
قال أبو حيان: ذكروا في نصب (يَومَ) سبعة أوجه، بإضمار اذكر، أو احذر، أو بـ
اتقوا، أو بـ اسمعوا، أو بـ لا يهدي، أو على البدل، أو على الظرف والعامل فيه مؤخر
تقديره: يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت.
قال: والذي نختاره غير ما ذكر، وهو أن يكون معمولاً لقوله (قَالُوا لا عِلْمَ
لَنَا)، أي: قال الرسل وقت جمعهم. اهـ
قوله: (أو بأي شيء أجبتم، فحذف الجار).
قال الطَّيبي: لم يلتفت صاحب الكشاف إلى هذا القول. اهـ
قوله: (أي: إنك الموصوف بصفاتك المعروفة).
زاد الكشاف: ومن العلم وغيره. اهـ
(3/315)
قال الطَّيبي: والتركيب حيننئذ من باب: أنا أبو النجم وشعري
شعري. اهـ
قوله: (و (عَلاّم) منصوب على الاختصاص).
قال الحلبي: يعني بالاختصاص النصب على المدح، لا الاختصاص الذي هو شبيه بالنداء
فإن شرطه أن يكون حشوا. اهـ
قوله: (أو النداء).
زاد في الكشاف: أو هو صفة لاسم إنَّ. اهـ
قال الطَّيبي: قيل: وفيه نظر لأنَّ اسم إنَّ ضمير، والضمير لا يوصف.
قال: وأجيب بأنَّ النظر مدفوع لأنه يذكر الأقوال المذكورة وبعضهم جوز وصف الضمير،
وهذا بناءً على ذلك المذهب. اهـ
وقال أبو حيان: أجمعوا على أنَّ ضمير المتكلم والمخاطب لا يجوز أن يوصف، وإنما جرى
الخلاف في ضمير الغائب. اهـ
وقال الحلبي: يمكن أن يقال: أراد بالصفة البدل، وهي عبارة سيبويه، يطلق الصفة
ويريد البدل، فله أسوة بإمامه، ولكن يبقى فيه البدل بالمشتق وهو أسهل من الأول.
قال: ولم أرهم خرجوه على لغة من ينصب الجزأين بـ (إن) ولو قيل به لكان جواباً. اهـ
قال الطَّيبي: لا ارتياب أنَّ الكلام إذا انقطع عند قوله (أَنْتَ) كما صرح به لم
يكن لقوله تعالى (عَلاّمُ الْغُيُوبِ) تعلق إعراب به، فلا وجه لجعله صفة نحوية،
فيكون التقدير: يا علام الغيوب، على النداء، أو اذكر علام الغيوب على المدح، أو
أعني علام الغيوب على الوصف والتفسير، فإن الجملة الثانية بيان للجملة الأولى من
حيث الصفة التي يستند عليها المقام على طريقة: أنا أبو النجم، وأنت تعلم أنَّ نحو
هذا التركيب لا يفيد معنى بنفسه ما لم يستند إلى ما ينبيء عن وصف خاص، وههنا لما
قيل: إنك أنت الموصوف بأوصافك لم يعلم أنَّ الصفة التي يقتضيها المقام ما هي فقيل:
(3/316)
علام الغيوب، للكشف والبيان للاحتياج إلى تعيين ما يقتضيه
المقام، وقوله: (شعري شعري على الوصف الذي يستدعيه أنا، أي: أنا ذلك المشهور
بالبلاغة والفصاحة) وشعري هو البالغ في الكمال. اهـ
قوله: (بدل من (يوم يجمع))
قال الطَّيبي: لما كان البدل كالتفسير للمبدل وكان قوله (مَاذَا أُجِبْتُمْ)
مبهماً أجاب بقوله (إِذ قَالَ ... ) إلى آخر السورة بياناً وتفصيلاً لذلك المجمل،
وأوضح أنَّ الجواب كان جواب رد لا قبول، ولهذا قال: والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة
يومئذ، وختم الآية بقوله (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاّ
سِحْرٌ مُبِينٌ). اهـ
قوله: (وقرئ: آيَّدْتُكَ).
زاد في الكشاف: على أفعلتك. اهـ
وقال ابن عطية: على وزن فاعلتك. اهـ
وقال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب، فإن كان يؤايد فهو فاعل، وإن
كان يؤيد فهو أفعل. اهـ
قوله: (ويؤيده قوله (تُكَلِّمُ النَّاسَ ... )) إلى آخره.
قال الطَّيبي: أي الدليلُ على أنَّ المراد بروح القدس الكلام إيقاعُ قوله
(تُكَلِّمُ النَّاسَ ... ) إلى آخره إما بياناً للجملة الأولى أو استئنافاً. اهـ
قوله: (والمعنى: تكلمهم ... ) إلى آخره.
قال الطيبي: يعني فائدة انضمام (كَهْلاً) مع (الْمَهْدِ) هذا، فعلى هذا يكون
الثاني تابعاً للأول.
قال: والأحسن ما في كلام الإمام أنَّ الثاني أيضاً معجزة مستقلة، لأنَّ المراد
يكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين ينزل من السماء في آخر الزمان، لأنه حين
رفع
(3/317)
لم يكن كهلاً. اهـ
قوله: (فيكون تنبيهاً على أن ادعاءهم الإِخلاص مع قولهم. (هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) لم يكن بعد عن تحقيق
واستحكام معرفة).
قال الحلبي: هذا القول خارق للإجماع، وقال ابن عطية: لا خلاف أحفظه أنهم كانوا
مؤمنين، وأجيب عن الآية بأجوبة منها: أنَّ معناها هل يفعل ربك، وهل يقع منه إجابة
لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتوضأ؟ أي هل تحب ذلك؟. اهـ
وقال ابن المنير: هو من التعبير عن المسبب بالسبب لأنَّ الاستطاعة من أسباب
الإيجاد أي: هل يفعل، تقول للقادر هل تستطيع كذا مبالغة في التقاضي فيكون إيمانهم
سالماً. اهـ
قال الواحدي: لا يدل قولهم على الشك كما تقول لصاحبك هل تستطيع أن تقوم. اهـ
قال الزجاج: يحتمل أنَّهم أرادوا أن يزدادوا تبياناً وتثبيتاً كقول إبراهيم صلى
الله عليه وسلم (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى).
وقال البغوي: لم يقولوا شاكين في قدرة الله تعالى ولكن معناه: هل يُنزل أم لا؟.
اهـ
قال الطَّيبي: ويقوي ذلك قولهم (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) وقوله تعالى (فَمَنْ
يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ)، ولأنَّ وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل،
فإن الله سبحانه أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله تعالى
(كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ ... ) الآية، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح
الزبير بقوله: إنَّ لكل نبيٍّ حواريًّا وإن حواري الزبير. اهـ
(3/318)
قوله: (أو من ماده إذا أعطاه).
قال الطَّيبي: روى الزجاج عن أبي عبيدة أنَّها مفعولة ولفظها فاعلة، نحو (عِيشَةٍ
رَاضِيَةٍ). اهـ
وقال الزجاج: إنَّها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها. اهـ
قوله: (وقيل: العيد السرور).
قال الطيبي: فعلى هذا الضمير يعود إلى المائدة، ولا يحتاج إلى تقدير المضاف. اهـ
قوله: (وقيل: يأكل منها أولنا وآخرنا).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ التكرار في (أولنا) لرفع التفاوت بين قوم وقوم، يعني: لا
تفاوت بين من يأكل أولاً وبين من يأكل آخراً لإنزال الله سبحانه البركة فيها،
ومثله في التكرير المعنوي قوله تعالى (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين. اهـ
قوله: (عَذَابًا) (أي: تعذيباً).
قال أبو البقاء: (عَذَابًا) اسم المصدر الذي هو التعذيب كالسلامة بمعنى التسليم،
فيقع موقعه. اهـ
قوله: (ويجوز أن يجعل مفعولاً به على السعة).
قال الحلبي: إطلاق العذاب على ما يعذب به كثير، لكن ليس لقائل أن يقول: كان الأصل:
بعذاب، ثم حذف الحرف فانتصب المجرور به لأن ذلك لا يطرد إلا مع إنَّ وأنَّ بشرط
أمن اللبس. اهـ
قوله: (الضمير للمصدر).
قال الكواشي: المعنى لا أعذب مثل تعذيب الكافر بالله تعالى وبعيسى عليه الصلاة
والسلام بعد نزول المائدة أحداً من العالمين. اهـ
(3/319)
قوله: (أو للعذاب إن أريد به ما يعذب على حذف حرف الجر).
قال أبو البقاء: يجوز أن يكون الهاء للعذاب، وفيه وجهان: أنَّ يكون على حذف حرف
الجر، أي: أعذب به أحداً، وأن يكون مفعولاً به على السعة، ويجوز أن يكون ضمير
المصدر المؤكد نحو: ظننته زيداً منطلقاً، ولا تعود الهاء على العذاب الأول.
فإن قلت: (لا أُعَذِّبُهُ) صفة لـ (عذاب) وحينئذٍ لا راجع من الصفة إلى الموصوف؟
قلت: لما وقع الضمير موقع المصدر والصدر جنس عام و (عَذَابًا) نكرة كان الأول
داخلاً في الثاني، نحو: زيد نعم الرجل. اهـ
قوله: (ولا تجعلها مثلة).
قال الطَّيبي: أراد بالمثلة العقوبة القريبة مثل المسخ. اهـ
قوله: ((قَالَ سُبْحَانَكَ) أي: أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك).
قال الطَّيبي: فإن قلت قوله (اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)
لا يقتضي الشركة بل يقتضي اتخاذهما إلهين من دونه على أنه يوهم إنكار الإفراد
ولأنهم لو اتخذوهما إلهين معه كان جائزاً لأنك إذا قلت: اتخذت فلاناً من دوني
حبيباً، جاز إنكار إفراده بالاتخاذ؟ وأجاب الراغب بأن قوله (مِن دُونِ اللهِ)
يحتمل وجهين: أحدهما: إنكار اتخاذهما معبودين، وعدم اتخاذه معبوداً، وذلك أنَّهم
لما عبدوهما معه كان عبادتهم له غير معتد بها لأن الله تعالى لا يرضى أن يُعبد معه
غيرُه، والثاني: أنَّ (دُون) هاهنا للقاصر عن الشيء، وهم عبدوا المسيح وأمه كيما
يوصلا إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا (مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) فكأنه قيل: أأنت قلت للناس
اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله، قال: سبحانك، منزهاً عن ذلك. اهـ
قوله: (وقوله (فى نفسك) للمشاكلة).
قال الطَّيبي: يعني لو لم يقل ما في نفسي لم يجز أن يقال (وَلا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ)، لأنه لا يجوز أن يطلق على الله تعالى ابتداءً اسم النفس.
قال الراغب: ويجوز أيضاً أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه بها فكأنه قال تعالى
(3/320)
(ما في نفسي) ولا نفس لك فأعلم ما فيها، كقول الشاعر:
ولا يرى الضب بها ينجحر
أي لا ضب ولا جحر بها فيكون من الضب الانجحار. اهـ
قوله: (تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه).
أي لأفادته الحصر.
قوله: ((أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) عطف بيان للضمير في (به)).
قال أبو حيان: هذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام. اهـ
وقال السفاقسي: هو وإن كان في الأعلام أكثر لكن لا يمنع وقوعه في غيرها، وقد أجازه
أبو علي في غيرها من القرآن، وهو قوله تعالى (شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ)
قال إنه عطف بيان، على أنَّ ما ذكره المصنف من حيث المعنى حسن جداً. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: لا يجوز أن يكون عطف بيان على الهاء في (به) لأن عطف
البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أنَّ الضمير لا ينعت كذلك لا
يعطف عليه عطف بيان، ووهم الزمخشري حيث أجاز ذلك ذهولاً عن هذه النكتة، ممن نص
عليها من المتأخرين أبو محمد بن السيد وابن مالك والقياس معهما في ذلك. اهـ
وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ في حاشيته على المغني وتبعه البدر ابن
(3/321)
الدماميني: ليست هذه النكتة من القوة بحيث يُوهَّم الزمخشري
بالذهول عنها، ولعله لم يذهل وإنما رآها غير معتبرة بناءً على أنَّ ما يتنزل منزلة
الشيء لا يلزم أن تثبت جميع أحكامه له، ألا ترى أنَّ المنادى المفرد المعين منزل
منزلة الضمير ولذلك بُني، والضمير لا ينعت ومع ذلك لا يمتنع نعت المنادى. اهـ
قوله: (أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقاً ليلزم بقاء
الموصول بلا راجع).
تصريح بمخالفة الزمخشري حيث منع من كونه بدلاً، وعلله بأنك لو أقمت (أَنِ
اعْبُدُوا اللهَ) مقام الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصول
راجع إليه من صلته، وقد أطبق الناس على الرد على الزمخشري في ذلك.
قال ابن المنير: هذا لا يمنع البدل فقد قال في مفصله: وقولهم إن البدل في حكم
تنحية الأول يؤذن باستقلاله ومفارقته للتأكيد والصفة في كونهما اسمين لما يتبعانه
لا أن يعنوا إهدار الأول واطراحه، تقول: زيداً رأيت غلامه رجلاً صالحاً، ولو أهدرت
الأول لم يسند كلامك، ثم إنه لم يفرق في المفصل بين عطف البيان والبدل إلا في مثل
قوله: أنا ابن التارك البكري بشر، وأنَّ المعتمد في عطف البيان الأول والثاني
موضح، وفي البدل المعتمد الثاني والأول توطئة وبساط له. اهـ
وقال أبو حيان: لا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز
النحويين: زيد مررت به أبي عبد الله، ولو قال زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز إلا
على رأي الأخفش. اهـ
وقال ابن هشام: وهم الزمخشري فمنع أن يكون بدلاً من الهاء ظناً منه أن المبدل منه
في قوة الساقط فتبقى الصلة بلا عائد، والعائد موجود حساً فلا مانع. اهـ
وكذا قال صاحب الفرائد وصاحب التقريب.
(3/322)
لكن وافق الحلبي الزمخشري فقال رداً على أبي حيان: قوله إنَّ
حلول البدل محل المبدل منه غير لازم، واستشهاده بما ذكر غير مسلم، لأن هذا معارض
بنصهم على أنه لا يجوز: جاء الذي مررت به أبي عبد الله، بحرِّ عبد الله بدلاً من
الهاء، وعللوه بأنه يلزم بقاء الموصول بلا عائد، ويكفيه كثرةُ قولهم في مسائل: لا
يجوز هذا لأنَّ البدل يحل محل المبدل منه، فيجعلون ذلك علة مانعة يعرف ذلك من عانى
كلامهم. اهـ
قوله: (ولا يجوز إبداله بـ (ما أمرتني به) فإن المصدر لا يكون مفعول القول).
عبارة الكشاف: لأن العبادة لا تقال. اهـ
وتعقبوه أيضاً، فقال ابن المنير: إن لم تقل العبادة فيقال الأمر بها، فإذا جعلت
موصولة مع فعل الأمر فمجازه: ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة على طريقة (ثُمَّ
يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهو متعلق القول لا نفسه وكذلك
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ). اهـ
وقال أبو حيان: قوله لأن العبادة لا تقال صحيح لكن يصح ذلك على حذف مضاف أي: ما
دلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله أي القول المتضمن عبادة الله.
اهـ
وقال الحلبي: وفيه بعض جودة. اهـ
وقال السفاقسي: فيه تعسف. اهـ
وقال ابن هشام: إنْ أُوِّل القول بالأمر كما فعل الزمخشري في وجه التفسير به جاز
كونه بدلاً من (ما)، وقد فاته هذا الوجه هنا فأطلق المنع، فإن قيل: لعل امتناعه من
إجازته، لأن (أمر) لا يتعدى بنفسه إلى الشيء المأمور به إلا قليلاً، فكذا ما أول
به؟ قلنا: هذا لازم له على توجيه التفسير به. اهـ
وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال: معناه: ما قلت لهم إلا عبادته، بالنصب،
(3/323)
أي: الزموا عبادته فيكون هو المراد بـ (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)،
ويصح كون الجملة وهي الزموا عبادته بدلاً من (مَا أَمَرْتَنِي) من حيث إنَّها في
حكم المفرد لأنَّها مقولة و (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) مفرد لفظاً وجملة ومعنى. اهـ
قوله: (ولا أن تكون (أن) مفسرة، لأنَّ الأمر مستند إلى الله تعالى وهو لا يقول:
اعبدوا الله ربى وربكم).
قال الطَّيبي: فيه نظر، لم لا يجوز أنه نقل معنى كلام الله تعالى بهذه العبارة،
كأنه قيل: ما قلت لهم شيئاً سوى قولك لي قل لهم أن اعبدوا الله، كما سبق في قوله
تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) على قراءة التحتية.
اهـ
وقال ابن المنير: يجوز على حكاية معنى قول الله تعالى بعبارة أخرى، كأنه قال: مرهم
بعبادتي، وقال على لسان عيسى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فحكاه
عيسى عليه الصلاة والصلام فكنى عن اسمه كما قال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا) وكذلك آية الزخرف (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إلى قوله (فَأَنْشَرنا). اهـ
وقال أبو حيان: يستقيم ذلك على جعل (اعْبُدُوا اللهَ) فقط هو المفسر ويكون (رَبِّي
وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى عليه الصلاة والسلام على إضمار أعني لا على الصفة لله.
اهـ
وردَّ الحلبي على أبي حيان: بأن ذلك في غاية البعد عن الأفهام، والمتبادر إلى
الذهن أن (رَبِّي) تابع للجلالة. اهـ
وكذا قال السفاقسي: فيه خروج عن الظاهر باقتطاع (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من جملة
(اعْبُدُوا) وجعله على إضمار فعل، والزمخشري إنما ألزم المحذور على ظاهر اللفظ.
اهـ
(3/324)
وقد اعتمد ابن الصائغ كلام أبي حيان فقال في حاشية المغني: يمكن
أن يقال المحكى ًإنما هو (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وقوله (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من
كلام عيسى عليه الصلاة والسلام أردف به الكلام المحكي تعظيماً لله تعالى، كما قال
الزمخشري في قوله تعالى حكاية عن اليهود (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ): ويجوز أن يضع الله تعالى الذكر الحسن مكان ذكرهم
القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه الصلاة والسلام كما يذكرونه وتعظيماً لما
أرادوا بمثله.
وقال ابن الحاجب في أماليه: فإن أحكى: حاك كلاماً، فله أن يصف المخبر عنه بما ليس
في كلام الشخص المحكي عنه.
ثم قال ابن الصائغ: ويمكن أن يصرف التفسير إلى المعنى بأن يكون عيسى عليه الصلاة
والسلام قد حكى قول الله تعالى بعبارة أخرى، وكأنه تعالى قال له مرهم بأن يعبدوني،
ومرهم بأن يعبدوا الله ربك وربهم، فعبر عيسى عليه الصلاة والسلام عن نفسه بطريق
التكلم وعنهم بطريق الخطاب، ونظيره في الحكاية بالمعنى قوله تعالى (فَحَقَّ
عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ) والأصل: إنكم لذائقون. اهـ
وحكى هذين الوجهين البدر الدماميني ثم قال: ولا يمتنع أيضاً أن يكون الله تعالى
قال لعيسى عليه الصلاة والسلام: قل لهم اعبدوا الله ربي وربكم، فحكاه كما أمر به
ولا إشكال. اهـ
قوله: (والقول لا يفسر).
قال ابن المنير: أجاز بعضهم وقوع (أن) المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما
في معناه فيقع حينئذ مفسراً له، اهـ
قوله: (ألا أن يؤول القول بالأمر ... ) إلى آخره.
فيه أمور: الأول: قال صاحب الفرائد: تأويل القول لا يصح إذا كان في التقسيم قسم
يصح، لأن التأويل عند الضرورة. اهـ
الثاني: قال ابن المنير: هذا التأويل تكلف ولا طائل تحته. اهـ
(3/325)
الثالث: قال أبو حيان: تجويز كون (أن) هنا مفسرة لا يصح،
لأنَّها جاءت بعد (إِلاّ)، وكل ما كان بعد (إِلاّ) المستثنى بها فلا بد أن يكون له
موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. اهـ
وقال السفاقسي: الذي بعد (إِلاّ) هو و (مَا) موضعها نصب بـ (قُلْتُ)، و (أن)
التفسيرية للجملة المتقدمة على (إِلاّ) وهي (مَا قُلْتُ لَهُمْ) المتضمن معنى ما
ًأمرتهم. اهـ
واستحسن ابن هشام في المغني جواب الزمخشري الرابع.
قال الشيخ سعد الدين: في جعل (أن) المفسرة لفعل الأمر المذكور صلته -مثل: أمرته
بهذا أن قم- نظر، أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغنٍ عن الآخر، وأما في
الاستعمال فلأنه لا يوجد. اهـ
قوله: (على أنه ظرف لـ (قال)).
قال أبو البقاء ثم الطَّيبي: أي قال الله هذا القول في يوم ينفع، والقول هو (يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وجاء على لفظ
الماضي نحو (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) وليس ما بعد (قَال) على الحكاية في
هذا الوجه كما في الوجه الآخر. اهـ
قوله: (وليس بصحيح لأنّ المضاف إليه معرب).
هذا على مذهب البصريين ومذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره جواز بناء المضاف
إلى معرب.
قوله: (من قرأ سورة المائدة).
الحديث رواه ابن مردويه والثعلبي والواحدي وابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي،
وهو موضوع كما بيناه في آخر سورة آل عمران.
* * *
(3/326)
سورة الأنعام
قوله: (والجعل فيه معنى التضمين).
قال الشيخ سعد الدين: أي جعل شيء في ضمن شيء بأن يحصل منه، أو يصير إياه، أو ينقل
منه أو إليه، وبالجملة فيه اعتبار شيئين وارتباط بينهما. اهـ
قوله: (وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها).
أي بخلاف النور فإنه جنس واحد وهو النار.
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل الأجرام النيرة كثيرة كالكواكب، وقد ذكر في سورة
البقرة أنَّ النور ضوء النار وضوء كل نير، ولو سلم فأفراد النور كثيرة قطعاً،
فاتحاد جنس منشأ النور لا يقتضي إفراد اللفظ؟ قلنا: مرجع كل نير إلى النار كما
قال: إن الكواكب أجرام نورانية نارية، وإن الشهب منفصلة من نار الكواكب، فيصح أن
النور من جنس النار فقط، وأنه ضوء النار وضوء الكواكب وغيره، وإفراد اللفظ للقصد
إلى هذا المعنى، وهو غير القصد إلى الجنس. اهـ
قوله: (عطف على قوله تعالى الحمد لله ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني أن الكفر يصح أن يحمل على معنى الشرك تارة وعلى كفران النعمة
أخرى، وبحسب هذين المعنيين يدور معنى (يَعْدِلُونَ) وتعلق الباء، فإذا جعل بمعنى
الكفران يجب أن يعطف على (الْحَمْدُ للهِ) لأن الحمد بإزاء النعمة ولا نعمة أعظم
من إخراج الممكنات إلى الوجود، فـ (يَعْدِلُونَ) على هذا من العدول، والباء صلة
(كَفَرُوا) على حذف المضاف، أي: كفروا بنعمة ر بهم، وإذا جعل بمعنى الشرك يجب أن
يعطف على (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) لأنَّ كفرهم بتسويتهم الأصنام بخالق السماوات
والأرض كما قالوا (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، فـ (يَعْدِلُونَ)
على هذا بمعنى يسوون ليستقيم معنى الشرك، والباء متعلقة به، وعلى الوجهين قوله
تعالى (بِرَبِّهِمْ) مظهر أقيم مقام المضمر للعلية، وعلى الأول معناه
(3/327)
التربية، وعلى الثاني المالكية والقهر، والحمد على الأول محمول
على الشكر اللساني، وعلى الثاني النداء على الجميل. اهـ
ًقال صاحب الانتصاف: في العطف على قوله (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) نظر،
لأنَّ العطف على الصلة يوجب الدخول في حكمها، ولو قلت: الحمد لله الذي الذين كفروا
بربهم يعدلون لم يستقم، ويحتمل أن يقال: وضع الظاهر موضع المضمر تفخيماً، ومجازه:
الذي يعدل به الذين كفروا، أو الذي الذين كفروا بربهم يعدلون به، فساغ وقوعها صلة
لهذا، ونظيره (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) فيمن جعلها موصولة لا
شرطية، لأنَّ الظاهر وضع فيه موضع المضمر، تقديره: ثم جاءكم رسول مصدق له، لكن في
آية الأنعام نظر إذ يصير تقديرها: الحمد لله الذي الذين كفروا به يعدلون، ووقوعه
بعد الحمد غير مناسب، فالوجه هو الأول. اهـ
ولذا قال أبو حيان: هذا الوجه الثاني لا يجوز، ووجهه بمثل ما ذكره صاحب الانتصاف
ثم قال: إلاّ أن يخرج على قولهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، فكأنه قيل: ثم
الذين كفروا به يعدلون، وهذا من الندور بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل عليه كتاب الله
تعالى. اهـ
وكذا قال ابن هشام إنه ضعيف.
وقال الحلبي بعد حكايته كلام أبي حيان: الزمخشري إنما يريد العطف بـ (ثم) لتراخي
ما بين الرتبتين، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرح به هو فكيف يلزمه ما ذكر
من الخلو عن الرابط، وكيف يتخيل كونها للمهملة في الزمان؟. اهـ
وقال الطَّيبي بعد حكايته كلام الانتصاف: وليس بذاك لأنه من باب عطف حصول مضمون
الجملتين لقوله إنه خلق كذا ثم هم يعدلون به، يعني: حصل من الله تعالى
(3/328)
خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور للمكلفين ليعرفوه
ويوحدوه ويعبدوه فحصل منهم عكس ذلك حيث سووا معه غيره، نحو قوله تعالى
(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، فموقعه الفاء في الظاهر فجيء
بـ (ثم) للاستبعاد، ولأنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر لأنه ابتداء كلام الكفار،
على أنه لو قيل: ثم الكافرون والمشركون كان ظاهراً أيضاً، فإن قلت: الحمد هو
النداء على الجميل من نعمة أو غيرها فما معنى هذا الترتيب؟ قلت: معناه بيان فضله
وكمال حكمته ورحمته، كأنه قيل: ما أحلمه وما أرحمه لما يصدر منه تلك الفضائل
والأنعام ويقابل بذلك الكفر والكفران ولا يصب عليهم العذاب صباً، كما في قوله تعالى
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا). اهـ
قوله: (ومعنى (ثم) استبعاد عدولهم).
قال الشيخ سعد الدين: إنما لم يحمل (ثم) على التراخى مع استقامته لكون الاستبعاد
أوفق بالمقام. اهـ
قال الطَّيبي: ذيل كل من الآيتين بكلمة الاستبعاد بحسب ما يقتضيه من المعنى، أما
هذه الآية فلما تضمنت دلائل الآفاق من الأجرام والأعراض ذكر منها أعظمها جِرْماً
في النظر وأشملها متناولاً للأعراض ليدخل في الأول سائر الأجسام من الكبير
والصغير، وفي الثاني جميع الأعراض الظاهرة والخفية، ولهذا فسره الزجاج: بالليل
والنهار، والقاضي: بالضلال والهداية، والدليل على الاستيعاب والجمع في أحد
المكررين والإفراد في الآخر لأن في ذكر الأرض والنور مفردين واقترانهما بالجمعين
إشعاراً بإرادة الجنسية في الإفراد والاستغراق في الجمع، وفي ذكر الخلق والجعل
إشارة إلى استيعاب الإنشائين، ثم إنَّ الله تعالى بعد هذا الكلام الجامع والبيان
الكامل نعى على الكفار بقوله عز وجل (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ) يعني: انظروا إلى هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الأدلة كيف يتركون عبادة
خالق الأرض
(3/329)
والسماوات ويشتغلون بعبادة الحجارة والموات، وأما الآية الثانية
فلمّا اشتملت على دلائل الأنفس ذكر فيها المبدأ والمنتهى تصريحاً، ولوح إلى ما
يتوسطها تلويحاً ذكر خلقهم من طين، ونص على الأجلين وعبر بـ (ثم) دلالة على أطوار
ما في البين من النطفة والعلقة والمضغة المخلقة وغير المخلقة والنشوء حياً ثم
الطفولة والشباب والشيخوخة إلى الموت، ونبه بذكر الامتراء والعدل من الغيبة في
قوله (بِرَبِّهِمْ) إلى الخطاب في قوله عز وجل (أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) على التنبيه
من رقدة الغفلة والجهالة، وأن دلائل الأنفس أقرب الدلائل وأدق، وهي التي يضطر معها
الناظر إلى المعرفة التامة.
وتلخيص المعنى: أنَّ دلائل الآفاق موجبة لإزالة الشرك وإثبات التوحيد فناسب أن
يستبعد منهم الشرك مع وجودها، وأن دليل الأنفس مقتض لحصول اليقين فناسب أن يستبعد
منهم الامتراء، واعلم أنَّ قطب هذه السورة الكريمة يدور مع إثبات الصانع ودلائل
التوحيد وما يتصل بها، انظر كيف جعل احتجاج الخليل على قومه ومآله إلى قوله
(إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، وكيف أوقع أمر حبيبه صلوات الله
وسلامه عليه بقوله (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) بعد ذكر معظم الأنبياء واسطة العقد
ولجة بحر التوحيد، ثم تفكر في قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) كيف جاءت خاتمة لها! فسبحان
من له تحت كل سورة من كتابه الكريم بل كل آية وكلمة أسرار تنفد دون نفاد بيانها
الأبحر. اهـ
قوله: (والباء على الأول متعلقة بـ (كفروا) ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: هذا تخصيص من غير مخصص لتأتي التقديرين على كل من الوجهين.
اهـ
قوله: (و (أجل) نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغنى عن تقديم الخبر).
قال أبو حيان: لا يتعين هنا أن يكون المسوغ الوصف، لأنه يجوز أن يكون المسوغ
التفصيل فإنه من مسوغات الابتداء بالنكرة. اهـ
(3/330)
قال الحلبي: لم يقل المصنف إنه تعين ذلك حتى يلزمه به، وإنما
ذكر الوصف لأنه أشهر منه في المسوغات. اهـ
قوله: (والاستئناف لتعظيمه).
قال ابن المنير: هذا لا يوجب التقديم وقد ورد (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)
والمراد تعظيمها. اهـ
وقال الطَّيبي: ما يكون معظماً مفخماً فلا بد أن يكون مهتماً بشأنه، والاهتمام
موجب للتقديم. اهـ
زاد الشيخ سعد الدين: وأما تقديم الظرف في (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلإفادة
الاختصاص. اهـ
قوله: (متعلق باسم الله نعالى).
عبارة الكشاف: بمعنى اسم الله تعالى. اهـ
وهي أحسن.
قال الطَّيبي: قال الزجاج: لو قلت: هو زيد في المدينة؛ لم يجز إلا أن يكون في الكلام
دليل على أنَّ زيداً يدبر أمر المدينة.
ونقل أبو البقاء عن أبي علي أنه قال: لا يجوز أن يتعلق باسم الله تعالى، لأنه صار
بدخول الألف واللام والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ
لَهُ سَمِيًّا).
قال الطَّيبي: والزمخشري اختار مذهب الزجاج، وزاد عليه في الاعتبار، فأوَّل
التركيب على وجوه: أحدها: جعل اسم الله تعالى مشتقاً من أَلِهَ يأله إذا عبد،
فالإله
(3/331)
: فعال في معنى المفعول، أي المألوه المعبود ثم تصرف فيه فصار
(الله)، وهو المراد من قول الكشاف: وهو المعبود فيهما، وثانيها: جعل معنى شهرته في
الإلهية عاملاً في الظرف، كما تقول: هو حاتم في طيء، على تضمين معنى الجود الذي
اشتهر به كأنك قلت: هو جواد في طىء، ومنه قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي: أنا
ذلك المشهور في الفصاحة وشعري هو المعروف بالبلاغة، وهو الذي عناه صاحب الكشاف
بقوله: وهو المعروف بالإلهية.
قال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال (فِي السَّمَاوَاتِ) حال مؤكدة، أي: (وَهوَ اللهُ)
معروف في السماوات والأرض، كقولك: هو زيد معروفاً في العالم.
وقال المالكي: لا يكون الحال المؤكد بها خبر جملة جزأها معرفتان جامدتان إلا بلفظ
دال على معنى ملازم أو شبيه بالملازم في تقديم العلم به والعامل فيها أحقه أو
أعرفه.
وثالتها: أن يكون رداً على المشركين في إثبات إله غيره.
قال الزجاج: هو المنفرد بالتدبير في السماوات والأرض، خلافاً للقائل المخذول إن
المدبر فيهما غيره.
وإليه الإشارة بقول الكشاف: المتوحد بالإلهية فيهما.
قال ابن الحاجب: وفائدة قولك: أنا زيد، وهو زيد الإخبار عما كان يجوز أنه متعدد
بأنه واحد في الوجود وهذا إنما يكون إذا كان المخاطب قد عرف مسميين في ذهنه أو
أحدهما فيذهنه والآخر في الوجود، فيجوز أن يكونا متعددين، فإذا أخبر المخبر
بأحدهما عن الآخر كان فائدته أنهما في الوجود ذات واحدة.
(3/332)
ورابعها: أن يكون مأخوذاً من قوله تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّا)، وهو المراد من قول الكشاف: وهو الذي يقال له الله فيها لا يشرك به في
هذا الاسم، وهو اختيار أبي علي. وخامسها: أن لا يكون (فِي السَّمَاوَاتِ) متعلقاً
بالاسم، وذلك بأن يكون خبراً بعد خبر، ومعناه: أنه عالم بما فيهما، كقوله (وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) أي: بالعلم والقدرة. اهـ
ولخصه الشيخ سعد الدين فقال: لا خفاء ولا خلاف في أنه لا يجوز تعلقه بلفظ الله
تعالى لكونه اسماً لا صفة وكذا في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) لأن (إِلَه) اسم وإن كان بمعنى المعبود كالكتاب
بمعنى المكتوب بل هو متعلق بالمعنى الوصفي الذي تضمن اسم الله كما في قولك: هو
حاتم في طيء حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد، والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن
يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم -أعني المعبودية- وأما ما اشتهر به الاسم من
الألوهية وصفات الكمال ودلت عليه (وَهُوَ اللهُ) مثل: أنا أبو النجم وشعري شعري،
أي: هو المعروف بذلك في السماوات وفي الأرض، أو ما يدل عليه التركيب الحصري من
التوحد والتفرد بالألوهية، أو ما تقرر عند الكل من مقولية هذا الاسم عليه خاصة،
فهذه أربعة أوجه وأما الخامس فهو أن يكون (فِي السَّمَاوَاتِ) خبراً آخر للمبتدأ،
ومعنى كونه فيهما: أنه عالم بما فيها على التشبيه والتمثيل شبهت حالة علمه بها
بحالة كونها فيها، لأن العالم إذا كان في مكان كان عالماً به وبما فيه بحيث لا
يخفى عليه شيء، ويجوز أن يَكون كناية فيمن لم يشترط جواز المعنى الأصلي، ولا
يستقيم الكلام بدون هذا المجاز أو الكناية وكذا قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ). اهـ
قلت: والمصنف اقتصر من الأوجه المذكورة على الأول والخامس وترك الثلاثة لأنها
قريبة المعنى من الأول، وقال في قوله تعالى (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ):
إنه بيان وتقرير لجملة (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)، أي:
إيضاح لمعنى العلم المراد منهما على الوجه الأخير وهو الوجه الخامس، لأنه على الأول
استئناف كما في الكشاف.
قال الطَّيبي: إنه لما قيل هو المعبود فيها اتجه لسائل أن يسأل: فما شأنه مع
عابديه
(3/333)
حينئذ؟ فأجيب: يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون فيجازيهم على
أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وكذا على الوجه الثاني والرابع، ويقدر السؤال: بماذا عرف فيهما؟ وما وصفه فيهما؟
فقيل: وصفه فيهما بالعلم الشامل الكلي والجزئي، وأما على الثالث فهو بيان وتقرير
كالخامس. اهـ
قوله: (وليس متعلقاً بالمصدر لأن صلته لا تتقدم).
يريد بالمصدر السر والجهر، أي ليس قوله (فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)
متعلقاً بهما على معنى أنه يعلم السر والجهر الكائنين في السماوات والأرض لهذا
المانع النحوي.
وقد وهى ابن هشام في المغني هذا الكلام فقال: وقد أجيز في قوله تعالى (وَهُوَ
اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) تعلقه
بـ (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، ورد بأن فيه تقديم وتأخير معمول المصدر، وتنازع
عاملين في متقدم، وليس بشيء لأن المصدر هنا ليس مقدراً بحرف مصدري وصلته، ولأنه قد
جاء نحو (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) والظرف متعلق بأحد الوصفين قطعاً،
فكذا هنا. اهـ
وقال الشيخ بدر الدين ابن الدماميني متعقباً على ابن هشام: ولا نسلم ذلك، ولم لا
يجوز أن يكون مقدراً بما يسرون وما يجهرون. اهـ
وقال شيخنا الإمام تقي الدين الشمني: ليس السر بمصدر، ففي الصحاح: السر الذي يكتم،
وإذا لم يكن مصدراً لا يقدر بحرف مصدري وصلته، وأما الجهر فهو مصدر إلا أنه أريد
به هنا ما يقابل السر، وهو الذي لا يكتم لا معناه المصدري، فلا يكون هنا مقدراً
بحرف مصدري وصلته، ولا يخفى أنَّ المراد هنا بصلة الحرف المصدري فعل ذلك المصدر
المقدر، وحينئذ فقول الدماميني: إنه يقدر بما يسرون
(3/334)
ليس بظاهر لأنه يسر فعل الأسرار لا السر.
قوله: (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ): (مِنْ) الأولى مزيدة
للاستغراق، والثانية للتبعيض).
قال ابن الحاجب: .......................
(وقال الشيخ سعد الدين في توجيه التبعيض): لأنَّ الآية الواحدة وإن استغرقت في حكم
النفي فهي بعض من جميع الآيات، وحملها على التبيين كما زعم ابن الحاجب إنما يستقيم
لو كانت النكرة في النفى بمعنى جميع الأفراد، وما قال إنَّها لو كانت تبعيضية لما
كانت الأولى استغراقية ممنوع لصحة قولنا ما يأتيهم بعض من الآيات أيُّ بعض كان.
اهـ
قوله: (أي: ما يظهر لهم دليل قط ... ).
قال أبو حيان: فيه استعمال قط مع المضارع وليس بجيد لأنها ظرف مختص بالماضي. اهـ
قوله: (أو عند ظهور الإسلام).
قال الطَّيبي: فإن قلت: اتصال قوله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ) بما قبله على أنَّ المراد بالإنباء ظاهر، لمناسبة الاعتبار بترول
العذاب على الأمم السالفة بالتهديد والوعيد، فما وجه اتصاله به إذا أريد به ما
قال: عند ظهور الإسلام؟ قلت: معناه: فسوف يأتيهم أنباء القرآن ومن نزل عليه عند
ظهور تباشير الظفر ونصر الله الإسلام وقهر أعداء الدين وغلبة أوليائه، أَوَلم يروا
كم أهلكنا من قبلهم من المكذبين ونصرنا الأنبياء، وضعفة المؤمنين على من هم أشد من
هؤلاء. اهـ
قوله: (كما مثل جبريل فى صورة دحية).
أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه
(3/335)
وسلم في صورة دحية الكلبي.
وأخرج الطبراني عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان جبريل يأتيني على
صورة دحية الكلبي، وكان دحية رجلاً جميلاً.
قوله: (حيث أهلكوا لأجله).
قال الطَّيبي: يعني أن قوله (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) من إطلاق السبب
على المسبب، لأنَّ المحيط بهم هو العذاب لا المستهزأ به، ولما كان سبباً له وضع
موضعه للمبالغة. اهـ
قوله: (والفرق بينه وبين قوله (قل سيروا) ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يريد الأمر على الأول واحد مقيد، وعلى الثاني شيئان، والأول مباح،
والثاني واجب لدلالة (ثم).
قال صاحب التقريب: إنما لم يحمل على التراخي وعدل إلى المجاز إذ واجب النظر في
آثار الهالكين حقه أن لا يتراخى عن السير.
قال الطَّيبي: ويمكن أن يأمرهم بالسير أولاً وبالنظر ثانياً على الوجوب، ويكون
الثاني أعلى مرتبة لأن الكلام مع المنكرين، كما تقول: توضأ ثم صل، والآية مع الفاء
متضمنة للتنبيه على الغفلة والتوبيخ على التغافل، ومع (ثم) للتعبير على التواني
والتقاعد. اهـ
قوله: (سؤال تبكيت).
في الأساس: ومن المجاز: بكته بالحجة أي: غلبه، وبكته: ألزمه ما عيّ بالجواب عنه.
اهـ
قال الطَّيبي: يعني إذا سئلوا عن قوله تعالى (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ)؟
(3/336)
لا محيد لهم إلا أن يقولوا الله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). اهـ
قوله: (تقرير لهم).
قال الشيخ سعد الدين: أي إلجاء إلى الإقرار بأن الكل لله، لأنَّ هذا من الظهور
بحيث لا يقدر أحد أن ينكره. اهـ
وحكاه الطَّيبي بـ (قيل) ثم قال: والأولى أنَّ يكون من تقرير الشيء إذا جعل في
مكانه.
قال الجوهري: قررت عنده الخبر حتى استقر.
أي قرر الجواب لأجلهم، فكأنَّ قولُه قولهَم لأنه لا خلاف بينه وبينهم، وهذا هو
المراد من (قوله: لا خلاف بيني وبينكم). اهـ
قوله: (أنه المتعين للجواب بالاتفاق).
قال الإمام: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالسؤال أولاً والجواب
ثانياً، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ من الظهور إلى حيث
لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه مدافع. اهـ
قوله: (أو رفع على الخبر، أي: وأنتم الذين).
قال الحلبي: إنما قدر المبتدأ (أنتم) ليرتبط مع قوله تعالى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ)
وقوله تعالى (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من مراعاة الموصول. اهـ
قوله: ((وله) عطف على (للهِ)).
قال الشيخ سعد الدين: يجوز أنه يريد من عطف المفرد على المفرد، أعني الخبر على
الخبر والمبتدأ على المبتدأ، كما تقول في له الملك وله الحمد: إنَّ (له) عطف على
(له) و (الحمد) على (الملك)، وأنه يريد أن (وَلَهُ مَا سَكَنَ) عطف على لله
(3/337)
ما في السماوات والأرض بعد حذف المبتدأ والخبر بقرينة السؤال،
والأول أظهر، والمقصود أن يدخل هذا أيضاً تحت (قُل) ليكون احتجاجاً ثانياً على
المشركين، أي: لله ما استقر في الأمكنة وله ما استقر فى الأزمنة، ولذا جعل
(سَكَنَ) من السكنى دون السكون إذ لا وجه للسكون على التحريك في مقام البسط
والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. اهـ
وقال صاحب التقريب: إنما أدرجه تحت (قل) ولم يجعله مستأنفاً كما هو السابق إلى الفهم
ليكون احتجاجاً ثانياً على المشركين، وإيذاناً بأنَّ له ما استقر في الأمكنة وما
استقر في الأزمنة. اهـ
قوله: (من السكنى).
قال الطَّيبي: مقصوده من جعله من السكنى دون السكون التعميم والشمول، إذ لو جعل من
السكون الذي يقابل الحركة لفات الشمول. اهـ
قوله: (وتعديته بـ (في) كما في قوله تعالى: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ)).
قال الطَّيبي: يعني سكن من السكنى جاء متعدياً بنفسه وبـ (في).
قال في الأساس: سكنوا الدار وسكنوا فيها، وأسكنتهم الدار وأسكنتهم فيها. اهـ
قوله: (وهو (السميع) لكل مسموع (العليم) بكل معلوم).
قال الطَّيبي: المناسب أن يكون مردوداً إلى المعطوف والمعطوف عليه، أي: يعلم كل
معلوم من الأجناس المختلفة في السماوات والأرض، ويسمع هواجس كل ما يسكن في الليل
والنهار من الحيوان وغيره. اهـ
قوله: (فلذلك قدم وأولى الهمزة).
قال الشيخ سعد الدين: يعني قدم المفعول للاختصاص، وأولى حرف الاستفهام ليدل على
أنَّ الإنكار راجع إلى نفس المفعول لا إلى الفعل. اهـ
قوله: (وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى (فاطر) حتى أتاني
أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها).
(3/338)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن جرير في تفسيره.
قوله: (وجره على الصفة لله).
خرجه أبو البقاء على البدل.
قال أبو حيان: وكأنه رأى أن الفصل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين
المنعوت والنعت لأنه على تكرار العامل. اهـ
قوله: (يَرزقُ ولا يُرزقُ).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المعنى على خصوص المطعم بل مطلق النفع تعبيراً عن
كل الشىء بمعظمه. اهـ
قوله: (على أنَّ الضمير لغير الله)
أي في قوله (وهو يُطعم) على البناء للمفعول.
قال الطَّيبي: وفيه إشكال، لأنَّ الكلام مع عبدة الأصنام والأصنام لا توصف بأنها
تطعم، وليس الكلام مع اليهود والنصارى ليقال المسيح وعزير يَطعم ولا يُطعم.
قال: والجواب أنَّ المقصود من قوله تعالى (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) إذا أخذ
بمريديه أنه يُربَّى ولا يُربِّى كقوله تعالى (لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: صح ذلك بالنظر إلى إطلاق غير الله تعالى فإن منه من يُطعَم
كالمسيح من معبودات الكفرة فغلب أو ورد على طريقتهم في إطعام الأصنام. اهـ
قوله: (وقيل لي لا تكونن).
قال الشيخ سعد الدين: عطفاً على (أُمِرْتُ) لظهور أنه لا يصح عطف (وَلا
تَكُونَنَّ) على (أَنْ أَكُونَ) إذ لا وجه للالتفات، ولا معنى لقولك: أمرت أن لا
تكونن. اهـ
(3/339)
قوله: ((فقد رحمه) نجاه وأنعم عليه).
قال الشيخ سعد الدين: لما اتحد ظاهر الشرط والجزاء احتيج إلى التأويل ليفيد. اهـ
وقال صاحب الانتصاف: لو بقيت الرحمة على لفظها لما زاد الجزاء على الشرط، لأن صرف
العذاب رحمة فاحتيج إلى التأويل. اهـ
قوله: (فكان قادرًا على حفظه وإدامته).
قال الشيخ سعد الدين: بيان لوجه ارتباط الجزاء بالشرط. اهـ
وقال الطَّيبي: يريد أن قوله (فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جواب للشرط
مقابل لقوله تعالى (فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ) وكان الظاهر أَن يقال (فَلا
رَادَّ لِفَضْلِهِ) كما في آية يونس، لكن جيء به هنا عاماً ليشتمل على ذلك وغيره
وليتصل به قوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ). اهـ
قوله: (تصوير لغيره).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تخييلية فلا تلزم الجهة. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون (الله شهيد) هو الجواب).
قال الطَّيبي: أي المجموع، فعلى هذا هو من باب الأسلوب الحكيم، يعني: شهادته
معلومة لا كلام فيها وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم مبيِّن لدعواي بإنزال هذا
الكتاب الكريم، وإذا ثبت أن الله تعالى شاهد لي يلزم، فأكبر شيء شهادةً شهيد له.
اهـ
(3/340)
وعبارة الشيخ سعد الدين: كأنه قيل: معلوم أن الله تعالى هو
الأكبر شهادة، ولكن الكلام الأنسب بالمقام هو الإخبار بأن الله تعالى شهيد لي
لينتج مع قولنا الله أكبر شهادة (أنَّ الأكبر شهادة) شهيد لي. اهـ
وقال أبو حيان: هذا الوجه أرجح من الأول، لأنه لا إضمار فيه مع صحة معناه، وفي
الأول إضمار أولاً وآخراً. اهـ
قوله: (الذين خسروا أنفسهم من أهل الكتاب والمشركين).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس إشارة إلى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)
خاصة، ولذا كان مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، لا نصباً على الذم أو رفعاً
كما في ما تقدم. اهـ
قوله: (وإنما ذكر (أو) وهم قد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أنّ كلاً منهما وحده
بالغ غاية الإفراط فى الظلم على النفس).
قال الطَّيبي: يعني في مجيء (أو) وأنهم قد جمعوا بين الكذب والتكذيب إشارة إلى
أنَّ كل واحد منهما بلغ في الفظاعة بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فإنَّ الثابت أحد
الأمرين، وهم في الجمع بينهما كمن جمع بين أمرين متناقضين. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: معنى جمعهم بين الأمرين أنَّهم ذهبوا إليهما جميعاً، لكن
ورد في النظم كلمة (أو) لأنَّ المعنى أنه لا أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف من
جمع بينهما. اهـ
قوله: ((وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) منصوب بمضمر).
زاد في الكشاف: متأخر تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام
الذي هو داخل في التخويف. هـ
والذي ذكره ابن عطية وأبو البقاء أنه بإضمار (اذكر).
(3/341)
قوله: (وإنما سماه فتنة لأنه كذب).
قال الطيبي: يعني إنما سمي الجواب فتنة لأنَّ قولهم (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) كان
كذباً، والكذب سبب لإيقاع الإنسان في الفتنة وورطة الهلاك، فعلى هذا قولهم
(وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) مجرىً على ظاهره، و (ثُمَّ) للتراخي في
الرتبة، يعني أن جوابهم هذا أعظم في تشويرهم من توبيخنا إياهم بقولنا (أَيْنَ
شُرَكَاؤُكُمُ)، وهذا الداعي إلى وضع الفتنة موضع الجواب، وعلى الأول -وهو تفسير
الفتنة بالكفر- قولهم (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) كناية عن التبري
عنهم، وانتفاء التدين به، و (ثُمَّ) مجرىً على ظاهره، كقوله: ثم لم تكن عاقبة
كفرهم. اهـ
قوله: (والتأنيث للخبر كقولهم: من كانت أمك).
قال صاحب التقريب: في الاستشهاد به نظر، لأنَّ (من) تذكر أو تؤنث. اهـ قال
الطَّيبي: وأجيب أنَّ (من) إنما يذكر ويؤنث باعتبار مدلوله وإيهامه وشيوعه
كالمشترك، وأما لفظه فليس إلا مذكر. اهـ
قوله: (وقيل معناه: وما كنا مشركين عند أنفسنا).
قال الجبائي: فيه مستند إلى أنَّ أهل المحشر لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم
يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيلجؤن إلى ترك القبيح.
والجمهور على خلافه وإن الكذب عليهم في الآخرة جائز بل واقع واستدلوا بآيات كثيرة،
وحمل هذه الآية على أنَّ المراد: ما كنا مشركين في ظنوننا واعتقادنا مخالفةٌ
للظاهر.
قوله: (وحمله على كذبهم فى الدنيا تعسف).
قال الشيخ سعد الدين: أي أخذٌ على غير الطريق، لأن الآية لا تدل على هذا المعنى
بوجه ولا تنطبق عليه لأنَّها في شأن حشرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا، بل تنبو
(3/342)
عنه أشد نبو لأنَّ أول الكلام (ويومَ نَحْشُرُهمْ) وآخره
(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وذلك في أمر القيامة لا غير. اهـ
قوله: (يخل بالنظم).
قال الطَّيبي: لما فيه من صرف أول الآية إلى أحوال القيامة وآخرها إلى أحوال
الدنيا. اهـ
قوله: (خرافات).
قال الشيخ سعد الدين: قيل أصل الخرافة: ما اخترف من الفواكه من الشجر، ثم جعل
اسماً لما يتلهى به من الأحاديث.
وفي المستقصى: أنه رجل من خزاعة استهوته الجن فرجع إلى قومه وكان يحدثهم
بالأباطيل، فكانت العرب إذا سمعت ما لا أصل له قالت: حديث خرافة، ثم كثر حتى قيل
للأباطيل: خرافات. اهـ
قلت: روى البزار عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث ذات ليلة نساءه حديثاً،
فقالت امرأة منهن: هذا حديث خرافة.
قال: أتدرون ما خرافة؟ كان رجلاً من عذرة أسرته الجن فمكث فيهم دهراً ثم ردوه إلى
الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة.
وفي الصحاح: الخرافات بتخفيف الراء الأباطيل والأكاذيب جمع خرافة، اسم رجل من عذره
استهوته الجن وكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا حديث خرافة، ويروي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: وخرافة حق.
والراء فيه خفيفة، ولا تدخل الألف واللام لأنه معرفة علم إلا أن يراد به الخرافات
الموضوعة في حديث الليل.
(3/343)
قوله: (ويجوز أن تكون الجارة (وإذا جاءوك) في موضع الجر).
قال الشيخ سعد الدين: هذا مبني على أنَّ (إذا) عنده ليس بلازم بالظرفية بل يجري
عليه إعراب الأسماء. اهـ
وقال أبو حيان: ما جوزه في (إذا) بعد (حتى) من كونها مجرورة تبعه عليه ابن مالك في
التسهيل، وهو خطأ كما بينّاه في شرحه. اهـ
قوله: (استئنافُ كلام منهم على وجه الإثبات).
قال الشيخ سعد الدين: أي دون التمني يريد أنه ليس عطفاً على (نُرَدُّ) ليدخل تحت التمني
ويكون المعنى: ليتنا لا نكذب، بل هو عطف على التمني عطف أخبار على إنشاء وهو جائز
باقتضاء المقام. اهـ
وقال الطَّيبي: قال صاحب المرشد: التقدير يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب ونحن من
المؤمنين رددنا أو لم نُرد، فلا يدخلان في جملة التمني، ويرتفعان على أنه استئناف
خبر. اهـ
قوله: (كقولهم: دعنى ولا أعود).
قال الطَّيبي: قال صاحب الإقليد: وهو كالشرح لكلام ابن الحاجب، وإنما ذكر هذا
الرفع لتعذر النصب والجزم على العطف، أما النصب فيفسد المعنى، إذ المعنى على هذا:
يجتمع تركك لي وتركي لما تنهاني عنه، وقد علم أن طلب هذا المتأدب لترك المؤدب إياه
إنما هو في الحال بقرينة ما عداه من ألمه بتأديب مؤدبه، وغرض المؤدب الترك لما نهى
عنه في المستقبل، ولا يحصل هذا الغرض بترك المتأدب المنهي عنه في الحال، وإنما
يحصل بالترك للعود في المستقبل، ولا يستقيم الجزم لأنه إذا جزم عطفاً أدى إلى عطف المعرب
على المبني وهو ممتنع إذ العطف لاشتراك الشيئين في الإعراب ولا موضع للأول حتى
يحمل عليه، وأما امتناع الجزم في (ولا أعود)
(3/344)
فلما فيه من عطف الجملة المنهية على الأمرية، فكأنه قال: دعني،
ثم شرع في الجملة الأخرى ناهياً لنفسه عن العود، لأنه لا يلزم من النهي تحقق
الامتناع والمقصود نفي وقوع العود في المستقبل ولا يحصل هذا إلا بالخبر. اهـ
قوله: (أو عطف على (نرد)).
قال الشيخ سعد الدين: والمعنى على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب. اهـ
قوله: (على الجواب بإضمار (أن) بعد الواو).
(قال أبو حيان: ليس كذلك فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب لأن الواو لا
تقع جواب الشرط، فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو مع
يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها، وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد
محاملها الثلاثة: وهي المعية ويميزها (من الفاء) تقدير موضعها كما أن فاء الجواب
إذا كان بعدها فعل منصوب ميزها تقدير شرطٍ قبلها أو حالٍ مكانها، وشبهة من قال
إنَّها جوابٌ أنَّها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنَّها جواب.
قال: ويوضح لك أنَّها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل
بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط. اهـ
وقال الحلبي: سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج فقال: نصب على الجواب
بالواو في التمني. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: أما قراءة النصب فعلى تقدير: ليت لنا ردٌ أو عدم تكذيب
(3/345)
، فإن إضمار (أن) بعد الواو كإضمارها بعد الفاء، وما ذكر من
معنى الجزائية والسببية أي: إن رددنا لم نكذب، ففيه نظر. اهـ
قوله: (أو على (إنهم لكاذبون)).
قال الطَّيبي: هو من عطف الخاص على العام. اهـ
قوله: ((وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) مجاز عن الحبس للسؤال).
قال الشيخ سعد الدين: لاستحالة حقيقتة. اهـ
وقال الطَّيبي: لا يجوز أن يقال وقفوا على الله حقيقة ولا كناية، لأنَّ الكناية لا
تنافي إرادة الحقيقة، فوجب الحمل على المجاز، أي الاستعارة التمثيلية. اهـ
قوله: (غاية لـ (كذبوا) لا لـ (لخسر)، لأن خسرانهم لا غاية له).
قال الطَّيبي: ويمكن أن يحمل على قوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ)، أي: إنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى يوم الدين ثم إذا جاء ذلك
اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه، أي: خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع من المحن
والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون في ما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران
المبين.
قال: وهذا أقرب مما قاله المصنف، لأن قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ
عَلَى ظُهُورِهِمْ) مقارن بالتحسر المذكور في الآية وهو غير مناسب إلا بالحشر. اهـ
قوله: (أضمرت وإن لم يجر لها ذكر).
قال الشيخ سعد الدين: يعني في هذا المقال وبالنسبة إلى هؤلاء القائلين، وأما قوله
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فمقالٌ آخر وقوم آخرون. اهـ
وقال الطَّيبي: فإن قلت: أما سبق قُبيل هذا (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا)
(3/346)
وضع الظاهر موضع المضمر؟ قلت: لا ارتياب أن القائلين لقوله
(إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) هم الناهون عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم من كفار قريش، وإن قوله (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ)
إلى قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) كالاعتراض والتوكيد لما يتضمن معنى الكلام السابق
واللاحق من التهديد والوعيد لاشتماله على جميع من أنكر الحشر وسوء مغبتهم وإظهار
حسرتهم وندامتهم ووخامة أمر حياة الدنيا، وليس المقام من مجاز وضع المظهر موضع
المضمر لأن الاعتراض مستقل بنفسه ولا تعلق له بالسابق إلا من حيثُ المعنى. اهـ
قوله: ((وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) تمثيل لاستحقاق آصار
الآثام).
قلت: بل هو على حقيقته كما وردت به الآثار.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ
عَلَى ظُهُورِهِمْ) قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه
أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسه حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال له: ما
أقبح وجهك؟ قال: كذلك كان عملك قبيحاً.
قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك كان عملك منتناً.
قال: ما أدنس ثيابك؟ فيقول: إن عملك كان دنساً.
قال: من أنت؟ قال: أنا عملك.
قال فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا
باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني، فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك
قوله عز وجل (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس الملائي: أن المؤمن إذا خرج من قبره
استقبله عمله في أحسن صورة وأطيبه ريحاً، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أنَّ
الله قد طيب ريحك وحسن صورتك.
فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت
اليوم، وتلا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا).
(3/347)
وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل
تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك.
فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الذي طالما ركبتني في الدنيا، وأنا اليوم
اركبك، وتلا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا
يَزِرُونَ).
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن قيس عن أبي مرزوق مثله.
قوله: (وقوله (للذين يتقون) تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو).
قال الطَّيبي: وذلك أن الظاهر أن يقال: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وما الدار
الآخرة إلا جد وحق لا باطل زائل، فوضع موضعه (خَيْرٌ لِلَّذِينَ) إطلاقاً لاسم
المسبب على السبب. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لأنه لما خص خيرية أعمال الآخرة بالمتقين -وهي في مقابلة
أعمال الدنيا- أي لعب ولهو، فما ليس من أعمال المتقين ليس من أعمال الآخرة وما ليس
من أعمال الآخرة فهو من أعمال الدنيا، وأعمال الدنيا لعب ولهو، فما ليس من أعمال
المتقين لعب ولهو. اهـ
قوله: (معنى (قد) زيادة الفعل وكثرته).
قال أبو حيان: هذا قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم، وما استشهدوا به عليه
فالتكثر فيه لم يفهم من (قد)، وإنما فهم من سياق الكلام، لأن الفخر والمدح إنما
يحصلان بكثرة وقوع المفتخر به والممدوح به، وعلى تقدير أن تكون (قد) للتكثير في
الفعل وزيادته لا يتصور ذلك في قوله (قَدْ نَعْلَمُ) لأنَّ علمه تعالى لا يمكن فيه
الزيادة والتكثير. اهـ
(3/348)
وقال الحلبي: قد يجاب عن هذا بأن التكثير في متعلقات العلم لا
في العلم. اهـ
ولذا قال السفاقسي: قد تصبح الكثرة باعتبار المعلومات. اهـ
وقال الطَّيبي: يعني أن لفظة (قد) للتقليل ثم يراد به في بعض المواضع ضده وهو
الكثرة كقوله تعالى (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا
مُسْلِمِينَ)، والنكتة ههنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه
وتكذييهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا
يعلم الله من إظهارك الشكوى إلا قليلاً، أو يكون تهكماً بالمكذبين وتوبيخاً لهم
لقوله تعالى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللهِ يَجْحَدُونَ). اهـ
قوله: (كما في قوله: وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ)
هو لزهير ابن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري وأولها:
صحى القلب عن سلمى واقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله
قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: مما يستجاد له قوله:
وذي نعمة تممتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحق باطله
دفعت بمعروف من القول صائب ... إذا ما أضل القائلين تفاضله
وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يُلْمِمْ به فهو قائله
عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب نوافله
غدوة عليه غدوة فوجدته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله
يفدِّينه طوراً وطوراً يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله
فأعرضن منه عن كريم مرزإٍ ... جموع على الأمر الذي هو فاعله
أخي ثقة لا تهلك الخمر رأسه ... ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
(3/349)
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: يريد جوده ذاتي ليس مما يحدث بالسكر.
قوله: (ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها).
قال الشيخ سعد الدين: لما كان ظاهر الكلام كالمتناقض بناءً على أنَّ الجحود
بالآيات المنزلة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب له فيما يدعيه من النبوة
والشرائع أجيب بأنَّ المراد ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما
يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي. اهـ
قوله: (روي أنَّ أبا جهل كان يقول: ما نكذبك ... ).
الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديث علي.
قوله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، وفيه دليل على أن قوله عز وجل (لا يُكَذِّبُونَكَ) ليس بنفى تكذيبه
مطلقاً).
قال ابن المنير: لا يدل لأنه لا يصح أيضاً مع نفي التكذيب، أي: هؤلاء لم يكذبوك
فحقك أن تصبر لأن من قبلك كذبوا وصبروا فأنت أجدر ولكنه أقرب من وجه آخر إذ قد ورد
مثل هذه التسلية صريحاً في قوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ). اهـ
قوله: ((وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي: من قصصهم).
قال أبو حيان: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنَّ (من) لا تكون فاعلة، والذي
يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي:
وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب
أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نُصروا. اهـ
(3/350)
وقال ابن عطية: الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان. اهـ
وقال الرماني: تقديره ولقد جاءك نبأ.
قوله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ).
قال الشيخ سعد الدين: وإنما أتى فيه بلفظ كان ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب
مستقبلاً، لأن كان لقوة دلالته على المعنى لا تقلبه كلمة (إن) إلى الاستقبال بخلاف
سائر الأفعال. اهـ
قوله: (وصفه به قطعاً لمجاز السرعة)
قال الشيخ سعد الدين: للقوم كلام في أنَّ هذا من قبيل الصفة أو التأكيد أو عطف
البيان، والأول هو الوجه، وكذا في قوله سبحانه وتعالى (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ
اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
قوله: (روي أنه يأخذ للجماء من القرناء).
أخرجه البخاري ومسلم.
قولة: (وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشرها موتها).
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قوله: (بل الفعل معلق أو المفعول محذوف).
اختار أبو حيان أنَّ المسألة من باب التنازع، وأنَّ (أَرَأَيْتَكُمْ) والشرط
تنازعا في عذاب الله تعالى فأعمل الثاني وهو (أَتَاكُمْ) فارتفع (عَذَابُ اللهِ)
به فاعلاً، ولو أعمل الأول لنصب مفعولاً أول، وأما المفعول الثاني لـ
(أَرَأَيْتَكُمْ) فهو الجملة الاستفهامية (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) والرابط لها
بالمفعول الأول محذوف تقديره: أغير الله تدعون لكشفه، والمعنى: قل أرأيتكم عذاب
الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله سبحانه تدعونه لكشفه أو كشف نوازلها.
(3/351)
تنبيه: لم يتعرض المصنف لبيان جواب الشرط وهو (إِنْ أَتَاكُمْ)،
وقد جعله الحوفي (أَرَأَيْتَكُمْ)، قُدم لدخول الهمزة عليه، ورُدَّ بأن تقديم جواب
الشرط عليه ممنوع عند البصريين، وجعله الزمخشري محذوفاً تقديره: فمن تدعون، وقدره
غيره: دعوتم الله، ودل عليه (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ)، و جوز الزمخشري كونه جملة
(أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ)، ورده أبو حيان بأن جملة الاستفهام المصدرة بالهمزة لا
يجوز أن تقع جواباً للشرط، قال: والذي عندي أنه محذوف تقديره: فأخبروني عنه، دل عليه
(أَرَأَيْتَكُمْ) لأنه بمعناه.
قوله: (وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف
الضر دون غيره، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (وَتَنسَوْن) مجاز عن الترك، أو هو حقيقة. اهـ
ونقل الإمام أنَّ بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق فقال له جعفر: هل ركبت
البحر؟ قال: نعم.
قال: هل رأيت أهواله؟ قال: نعم، هاجت يوماً رياح هائلة فكسرت السفن، وغرق
الملاحون، فتعلقت ببعض ألواحها ثم ذهب عني اللوح فدفعت إلى تلاطم الأمواج حتى وصلت
الساحل.
قال جعفر: قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح وعلى اللوح فلما ذهبت هل
سلمت نفسك إلى الهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد؟ قال: بل رجوت السلامة.
قال: ممن؟ فسكت، فقال جعفر: إن الصانع هو الذي كنت ترجوه ذلك الوقت، وهو الذي
أنجاك، فأسلم الرجل.
قوله: (مراوحة)
بالراء والحاء المهملة: وهو العمل بأحد العملين بمرة وبالآخر أخرى، من راوح بين
الرِّجْلين: قام على إحداهما مرة وعلى الأخرى أخرى.
(3/352)
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: مكر بالقوم ورب
الكعبة).
لم أقف عليه مرفوعاً إنما هو من قول الحسن أخرجه ابن أبي حاتم عنه بزيادة: أعطوا
حاجتهم ثم أخذوا، لكن روى أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عقبة بن
عامر مرفوعاً: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو
استدراج ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلما نسوا ما ذكروا به) الآية والتي
بعدها.
قوله: (نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها).
قال الطَّيبي: هذا يؤذن أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) كما قال
الكواشى إخبار بمعنى الأمر، أي: احمدوا الله، وكذا كل ما ورد في القرآن من هذا.
اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لأن مثل هذا تعليم للعباد ومقول على ألسنتهم. اهـ
(قوله: (يأتيكم به) أي: بذلك).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن ضمير (به) عائد إلى السمع والإبصار والقلوب بتأويل
اسم الإشارة، وإفراد اسم الإشارة بتأويل المذكور. اهـ
قوله: ((بَغْتَةً) من غير مقدمة ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: (جَهْرَةً) لا تقابل (بَغتة) من حيث اللفظ، لأنَّ مقابل الجهرة
الخفية، لكن معنى (بَغتَة): وقوع الأمر من غير شعور، فكأنها في معنى خفية، فحسن
لذلك أن يقال (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً). اهـ
قوله: (أي: ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب).
قال الشيخ سعد الدين: قيد بذلك ليستقيم الحصر، إذ غير الظالمين أيضاً يهلكون لكن لا
تعذيباً وسخطاً بل إثابة ورفع درجة. اهـ
(3/353)
قوله: (ولم نرسلهم (1) ليقترح عليهم ويتلهى بهم).
قال الطَّيبي: يعني: يلعب بهم ويسخر.
قال: وهو إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). اهـ
قوله: (جعل العذاب ماساً لهم، كأنه الطالب للوصول إليهم).
قال الطَّيبي: يجوز أن يريد أن الاستعارة واقعة في المس فتكون تبعية، أو في العذاب
فتكون مكنية، والظاهر الثاني. اهـ
وبذلك جزم الشيخ سعد الدين فقال: جعل العذاب من قبيل الأحياء استعارة بالكناية.
اهـ
قوله: (وهو من جملة المفعول).
قال أبو حيان: الظاهر أنه معطوف على (لا أَقُولُ) لا معمول له، فهو أُمر أن يخبر
عن نفسه بهذه الجمل الثلاث، فهذه معمولة للأمر الذي هو (قُل). اهـ
وقال الحلبي: في الإعراب الأول نظر من حيث أنه يؤدي إلى أن يصير التقدير: ولا أقول
لكم لا أعلم الغيب، وليس بصحيح. اهـ
قلت: كلا بل التقدير: ولا أقول لكم أعلم الغيب، فالقول صحيح مضمر بين (لا) و
(أَعْلَمُ)، لا بين الواو و (لا).
قال الشيخ سعد الدين: لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب، وإنما الفائدة في
الإخبار بأني لا أقول ذلك، ليكون نفياً لادعاء الأمرين اللذين هما خواص الإلهية،
ليكون المعنى: إني لا أدعى الإلهية ولا الملكية، ويكون تكرير (إِنِّي مَلَكٌ) دون
(لا أَعْلَمُ) إشارة إلى هذا المعنى، و (لا) في (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) مزيدة
مذكرة للنفي، وفي (لا أَقُولُ) يحتمل المذكرة والنافية. اهـ
قوله: (تبرأ عن دعوى الإلهية والملكية).
_________
(1) في الأصل (ولم يرسلهم) والتصويب من تفسير البيضاوي. (مصحح النسخة
الإلكترونية).
(3/354)
قال الطَّيبي: جعل مجموع قوله (عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ) و
(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عبارة عن معنى الإلهية، لأن قسمة الأرزاق بين العباد
ومعرفة علم الغيب مخصوصتان به، ولهذا كرر في الملكية لفظ (لا أَقُولُ).
قال: وهذا يهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على
تفضيل الملك على البشر، لأنَّ الترقي لا يكون من الأعلى إلى الأدنى يعني من
الإلهية إلى الملكية. اهـ
قوله: (مثل للضال والمهتدي).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ هذه الخاتمة كالتذييل الذي يقع في آخر الكلام على سبيل
التمثيل، وقوله (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) كالتتميم للتذييل والتنبيه على مكان
التذييل، ثم المذيَّل إما ما سبق من أول هذه السورة وجميع ما جرى له مع القوم من
الدعوة إلى الحق وإبائهم إلا الباطل وإما ما سبق من قوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ
مَا يُوحَى إِلَيَّ) فالبصير من يتبع ما يوحى إليه، والأعمى من لا يرفع به رأساً،
أو من قوله (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) فالأعمى من يدعي هذا والبصير من يتبع الوحي
ويدعي النبوة. اهـ
قوله: (أو مدعى المستحيل كالألوهية والملكية).
قال ابن المنير: دعوى الملكية من الممكنات، لجواز أن يجعل الله تعالى البشر ملكاً
والملك بشراً ويدل عليه قوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ
رَجُلاً)، ولأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها. اهـ
قال العلم العراقي: ومن البين في ذلك قوله تعالى (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أطمع آدم في أن يصير مَلَكاً
والنبي لا يطمع في مستحيل. اهـ
وحكى ذلك الطَّيبي وأقره.
(3/355)
وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل دعوى الملكية من الممكنات، أي من
دعوى الأمور الممكنة، لأنَّ الجواهر متماثلة يجوز أن يقوم بكلها ما يقوم ببعضها،
ولهذا لما قيل لآدم (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ
أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أقدم على الأكل طمعاً في الملكية مع أن النبي لا يطمع
في المحال فالجواب: أنَّ المقدمات على تقدير تمامها إنما تفيد إمكان أن يصير البشر
ملكاً، وأما أن يكون ملكاً فلا، لتمايزهما بالعوارض المتنافية بلا خلاف، وهذا كما
أنَّ كلاً من العناصر يجوز أن يصير الآخر لا أن يكون، وعلى هذا ينبغي أن يحمل طمع
آدم لو سلم نبوته، وكونه نبياً عند الأكل. اهـ
قوله: (هم المؤمنون المفرطون في العمل، أو المجوزون للحشر ... ).
قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن الإنذار بالقرآن والوحي لقصد ترتب التقوى عليه
إنما ينجع ويؤثر في من يكون له تقصير ويتوقع فيه اعتقاد أن يحشر من غير ولي ولا
شفيع، فلذا فسر (الَّذِينَ يَخَافُونَ) المفرطين في العمل، أو بالكفرة الخائفين من
الحشر، وجعل قوله (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) حالاً من
الحشر، إذ لا يتصور حصول الاتقاء للمؤمنين المتقين، ولا يؤثر الإنذار في الكفرة
المتمردين، ولا في الذين يعتقدون مجرد الحشر من غير اعتقاد أن لا ولي سوى الله
تعالى ولا شفيع. اهـ
قوله: (ينجع).
أي: يؤثر.
قوله: (روي أنهم قالوا: لو طردت هؤلاء الأعبد).
الحديث أخرجه هكذا وفيه قول عمر ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة مرسلاً، وأخرجه
بنحوه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبيهقي في الذيل من حديث خباب وليس فيه ذكر قول
عمر.
(3/356)
قوله: (والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام).
قال الطَّيبي: يقولون أنا عند فلان صباحاً ومساء، ويريدون الدوام. اهـ
قوله: (وإن كان لهم باطن غير مرضي).
قال أبو حيان: فكيف يفرض هذا وقد أخبر الله تعالى بإخلاصهم في قوله تعالى (يريدون
وجهه) وإخباره هو الصدق الذي لا شك فيه. اهـ
قوله: (ويجوز عطفه على (فتطردهم) على وجه التسبب).
قال الشيخ سعد الدين: دفع لما يتوهم من أنه لو جعل عطفاً على جواب النفي لصح أن
يقع جواباً للنفي، وليس كذلك إذ لا معنى لقولك: ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم
فتكون من الظالمين. اهـ
قوله: (وفيه نظر).
قال الطَّيبي: وجه النظر هو أن قوله تعالى (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ
مِنَ الظَّالِمِينَ) حينئذ مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض أمر الحساب إليه، فيفهم
منه أن لو كان حسابهم عليه وطردهم كان ظالماً وليس كذلك، لأن الظلم وضع الشيء في
غير موضعه.
قال: والجواب أنه أراد بذلك المبالغة في معنى الطرد، يعني لو قدر تفويض الحساب
إليك مثلاً ليصح منك طردهم لم يصح أيضاً، فكيف والحساب ليس إليك، نظيره في إرادة
المبالغة قول عمر: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. اهـ
قوله: (وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا
ذنوباً عظاماً؟ فلم يرد عليهم شيئاً، فنزلت).
أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ماهان مرسلاً.
قوله: (أي من عمل ذنباً جاهلاً ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فالجهالة على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز. اهـ
قوله: (ومثل ذلك التفصيل الواضح).
(3/357)
قال الطَّيبي: إشارة إلى ما سبق من أحوال الطوائف الثلاث من لدن
قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) لأنَّ هذه الطائفة هم المطبوع على
قلوبهم، والذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم هي الطائفة التي يرى فيها أمارة القبول
لأنَّها هي المنذرة التي يرجى إسلامها لقوله (يَخَافُونَ) وقوله تعالى
(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، والتي في قوله (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) هي الطائفة التي دخلت في الإسلام إلا أنها
لا تحفظ حدوده، ومن ثم خوطبوا بقوله (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ) فعلى هذا قوله (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) إذا قدر
المعلل فصلنا ذلك التفصيل بدلالة السابق عطف جملة على جملة. اهـ
قوله: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فى شيء من الهدى).
قال الطَّيبي: قالوا في تفسير هذا بهذا نظر لأن هذا الأسلوب في الإثبات يوجب أن
يكون المدخول ليس من له حظ قليل في ذلك الوصف بل له حظوظ وافرة إلا أنه غير محظوظ
منه، وفي السلب يوجب أن يكون المدخول ممن له حظ ما فيه.
قال صاحب الكشاف في قوله تعالى (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ): قولك:
فلان من العلماء أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم
ومعرفه مساهمة لهم في العلم.
وأجيب: بأن إفادة معنى الاستغراق في نفي الهدى ليست من هذا القبيل بل من قبيل كون
قوله (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) جوابًاً وجزاءً لما
دل عليه قوله تعالى (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) على سبيل التعريض، كأنه
قيل: إن اتبعتُ أهواءكم قد ضللتُ إذن وكنتُ مثلكم متوغلاً في الضلال منغمساً فيه
ولا أكون من الهدى في شيء كما أنتم عليه. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون صفة لـ (بينة)).
قال الشيخ سعد الدين: على معنى كائنة من ربي صادرة عنه. اهـ
قوله: (أو للبينة باعتبار المعنى).
(3/358)
قال الزجاج: لأن البينة والبيان في معنى واحد. اهـ
قوله: (مستعار من المفاتح).
قال الطَّيبي: يمكن أن تكون الاستعارة مصرحة تحقيقية، استعير العلم للمفاتح لعلم
الله لأن المفاتح هي التي يتوصل بها من علم بها وبكيفية فتح المخازن المستوثق منها
بالأغلاق وإلى ما في المخازن من المتاع، فعلم منه أنه تعالى أراد بهذه العبارة أنه
هو من المتوصل إلى المغيبات وحده، وأن يكون استعارة تمثيلية بأن يجعل الوجه
منتزعاً من أمور متوهمة وهوماً يتوهم من تمكن تحصيل شيء مستوثق منه يختص حصوله بمن
عنده ما يتوصل به، وأنه مركب من أمور متعددة، وإن شئت جعلت الاستعارة في الغيب على
سبيل المكنية والقرينة إضافة المفتاح إليه على التخييلية. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هي استعارة بالكناية تشبيهاً للغيب بالأشياء المستوثق منها
بالأقفال، وإثبات المفاتح تخييلية كأظفار المنية، وكذا على جعلها جمع مَفتح -بفتح
الميم- بمعنى المخزن هي مكنية أيضاً، جعل للغيب مخازن أودعها هو وهي عنده فلا يطلع
على الغيب غيره، فهو أيضاً عبارة عن علمه بالمغيبات كما دل عليه قوله تعالى (لا
يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ) لا عن قدرته على جميع الممكنات كما قال الإمام الرازي.
اهـ
قوله: (والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات).
قال ابن المنير: لا يجوز إطلاق المتوصل على الله تعالى لما يوهم من تجدد الوصول.
اهـ
وقال الطَّيبي: لا بأس إن أريد الاستمرار الدائم. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: وما قيل من أنَّ إطلاق التواصل على الله تعالى ولو بطريق
(3/359)
التجوز بعيدٌ لما ينبئ من تجدد الوصول ليس ببعيد. اهـ
قلت: هذه العبارة تعطي مساعدة ابن المنير، ولا شك في منع ذلك لعدم الورود،
والألفاظ المطلقة عليه سبحانه توقيفية.
قوله: ((إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) بدل من الاستثناء الأول).
قال أبو البقاء: (إِلاّ فِي كِتَابٍ) إلا هو في كتاب، ولا يجوز أن يكون استثناء
يعمل فيه (يَعلَمُهَا) لأنَّ المعنى يصير: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في
كتاب، فينقلب معناه إلى الإثبات أي: لا يعلمها إلا في كتاب، وإذا لم يكن إلا في
كتاب وجب أن يعلمها في كتاب، فإذاً يكون الاستثناء بدلاً من الأول، أي: وما تسقط
من ورقة (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) إلا في كتاب وما يعلمها (إلا هو). اهـ
قال الشيخ سعد الدين: هو صفة للمذكورات، كما أن (إِلاّ يَعْلَمُهَا) صفة لـ
(وَرَقَة)، وأما ما يقال إنه تأكيد للاستثناء الأول أو بدل منه وأنه ليس استثناء
من (إِلاّ يَعْلَمُهَا) للزوم كونه نفياً في الإثبات لكون (إِلاّ يَعْلَمُهَا)
إثباتاً من النفي فمما لا ينبغي أن يصغي إليه المحصل. اهـ
قوله: (وَكَتِيبَهٌ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَة ... حَتَّى إِذَا التَبَسَتْ نَفَضْتُ
لَهَا يَدَي).
قال الطَّيبي: ألحق الهاء بالكتيبة لأنه جعله اسماً للجيش، وهو من تكتبت الخيل إذا
تجمعت، يقول: رب جيش خلطتها بجيش فلما اختلطت نفضت يدي وتركتهم وشأنهم، وفي البيت
كنايات: إحداها: أنه مهياج للحروب، وثانيتها: قوله: نفضت لها يدي، فإنه يدل على
أنه خلاهم والفتنة، وثالثتها: أنه فتان جبان. اهـ
قوله: (ولا يجوز عطفه على محل (من شىء) لأن (من حسابهم) يأباه).
(3/360)
قال أبو البقاء: (من) في (من شيءٍ) زائدة، و (مِن حِسَابِهم)
حال تقديره: شيء من حسابهم. اهـ
يعني: شيء كائن من حسابهم، فإذ عطف (ذِكرَى) على محل (من شيءٍ) لرجع المعنى إلى ما
يلزم المتقين الذكرى الذي من حسابهم لأن (من شيءٍ) مقيد بقيد (مِن حِسَابِهم) فإذا
عطف عليه لا بد من تقييده به.
قال الطَّيبي: واعترض صاحب التقريب وقال: لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف
المعطوف به، وأجيب: أن ذلك في عطف الجملة على الجملة، وأما في عطف مفردات الجمل
فملتزم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في توجيه قوله (يأباه): لأنه حال (من شيءٍ) قدم عليه فصار
قيداً للعامل، فإذا عطف (ذكرَى) على (شيءٍ) عطف المفرد على المفرد كان جهة القيد
معتبرة فيه، ويؤول المعنى إلى أنَّ عَليك من حسابهم ذكرى وذكرى ليس من حسابهم، فإن
قيل: لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف المعطوف به، قلنا: نحن لا ندعي ذلك، بل
إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف
عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف ألبتَّة بحكم الاستعمال، تقول: ما
جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكباً أو من هذا القوم رجل ولكن امرأة يلزم أن
يكون مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون هي من ذلك القوم
ألبتَّة، لا يجوز الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف مثل: ما جاءني
رجل من العرب ولكن امرأة، فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب. اهـ
قال أبو حيان: كأنه تخيل أنه يلزم في العطف القيد الذي في المعطوف عليه وهو
(3/361)
(مِن حِسَابِهم) لأنه قيد في (شيءٍ) فيصير التقدير: ولكن ذكرى
من حسابهم، وليس المعنى عليه، وهذا الذي تخيله ليس بشيء، لأنه لا يلزم في العطف بـ
(لكن) ما ذكر، تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق، وما عندنا رجل من تميم ولكن
رجل من قريش، وما قام رجل عالم ولكن رجل جاهل، فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون
من عطف الجمل كما تقدم، ويجوز أن يكون من عطف المفردات، والعطف إنما هو الواو،
ودخلت (لكن) للاستدراك. اهـ
وقال الحلبي: هذه الأمثلة التي ذكرها لا ترد على الزمخشري، لأن أهل اللسان
والأصوليين يقولون إن العطف ظاهر في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر
تقييد المعطوف عليه بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا
قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمرواً فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً
بيوم الجمعة، فإن قلت: وعمرواً يوم السبت، لم يشاركه في قيده، والآية الكريمة من
قبيل النوع الأول، أي لم يؤت مع العطف بقرينة تخرجه فالظاهر مشاركته للأول في قيده
وحينئذ يلزم ما ذكره الزمخشري، وأما الأمثلة التي أوردها أبو حيان فالمعطوف مقيد
بغير القيد الذي قُيد به الأول.
قال: وقوله على محل (من شيءٍ) ولم يقل على لفظه لفائدة حسنة تعسر معرفتها وهي أن
(لكن) حرف إيجاب فلو عَطف ما بعدها على المجرور لفظاً لزم زيادة (من) في الواجب
والأكثر يمنعونه، ويدل على اعتبار الإيجاب في (لكن) أنَّهم إذا عطفوا بعد خبر (ما)
الحجازية أبطلوا النصب لأنَّها لا تعمل في المنتقض النفي، و (بل) كـ (لكن) في ذلك.
اهـ
وقال السفاقسي: المنع صحيح، وهو أنه لا يلزم في المعطوف من التقييد ما في المعطوف
عليه، وتقييده بـ (لكن) فيه نظر بل ولا في غيرها، والمثال أيضاً فيه نظر فتدبره.
اهـ
قوله: (وهذا بسل عليك، أي: حرام).
قال الراغب: البسل: ضم الشيء، ومنعه، ولتضمنه معنى الضم استعير لتقطيب
(3/362)
الوجه فقيل: هو باسل ومبتسل الوجه، ولتضمنه معنى المنع قيل للمُحَرَّم
والمرتهن: بسل، والفرق بين الحرام والبسل أنَّ الحرام عام للممنوع منه حكماً
وقهراً، والبسل هو الممنوع منه قهراً. اهـ
قوله: (و (كل) نصب على المصدر).
قال ابن المنير: لتعدي الفعل إليه بغير واسطة ولو كان مفعولاً به لقيل: بكل عدل.
اهـ
قوله: ((لا يؤخذ منها) الفعل مسند إلى (منها) لا إلى ضميره).
زاد في الكشاف: لأنه مصدرٌ، وهو ليس بمأخوذ.
قال الشيخ سعد الدين: نعم يمكن أن يراد بضميره الفدية على ما هو طريق الاستخدام
فيصح الإسناد إليه، كما في قوله تعالى (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) لكنه تكلف
لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور كما في قولك: سيرٌ من البلد وأخذٌ
من المال. اهـ
وقال أبو حيان: هو مسند إلى ضمير المعدول به المفهوم من السياق. اهـ
قوله: (بخلاف قوله (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) فإنه المفدى به).
قال الطَّيبي: فإن قيل: كيف صح إسناده في هذه الآية على تأويل المفدى به ولم يصحِ
في (كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا)؟ أجيب: بأنه فيها لم يقع مفعولاً مطلقاً
ابتداءً بخلافه في الأخرى. اهـ
قوله: (ومحل الكاف النصب على الحال ... ) إلى آخره.
قال صاحب الفرائد: حاصل هذا الكلام: نُرَدُّ في حال أشباهنا، كقولك: جاء زيد
راكباً، أي في حال ركوبه، والرد ليس في حال الأشباه كما أنَّ المجيء في حال
الركوب.
(3/363)
قال الطَّيبي: الحال مؤكدة كقوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ) فلا يلزم ذلك.
قال: والتشبيه على أن يكون حالاً من التمثيلي، شبه حال من خلص من الشرك ثم نكص على
عقبيه بحال من ذهب به الغيلان في المهمه بعدما كان على الجادة المستقيمة، وعلى أن
يكون مصدراً يكون من المركب العقلي. اهـ
قوله: (واللام لتعليل الأمر).
تابع في ذلك صاحب الكشاف.
وقال ابن المنير: هذا منه بناءً على أن الأمر تلزمه الإرادة، وأما أهل السنة فيرون
في هذه اللام وفي قوله (إِلاّ لِيَعبُدُوَا) إن كان تعليلاً أنَّهم بإزاحة العلل
عوملوا معاملة من أريد منهم ذلك وإن لم تكن الطاعة مرادة. اهـ
قوله: (أي أمرنا بذلك لنسلم، وقيل هي بمعنى الباء، وقيل زائدة).
قال الزجاج: العرب تقول أمرتك أن تفعل وأمرتك بأن تفعل وأمرتك لتفعل، فعلى الأول
الباء محذوفة وهى للإلصاق، أي: وقع الأمر بهذا الفعل، وعلى الثالث اللام للتعليل
فقد أخبر بالعلة التي بها وقع هذا الأمر. اهـ
قوله: (أو على موقعه، كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا).
هذا بناء على أن الكلام في (لِنُسْلِمَ) زائدة.
وقال الطيبي: قوله على موقع (لِنُسْلِمَ) أي لو وقع موقعه (أن نسلم) بحذف الجار
(3/364)
لصح العطف، فعطف عليه بذلك الاعتبار كما في (فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قيل: المراد أنه كثيراً ما يقع في هذا الموقع (أن نسلم)،
فعطف عليه (وَأَنْ أَقِيمُوا) بهذا الاعتبار على طريقة (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ)،
وبهذا يشعر قوله: كأنه قيل أمرنا أن نسلم وأن أقيموا، لكن لا يخفى أنَّ (أن) في
(أن نسلم) مصدرية ناصبة للمضارع وفي (وَأَنْ أَقِيمُوا) مفسرة، وقيل لا حاجة إلى
هذا الاعتبار بل المراد أنه عطف على مجموع اللام وما بعدها. اهـ
قال الإمام: كان من الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم، وإنما عدل إلى قوله
(وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) (وَأَنْ أَقِيمُوا) ليؤذن بأن الكافر ما دام كافراً كان
كالغائب الأجنبي فخوطب بما يخاطب به الغُيَّب، وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين
صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون.
قوله: (أي: قَوْلُهُ الْحَقُّ يوم يقول).
قال الشيخ سعد الدين: على أنَّ المراد به المعنى المصدري، يعني قضاؤه الحكمة
والصواب ليصح الإخبار عنه بظرف الزمان أعني (وَيوْمَ يَقُولُ)، وتقدم الخبر يكون
لكونه الشائع في الاستعمال مثل (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، وإن كان الحصر غير
مناسب هنا. اهـ
قوله: (أو بمحذوف دل عليه (بالحق)).
زاد في الكشاف: كأنه قيل وحين يكون ويقدر ويقوم بالحق. اهـ
قال أبو حيان: وهذا إعراب متكلف. اهـ
قوله: (أو فاعل يكون).
قال أبو البقاء: المعنى: فيوجد قوله الحق، فعلى هذا (قَوْلُهُ) بمعنى مقوله، أي:
(3/365)
فيوجد ما قال له كن، فخرج. اهـ
قوله: (تارح).
قال ابن الأثير: هو بالتاء المثناة من فوق وفتح الراء وبالحاء المهملة. اهـ
قوله: (ومثل هذا التبصير نبصره).
قال أبو حيان: مقتضاه أنه من رأى بمعنى عرف، ويحتاج كون رأى بمعنى عرف يتعدى
بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل عن العرب، والذي نقل النحويون أنَّ رأى بمعنى عرف
يتعدي لمفعول، وبمعنى علم إلى مفعولين. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قد تقرر أنَّ اسم الإشارة (في مثل هذا المقام) إشارة إلى
هذه الإرادة لا لشيء آخر يشبه هذه، وأورد بدل الإرادة التعريف والتبصير تصحيحاً
لتذكير اسم الإشارة، وتنبيهاً على أنه من رؤية البصر، لكن استعيرت للمعرفة ونظر
البصيرة لأنَّ الملكوت بمعنى الربوبية والإلهية ليس مما يبصر حساً. اهـ
قوله: (فأراد أن ينبههم على ضلالهم ... ) إلى آخره.
هذا القول أظهر لأنَّ قوله تعالى (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يدل على أنه كان
عارفاً بأن له ربًّا يستحق العبادة ومنه الهداية وأن قومه على الضلال، ويشعر بأن
محاجته كانت مع منكِرٍ مبالغ في الإنكار حيث احتيج إلى القسم فإن اللام في
(لَئِنْ) موطئة وفي (لَأَكُونَنَّ) جواب قسم، وقوله (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ) صريح في أنَّ الكلام مع القوم، وحمله على حصول اليقين من
الدليل خلاف الظاهر. قاله الشيخ سعد الدين.
وقال الطَّيبي: أما حسن التأليف فإن قوله لأبيه وإنكاره عليه بقوله (أَتَتَّخِذُ
أَصْنَامًا
(3/366)
آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إنما
ينتظم انتظاماً مع قوله (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) إذا كان
الاستدلال لأجل القوم، لأن صرف الخطاب منه إلى القوم يستدعي أن لا يكون قد أشرك
بالله تعالى طرفة عين. اهـ
وقال الشيخ تقى الدين السبكى: تكلم الناس في تفسير هذه الآية كثيراً، وفهمت منها
أن ذلك تعليم من الله تعالى لإبراهيم الحجة على قومه، فأراه ملكوت السماوات
والأرض، وعلمه كيف يحاج قومه ويقول لهم إذا حاجهم في مقام بعد مقام على سبيل
التنزل إلى أن يقطعهم بالحجة، ولا يحتاج مع هذا إلى أن نقول ألف الاستفهام محذوفة،
ويؤخذ منه أنَّ القول على سبيل التنزل ليس اعترافاً وتسليماً مطلقاً.
قال: وهذا الذي فهمته أرجو أنه أقرب من كل ما قيل فيها. اهـ
قوله: (ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر).
قال أبو حيان: يمكن أن يقال إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في
الإشارة بين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء
عندهم، فأشار في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكى كلام إبراهيم
صلى الله عليه وسلم، وحين أخبر الله تعالى عنها بقوله (بَازِغَة) و (أَفَلَت) أنث
على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. اهـ
قوله: (روي أنَّ الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة ... ).
الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن مسعود.
قوله: (ولبس الإيمان به ... ) إلى آخره.
قوله جواب عن قول الكشاف: أبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس.
قوله: (وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين).
(3/367)
قال الشيخ سعد الدين: فـ (مَنْ نَشَاءُ) مفعول (نَرْفَعُ) و
(دَرَجَاتٍ) نصب على المصدر أو الظرف أو التمييز إن جوزنا تقديمه. اهـ
قوله: (الضمير لإبراهيم إذ الكلام فيه).
قال الشيخ سعد الدين: هو المقصود بالذكر دلالة على أنه لما قرر حجة التوحيد وذب عنها
أكرمه الله تعالى في الدارين برفع الدرجات وجعل مشاهير الأنبياء من ذريته كرامة
باقية إلى يوم القيامة مع كون بعض آبائه أنبياء كنوح وإدريس وشيث. اهـ
قوله: (وقيل لنوح لأنه أقرب، ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم).
قال الطَّيبي: يجاب بأن صاحب جامع الأصول ذكر أنَّ يونس من ذرية إبراهيم، وأنه كان
من الأسباط في زمن شعياء، ولما كان لوط ابن أخيه وآمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل
من الذرية على سبيل التغليب. اهـ
قوله: (رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بن اليزيد مُبَارَكاً ... شَدِيداً بِأَعْبَاءِ
الخِلاَفَةِ كَاهِلُهُ).
هو لابن ميادة، واسمه الرماح بن أبرد من قصيدة يمدح بها الوليد بن يزيد بن عبد
الملك بن مروان، وقبل هذا البيت:
هممت بقول صادق أن أقوله ... وإني على رغم العداة لقائله
أضاء سراج الملك فوق جبينه ... غداة تناجي بالنحاة قوابله
وأول القصيدة:
ألا تسأل الربع الذي ليس ناطقاً ... وإني على أن لا يبين لسائله
كم العام منه أو متى عهد أهله ... وهل يرجعن لهو الشباب وعاطله
الأعباء: جمع عبىء بكسر المهملة وسكون الموحدة ثم همزة النقل، والكاهل: ما بين
الكتفين، وهو مرفوع بـ (شديد)، وفي البيت شواهد: أحدها: زيادة الألف واللام في
العَلَم وهو اليزيد، وقال ابن جرير: نكتة إدخالها في اليزيد الإتباع للوليد،
الثاني: دخول (أل) للمح الصفة في العلم المنقول من الوصف وهو الوليد، الثالث: صرف
ما لا ينصرف إذا دخلته (أل)، ولو كانت زائدة كما في اليزيد، الرابع: نصب (رأيت)
بمعنى (علمت) مفعولين، وثانيهما مباركاً، فإن كانت بصرية فهو
(3/368)
حال، الخامس: تعدد الخبر لأن جزئ باب علم أصلهما المبتدأ والخبر
وهو هنا في شديد، السادس: إعمال فعيل لاعتماده على ذي خبر، السابع: الفصل بين فعيل
ومعموله بالجار والمجرور، الثامن: الاستعارة بتنزيل المعقول منزلة المحسوس، ويصح
أن يكون استعارة بالكناية، شبه أمور الخلافة الشاقة بالجسم الذي يثقل حمله،
وإضافتها إلى الخلافة ترشيح، وذكر الكاهل تخييل.
قوله: (فاختص طريقهم بالاقتداء).
قال الشيخ سعد الدين: أي: اجعله منفرداً بذلك بمعنى: اجعل الاقتداء مقصوراً عليه،
فإن قيل: الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع، فلا
يجوز - سيما للنبي صلى الله عليه وسلم - أن يقلد غيره، فما معنى أمره بالاقتداء
بهداهم؟ قلنا: معناه الأخذ به لكن لا من حيث أنه طريقهم بل من حيث إنه طريق العقل
والشرع، ففيه تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقتهم هي الحق الموافق لدليل العقل
والسمع. اهـ
قوله: (على أنها كناية عن المصدر).
قال الفارسي: أي: اقتد اقتداء.
قوله: (وما عرفوه حق معرفته ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني أن قوله تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يحتمل أن
يكون صفة لطف وصفة قهر. اهـ
قوله: (وإنما قرأ بالياء ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: فيكون على هذه القراءة التفاتاً حيث جعلوا غيباً لارتكابهم
شناعة ذلك الفعل. اهـ
قوله: (روي أن مالك بن الصيف ... ).
الحديث أخرجه ابن جرير عن سعيد ابن جبير.
قوله: ((ولتنذر أم القرى) عطف على ما دل عليه (مبارك)، أي: للبركات ولتنذر).
قال الشيخ سعد الدين: لا أرى حاجة إلى هذا التكلف لجواز أن يكون عطفاً على
(3/369)
صريح الوصف، أي: كتاب مبارك وكائن للإنذار، ومثل هذا أعني عطف
الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير. اهـ
قوله: (كعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب ... ).
الحديث أخرجه ابن جرير عن السدي بدون قصة (فَتَبَارَكَ اللهُ ... ) الآية.
قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في سيرته: تشفع ابن أبي سرح بعثمان فقبله عليه
الصلاة والسلام بعد تلوم، وحسن بعد ذلك إسلامه حتى لم ينقم عليه في شيء، ومات
ساجداً. اهـ
قوله: (كالمتقاضي الملظ)
أي: الملازم لغريمه لا يفارقه.
قال ابن المنير: جعله من مجاز التشبيه، والأولى حمله على الحقيقة. اهـ
قلت: وبها ورد الأثر.
قوله: (والمعنى: وقع التقطع بينكم).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن الفعل المبني للفاعل اللازم أسند إلى ضمير مصدره،
بمعنى: وقع التقطع، كما أن المبني للمفعول يسند إليه مثل: جمع بينكم، أي: جمع
الجمع؛ بمعنى: أوقع الجمع، واعترض بأنه واقع في الكلام مثل (وَحِيل بَينهم) بخلاف
هذا، فالأولى أنه أسند إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس، أي: تقطع الأمر بينكم،
كما تحمل عليه قراءة من قرأ (تقطع ما بينكم) على أن (ما) موصولة أو موصوفة، وأما
على قراءة رفع (بينُكم) فإن جعل بمعنى الوصل
(3/370)
ولا يكون من الظروف فظاهر، وكذا إن جعل ظرفاً غير لازم الظرفية.
اهـ
وقال أبو حيان: ما ذكر الزمخشري من أنه أسند إلى ضمير المصدر ليس بجيد، لأن شرط
الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز: قام ولا جلس،
وأنتَ تريد قام هو أي القيام. اهـ
وقال السفاقسي: هذا لا يرد، لأن الزمخشري تجوز بـ (تَقَطَّعَ) وجعله عبارة عن وقع،
والتغاير حاصل بهذا الاعتبار، لأن وقع أعم من التقطع، ولو سلم فالتقطع معرف بلام
الجنس و (تَقَطَّعَ) منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه ثَمَّ؟. اهـ
قال أبو حيان: وقيل يقدر ضمير الاتصال الدال عليه قوله (شُرَكَاءُ)، أي: لقد تقطع
الاتصال بينكم.
قال: والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
(تَقَطَّعَ) و (وَضَلَّ) فأعمل الثاني وهو (وَضَلَّ)، وأضمر في (تَقَطَّعَ) ضمير
(ما) فالمعنى: لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضل عنكم.
قال: وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد. اهـ
قوله: (ذكره بلفظ الاسم حملاً على (فالق الحب) فإن قوله (يخرج الحي) واقع موقع
البيان له).
قال ابن المنير: تكرر في القرآن (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) فيبعد قطعها عن نظائرها، والوجه أنََّ قياس الآية أن
تَكون الصفات باسم الفاعل كقوله (فَالِقُ الْحَبِّ) (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ)
(وَجَاعِلُ اللَّيْلِ) (1) وإنما عدل إلى صيغة المضارع في (مُخْرِجُ) للدلالة على
تصوير ذلك وتمثيله واستحضاره، وإخراج الحيِ من الميت أولى في الوجود وأعظم في
القدرة فإن العناية به أتم، ولذلك جاء مقدماً في مواضعه، وحسن عطف الاسم على
المضارع لأنه في معناه. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: لم يجعله معطوفاً على (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ) لأن
__________
(1) قرأ الكوفيون (وجَعَلَ الليلَ) وقرأ الباقون (جَاعلُ الليلِ). (النشر. 2/
196).
(3/371)
عطف الاسم على الاسم أولى، ولكن مجيء قوله تعالى (يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بالفعل فيهما يدل
على خلاف ذلك. اهـ
وقالَ الطَّيبي: فإن قلت لم لم يعطف على الفعل كما ذهب إليه الإمام ويكون الغرض
إرادة الاستمرار فى الأزمنة المختلفة كما سبق في قوله تعالى (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) ليكون إخراج الحي من الميت أولى في القصد من عكسه، ولأن المناسبة في
الصنعة البديعية تقتضي هذا لأنه من باب العكس والتبديل كقوله (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) ولورود سائر ما يشبه الآية
على المنوال؟ قلت: يمنعه ورود الجملة الثانية مفصولة عن الأولى على سبيل البيان،
ولو عطف الثالثة على الثانية كانت بيانية مثلها، لكنها غير صالحة له لأن (فَالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوَى) ليس متضمناً لإخراج الميت من الحي، فإن قلت: فقدر مبيناً
مناسباً لها على تقدير (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)؟ قلت: يفوت إذن غرض التعميم
الذي تعطيه الآية من إرادة تخرج الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى،
فإن هذا المعنى إنما يحصل إذا قدر (وَمخرِج) معطوفاً على (فَالِقُ الْحَبِّ
وَالنَّوَى) ثم يسري معنى العموم إلى قرينتها: فيصح أن يقال مخرج الحي من الميت
أي: الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، ومخرج هذه الأشياء الميتة من
الحيوان والنامي، ولو قدر معطوفاً على (تُخرِج) اختص بالحب والنوى. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قد شاع في الكلام (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)، وحسن التقابل كما في (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، وجاز عطف اسم الفاعل على
الفعل المضارع لأنه في معناه، إذ سوق الآية على كون الصفات بلفظ اسم الفاعل وإنما
عدل في إخراج الحي من
(3/372)
الميت إلى المضارع استحضاراً له لكونه أدل في الوجود وأعظم في
القدرة، ولكن لا يخفى أن قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) في موقع البيان
لـ (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) ولذا ترك العطف وَ (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ
الْحَيِّ) لا يصلح بياناً فلا يحسن عطفه عليه فلذا جعله عطفاً على (فَالِقُ
الْحَبِّ). اهـ
قوله: (أو به على أنَّ المراد منه جعل مستمر فى الأزمنة المختلفة ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان هذا ليس بصحيح لأنَّ اسم الفاعل إِذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما
هو للاستمرار فلا يجوز إعماله ولا لمجروره محل، وقد نصوا على ذلك. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: قد نص -يعني الزمخشري- في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على
أنه إذا حمل على الزمن المستمر كان بمنزلته إذا حمل على الماضي وكانت إضافته محضة.
اهـ
وكذا قال الحلبي.
وقال صاحب التقريب: ما قاله هنا بخلاف ما ذكره في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
وقال الشيخ سعد الدين: بين كلاميه تدافع.
قال: وذكر في وجه التوفيق أنَّ الاستمرار لمّا تناول الماضي والحال والاستقبال،
فبالنظر إلى حال الماضي تجعل الإضافة حقيقية كما في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)،
وإلى الآخَرَين غير حقيقية كما في (وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا) لئلا يلزم مخالفة
الظاهر بقطع (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على الوصفية إلى البدلية، ويجعل (سَكنًا)
منصوباً بفعل محذوف فليتأمل فإن هذا هو المشار إليه. اهـ
وكذا قال الطَّيبي: إذا كان بمعنى الاستمرار يكون معناه موجوداً في جميع الأزمنة
من الماضي والمستقبل والحال كالعالم والقادر فيكون في إضافته اعتباران: أحدهما:
أنها محضة باعتبار معنى المضي فيه، وبهذا الاعتبار يقع صفة للمعرفة، والآخر: غير
محضة باعتبار معنى الاستقبال، وبهذا الاعتبار يعمل فيما أضيف إليه، ونحوه قوله
تعالى (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فإن (أَيًّا) من جهة
كونها متضمنة لمعنى
(3/373)
الشرط عامل في (تَدْعُوا)، ومن جهة كونها اسماً متعلق بـ
(تَدْعُوا) معمول له. اهـ
ثم قال الشيخ سعد الدين: وما يقال إنه لما بعد بمعنى المضي عن شبه الفعل فبمعنى
الاستمرار بَعُدَ ليس بشيء، لأنَّ شبهه الخاص إنما هو بالمضارع وباعتباره يعمل،
ولهذا يشترط معنى الحال أو الاستقبال الذي هو حقيقة المضارع عند الجمهور، والمضارع
قد يجيء بمعنى الاستمرار كثيراً، فاسم الفاعل بالاستمرار لا يبعد عن شبه الفعل
بخلاف معنى المضي، وأما أنَّ اللام الموصولة تدخل على الذي بمعنى المضى دون الذي
بمعنى الاستمرار فلأن المعتبر في الكون صلة هو محض الحدوث الذي هو أصل الفعل حتى
يقولون إنه فعل في صورة الاسم، كما أنَّ اللام اسم في صورة الحرف محافظةً على كون
ما دخلته اللام التي في صورة حرف التعريف اسماً صورةً، والاستمرار يبعد عن معنى
الحدوث للفعل فيكون محض مفرد فلا يقع صلة، بخلاف المضي. اهـ
قوله: (ذكر مع ذكر النجوم (يعلمون) ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الفقه هو الفهم والحذاقة وتدقيق النظر فكان أليق
بالاستدلال بالأنفس لما فيه من الدقة والخفاء، بخلاف الاستدلال بالآفاق ففيه
الظهور والجلاء. اهـ
وقال ابن المنيرِ: لا يتحقق الفرق، وإنما أريد أن يكون لكل آية فاصلة مستقلة
بالمقصود بعداً عن التكرار وتفنناً بالبلاغة. اهـ
قوله: ((وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ) عطف على (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)).
قال الطَّيبي: الأظهر أن يكون عطفاً على (حَبًّا) لأن قوله (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)
مفصل يشتمل على كل صنف من أصناف النامي، والنامي: الحب والنوَى وشبههما. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الأقرب لفظاً ومعنى أن يجعل عطفاً على (خَضِرًا)، و
(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) على (حَبًّا). اهـ
(3/374)
قوله: (ولا يجوز عطفه على (قِنْوَانٌ) إذ العنب لا يخرج من
النخل).
قال الشيخ سعد الدين: يجاب بأنها لما كانت معروشة تحت أشجار النخل جاز وصفها
بكونها مخرجة من النخيل مجازاً لكونها مدركة من خلالها كما يدرك القنوان. اهـ
وذكر الطيبي نحوه.
قوله: (حال من الرمان أو من الجميع).
وقال أبو حيان: لا يجوز أن يكون حالاً منهما وإن أجازه بعضهم، لأنه لو كان حالاً
منهما لكان التركيب: مشتبهين وغير متشابهين. اهـ
قوله: (كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن التقييد بقوله (قِنْوَانٌ) للإشعار بأنه حينئذ
ضعيف غير منتفع به، فيقابل حال الينع، ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة. اهـ
قوله: (أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي
الثنوية).
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: أليس هذا قول المعتزلة بعينه؟ قلنا: لا فإن المراد
بكل ضار ما يعم الأعيان الضارة كالحيات والأفاعي، والمعتزلة لا يقولون بذلك. اهـ
قوله: (والجن بدل من شركاء).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز، لأنه لو أحل محله وقيل: وجعلوا لله الجن لم ينتظم. اهـ
وتعقبه الحلبي والسفاقسي بأن ذلك لا يلزم في كل بدل، كما رد به على الزمخشري في
قوله تعالى (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ).
ثم قال أبو حيان: وأحسن إعراب فيه ما قاله أستاذنا أبو جعفر بن الزبير أنه نصب
بإضمار فعل جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من جعلوا (لله شركاء)؟ فقيل:
(3/375)
الجن، أي: جعلوا الجن، ويؤيده قراءة (الجنُّ) بالرفع على تقدير:
هم الجن، جواباً لمن قال: من الذي جعلوه. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قيل: الأولى أن ينتصب بمحذوف جواباً عن سؤال، وذلك لأنه لو
كان بدلاً لكان التقدير: وجعلوا لله الجن، وليس له كبير معنى، اللهم إلا أن يقال:
إن المبدل ليس في حكم التنحية بالكلية. اهـ
قوله: (وبالجر على الإضافة للتبيين).
قال أبو حيان: لا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله. اهـ
وقال الحلبي: معناها واضح بما فسره الزمخشري في قوله: والمعنى أشركوهم في عبادتهم
لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله، ولذلك سماها إضافة تبيين أي: بين الشركاء، كأنه قيل
الشركاء المطيعين للجن. اهـ
قوله: (أو إلى الظرف كقولهم: ثبت الغدر بمعنى عدم النظير فيهما).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الإضافة حقيقية بمعنى (في) على ما يراه البعض في ثبت
الغدر، ثم بين وجه الظرفية على وجه لا يخل بالتنزه عن المكان والجهة وحاصله توفية
معنى البداعة والتنزه وانتفاء المثل والنظير وهو لا يوجب كونه نفسه في السماوات.
اهـ
قوله: (وفى الآية استدلال على نفي الولد من وجوه ... )
ذكرها ثلاثة.
وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنَّ العلم بكل شيء وجه مستقل، فتكون الوجوه
(3/376)
أربعة، إلا أنه أدرجه وجعله مع (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وجهاً
واحداً لأن المعنى إنما يتحقق بالإيجاد الاختياري وذلك بالعلم، ولأنه ربما يناقش
في لزوم كون الولد كالوالد في العلم بكل شيء. اهـ
وقال الإمام بعد ما طول في تقرير الوجوه: ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن
يذكروا في هذه المسألة كلاماً يساويه أو يدانيه في القوة والكمال لعجزوا عنه. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون البعض بدلاً أو صفة).
لم يجز ذلك في الكل لأنَّ الله عَلَمٌ لا يجوز أن يقع صفةً لاسم الإشارة.
نبه عليه الشيخ سعد الدين.
قوله: (وهي للنفس كالبصر للبدن).
قال الطَّيبي: فيه بيان لربط هذه الآية بما قبلها، كما نفى إدراك البصر عن
المكلفين أثبت لهم البصيرة ومنَّ عليهم بها. اهـ
قوله: (فلنفسه أبصر).
قال أبو حيان: الأولى تقدير المصدر أي: فالإبصار لنفسه والعمى عليها وذلك لوجهين:
أحدهما: أنَّ المحذوف يكون مفرداً لا جملة، ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة،
وفي تقديره هو المحذوف جملة، والجار والمجرور فضلة، والثاني: وهو أقوى أنه لو كان
المقدر فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت (من) شرطاً أم موصولة لامتناعها في الماضي.
اهـ
وقال الحلبي: الذي قدره المصنف سبقه إليه الكلبي، وقوله إن الفاء لا تدخل فيما ذكر
قد ينازع فيه. اهـ
وقال السفاقسي: أما الترجيحان الأولان فمعارضان بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل
ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة، وبأن تقديره فيه تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص،
وأما الثالث فلا يلزم لأنه لم يقدر الفعل موالياً لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل
الماضي مقدماً ولا بد فيه من الفاء، لو قلت: من أكرم زيداً فلنفسه أكرمه، لم يكن
بد من
(3/377)
الفاء. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قدر الفعل متأخراً لكون المعنى على الاختصاص، واللفظ على
الفاء، تقول: من جاء فللإكرام جاء، ولا تقول: فجاء للإكرام إلا بتأويل. اهـ
قوله: ((فعليها) وباله).
قلت: كذا قدره المصنف هنا خلاف ما قدره الزمخشري حيث قال: فعلى نفسه عمى، ولا أدري
أغاير بين الموضعين فلا هو قدر الفعل فيهما كالزمخشري ولا المبتدأ فيهما كأبي
حيان، وكأنه أشار إلى جواز الأمرين.
قوله: (والله هو الحفيظ).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ تقديم الضمير وإيلاءه حرف النفي للحصر وإن كان
الخبر صفة لا فعلاً، أي: الحفيظ غيري وهو الله لا أنا. اهـ
قوله: (وهو كلام ورد على لسان الرسول).
قال الشيخ سعد الدين: كأنه قيل: قل ذلك. اهـ
قوله: ((ودُرِست) على البناء للمفعول بمعنى: قرئت، أو عُفِيَتْ).
قال أبو حيان: أما قُرِّئت فظاهر، لأن دَرَّس بمعنى: كرر القراءة متعدٍ، وأما
بمعنى بلي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وجدناه فيمن وقفنا على شعره من العرب إلا
لازماً. اهـ
وقال السفاقسي: بل حفظ أيضاً متعدياً، قال الزبيدي: درس الشيء يدرس درساً: عفا،
ودرسته الريح. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: جاء درس لازماً ومتعدياً بالمعنيين. اهـ
قوله: ((لا إله إلا هو) اعتراض أكد به إيجاب الاتباع).
قال الطَّيبي: لما في كلمة التوحيد من التمسك بحبل الله والاعتصام به والتبري
والإعراض عما سواه، ولأنَّ الموحى ليس إلا التوحيد قال تعالى (إِنَّمَا يُوحَى
إِلَيَّ
(3/378)
أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). اهـ
قوله: (أو حال مؤكدة).
قال صاحب التقريب: فيه نظر، إذ شرط المؤكدة تقدم جملة اسمية. اهـ
وقال الطَّيبي: هذا لحذف العامل كما تقدم لي مراراً. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: على تجويزها بعد الجملة الفعلية كما سبق في (قَائِمًا
بِالْقِسْطِ). اهـ
قوله: (وما يدريكم ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: إذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنني
إذا أكرمته يكافئني، فإن قيل: لا تكرم زيداً فإنه لا يكافئك، قلت في إنكاره: وما
يدريك أنه لا يكافئني، تريد وأنا أعلم منه المكافأة، فكان مقتضى حسن ظن المؤمنين
بهؤلاء المعاندين أن يقال لهم: وما يدريكم أنَّها إذا جاءت يؤمنون، وإثبات (لا)
يعكس المعنى إلى أن المعلوم لك الثبوت، وأنت تنكر على من نفى، فلهذا حملها بعض
العلماء على زيادة (لا)، وبعضهم على معنى (لعل)، والزمخشري أبقاها على وجهها بطريق
موضحة بمثالنا المذكور، فإذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك فلك فيه حالتان: حالة تنكر
عليه ادعاءه العلم لما تعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم بأنه لا يكافئ،
وإنكار الأول بحذف (لا)، وإنكار الثاني يجوز معه ثبوت (لا) بمعنى: ومن أين تعلم
أنت ما علمته أنا من أنه لا يكافئ، فالآية أقيم فيها عذر المؤمنين في عدم علمهم بالغيب
الذي علمه الله، وهو عدم إيمان هؤلاء، واستقام دخول (لا). اهـ
قوله: (أنكر السبب مبالغة في نفى المسبب).
(3/379)
قال الطَّيبي: يعني أنكر الدراية بهذا العلم وأريد إنكار إظهار
الحرص على إيمانهم، أي: أنتم لا تدرون هذه المسألة فلذلك تطمعون في إيمانهم. اهـ
قوله: ((وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) عطف على (لا يؤمنون)).
قال أبو حيان: الظاهر أنَّها استئناف أخبار. اهـ
وقال الحلبي: الظاهر ما قاله المصنف، ويساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس
ومجاهد وابن أبي زيد. اهـ
قوله: (أو لام الأمر، وضعفه أظهر).
حيث لم يحذف آخر الفعل المعتل.
قوله: (أو خطاب الرسول كخطاب الأمة).
قال الطَّيبي: يريدون أن قوله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) من باب تلوين
الخطاب، فيجوز أن يراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة مزيداً للثبات على
اليقين والتجنب عن الامتراء تهييجاً وإلهاباً، ولأمته عامة بالطريق الأولى وأن
يراد به جميع الناس ابتداء، وأنَّ يراد جميع الناس لكن على سبيل التبعية تعظيماً
للمخاطب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رئيس أمته وعليه تدور رحى الأمة كقوله
تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
اهـ
قوله: (ونصبهما يحتمل التمييز والحال).
قال الطَّيبي: إما من (رَبك) أو من الكلمة على الإسناد المجازي. اهـ
قوله: (لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق).
أي أخباراً.
(أو أعدل)
أي: أمراً ونهياً ووعداً ووعيداً.
قال الشيخ سعد الدين: قال: والباء في قوله (بما) ليست في موقعها، لأن معنى
(3/380)
بدَّله بخوفه أمناً: أزال خوفه إلى الأمن. اهـ
قوله: ((إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: ظاهر تقديره أنَّ (ما) موصولة فلا يستقيم سوى أن يجعل
الاستثناء منقطعاً، ولك أن تجعله استثناء من ضمير (حَرَّمَ)، و (ما) مصدرية في
معنى المدة، أي: الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها. اهـ
قوله: (وقيل: الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخذان).
قال الطيبي: فعلى هذا قوله (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) معطوف على
قوله (فَكُلُوا) وداخل في حكم التسبب على إنكار اتباع المضلين في تحليل ما حرمه
الله وتحريم ما أحله من أكل الميتة ومن الزنا، لكن الذي يقتضيه النظم أن تكون
معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهو قوله (وَلا تَأْكُلُوا) (فَكلُوا) ومعناه ما
قال أولاً ما نعلن وما نسر، أو بالجوارح وما بالقلب توكيداً للإنكار في قوله
(وَمَا لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). اهـ
قوله: (وقال مالك والشافعى بخلافه)
قال الشيخ سعد الدين: ذكر صاحب الانتصاف -وهو مالكي- أنَّ مالكاً يوافق أبا حنيفة.
اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه).
أخرجه عبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلاً.
قوله: (وأوَّله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه).
قال الشيخ سعد الدين: التأويل بذلك إنما يتم على مذهب الشافعي حيث لم يفرق بين
العمد والنسيان، وأما على مذهب أبي حنيفة فالناسي ليس بتارك، لأن تسمية الله تعالى
في قلب كل مؤمن على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن متروك التسمية ناسياً
فقال: كلوه فإن تسمية الله في قلب كل مؤمن.
ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة،
(3/381)
وإما لأنه لما ترك التسمية عمداً فكأنه نفى ما في قلبه، واعترض
بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقاً، وبأننا لا
نسلم أن التارك عمداً بمنزلة الناسي لما في قلبه، بل ربما يكون ذلك لوثوقه بذلك
وعدم افتقاره إلى الذكر، فذهبوا إلى أنَّ الناسي خارج بقوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)
إذ الضمير عائد إلى عدم ذكر التسمية لكونه أقرب المذكورات، ومعلوم أن الترك
نسياناً ليس بفسق لعدم التكليف والمؤاخذة، فتعين العمد، وقد عرفت ما فيه،
وللشافعية وجوه: الأول: أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمناً فلا
يتحقق منه عدم الذكر، فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أُهلَّ به لغير الله، الثاني: أن
قوله تعالى (لَفِسْقٌ) على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم
الله عليه عمداً كان أو سهواً
إذ لا فسق بفعل ما هو في محل الاجتهاد، الثالث: أن قوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) في موقع
الحال إذ لا يحسن عطف الأخبار على الإنشاء وقد بين الفسق بقوله (أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللهِ بِهِ) فيكون النهي عن الأكل مقيداً بكون ما لم يذكر اسم الله عليه وقد أهل
به لغير الله، فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل وإما
بالعمومات الواردة في حل الأطعمة، واعترض بأن التأكيد بـ (إن) واللام ينفي كون
الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه ألبتَّة والرد على المنكر
تحقيقاً أو تقديراً على ما بين في علم المعاني، والحال الواقع في الأمر والنهي
مبناه على التقدير، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقاً، فلا يحسن وإنه لفسق بل
وهو فسق، والجواب: أنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال به لغير الله كان
التأكيد مناسباً، كأنه قيل: لا يأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم
به متحقق والمشركون ينكرون. اهـ
قوله: (والضمير لـ (ما)).
قال الشيخ سعد الدين: أي إلى ما لم يذكر إما بحذف المضاف، أي: إن أكله، وإما بجعل
ما لم يذكر نفس الفسق على طريقة: رجل عدل، ولم يجعل الضمير
للمصدر المأخوذ من مضمون (لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي: إنَّ تَرْك اسم
الله عليه فسق، لأن كون ذلك فسقاً سيما على وجه التحقيق والتأكيد مما لم يذهب إليه
أحد، ولا يلائم قوله تعالى (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) مع أن
القرآن يفسر بعضه بعضاً سيما في حكم واحد، ولأنَّ ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول
الميتة مع القطع بأن
(3/382)
ترك التسمية عليها ليس بفسق. اهـ
قوله: (فإن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك).
قال الشيخ سعد الدين: أي صار مشركاً بالله تعالى جاعلاً له شريكاً في استحقاق
الطاعة وشرعية الدين والملة ونحو ذلك مما هو من خواص الإلهية للاتفاق على أنه لا
حاكم في أمر الدين سواه. اهـ
قوله: (مثل به من هداه (الله سبحانه وتعالى) وأنقذه من الضلال ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: في الآية استعارتان تمثيليتان، وتشبيه تمثيلي، أما الاستعارة الأولى
فشأنها ما قال: مثل به من هداه ... إلى آخره، والثانية: مثل من بقي على الضلالة
بالخابط في الظلمات لا ينفك منها، والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه
به. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا) و (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُمَاتِ) من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحاً، ولا دلالة
بحيث ينافي الاستعارة وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية: أن يكون الأسد
كالثعلب أي الشجاع كالمحتال. اهـ
قوله: (أي كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها ... ).
قال الطَّيبي: مشعر بأن قوله (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا ... ) الآية متصلة بقوله
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، لأن الضمير المرفوع للمسلمين
والمنصوب للمشركين وهم الذين قيل فيهم (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
يُضِلُّوكَ). اهـ
قوله: (ومفعولاه (أكابر مجرميها) على تقديم المفعول الثاني، أو فى كل قرية أكابر،
ومجرميها بدل).
قال أبو حيان: هذان التخريجان خطأ وذهول عن قاعدة نحوية، وهو أن أفعل التفضيل يلزم
إفراده إذ كان بـ (من) ظاهرة أو مقدرة أو مضافاً إلى نكرة،
(3/383)
و (أَكَابِرَ) هنا جمع وهو غير مضاف على هذين التخريجين.
قال: وقد نبه لذلك الكرماني فقال: أضاف أَكَابِرَ إلى مجرميها لأنَّ أفعل لا يجمع
إلا مع (أل) والإضافة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الذي يقتضيه النظر الصائب والتأمل الصادق في عبارة المصنف
أن (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) لغو، و (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) مفعول أول، و
(لِيَمْكُرُوا) هو الثاني. اهـ
قوله: (كفرسي رهان).
أي سابقين إلى غاية.
قوله: (استئناف للرد عليهم).
قال الطيبي: أي جواب عن سؤال مورده قوله (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا
أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) يعني لما قالوا ذلك سئل: فما كان جواب الباري سبحانه لهم؟
قيل: أجيبوا بأن النبوة فضل من الله يختص بها من يشاء. اهـ
قوله: (وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه).
قال الشيخ سعد الدين: يشعر بأن تعلق (حَيث) بـ (أعلم) تعلق المفعول به، وفيه إعمال
أفعل التفضيل في المفعول به، وإخراج (حيث) عن الظرفية. اهـ
قوله: (وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حين سئل عنه فقل: نور يقذفه الله).
الحديث أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير من حديث أبي جعفر مرسلاً، وأخرجه
الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان موصولاً من حديث ابن
(3/384)
مسعود نحوه.
قوله: (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ... ) إلى آخره.
قال الطيبي: يريد أنَّ الولي إذا كان بمعنى المحب والناصر فالوجه أن تكون للباء
سببية أي يحبهم وينصرهم بسبب أعمالهم، وإذا كان بمعنى متولي الأمور فالباء
للملابسة، والمعنى: يتولاهم ملتبساً بجزائهم، أي: يُعد لهم الثواب. اهـ
قوله: (ولكل من المكلفين).
قال الطَّيبي: أي المطيعين والعاصين اهـ.
قوله: (درجات: مراتب).
قال الشيخ سعد الدين: على ما يعم الدرجات والدركات تغليباً أو نظراً إلى أصل
الوضع. اهـ
قوله: ((وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) ... ) إلى آخره).
قال الإمام: اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي وذكر
أنَّ لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة تبين أن تخصيص المطيعين بالثواب والمذنبين
بالعقاب ليس أنه يحتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص لمعصية المذنبين فإنه تعالى غني
لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنياً فإن رحمته عامة شاملة، ولا سبيل إلى تربية
المكلفين وإيصالهم إلى درجات الأبرار المقربين إلا بعد الترغيب في الطاعات
والترهيب عن المحظورات. اهـ
قال الطَّيبي: وإلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله: يترحم عليهم بالتكليف ... إلى
آخره. اهـ
قوله: (وفيه تنبيه على أن ما سبق ... إلى آخره).
(3/385)
قال الطَّيبي: يعني أنه تعالى إنما ذكر الرحمة وقرن به الغنى
لأمرين: أحدهما: ليشير إلى أنَّ ذلك الإرسال المذكور لم يكن إلا لمحض رحمة العباد
لأنه غني مطلقاً، وثانيهما: أن يكون تخلصاً إلى خطاب العصاة من أمة محمد صلى الله
عليه وسلم بقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لأجل ذلك الاقتران، يعني أنه تعالى مع
كونه ذا الرحمة بإرسال المرسل كذلك غني عن العالمين وعنكم خاصة أيها العصاة أن يشأ
يذهبكم ويأت بآخرين، ولذلك عقبه بقوله (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ). اهـ
قوله: (على غاية تمكنكم).
قال الشيخ سعد الدين: بأن يكون المكانة على حقيقة معناها المصدري، أو على ناحيتكم
وجهتكم بأن يكون مجازاً عن التي بمعنى المكان. اهـ
قوله: (كالمأمور به).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن الأمر للتهديد من قبيل الاستعارة تشبيهاً لذلك
المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لابد أن يكون. اهـ
قوله: (العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى لها هذه الدار)
هذه عبارة الكشاف.
قال الطيبي: وتفسيره ما ذكره في القصص أنَّ الله عز وجل وضع الدنيا مجازاً إلى
الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليتلقوا خاتمة الخير، ومن عمل
خلاف ما وضعه الله فقد حرف، فإذاً عاقبتها الأصلية هي الخير، وأما عاقبة الشر فلا
اعتداد بها لأنَّها من نتائج تحريف الفجار.
قال الطَّيبي: وهذا بناءً على مذهبه، والحق أن عبارة الدار كناية عن خاتمة الخير
فكأنه قيل: من تكون له عاقبة الخير سواءً كان الظفر في الدنيا أو الجنة في العقبى.
اهـ
قوله: (وفيه مع الإنذار إنصاف فى المقال).
قال الشيخ سعد الدين: حيث ذكر العملين بطريق واحد حيث قال (اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) أي: على مكانتي، وحسن الأدب حيث لم يخاشن في
(3/386)
الكلام ولم يصرح العذاب، ومع هذا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعيد
شديد، ويدل على أن المنذر واثق بأن العاقبة الحسنة له لا لهم، يعني: إني عالم بذلك
اليوم وأنتم غداً ستعلمونه. اهـ
قوله: (ومثل ذلك التزيين).
قال الطَّيبي: يعني المشار إليه بقوله: ذلك ما يعلم من قوله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ ... ) الآية. اهـ
قوله: (وقرأ ابن عامر (زُيِّنَ) على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد،
وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله، وهو ضعيف في العربية معدود
من ضرورات الشعر).
تبع في ذلك الزمخشري، وقد أطبق الناس على الإنكار عليه في ذلك.
قال ابن المنير: نبرأ إلى الله تعالى ونبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه عما رماهم به،
فقد ركب عمياء، وتخيل القراءة اجتهاداً أو اختياراً لا نقلاً وإسناداً، وزعم أن
مستنده ما وجده مكتوباً في بعض المصاحف شركائهم بالياء وجعل قراءته سمجة، ونحن
نعلم أنَّ هذه القراءة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل كما أنزلها عليه،
وبلغت إلينا بالتواتر عنه، فالوجوه السبعة متواترة عن أفصح من نطق بالضاد جملةً
وتفصيلاً، ولا مبالاة بقول الزمخشري وأمثاله، ولولا عذر أنَّ المُنكِر ليس من أهل
علمي القراءة والأصول لخيف عليه الخروج من ربقة الإسلام بذلك، ثم مع ذلك هو في
عهدة خطرة وزلة منكرة، والذي ظن أنَّ تفاصيل الوجوه السبعة فيها ما ليس متواتراً
غالط، ولكنه أقل غلطاً من هذا، فإن هذا جعلها موكلة إلى الآراء، ولم يقل بذلك أحد
من المسلمين، ظناً منه اطراد الأقيسة النحوية الذي يحرم برد من خالفها، ثم يبحث
معه فإنَّ إضافة المصدر إلى معموله مقدر بالفعل وهذا عمل، وهو وإن كانت إضافته
محضة مشبهة بما إضافته غير محضة حتى قال بعض النحاة: هي غير محضة، والحاصل أنَّ
اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره، وجاء الفصل في غيره بالظرف فتميز المصدر على
غيره بجوازه في غير الظرف، ويؤيده
(3/387)
أيضاً أنَّ المصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول، وقد
التزم بعضهم اختصاص جواز الفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل لوقوعه في غير مرتبته،
كما جاز تقديم المضمر على الظاهر في غير رتبته، وأنشد أبو عبيد:
وحلق الماذي والقوانس ... فداسهم دوس الحصاد الدائس
وأنشد:
يفركن حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج
ففصل بين الفاعل والمفعول، ويقوي عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه
نصباً وجراً، فهذه شواهد من العربية يجمع شملها هذه القراءة، وليس القصد تصحيح
القراءة بالعربية بل تصحيح العربية بالقراءة. اهـ
قال الكواشي: كلام الزمخشري يشعر أن ابن عامر قد ارتكب محظوراً، وأن قراءته قد
بلغت من الرداءة مبلغاً لم ييلغه شيء من جائز كلام العرب وأشعارهم، وأنه غير ثقة
لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ ومع ذلك أسندها إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، وهو جاهل بالعربية، وليس الطعن في ابن عامر طعناً فيه وإنما هو طعن في
علماء الأمصار حيث جعلوه أحد القراء السبعة المرضية، وفي الفقهاء حيث لم ينكروا
عليهم إجماعهم على قراءته، وأنهم يقرءونها في محاريبهم، والله أكرم من أن يجمعهم
على الخطأ. اهـ
وقال أبو حيان: أعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة
موجود نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء
الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون
على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هذا عذر أشَد من الجرم حيث طعن في إسناد القراء السبعة
(3/388)
وروايتهم وزعم أنَّهم إنما يقرءون من عند أنفسهم، وهذه عادته
يطعن في تواتر القراءات السبع وينسب الخطأ تارة إليهم كما في هذا الموضع، وتارة
إلى الرواة عنهم، وكلاهما خطأ لأن القراءات متواترة، وكذا الروايات عنهم وهى ما
يستشهد بها لها، وقد وقع الفصل فيها بغير الظرف ينبغي أن يحكم بالجواز كما قالوا
في قوله:
تمر على ما تستمر وقد شفت ... غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها
فعبد القيس فاعل شفت وقع فصلاً بين المضاف وهو غلائل والمضاف إليه وهو صدورها.
وقوله:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهم تنقاد الصياريف
فالدراهم بالنصب فصل بين نفي وتنقاد، أو يحمل على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار
المضاف من الثاني على ما ذهب إليه صاحب المفتاح، لأن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد
من ذلك، أو يعتذر لمثله بما ذكر صاحب الانتصاف من أن إضافة المصدر إلى معموله وإن
كانت محضة لكنها تشبه غير المحضة، واتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره وقد جاز
في الغير الفصل بالظرف فيتميز هو عن الغير بجواز الفصل بغير الظرف. اهـ
قال الطَّيبي: ذهب هنا إلى أن مثل هذا التركيب ممتنع، وخطأ إمام أئمة المسلمين،
وضعفه في قوله (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ)، فبين كلاميه
تخالف.
وقال مكى: لم أر أحداً تحمل قراءته إلا على الصحة والسلامة، وقراءته أصل يستدل به
لا له.
وقال الإمام: وكثيراً أرى النحوين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن
فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا
جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن
به دليلاً على صحته كان أولى.
(3/389)
وقال السكاكي: لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير
الظرف، ونحو قوله: بين ذراعي وجبهة الأسدِ محمول على حذف المضاف إليه من الأول،
ونحو قراءة من قرأ (قتلَ أولادَهم شركائِهم) و (مخلفَ وعدَه رسله) لإسنادها إلى
الثقات، وكثير نظائرها من الأشعار -ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني- محمولةٌ عندي
على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني على قراءة من قرأ (والله
يريد الآخرةِ) بالجر أي عرض الآخرة، وما ذكرت وإن كان فيه نوع بُعد فتخطئة الثقات
والفصحاء أبعد. اهـ
وقال ابن مالك في كافيته:
وظرف أو شبيهه قد يَفْصِلُ ... جزأيْ إضافةٍ وقد يُستعمَل
فصلانِ في اضطرار بعض الشعرا ... وفي اختيار قد أضافوا المصدرا
لفاعلٍ من بعد مفعول حجز ... كقول بعضِ القائلين للرجز
يفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج
وعمدتي قراءة ابن عامر ... وكم لها من عاضد وناصر
وقال في الشرح: إضافة المصدر إلى الفاعل مفصولاً بينهما بمفعول المصدر جائزة في
الاختيار إذ لا محذور فيها مع أن الفاعل كجزء من عامله فلا يضر فصله لأن رتبته
منبهة عليه، والمفعول بخلاف ذلك، فعلم بهذا أن قراءة ابن عامر غير منافية لقياس
العربية، على أنَّها لو كانت منافية له لوجب قبولها لصحة نقلها، كما قبلت أشياء
تنافي القياس بالنقل، وإن لم تساو صحتها صحة القراءة المذكورة ولا قاربتها،
كقولهم: استحوذ، وقياسه استحاذ، وكقولهم: بنات ألببه، وقياسه ألبه، وكقولهم: هذا
جحرُ ضبٍّ خربٍ، وقياسه خربٌ، وكقولهم: لدن غدوةً، بالنصب، وقياسه الجر، وأمثال
ذلك كثير. اهـ
قوله: (فَزَجَجْتُهَا متمكناً ... زَجَّ القلوصِ أَبِي مُزَادَه).
قال الطَّيبي: أورده في المفصل بلفظ فزججتها بمزجة، الزج: الطعن، والمزجة: بكسر
الميم الرمح القصير كالمزراق، والقلوص: الشابة من النوق، وأبو مزادة: كنية رجل.
ونقل صاحب الإقليد عن الزمخشري أن وجهه أن يجر القلوص على الإضافة، ويقدر
(3/390)
مضاف إلى أبي مزادة محذوفاً بدل عن القلوص، تقديره: زج القلوص
قلوص أبي مزادة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: ضمير زججتها للكتيبة. اهـ
وقال ابن يعيش في شرح المفصل: هذا البيت أنشده الأخفش ولا يثبته أهل الرواية. اهـ
قال الثمانيني: أنشده الكوفيون ولا يعرفه البصريون.
قوله: ((افْتِرَاءً عَلَيْهِ) نصب على المصدر ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: الحال أولى الوجوه لملائمته قوله (بِزَعمِهم) لأنه حال من فاعل
(قالوا)، أي: قالوا زاعمين مفتريين. اهـ
قوله: (لخفة عقلهم).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن (سَفَهاً) مفعول له لكن عطف وجهلهم عليه إنما هو
لبيان المعنى، وإلاّ فقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع الحال. اهـ
وقال الطَّيبي: وقوله لخفة عقلهم: تفسير لقوله (سَفَهاً) وهو مفعول له، وقوله
(وجهلهم) عطف على خفة وتفسير لقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ). اهـ
قوله: (ويجوز نصبه على الحال أو المصدر).
زاد أبو البقاء: لفعل محذوف. اهـ
قوله: (أو للنخل، والزرع داخل فى حكمه لكونه معطوفاً عليه).
قال الطَّيبي: لأنَّ الأصل أن يطلق الأُكل على الثمرة والجنات بالحقيقة فغلّب فيه الزرع.
اهـ
وقال أبو حيان: ليس هذا بجيد، لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضميره.
(3/391)
قال: فالظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو الزرع، ويكون قد حذفت حال
النخل
لدلالة هذه الحال عليها، التقدير: والنخل مختلفاً أكله (والزرع مختلفاً أكله). اهـ
قوله: (ولا تسرفوا في التصدق).
قال الشيخ سعد الدين: بقرينة القرب، ولو علقه بالأكل والصدقة بقرينة الإطلاق لكان
أقرب، وأما إذا أريد بالحق الزكاة المفروضة فهي مقدرة لا تحتمل الإسراف. اهـ
وقال الطَّيبي: علق (وَلا تُسْرِفُوا) بالقريب وهو (وَآتُوا حَقَّهُ) على طريقة
التنازع، فيقدر مثله لقوله (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ). اهـ
قوله: ((وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) عطف على (جنات)).
قال الطَّيبي: والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بالنوعين في عرف الشرع، وذلك أنه
تعالى لما حكى عن المشركين تحريم أجنة البحائر والسوائب وسجل عليهم بالخسران بسبب
تحريمهم ما رزقهم الله تعالى افتراء على الله نص على ما خلق للمكلفين وأباح لهم
أكله وحمل الأثقال عليه، وقدم أولاً ذكر الجنات المختلفة والزروع المتفاوتة وأمرهم
بالأكل منها وأداء حقوق الله منها ثم ثنى بذكر الأنعام المختلفة ثم عم الخطاب في
إباحة أكل سائر ما رزقهم الله تعالى ونهى عن اتباع خطوات الشيطان من تحريم ما أحله
الله تعالى. اهـ
قوله: (وهو بدل من (ثمانية)).
قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن (مِنَ الضَّأْنِ) بدل من (الأنعام)، و (اثْنَيْنِ)
من (حَمُولَةً وَفَرْشًا) أو من (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) إن جوزنا للبدل بدلاً.
اهـ
قوله: (والمعنى إنكار أن الله تعالى حرم الأجناس الأربعة ... ) إلى آخره.
(3/392)
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن المقصود إنكار فعل التحريم لكنه
أورد في صورة إنكار المفعول ليطابق ما كانوا يدعونه من التفصيل في المفعول
وللترديد فيه، فيكون الإنكار بطريق برهاني من جهة أنه لا بد للفعل من متعلق فإذا
نفى جميع متعلقاته على التفصيل لزم نفيه. اهـ
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب المفتاح: قل في إنكار نفس الضرب: أزيداً ضربت أم
عمرواً، فإنك إذا أنكرت من تردد الضرب بينهما تولد منه إنكار الضرب على وجه
برهاني، ومنه قوله تعالى (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ).
وقوله (على وجه برهاني) يعني: أن الضرب يستلزم محلا، فإذا نفيت المحل نفي اللازم،
وانتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له من (أهل)، وهو عطف على (يكون) والمستكن فيه
راجع إلى ما رجع إليه المستكن في (يكون)).
قال أبو حيان: هذا إعراب متكلف جداً، وتركيبٌ على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة
وغير جائز على قراءة من قرأ (إلا أن تكون ميتةٌ) بالرفع فيبقى الضمير في (به) ليس
له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير: أو
شيء أُهلَّ لغير الله به، لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. اهـ
قال الحلبي: يعني بذلك أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام
(من) التبعيضية، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، فإن
لم يكن فيه (من) كان ضرورة كقوله:
ترمي بكفي كان مِنْ أرمى البشر
أي بكفي رجل، وهذا رأي بعضهم، وأما غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف
مطلقاً، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي. اهـ
(3/393)
وقال السفاقسي: منعه من حيث رفعُ الميتة فيه نظر، لأنه يعود على
ما يعود عليه ضمير (كان) بتقدير النصب، ورفعها لا يمنع من ذلك. اهـ
وقال الطَّيبي: الإعراب الأول أولى ليحصل في الكلام الترقي، وليؤذن بأن ما أهل
لغير الله به أقذر وأخبث من لحم الخنزير. اهـ
قوله: (الثروب).
قال الجوهري: الثروب شحم قد يغشى الكرش والأمعاء رقيق. اهـ
قوله: (والإضافة لزيادة الربط).
قال الطَّيبي: المراد إضافة الشحوم إلى الضمير، لأن الظاهر أن يقال: ومن البقر
والغنم حرمنا عليهم الشحوم، فأضيف لزيادة الربط. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن إضافة شحوم إلى ضمير البقر والغنم لزيادة الربط
ًوإلا فأصل الربط حاصل بدونها، مثل: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لأن (من)
متعلق بهذا الفعل، وأما فيمن يجعل (وَمِنَ الْبَقَرِ) عطفاً على (كُلَّ ذِي
ظُفُرٍ) و (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) تبييناً للمحرم منهما فالإضافة
للربط المحتاج إليه. اهـ
قوله: (وقيل: هو عطف على (شحومهما)، و (أو) بمعنى الواو).
قال الشيخ سعد الدين: على الأول كان عطفاً على المستثنى، يعني: حرمنا جميع شحومهما
إلا هذه الثلاثة، فكان المناسب هو الواو دون (أو) لأن المخرج من حكم التحريم
ثلاثتها لا أحدها فقط، وأجيب بأن الاستثناء من الإثبات نفي، و (أو) في النفي تفيد
العموم لكونه بمنزلة النكرة في سياق النفي، فيصير المعنى: لم يحرم واحداً من
الثلاثة لا على التعيين وذلك ينفي المجموع ضرورة وهو معنى إباحة الكل، وفيه نظر
لأنَّ الاستثناء إنما يفيد نفي الحكم من المستثنى بمنزلة قولك: انتفى التحريم
(3/394)
عن هذا وذاك والعموم إنما يوجبه نفي الحكم عن هذا وذاك بمنزلة
قولك انتفى تحريم هذا وذاك، والحاصل أن النكرة إذا تعلقت بالمنفى عمت ضرورة أنَّ
نفى إيجاب المبهم لا يتحقق إلا بنفى الكل، وأما إذا تعلقت بالنفى كقولنا: الأمي من
لا يحسن من الفاتحة حرفاً، فلا يفيد سوى تعلق النفي بفرد مبهم، وهذا ما يقال إن
(أو) في النفي قد تكون لنفي أحد الأمرين فتعم، وقد تكون لأحد النفيين فلا تعم،
فالوجه أن يقال: كلمة (أو) في العطف على المستثنى أيضاً من قبيل: جالس الحسن وابن
سيرين كما ذكره في العطف على المستثنى منه يعني أنَّها لإفادة التساوي في الحكم
فيحرم الكل، وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل: لا تأكل أحد الثلاثة،
وهو معنى العموم، وهذا ما نقل عن صاحب الكشاف أنَّ الجملة لما دخلت في حكم التحريم
فوجه العطف بحرف التخيير أنَّها بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً
وعمرواً كان له أن يطيع زيداً على حده، وأما إذا قلت: لا تطع زيداً أو عمرواً أو
خالداً فالمعنى أن هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحداً منهم ولا الجماعة،
وبهذا يتبين فساد ما يتوهم من أنه يريد أن على تقدير العطف على المستثنى منه يكون
المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم
فيجوز لهم ترك أكل أيها كان وأكل الآخرين، والظاهر أنَّ مثل هذا وإن كان جائزاً
فليس من الشرع أن يحرم واحد مبهم من أمور معينة، وإنما ذلك في الواجب فقط. اهـ
وقال الزجاج: يجوز أن تكون (الْحَوَايَآ) نسقاً على (شُحومَهُمَا) لا على المستثنى،
المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه
غير محرم، ودخلت (أو) على طريق الإباحة كما قال عز وجل (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِمًا أَوْ كَفُورًا) أي: هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا،
(3/395)
و (أو) بليغة في هذا المعنى، لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً
وعمرواً، فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معاً، فإن أطيع زيد على حدته لم يكن
معصية، فإذا قلت: لا تطع زيداً أو عمرواً أو خالداً، أي: هؤلاء كلهم أهل أن لا
يطاع فلا تطع واحداً منهم ولا تطع الجماعة، ومثله: جالس الحسن أو ابن سيرين أو
الشعبي، فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فإن
جالست واحداً منهم فأنت مصيب. اهـ
وقال ابن الحاجب: (أو) في قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)
بمعناها وهو أحد الأمرين، وإنما جاء التعميم من النهي الذي فيه معنى النفي، لأن
المعنى قبل وجود النهي فيهما يطيع آثماً أو كفوراً، أي واحداً منهما، فإذا جاء
النهي ورد على ما كان ثابتاً في المعنى، فيصير المعنى: ولا تطع واحداً منهما،
فيجيء العموم فيهما من جهة النهى الداخل، بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون
الآخر، وهو معنى دقيق. اهـ
قال الطيبي: وحاصل ذلك أنك إذا عطفت (أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ) على (شُحُومَهُمَا) دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما
استثنى منه، وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم، و (أَو) على الأول
للإباحة، وعلى الثاني للتنويع.
وقال أبو البقاء: (أَو) هنا لتفصيل مذاهبهم لاختلاف أماكنها كقوله تعالى
(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) فلما
لم يفصل في قوله (وَقَالُوا) جاء بـ (أَو) للتفصيل إذ كانت موصوفة لأصل الشيئين.
اهـ
وقال أبو حيان: الأحسن في هذه الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على (شُحُومَهُمَا) أن
تكون (أَو) فيه للتفصيل، فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم. اهـ
وقال ابن عطية متعقباً القول بأنه عطف على (شُحُومَهُمَا): وعلى هذا تدخل الحوايا
في التحريم، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه ولم يبين وجه
(3/396)
ذلك. اهـ
قوله: (ذلك التحريم أو الجزاء).
قال أبو حيان: ظاهر هذا أن ذلك منتصب انتصاب المصدر، وقد ذكر ابن مالك أن اسم
الإشارة لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا وأتبع بالمصدر نحو: قمت هذا القيام
وقعدت ذلك القعود، ولا يجوز: قمت هذا ولا قعدت ذاك، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك
على أنه إشارة إلى المصدر. اهـ
وقال الحلبي: ما قاله ابن مالك غير صحيح لورود اسم الإشارة مشاراً به إلى المصدر
غير متبوع به، قال الشاعر:
ياعمرو إنك قد مللت صحابتي ... وصحابتيك إخال ذاك قليل
قال النحويون: (ذاك) إشارة إلى مصدر (خال) المؤكدة له وقد أنشده هو على ذلك. اهـ
قوله: (أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: الكفرة يحتجون بذلك على حقيقة الإشراك وتحريم الحلال وسائر
ما يرتكبونه من القبائح وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى
الأمر على ما هو مذهب القدرية من عدم التفرقة بين المأمور والمراد وإن كل ما هو
مراد الله تعالى فهو ليس بمعصية نهى عنها، وأهل السنة وإن اعتقدوا أنَّ كل الكل
بمشيئة الله لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقهما
العذاب بحكم الوعيد، ويعفو عن البعض بحكم الوعد، فهم في ذلك يصدقون الله تعالى
فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما
يشاء، والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على بعض ما هو بمشيئة الله تعالى، ويزعمون
أن الكفر والمعاصي إذا كانت بإرادة الله تعالى لم يكن عليها عذاب ألبتة ولم يكن
مخالفة للأمر، بل ربما كانت مرضية عنده.
قال: وحاصل الكلام في هذا المقام ما قال الامام وهو أنَّ في كلام المشركين مقدمتين
إحداهما: أنَّ الكفر بمشيئة الله تعالى، والثانية: أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم، وما ورد من الذم والتوبيخ إنما هو على الثانية إذ الله تعالى
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان
(3/397)
ويعذبه على الكفر، ويبعث الأنبياء دعاة إلى دار السلام وإن كان
لا يهدي إلا من يشاء. اهـ
وقال إمام الحرمين في الإرشاد: أنَّهم إنما استوجبوا التوبيخ لأنهم كانوا يهزؤن
بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان قد قرع مسامعهم من
شرائع الرسل تفويض الأمور إلى الله تعالى فلما طولبوا بالإسلام والتزام الأحكام
تعللوا بما احتجوا به على النبيين وقالوا (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا
آبَاؤُنَا) ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، والدليل عليه (قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ) فكيف لا يكون الأمر كذلك والإيمان بصفات الله
تعالى فرع الإيمان بالله والمقرعون بالآية كفرة. اهـ
قوله: (وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم).
قال الشيخ سعد الدين: سكت عن التثنية مع أنَّهم يقولون: هلمّا لأنه أراد بالجمع ما
يعم المثنى. اهـ
قوله: (فإن تسليمه موافقة لهم في الشهادة).
قال الطيبي: تلخيصه أن قوله (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أبلغ في النهي من قوله: فلا
تصدقهم، فهو من باب الكناية، ويجوز أن يكون من باب المشاكلة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: ربما يشعر بأن (فَلا تَشْهَدْ) مسمتعار بمعنى: لا تسلم،
استعارة تبعية، وقيل: مجاز من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم، لأن الشهادة من
لوازم التسليم، وقيل: كناية، وقيل: مشاكلة. اهـ
قوله: (والجملة).
قال الشيخ سعد الدين: أي (حَرَّمَ) مع مفعوله المقدم. اهـ
قوله: (مفعول (أَتْلُ)).
زاد غيره: على وجه التعليق، ورده أبو حيان بأن (أَتْلُ) ليس من أفعال القلوب
(3/398)
فلا تعلق.
وقال الشيخ سعد الدين: من حيث تضمنه معنى القول كأنه قيل: اتل أي شىء حرم. اهـ
قوله: (أي لا تشركوا ... ) إلى آخره.
يعني أنَّ (أن) مفسرة لا مصدرية فلذا عبر بـ (أي).
قال الشيخ سعد الدين: نظم الكلام لا يخلو عن إشكال لأن (أن) إما أن تجعل مصدرية أو
مفسرة، فإن جعلت مصدرية كانت في موقع البيان للمحرم بدلاً من (ما) أو من العائد
المحذوف، وظاهر أنَّ المحرم هو الإشراك لا نفيه، وأن الأوامر الواردة بعد ذلك
معطوفة على (تشرِكُوا) وفيه ارتكاب عطف الطلبي على الخبري وجعل المعاني الواجبة
المأمور بها محرمة فاحتيج إلى تكلفات متل جعل (لا) مزيدة وعطف الأوامر على
المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب، وأما جعل (لا) ناهية
واقعة موقع الصلة لـ (أن) المصدرية فلا سبيل إليه هنا لأن زيادة (لا) الناهية مما
لم يقل به أحد ولم يرد في كلام، وإن جعلت (أن) مفسرة على أن (لا) ناهية والنواهى
بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان: أحدهما: عطف (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا) على (أَلاّ تُشْرِكُوا) مع أنه لا معنى لعطفه على (أن) المفسرة مع
الفعل، ثانيهما: عطف الأوامر المذكورة على النواهي فإنَّها لا تصلح بياناً لتلاوة
المحرمات بل الواجبات، والمصنف اختار كون (أن) مفسرة لأن انعطاف الأوامر على
المذكورات قرينة ظاهرة على أنَّها نواه ولا سبيل حينئذ إلى جعل (أن) مصدرية موصولة
بالنهي لما عرفت فأجاب عن الإشكال بأن قوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)
ليس عطفاً على (أَلاّ تُشْرِكُوا) بل هو تعليل للاِّتباع متعلق بـ (اتبعوه) على
حذف اللام وجاز عود ضمير (اتبعوه) إلى الصراط لتقدمه في اللفظ.
فإن قيل: فعلى هذا يكون (اتبعوه) عطفاً على (أَلاّ تُشْرِكُوا) ويصير التقدير:
فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، وفيه جمع يبن حرفي عطف أعني الواو والفاء و ليس
بمستقيم، وإن جعلنا الواو استئنافية اعتراضية قلنا: ورود الواو مع الفاء عند تقديم
المعمول فصلاً بينهما شائع في الكلام مثل (وَرَبَّكَ فَكبِّر) (وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ
(3/399)
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) فإن أبيت الجميع
ألبتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقاً بمحذوف والمذكور بالفاء عطفاً عليه
مثل عطف (فَكبِّر) (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) وآثروه فاتبعوه، وعن
الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد (أن) المفسرة لتلاوة
المحرمات مع القطع بأنَّ المأمور به لا يكون محرماً دل على أن التحريم راجع إلى
أضدادها، بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى
كأنه قيل: أتلو ما حرم أن لا تسيؤا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا
تتركوا العدل وتنكثوا العهد، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق
العطف، وأما انتصاب (أَلاّ تُشْرِكُوا) بـ (عَلَيْكُمْ) يعني: الزموا ترك الشرك،
فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل (لا) ناهية
و (أن) المصدرية موصولة بالنواهي والأوامر. اهـ
وقال أبو حيان: لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه (لا)
لأنا بينا جواز عطف (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) على (تعالوا)، وما بعده معطوف
عليه، ولا يكون قوله (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) معطوفاً على (أَلاّ
تُشْرِكُوا).
قال: وقوله إنَّ التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بعيد جداً، وإلغاز في المعاني ولا
ضرورة تدعوا إلى ذلك.
قال: وأما ما عطف عليه هذه الأوامر فتحتمل وجهين: أحدهما: أنَّها معطوفة لا على
المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيثُ كانت في حيز (أن) التفسيرية بل هي
معطوفة على قوله تعالى (أَتْلُ مَا حَرَّمَ)، أمرهم أولاً بأمر ترتب عليه ذكر
مناه، ثم أمرهم ثانياً بأوامر، وهذا معنى واضح، والثاني: أن يكون الأوامر معطوفة
على النواهي، وداخلة تحت (أن) التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون (أن)
مفسرة له وللمعطوف قبله الذي دل على حذفه، والتقدير: وما أمركم به، فحذف وما أمركم
به لدلالة (مَا حَرَّمَ) عليه، لأن معنى (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ): ما
نهاكم ربكم عنه، فالمعنى: قل تعالوا أتل ما نهاكم
(3/400)
ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون
تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف، ألا ترى أنه يجوز أن
يقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهى
على الأمر كقول امرئ القيس:
يقولون لا تهلك أسىً وتجمل
وهذا لا نعلم فيه خلافاً، بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن
في جواز العطف فيها خلافاً. اهـ
قوله: (من أجل فقر ومن خشيته).
قال الشيخ سعد الدين: هذا يخالف ما اشتهر من أن هذا الخطاب للفقراء من الذين لهم
إملاق بالفعل ولذا قدم رزقهم فقيل (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، والخطاب في
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) للأغنياء ولذا قدم رزق أولادهم
فقيل (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ). اهـ
قوله: ((إلا وسعها): أي ما يسعها).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الواسع فعل بمعنى فاعل، أي: أمر يسع النفس ولا تعجز
النفس عنه. اهـ
قوله: (عطف على (وصاكم)).
قال الشيخ سعد الدين: يعني جملة (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) لظهور أنه ليس عطفاً
على الفعلية الواقعة خبر (ذَلِكُمْ). اهـ
قوله: (و (ثم) للتراخى فى الأخبار، أو للتفاوت فى الرتبة).
قال الطَّيبي: يمكن الجمع بينهما إذ لا منافاة بين الاعتبارين، وذلك أن قوله
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ) من جملة ما
وصاه الله تعالى قديماً وحديثاً ويكون قوله (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ) مشاراً به إلى
جميع ما ذكر من أول هذه السورة لا سيما هذه المنهيات المختتمة بقوله (وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)
(3/401)
فالعطف على طريقة (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ) لشرفهما على سائر ما وصاه الله تعالى وأنزل فيه كتاباً فحصل التراخي
بحسب الزمان وبحسب المرتبة أيضاً. اهـ
قوله: ((تماماً) للكرامة).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن (تَمَامًا) في موقع المفعول له وجاز حذف اللام
لكونه في معنى إتماماً فيكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل وللكرامة في موقع المفعول
به لـ (تَمَامًا). اهـ
قوله: (على من أحسن القيام به ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (الَّذِي أَحْسَنَ) إما للجنس أو للعهد، والمعهود
إما (مُوسَى) ففاعل (أَحْسَنَ) ضمير يعود إلى (الَّذِي) ومفعوله محذوف، وإما العلم
والشرائع التي أحسنها موسى وأجاد معرفتها ففاعل (أَحْسَنَ) ضمير (مُوسى) ومفعوله
محذوف هو العائد إلى الموصول، و (تَمَامًا) على هذا حال من (الكتاب)، وأما على
قراءة (أحسنُ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف فـ (الَّذِي) وصف لـ (الَّذِي)، أو للوجه
الذي يكون عليه الكتاب، و (تَمَامًا) على الوجهين حال من (الكِتاب)، و (عَلَى
الَّذِي) في الوجه الأول متعلق به وهو على معناه المصدري، وفي الثاني: مستقر حال
بعد حال و (تَمَامًا) بمعنى تاماً، أي: حال كون الكتاب تاماً كاملاً كائناً على
أحسن ما يكون، والأحسنية يجب أن تعتبر بالنسبة إلى غير دين الإسلام وإلى غير ما
عليه القرآن. اهـ
وقال الطَّيبي: قوله أو (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا) أي: تاماً كاملاً
على أحسن ما تكون عليه الكتب عطف على قوله (تَمَامًا) للكرامة، فعلى الوجه الأول
(تَمَامًا) مفعول له، قال الزجاج: وكذلك (وَتَفصِيلا)، أي: آتيناه الكتاب للتمام
وللتفصيل.
وعلى الثاني حال من (الْكِتَابَ) ثم التعريف في (الَّذِي أَحْسَنَ) إما للجنس أو
للعهد، فعلى الجنس يوافق معناه قوله تعالى (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ
فِيهِ
(3/402)
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) وإليه الإشارة بقوله: على من أحسن القيام
به يريد جنس المحسنين، وعلى العهد (أَحْسَنَ) إما بمعنى الإحسان في الطاعة
والامتثال لجميع ما أمر به كقوله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ)، أو بمعنى الجودة في العمل والإتقان فيه، وفي هذا الوجه من
المبالغة ما ليس في الأول لأنَّ الإحسان على الأول نفس الطاعة، وفي هذا زيادة
عليها. اهـ
قوله: (كراهة أن يقولوا).
قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء أن نفس هذا القول لا يصلح مفعولاً له لـ (أنزلنا) بل
عدمه، فحمله الكوفيون على حذف (لا) أي: لئلا يقولوا، والبصريون على حذف المضاف،
أي: كراهة أن يقولوا. اهـ
قوله: (أي: وإنه كنا).
قال أبو حيان: ما ذهب إليه من أن أصله وإنه كنا يلزم منه أن (أن) المخففة من
الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حالة التخفيف، والذي نص عليه الناس أنها مهملة لا
تعمل في ظاهر ولا مضمر لا مثبت ولا محذوف. اهـ
وقال السفاقسي: لم يصرح المصنف بأنها عاملة حال التخفيف بل قدرها بالثقيلة، أتى
بالضمير معها لأجل أن المثقلة لا تكون إلا عاملة فتوهم منه أنه ذهب إلى إعمال
الخفيفة وليس كذلك. اهـ
قوله: (وثقابة أفهامنا)
بمثلثة ثم قاف ثم باء موحدة، والمثقب بكسر الميم: العالم الفطن.
قال الطَّيبي: ويروى بالفاء بدل الموحدة يقال: غلام ثقف لقف أي: ذو فطنة
(3/403)
وذكاء. اهـ
قوله: (أو كل آياته).
قال الشيخ سعد الدين: فسر إتيان الرب سبحانه ليقابل إتيان بعض الآيات، ولو حمل على
حقيقته لابتني الكلام على إعتقاد الكفرة. اهـ
قوله: (وعن حذيفة والبراء بن عازب: كنا نتذكر الساعة ... ) الحديث.
قال الشيخ ولي الدين: إنما هو معروف من حديث حذيفة بن أسيد رواه مسلم في صحيحه.
وجزيرة العرب: قال أبو عبيد: اسم صقع من الأرض وهو ما بين حَفَر أبي موسى الأشعري
إلى أقصى اليمن في الطول وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة في العرض.
قال الأزهري: سميت جزيرة لأنَّ بحر فارس وبحر السودان أحاط بجانبيها وأحاط بالجانب
الشمالي دجلة والفرات. اهـ
قوله: (وقرئ (تنفع) بالتاء لإضافة الإيمان إلى ضمير المؤنث).
(3/404)
زاد في الكشاف: الذي هو بعضه، كقولك: ذهبت بعض أصابعه. اهـ
قال أبو حيان: هذا غلط لأنَّ الإيمان ليس بعضاً للنفس، ويحتمل أن يكون أنث على
معنى الإيمان وهو المعرفة والعقيدة فيكون مثل: جاءته كتابي فاحتقرها على معنى
الصحيفة. اهـ
وقال الحلبي: يشهد لما قاله المصنف قول النحاس: في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه وذلك
أنَّ الإيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها،
فالمراد البعضية المجازية. اهـ
قوله: (وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد).
قال الشيخ سعد الدين: أجيب عن التمسك بالآية بأنها من باب اللف التقديري، أي: لا
ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه خيراً،
فيوافق الآيات والأحاديث الشاهدة بأن مجرد الإيمان ينفع. اهـ
وقريب منه ما قاله ابن الحاجب أنَّ المعنى: لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها وهو
العمل الصالح لم تكن آمنت من قبل ولم تعمل العمل الصالح قبل فاختصر للعلم به.
وقال صاحب الانتصاف: هذا الفن من الكلام في البلاغة يلقب باللف، وأصله: يوم يأتي
بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد، ولا نفساً لم تكسب
في إيمانها خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلها كلاماً واحداً
إيجازاً وبلاغة.
قال: فظهر بذلك أنَّها لا تخالف مذهب الحق ولا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير
وإن نفع الإيمان المتقدم في السلامة من الخلود، فهى بالرد على مذهب الاعتزال أولى
من أن تدل له. اهـ
وقال ابن هشام: بهذا التقدير تندفع هذه الشبهة، وقد ذكر هذا التأويل ابن عطية وابن
الحاجب.
(3/405)
قال الطَّيبي: وعند هذا البيان أمر الله تعالى حبيبه صلى الله
عليه وسلم أولاً بأن يقول انتظروا ذلك الموعود إنا منتظرون إقناطاً له عن إيمانهم،
ثم ثنى بما ينبئ عن الإعراض عنهم بقوله (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، وثلث بالإقبال على من ينجع فيه
الإنذار والوعظ بقوله (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)،
وربع بما يسليه عن خاصة نفسه صلى الله عليه وسلم بقوله (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي
رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وخمس بخامسة شريفة مطابقة لما بدئت به السورة
من المقاصد وهى قوله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). فإن فاتحة السورة ابتدئت بذكر بدء النشأة الأولى لبيان
إثبات التوحيد ونفي الشرك، والخاتمة بذكر النشأة الأخرى والأمر بالاخلاص ونفي
الشرك، فسبحانه ما أعظم شأنه وما أعجب بيانه وأعز سلطانه. اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: افترقت اليهود ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة.
قوله: ((مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) عطف بيان).
قال الشيخ سعد الدين: لما في الإضافة من زيادة التوضيح. اهـ
وقال الطيبي: يريد أن الدين القيم هو ملة إبراهيم بعينه.
قال الراغب: الملة كالدين وهو اسم لما شرع الله تعالى على لسان الأنبياء صلوات
الله وسلامه عليهم يتوصلوا به إلى جوار الله تعالى، والفرق بينهما أنَّ الملة لا
تضاف إلا إلى النبي الذي تسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى
آحاد أمة النبي، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع، وأصلها من أمللت الكتاب. اهـ
قوله: (وما أنا عليه في حياتي ... ) إلى آخره.
(3/406)
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن المحيا والممات مجازان عما
يقارنهما ويكون معهما من الإيمان والعمل الصالح لأنه مناسب للحكم لكونه خالصاً
لوجه الله تعالى كالصلاة وسائر العبادات. اهـ
قوله: (وهو جواب عن دعائهم).
قال الطَّيبي: لأنَّ كل تقديم إما للاهتمام أو جواب إنكار، وكذا ما فيه أداة
الحصر، ولهذا قال (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا) جواب عن قولهم
(اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ). اهـ
قوله: (لأنَّ ما هو آتٍ قريب).
قال الطَّيبي: أي الموعود سريع الوصول فإن سرعة العقاب تستدعي سرعة إنجاز الوعد.
اهـ
قوله: (أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل
بالتسبيح والتحميد)
أخرج هذا القدر الطبراني في المعجم الصغير، وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه في
تفسيره من حديث ابن عمر.
قوله: (فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من
سورة الأنعام يوماً وليلة).
هذا أورده الثعلبي عن أبي كعب وهو موضوع كما تقدم، والله أعلم.
تمت سورة الأنعام يتلوها سورة الأعراف.
* * *
(3/407)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سورة الأعراف
قوله: (فإن الشك حَرج الصدر).
قال الطَّيبي: أي أطلق الحرج وأريد الذي هو لازمه الشك فيكون كناية. اهـ
قوله: (وتوجيه النهي إليه للمبالغة).
قال العلم العراقي: لأنَّ الحرج منهي والمراد المنهى عنه. اهـ
قوله: (كقولهم: لا أريتك هاهنا).
قال الطَّيبي: أي هو من الكناية، ظاهره يقتضي أنَّ المتكلم ينهى نفسه عن أن يرى
المخاطب هناك، والمراد نهي المخاطب، أي: لا تكن هاهنا حتى لا أراك فيه فإنَّ
كينونتك هاهنا مستلزم لرؤيتي إياك، المعنى: أنَّ الحرج لو كان مما ينهى لنهيناك
عنه (فانته عنه) بترك التعرض له. اهـ
قوله: (والفاء تحتمل العطف والجواب).
قال الطَّيبي: وأقول إن الفاء أذنت بترتب النهي على كون الكتاب منزلاً، وتقريره
على الشك أن يقال: إذا تيقنت أن الكتاب منزل من عند الله تعالى فلا ينبغي أن تشك
فيه لأن اليقين والشك لا يجتمعان، فالنهي من باب التهييج والإلهاب ليداوم على
اليقين ويزيد فيه كقوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ) وقوله تعالى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، وعلى نفي الضيق
والحرج أن يقال: إن (المص) إما وارد على قرع العصا لمن تحدى بالقرآن وبغرابة نظمه
أو هو تقدمة لدلائل الإعجاز، والمعنى: (المص) هو كتاب منزل من عند الله بالغ حد
الإعجاز فكن منشرح الصدر فسيح البال قوي الجأش ولا تبال بهم وأنذرهم به فإن الغلبة
لك عليهم
(3/408)
والسلطان وهم مقهرون، فالنهى من باب التشجيع هذا هو الوجه معنى
ونظماً. اهـ
قوله: (متعلق بـ (أُنْزِلَ) أو بـ (لا يَكُنْ)).
قال أبو حيان: في تعليق المجرور والظرف مكان الناقصة خلاف، مبناه على أنَّها هل
تدل على حدث أم لا؟ فمن قال: نعم، جوزه، ومن قال: لا، منعه. اهـ
وقال الحلبي: الصحيح دلالتها على الحدث.
قال: ثم إنه ليس في عبارة الزمخشري ما يدل على أنه متعلق بـ (فَلا يَكُنْ) فإنه قال
بالنهي فقد يريد بما تضمنه من المعنى. اهـ
قوله: (يحتمل النصب بإضمار فعلها).
قال الطَّيبي: روي عن صاحب الكشاف أنه قال: لم أزعمه معطوفاً على محل (لِتُنذِرَ)
لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً حتى يجوز حذف اللام
منه. اهـ
قوله: (والرفع عطفاً على (كتاب)، أو خبر محذوف).
قال الزجاج: التقدير: هو ذكرى. اهـ
قال الطَّيبي: فإن قلت: ما الفرق بينه إذا كان عطفاً على (كِتَاب) وبينه إذا كان
خبر مبتدأ محذوف؟ قلت: المعنى على الأول هو جامع بين كونه كتاباً وكونه ذكرى
للمؤمنين لتنذر به، وعلى الثاني عطف جملة على جملة، أي: هو كتاب منزل من عند الله
لإنذار الكافرين وهو ذكرى للمؤمنين وبشارة لهم، فيكون كل من الوصفين مستقلاً بنفسه
والتركيبان مستبدين برأسهما. اهـ
قوله: (وإن جعلت مصدرية لم ينتصب (قليلاً) بـ (تذكرون)).
قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون (ما) مصدرية، لأنَّ (قَلِيلاً) لا يبقى له ناصب.
اهـ
(3/409)
قوله: (وإنما حذفت واو الحال استثقالاً لاجتماع حرفي عطف، فإنها
واو عطف استعيرت للوصل).
قال أبو حيان: هذا التعليل ليس بصحيح لأنَّ واو الحال ليس حرف عطف فيلزم من ذكرها
اجتماع حرفي عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف
حالاً على حال، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنَّها ليست واو عطف،
ولا لحظ فيها معنى واو عطف، تقول: جاء زيد والشمس طالعة، فجاء زيد ليس بحال فيعطف
عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام
الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف. اهـ
ًوقال السفاقسي: تعقبه عليه ليس بطائل لأن الزمخشري إنما قال إنَّها واو العطف على
الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط، فقد صرح بخروجها عن أصله، فكيف يلزمه
وقوع حال قبلها؟ وقوله: استثقالاً لاجتماع حرفي العطف، يعني في واو الحال اعتباراً
بأصلها. اهـ
وقال الحلبي: لم يدع الزمخشري في واو الحال أنها عاطفة بل ادعى أن أصلها العطف،
ويدل على ذلك قوله: استعيرت للوصل، فلو كانت عاطفة على حالها لما قال: استعيرت،
فدل قوله ذلك على أنَّها خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها
في امتناع مجامعتها لعاطف آخر، وأما تسميتها حرف عطف فباعتبار أصلها، ونظر ذلك
أيضاً واو مع فإنَّهُم نصوا على أن أصلها واو العطف ثم استعملت في المعية، فكذلك
واو الحال.
قال: وقد سبقه في تسمية هذه الواو حرف عطف الفراء وابن الأنباري.
قال الفراء: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) فيه واو مضمرة، المعنى: أهلكناها فجاءها بأسنا
بياتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، فاستثقلوا نسقاً على إثر نسق، ولو قيل لكان صواباً.
وقال أبو بكر ابن الأنباري: أضمرت واو الحال لوضوح معناها، ومن أجل أنَّ (أو) حرف
عطف والواو كذلك فاستثقلوا جمعاً بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني.
(3/410)
قال الحلبي: فهذا تصريح من هذين الإمامين بما ذكره الزمخشري.
قال: وإنما ذكرت نصها لأعلم اطلاعه على أقوال الناس، وأنه لا يأتي بغير مصطلح أهل
العلم كما يرميه به غير مرة. اهـ
وقال الطَّيبي: قوله: واو عطف استعيرت للوصل، صريح في أنَّ واو الحال غير العاطفة
الصرفة، وتحقيق ذلك ما قال صاحب المفتاح: وحق النوعين أي الحال بالإطلاق والحال
المؤكدة أن لا يدخلهما الواو؛ نظراً إلى إعرابهما الذي ليس بتبع؛ لأنَّ هذه الواو
وإن كنا نسميها واو الحال أصلها العطف، وقال أيضاً: الأصل في الجملة إذا وقعت موقع
الحال أن لا يدخلها الواو، ولكن النظر لها من حيث كونها جملة مفيدة مستقلة بفائدة
غير متحدة بالأولى وغير منقطعة عنها كجهة جامعة بينهما يبسط العذر في أن يدخلها
واو الجمع بينها وبين الأولى، مثله في نحو: قام زيد وقعد عمرو. اهـ
قوله: (لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح).
قال أبو حيان: تبع في ذلك الفراء، وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام
العرب نثرها ونظمها، وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين.
قال: وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة. اهـ
قوله: (وقت دعة).
قال الجوهري: الدعة: الخفض، والهاء عوض من الواو، ويقال: ودع الرجل -بالضم- فهو
وديع، أي: ساكن. اهـ
قوله: (روي أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً ... )
الحديث.
أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
بنحوه.
قال الطَّيبي: البطاقة: رقعة صغيرة، وهي ما يجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه. اهـ
(3/411)
وقال القرطبي في التذكرة: قوله في الحديث (فيخرج له بطاقة فيها
أشهد أن لا إله إلا الله) ليست هذه شهادة التوحيد لأنَّ من شأن الميزان أن يوضع في
كفته (شىء وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة) فهذا غير مستحيل
لأنَّ العبد يأتي بهما جميعاً، ويستحيل أن يأتي بالكفر والإيمان عند واحد حتى يوضع
الإيمان في كفة والكفر في كفة، فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان،
وأما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة فتوضع في الميزان مع
سائر الحسنات قاله الترمذي الحكيم.
قال القرطبي: ويدل على هذا قوله في الحديث (فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة) ولم يقل
إن لك عندنا إيماناً، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله
أمن الحسنات هي؟ فقال: من أعظم الحسنات.
قال: ويجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا. اهـ
قوله: (رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قل: إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا
يزن عند الله جناح بعوضة).
أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
قوله: (يكذبون بدل التصديق).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ قوله (يَظْلِمُونَ) ضمن معنى التكذيب فعدي بالياء. اهـ
قوله: (وقيل: (ثم قلنا) لتأخير الإخبار).
قال الطيبي: يمكن أن تحمل (ثم) على التراخي في الرتبة، لأن مقام الامتنان يقتضي أن
يقال: إن كون أبيهم مسجوداً للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم، وفيه تلويح إلى
شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة، ومن ثَمَّ
عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي. اهـ
قوله: (و (لا) صلة مثلها في (لئلا يعلم) مؤكدة معنى الفعل).
قال الطَّيبي: قال صاحب المفتاح: للتعلق بين الصارف عن فعل الشيء وبين الداعي إلى
تركه يحتمل عندي أن يكون (مَنَعَك) في الآية مراداً به: ما دعاك إلى أن لا تسجد،
(3/412)
وأن تكون (لا) غير صلة قرينة للمجاز. اهـ
وقال الراغب: المنع يقال في ضد العطية، وقد يقال في الحماية، وقوله (مَا مَنَعَكَ
أَلاّ تَسْجُدَ) أي: ما حملك. اهـ
قوله: (جواب من حيث المعنى).
قال الطَّيبي: لأنَّ الجواب الحقيقي: منعني كذا وكذا، وقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)
جواب أيكما خير، والمعنى: منعني من السجود فضلى عليه.
قال: فالجواب من الأسلوب الأحمق كقول نمرود (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). اهـ
قوله: (قال عليه الصلاهَ والسلام: من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله).
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث عمر بن الخطاب.
قوله: (كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ).
أوله:
لدنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ... فيه ...............
يصف الرمح، لدن: أي لين، وعسل الرمح: اهتز واضطرب، والذئب: أسرع، وضمير (فيه) للكف
أو للهز، والبيت من قصيدة لساعدة بن جؤية وأولها:
هجرتْ غضوبُ، وحبَّ من يتجنب ... وعدت عوادٍ دون وَلْيِك تشعب
شاب الغراب ولا فؤادك تارك ... ذكر الغضوب ولا عتابك يعتب
قوله: (وقيل: تقديره: على صراطك).
قال الطيبي: لا اختلاف بين النحويين في أنَّ (على) محذوفة، وفي التخريج الأول
إشكال لأنَّ حكم مؤقت المكان كحكم غير الظروف فلا يحذف، والبيت شاذ. اهـ
قوله: (بالتسويل).
(3/413)
في النهاية: التسويل: تحسين الشيء وتزيينه للإنسان ليفعله أو
يقوله. اهـ
قوله: (وعن ابن عباس: (من بين أيديهم): من قبل الآخرة، (ومن خلفهم): من قبل
الدنيا، (وعن أيمانهم وعن شمائلهم): من جهة حسناتهم وسيئاتهم).
أخرجه ابن أبي حاتم.
قوله: (وقرئ «لِمَنْ» بكسر اللام على أنه خبر (لأملأن) على معنى: لمن تبعك هذا
الوعيد).
قال أبو حيان: إن أراد ظاهر هذا الكلام فهو خطأ على مذهب البصريين، لأنَّ (لأملأن)
جملة وهي جواب قسم محذوف، فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن يكون مبتدأة، ومن حيث
كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً لأنَّها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع
لها من الإعراب، ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يتصور أن تكون
الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال. اهـ
وقال الحلبي: بعد أن قال: على معنى لمن تبعك هذا الوعيد، كيف يورد عليه ذلك مع
تصريحه بالتأويل؟، وأما قوله علي أن (لأملأن) في محل الابتداء لأنه دال على الوعيد
الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدال ما ينسب إلى المدلول من جهة المعنى. اهـ
قوله: ((ويا آدم): وقلنا يا آدم).
قال الطَّيبي: إنما قدر (قلنا) ليؤذن بأنَّ هذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها
وهي قوله (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) لا على (قَال) وهو أقرب، وأنها كرامة أخرى
منحت أبا البشر امتناناً على المخاطبين من أولاده، ومن ثم أتى بصيغة التعظيم وأن
قوله (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ ... ) إلى آخره وارد على الاستطراد لحديث
الأمر بالسجود وامتناع إبليس منه، كما أن قوله (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) مستطرد لذكر بدو السوءات، وقوله (وَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً) استطراد في استطراد لأنه حكاية عن فعلٍ قبيح كانوا يفعلونه ويزعمون أنه
نسك من المناسك وهو طوافهم بالبيت عراة، فشنع عليهم بتسميته فاحشة، والدليل على
كونه مستطرداً العود إلى حديث الاستطراد الأول بقوله (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وفائدة عنه الأمر بالستر
(3/414)
وأكل المباحات بعد تقبيح تلك الفعلة والتزي بزي المتقين ولذلك
صرح بذلك بكل مسجد، ويؤيده قول الإمام: إن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون الطعام في
الموسم إلا القليل ويحترزون عن الدسم تعظيماً فأنزل الله تعالى (وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا) بياناً لفساد تلك الطريقة.
وسبيل هذا الاستطراد سبيل قوله تعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ أَبْوَابِهَا) سواء بسواء. اهـ
قوله: (وفيه دليل على أنَّ كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح
مستهجن فى الطباع).
تبع فيه صاحب الكشاف وقد قال ابن المنير: فيه ميل إلى الاعتزال وأن العقل يقبح
ويحسن.
قال: وهذا اللفظ لو صدر من السني كان تأويله أن العقل أدرك المعنى الذي لأجله
حَسَّن الشرعُ الستر وقبَّح الكشف. اهـ
وقال الطَّيبي: في تقديره أي في جعل الإبداء غرضاً للشيطان في الوسوسة دليل على أن
المطلوب الأولي منه أنه مهتم بشأنه لكونه مستتبعاً للإخراج من الجنة وموجباً
للفضيحة وشماتة العدو، ثم في إيقاع الصلة الموصولة وهي (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا)
موضع العورة على نحو قوله تعالى (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) إشعار
بزيادة التقبيح، وفي جعل (مِنْ سَوْءَاتِهِمَا) بياناً له إيذان بمزيد الشناعة
والقبح على منوال قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ)، وإنما كان مستقبحاً في الطباع والعقول لأنه لم يكن في الجنة تكليف
سوى المنع من قربان الشجرة وإنما علم قبحه من جهة العقل. اهـ
ثم عقبه بكلام ابن المنير السابق.
(3/415)
قوله: (أو يصل).
أصلة: وويصل.
قوله: (لأن الثانية مدة).
قال الطَّيبي: أي إنما تقلب إذا كانت الثانية متحركة، شبه الواو الثانية بالألف
لسكونها في أن لا أثر لها، أما أو يصل فحركتها أخرجتها من ذلك الحكم. اهـ
قوله: (واستدل به على تفضيل الملائكة على الأنبياء ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: الجواب أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك أن يكون الأمر على ما
اعتقده ووسوس به، فقد علل إبليس منع الشجرة بأنه كراهية أن يخلد أو يكونا ملكين
وهو كاذب فيه، ولم يقرر الله تعالى قوله بل أشَار إلى كذبه بقوله (فَدَلاّهُمَا
بِغُرُورٍ) فدل على أن تفضيل الملائكة من جملة غروره. اهـ
قوله: (وقيل: أقسما له بالقبول).
قال ابن المنير: إنما يتم هذا لو لم يذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما إذا ذكره
فلا يتم إلا بأن يسمي قبول النصح نصحاً للمقابلة كما قرئ (ووعدنا موسى) جعل
التزامه بالوعد وحضوره وعداً. اهـ
قوله: (وقيل: أقسما عليه بالله إنه لمن الناصحين وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة).
قال ابن المنير: فيكون في الكلام لف، لأن آدم وحواء لا يقسمان بلفظ المتكلم بل
بلفظ الخطاب. اهـ
وقال الطَّيبي: هو إلى التغليب أقرب. اهـ
قوله: (وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف فى ثياب عصينا
الله تعالى فيها، فنزلت).
أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن جبير، وأصله في صحيح مسلم من حديث ابن عباس.
(3/416)
قوله: (ولِبَاسًا يتجملون به).
قال الطَّيبي: إنما عطف (وَرِيشُا) على (لِبَاسًا) ليؤذن بأن الزينة أيضاً غرض
صحيح كقوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً)، وكما أن ستر العورة مأمور به كذلك أخذ الزينة مأمور به قال تعالى
(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). اهـ
قوله: ((ذلك) صفته)
قال الطيبي: قال نور الدين الحكيم: الوصف بذلك غير سديد على الظاهر، لأن حق
الموصوف أن يكون أخص، وذلك أخص من لباس التقوى، وقد صرحوا بأن عامهم هذا جائز
والعام هذا غير جائز والمضاف إلى المعرف باللام أحط درجة من المعرف باللام.
قال أبو البقاء: يجوز ذلك على تأويل المذكور أو المشار إليه.
وقال صاحب الكشاف: كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه، كما تقول: زيد هذا قائم.
اهـ
قوله: (كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها).
قال الطَّيبي: يريد أن قوله (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) وضع موضع مصدر
(يَفْتِنَنَّكُمُ) وضعاً للسبب موضع المسبب، أي: أوقعه في المحن والبلاء بسبب
الإخراج. اهـ
قوله: (لا يقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا).
قال أبو حيان: لأنه تعالى أثبت أنَّهم يروننا من جهةٍ نحن لا نراهم منها، وهي الجهة
التي يكونون فيها على أصل خلقهم من الأجسام اللطيفة، ولو أريد نفي رؤيتنا على
العموم لم يتقيد بهذه الحيثية، وكان يكون التركيب: إنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا
ترونهم، وأيضاً فلو فرض أن في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي
المستفيض فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعض الناس في بعض الأحيان. اهـ
(3/417)
قوله: (فى كل وقت سجود، أو مكانه وهو الصلاة).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله (مَسجِد) مصدر ميمي، والوقت مقدر، واسم مكان كنى
به عن الصلاة، وإليه الإشارة بقوله: وهو الصلاة. اهـ
قوله: (وعن ابن عبَّاسٍ رضى الله تعالى عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك
خصلتان: سرف ومخيلة).
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في تفسيره.
قوله: (وانتصابها على الحال).
قالي أبو البقاء: العامل فيها (للذِين) أو (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إذا جعلته
خبراً أو حالاً، والتقدير: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم
القيامة، أي الزينة يشاركون فيها في الدنيا وتخلص لهم في الآخرة، ولا يجوز أن تعمل
في (خَالِصَةً) (زِينَةَ اللهِ) تعالى لأنَّها وصفت بقوله (التِي) والمصدر إذا وصف
لا يعمل، ولا قوله (أَخْرَجَ) لأجل الفصل الذي بينهما وهو قوله (قُل)، وأجاز أبو
على أن يعمل (حَرَّم) وهو بعيد لأجل الفصل أيضاً. اهـ
قوله: ((ما لم ينزل به سلطاناً) تهكم بالمشركين).
قال ابن المنير: لأنه أجري مجرى ما له سلطان إلا أنه لم ينزل لأنه نفى أن ينزل
السلطان ولم ينف السلطان، وقياسه أن يكون كقوله:
على لاحبٍ لا يهتدي بمناره. اهـ
قوله: (أقصر وقت).
قال الطَّيبي: يريد أن تقدير الساعة ليس للتحديد بل للمثل لأقصر وقت، لأن التقديم
والتأخير لا يتصور ثمة. اهـ
قال الزجاج: ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء
(3/418)
الأوقات. اهـ
قوله: (ورتبوه عليه).
قال الطَّيبي: على وجه التسبب لأن إخبار الله بقوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) سبب لعلمهم
بالمساواة وحملهم على أن يقولوا وإذا كان كذلك فقد ثبت حينئذ أن لا فضل لكم علينا
في استحقاق الضعف. اهـ
قوله: (وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال (مَا وَعَدَنا) ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني أن الله تعالى وعد المؤمنين الثواب والكافرين العقاب فلو قال:
وعدكم لاختص بالعقاب، لأن المخاطبين أصحاب النار، كما أن (وَعَدَنَا) مختص بالثواب
يدل عليه ذكر الجنة والنار في قوله (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ
النَّارِ) فأطلق ليتناول الثواب والعقاب وما يتصل بهما، يعني هل وجدتم المواعيد
كلها صدقاً؟. اهـ
قال ابن المنير: ينعكس ويرد في قوله (وعَدَنَا) ولو ذكر المفعول في الثاني أو في
الأول لم ينف إرادة جميع ذلك، والوجه حذفه تخفيفاً واستغناءً بالأول. اهـ
قوله: (أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله تعالى (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِةِ) جزاء
شرط محذوف لدلالة قوله تعالى (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ
النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا) وكلاهما كالتفصيل لقوله تعالى (يَعْرِفُونَ كُلًّا
بِسِيمَاهُمْ)، وإنما قدر: نظروا دون (صُرِفَتْ) للمقابلة ليؤذن بأن النظر إلى
أصحاب الجنة وجد منهم على سبيل الرغبة وميل النفس وأصحاب النار بخلافه. اهـ
قوله: (من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة).
قال الحلبي: يعني أنَّ الإفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه من المائعات،
فقدر: من سائر الأشربة، ليصح تسليط الإفاضة عليه. اهـ
قوله: (أو من الطعام، كقوله: علفتها تبناً وماءً بارداً)
(3/419)
أي على تضمين (أفِيضُوا) معنى (ألقوا) ليصح انصبابه على الشراب
والطعام معاً، أو على تقدير فعل ألقوا بعد (أو)، والوجهان جاريان في البيت وفي كل
ما شابهه.
قال أبو حيان: والصحيح منهما التضمين لا الإضمار. اهـ
قال الطَّيبي: وهذا المصراع أنشد تمامة ابن قتيبة في كتاب مشكل القرآن عن الفراء:
حتى شتت همالة عيناها.
قوله: (يفعل بهم فعل الناسين).
قال الطَّيبي: يعني إنه تمثيل، لأنه متعال أن ينسى شيئاً، لكن شبه معاملته مع
هؤلاء المتكبرين بمعاملة من ينسى عبده من الخير فلا يلتفت إليه. اهـ
قوله: (عالمين بوجه تفصيله).
قال الطَّيبي: يعني أوقع (عَلَى عِلْمٍ) حالاً عن ضمير الفاعل في (فَصَّلْنَاهُ)
ليكون كناية عن كون الكتاب حكيماً غير ذي عوج، لأن الفاعل إذا كان عالماً بما يفعل
متقناً فيه جاء فعله محكماً مستقيماً. اهـ
قوله: (أو لأنَّ اللفظ يحتملها).
قال الطَّيبي: أي يحتمل أن يكون النهار ملحقاً بالليل وأن يكون الليل ملحقاً
بالنهار. اهـ
قوله: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء ... ) الحديث.
أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث سعد، وفيه: لا أدري (وحسب المرء أن يقول ... ) هو
من قول سعد أو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصدره في سنن أبي داود وابن ماجه
وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم.
قوله: (لأن الرحمة بمعنى الرحم).
(3/420)
بالضم، قال تعالى (وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، وفي نسخة بمعنى الترحم،
وهي عبارة أبي البقاء.
قال الزجاج: إن الرحمة والغفران والعفو في المعنى واحد. اهـ
وقال الأخفش: إن الرحمة في معنى المطر. اهـ
ذقوله: (أو على تشبيهه بفعيل الذي بمعنى مفعول).
يعني فإنه يستوي في المذكر والمؤنث كجريح، وأسير، وقتيل، وقيل: هو نفسه فعيل بمعنى
مفعول.
قوله: (أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره).
قال الزجاج: هذا غلط كل ما قرب من مكان أو نسب يجوز فيه التذكير والتأنيث. اهـ
قوله: (فإن المقل للشيء يستقله).
قال صاحب الكشاف: حقيقة أقله: جعله قليلاً في زعمه، كقولك: أكذبه، إذا جعله كاذباً
في زعمه. اهـ
وقال نور الدين الحكيم: أقله: وجده قليلاً واعتقده قليلاً، من الجعل الاعتقادي
كأكذبه.
قوله: (وإفراد الضمير باعتبار اللفظ).
لأنَّ (سحاباً) لفظه مفرد.
قوله: ((لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لأجله).
قال أبو حيان: جعل اللام لام العلة، ولا يظهر، وفرق بين قولك: سقت لك مالاً، وسقت
لأجلك مالاً، فإن الأول معناه: أوصلته لك وأبلغتكه، والثاني لا يلزم منه وصوله
إليه، بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علل به السوق، ألا ترى إلى صحة قول
القائل: لأجل زيد سقت لك مالا. اهـ
(3/421)
قال الحلبي: وهذا واضح. اهـ
قوله: (بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق).
قال الطَّيبي: فالباء على الأول بمعنى (في)، وعلى الآخرين كما في قولك: كتبت
بالقلم. اهـ
قوله: ((لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي: شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في
الإِثبات).
عبارة الكشاف: فإن قلت: لم قال (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) ولم يقل (ضلال) كما قالوا؟
قلت: الضلالة أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي
شيء من الضلال، كما لو قيل: ألك تمر؟ فقلت: ما لي تمرة. اهـ
قال صاحب الانتصاف: قوله: نفيها أبلغ لأنَّها أخص، لا يستقيم، فإن نفي الأعم أخص
من نفي الأخص، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم فلا يستلزمه، لأن الأعم لا يستلزم
الأخص، فإذا قلت: هذا ليس بإنسان، لا يلزمه سلب الحيوانية عنه، ولو قلت: هذا ليس
بحيوان، لم يكن إنساناً، والحق أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال لأنَّها لا تطلق
إلا على الفعلة منه، والضلال يصلح للقليل والكثير، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى
لا من جهة كونه أخص بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. اهـ
وفي حاشية الطَّيبي: عن صاحب الكشاف روى أنه قال: نفى أن يكون معه طرف من الضلال
وأثبت أنه في الغاية القصوى من الهدى حيث كان رسولاً من رب العالمين، وفيه إظهار
لمكابرتهم وفرط عنادهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال المبين
الظاهر شأنه لا ضلال بعده.
(قال صاحب الفرائد: جعل التاء في الضلالة بمنزلة التمرة والفعلة في أنَّها
للوحدة)، وقد قال صاحب المجمل: الضلال والضلالة بمعنى واحد.
وقال صاحب المثل السائر: الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يكون بينها وبين
واحدها تاء التأنيث فإنه متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد
الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة
مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالاً وضلالة كان القولان سواء، لأن الضلالة هنا ليست
عبارة عن المصدر بل عن المرة الواحدة، فإذا نفى نوح صلى الله عليه وسلم عن نفسه
المرة
(3/422)
الواحدة من الضلال فقد نفى ما فوق ذلك من المرتين والمرات
الكثيرة.
وقال صاحب الفلك الدائر على المثل السائر: الذي ذكره غير صحيح لا إن كانت الضلالة
مصدراً ولا إن كانت المرة الواحدة، أما الأول فلأنهما لما دلا على المصدر لم تكن
دلالة أحدهما أبلغ من الآخر، لأن المصدر يدل على الماهية فقط فإذا نفى نفيت
الماهية، وأما الثاني فلا يصح أيضاً، لأنه لو قال القائل: ما عندي تمرة، يعني ما
عندي تمرة واحدة وعندي تمر كثير يصح، لأنه لو أظهر ما أضمر فقال ليس عندي تمرة
واحدة بل تمرات لم يكن مناقضاً، وقول نوح صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ بِي
ضَلالَةٌ) بمعنى ضلالة واحدة لم يكن نافياً لكونه ضلالاً، لأنه إذا كانت الضلالات
مختلفة الأنواع لم يفده قوله لجواز أن لا تكون ضلالة واحدة بل ضلالات مختلفة
متنوعة، ومن وجدت عنده ضلالات كثيرة فقد صدق عليه أنه انتفت عنه ضلالة واحدة.
وقال صاحب التقريب: في قول صاحب الكشاف نظر، لأنَّ الضلال إما أن يراد الكثرة أو
الجنس، فعلى الأول لا نسلم أنَّ الواحد أخص بل الصحيح العكس، لأنه كلما وجدت
الكثرة وجد الواحد، ولا ينعكس، فالواحد أعم ويتم الجواب، إذ يلزم من نفي العام نفي
الخاص من غير عكس، فكان نفيها أبلغ، أي: ليس بي شيء من الضلال، وعلى الثاني يصح أن
الضلالة أخص ولكن لا يتم الجواب، إذ لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، ولما تضمن
كونه رسولاً مع كونه مهتدياً صح الاستدلال به عن انتفاء الضلالة.
وقال الطَّيبي: العجب من هؤلاء الفضلاء كيف يتكلمون بما لا جدوى منه، وطولوا من
غير نظر إلى المقام، فإن الزمخشري إنما يتكلم بمقتضى الحال ومطابقة الجواب للسؤال،
ولا يعتبر مفردات اللفظ، وبيانه أن القوم لما أثبتوا له نوعاً من الضلال وهو كونه
ضلالاً مبيناً لا مطلق الضلال كما توهموه، يدل عليه قوله السابق: وصفوه بالضلال
المبين والظاهر شأنه لا ضلال بعده، والجواب إنما يطابق إذا كان أبلغ منه، فإذا لم
تحمل الضلالة على ما قدره فمن أين تفيده الأبلغية، ولو لم ترد المبالغة لكان مقتضى
الظاهر أن يقال في جواب (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ): ليس بي ضلال، فلما
أثبتوا النوع نفى الواحدة.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام نفى الجنس لتنتفي الماهية،
فيحصل المقصود؟ قلت: إذاً يفوت مقتضى العدول من لفظ الضلال إلى الضلالة وإرادة
النزرة منها لأن نفي الشيء مع الصفة في مقام نفيه أبلغ من نفيه وحده، ولأن نفي
(3/423)
الواحدة لإرادة انتفاء الماهية أبلغ من العكس لمكان الكناية
واستلزام الاستغراق بحسب إفراد الجنس كما قال صاحب المثل السائر: فإذا نفى نوح
عليه الصلاة والسلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلالة فقد نفى ما فوقها من
المرتين والمرات الكثيرة، فظهر أن التركيب إنما يفيد المطلوب إذا وقع جواباً مع
إرادة المبالغة لا بالنظر إلى اللفظ من حيث هو، ألا ترى أن قوله تعالى (اللهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إنما كان أبلغ من قوله (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) من
حيث كونه وقع جواباً له، ولو نظر إلى اللفظ فقط كان هو أحط منه بدرجات كثيرة، وأما
مسألة التمرة فإذا قال القائل: ليس عندي تمرة، ابتداءً يصح ما قاله الزاعم، أما لو
قاله على سبيل الإنكار لمن يتهمه بإدخار التمر يصح ما قال والحاصل أن اقتضاء
المقام ينحي بالهدم لجميع ما بنوه، ولما كان الإمام الداعي إلى الله تعالى ذا حظ
وافر من علم البيان قال في تفسيره: فإن قيل: إن القوم قالوا (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) وجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا وعدل إلى قوله (لَيْسَ
بِي ضَلالَةٌ)؟ قلنا: لأن المراد بقوله (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي: ليس بي نوع من
أنواع الضلالة ألبتة.
وقال القاضي: (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أيّ شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا
في الإثبات. اهـ
قوله: (استدراك باعتبار ما يلزمه).
جواب سؤال تقديره: إنَّ (لكن) حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإيجاباً
فأين هذا المعنى في الآية؟ وتقرير الجواب: أن التغاير حاصل من حيث المعنى، لأن
معنى قوله (رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنه على صراط مستقيم، كأنه قال: ليس
بي ضلالة فقط لكني على الهداية ألبتة، كقولك: جاءني زيد لكن عمرواً غائب. قاله
الطَّيبي.
قوله: (والأول أبلغ لدلالته على الثبات).
قال الطَّيبي: لدلالة الصفة المشبهة على الثبوت (والعامي على العمى حادث لأن اسم
الفاعل دونها في الدلالة على الثبوت). اهـ
قوله: (استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سؤال ... ) إلى آخره.
(3/424)
قال الطَّيبي: حاصله إن كان الفاء رابطاً لفظياً فالإستئناف
رابط معنوي.
قال صاحب الفرائد: إنما حسن هذا لأنَّ قصة نوح عليه الصلاة والسلام ابتداء كلام،
فالسؤال غير مقتضى الحال، وأما قصة هود عليه الصلاة والسلام فكانت معطوفة على قصة
نوح عليه الصلاة والسلام فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هودٌ ما قال نوحٌ أم
قال غيره؟ فكان مظنة أن يسأل ماذا قال هود لقومه؟ فقيل: قال ما قال نوح لقومه (يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). اهـ
قوله: (إذا كان من أشرافهم من آمن).
قال الطَّيبي: يعني إنما وصف الملأ من قوم هود دون قوم نوح ليمتاز الذين كفروا من
الذين لم آمنوا، ولما لم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن لم يفتقر إلى التفرقة.
قال الإمام بهاء الدين الكاشي: وفيه نظر، لأن قوله تعالى في سورة المؤمنين
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ) وارد في قوم نوح، فهو لا يساعد هذا الجواب. اهـ
قوله: (قد وجب أو حق عليكم).
قال الطَّيبي: يعني استعمال (وَقَعَ) في الرجس والغضب مجاز من الوجوب الذي هو
اللزوم من إطلاق السبب على المسبب، كاستعمال الوجوب الشرعي لأنه في الأصل للوقوع،
ويجوز أن تكون استعارة تبعية، شبه تعلق الرجس والغضب بهم بنزول جسم من علو وهو
المراد من قوله: أو قد نزل عليكم. اهـ
قوله: (تعريض بمن آمن منهم).
قال الطَّيبي: يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة
هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده. اهـ
قوله: (وضعوا (آمنتم به) موضع (أُرسل به)).
قال ابن المنير: لو طابقوا لقالوا: إنا بالذي أرسل به كافرون، لكن عدلوا عن ذلك
لما فيه من إثبات رسالته وهم يجحدونها، وقد ثبت مثل ذلك على وجه التهكم في قوله
(3/425)
(إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)،
لكن هؤلاء بالغوا في التحرز حذراً من النطق بثبوت الرسالة. اهـ
قوله: (تنفحج).
بفاء وحاء مهملة ثم جيم.
قال في الصحاح: التفحج مثل التفشج وهو أن يفرج بين رجليه. اهـ
قوله: (سقبها).
السقب: الذكر من أولاد الإبل.
قوله: (أي: وأرسلنا لوطاً -إلى قوله- أو واذكر لوطاً، و (إذ) بدل منه).
قال الطَّيبي: على هذا عَطَفَ جملةَ القصة على مثلها، وعلى الأول من عطف بعض
مفردات الجملة على مثله، أي: لقد أرسلنا نوحاً ولوطاً، وقوله (إذ) ظرف لـ (أرسلنا)
فمعناه الزمان أو القرن الذي أرسل فيه لوط، قيل إن الوقت الحقيقي لقوله
(أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) هو الجزء المعين من الزمان الذي وقع فيه هذا الكلام،
وذلك الجزء لا يصح أن يكون ظرفاً للإرسال، لكن كما أن ذلك الجزء زمان هذا القول
فكذلك ذلك اليوم وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن، فيتحقق من هذا التقرير معنى
الأين الحقيقي وغير الحقيقي، وعلى عطف القصة على القصة و (إذ) بدل يكون أفيد، وذلك
أن ذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لتثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم
وتسليته مما يقاسي من قومه، أي: اذكر تلك الحالة وصورها في نفسك لتعلم أن الأنبياء
السالفة درجوا على ما أنت عليه مع القوم. اهـ
قوله: (والباء للتعدية).
قال أبو حيان: معنى التعدية هنا قلق جداً، لأن الباء المعدية من الفعل المتعدي إلى
واحد بجعل الفعل الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء، فهي كالهمزة، فإذا
قلت: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت الحجر يصك الحجر، وكذلك: دفعت زيداً بعمرو عن
خالد، معناه: أدفعت زيداً عمروا، أي: جعلت زيداً يدفع عمرواً عن
(3/426)
خالد، فللمفعول الأول تأثير في الثاني، ولا يتأتى هذا المعنى
هنا إلا بتكلف. اهـ
قوله: (والثانية للتبعيض).
قال الطَّيبي: فيكون بدلاً من محل (من أحد)، أي: ما سبقكم بها بعض العالمين، أي:
أنتم تفردتم لهذا الفعل من بين من عداكم من العالمين. اهـ
قوله: (والجملة استئناف).
قال الطَّيبي: أي ابتداء، وهو الاستئناف اللغوي لا الاصطلاحي. اهـ
قوله: (و (شهوة) مفعول له، أو مصدر فى موضع الحال بمعنى: مشتهين).
قال الطيبي: الفرق بينهما أنه إذا قدر حالاً كان المطلوب مجرد الذم من متابعة
الشهوة والجري على الطبيعة، وإذا قدر مفعولاً له يعود معناه إلى تقبيح توخى قلب
الحكمة لأن الحكمة في موضعها أن تكون ذريعة إلى بقاء النوع وتكثير النسل، أو وسيلة
إلى التعفف والتخلي للعبادة، فإذا جعل الغرض الأصلى هو الشهوة كان أسمج وأقبح من
طلب مجرد الشهوة. اهـ
قوله: (سدوم).
قال الشيخ سعد الدين: بفتح السين قرية قوم لوط، والذال المعجمة رواية الأزهري دون
غيره. اهـ
قوله: (وكان يقال له خطيب الأنبياء).
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً
يقول: ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه.
قوله: (وإرهاصاً).
قال الطَّيبي: هو أن يظهر الله تعالى على يد من سيصير نبياً خوارق العادات. اهـ
قوله: (أو أصلحوا فيها ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: بيان لكون المعنى على الظرفية وإلا فالتحقيق أنه من إضافة
(3/427)
المصدر إلى الفاعل، حيث جعل الأرض مصلحة على الإسناد المجازي،
كما جعل الليل والنهار ماكرين. اهـ
قوله: (بكل طريق من طرق الدين).
قال الطَّيبي: يعني القعود على الصراط تمثيل، مَثَّلَ إغوائهم الناس عن دين الحق
بكل ما يمكن من الحيل بمن يريد أن يقطع الطريق على السابلة فيكمن لهم من حيث لا
يدرون. اهـ
وقال أبو حيان: حمل القعود والصراط على المجاز، والظاهر أنه حقيقة وأنهم كانوا
يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه
ويقولون: إنه كذاب. اهـ
قوله: (وقيل كانوا يجلسون على المراصد ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فعلى هذا لا يكون تمثيلاً، ولا يكون (تَصُدُّونَ) حالاً ولا (عَن
سَبِيلِ اللهِ) من وضع الظاهر موضع المضمر كما في الوجه السابق، و (تُوعِدُون)
استئناف لبيان المقتضى، كأنه لما قال لهم: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ).
قالوا: لم ذلك؟
فأجيب: لأنكم توعدون وتصدون عن سبيل الله وعن دين الله. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: على هذا الوجه هل يكون (تُوعِدُون) وما عطف عليه حالاً؟
فقيل: لا بل استئنافاً، والأظهر الحال. اهـ
قوله: (لكن غلبوا الجماعة ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: وقد يستعمل عاد من أخوات كان بمعنى صار فلا يستدعى الرجوع إلى
حالة سابقة بل عكس ذلك وهو الانتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة كأنهم قالوا:
أو لتصيرن كفاراً في ملتنا. اهـ
قوله: (وعلى ذلك أُجْريَ الجواب).
(3/428)
قال الطيبي: أي أجابهم كما أوردوا عليه كلامهم من التغليب
ليتطابقا، ويجوز أن يكون على المشاكلة. اهـ
قوله: (واستأنف الجملتين).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ابتداء (الَّذِينَ كَذَّبُوا شعَيبًا) من غير عطف. اهـ
وقال الطَّيبي: إنه تعالى لما رتب العذاب بأخذ الرجفة على التكذيب والعناد وتركهم
هامدين لا حراك بهم أتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثو؟ فقيل:
الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، أي: استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا
في ديارهم.
ثم سأل: أختص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: الذين كذبوا شعيباً كانوا هم
الخاسرين، أي: اختص الدمار بهم، فجعلت صلة الأول ذريعة إلى تحقيق الخبر، كقول
الشاعر:
إن التي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
ولذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم بقوله (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) فارق
تقوى الحكم على التخصيص، وجعلت صلة الثانية علة لوجود الخبر نحو قولك: الذين آمنوا
لهم جنات النعيم والذين كفروا لهم دركات الجحيم. اهـ
قوله: (ثم أنكر على نفسه).
قال الطَّيبي: أي جرد من نفسه شخصاً وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه كما فعل
امرئ القيس في قوله:
تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد. اهـ
قوله: (ويسرناه لهم من كل جانب).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن ذكر السماء والأرض لتعميم الجهات لا لتبين ما منه
البركات كما هو رأي من فسرها بالمطر والنبات. اهـ
قوله: ((أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) عطف على قوله (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً)).
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب الفرائد: ما ذكر يشكل بما قيل إن لهمزة الاستفهام صدر
(3/429)
الكلام فلم يجز عطف ما بعدها على ما قبلها، وإنما الواجب أن
يقدر المعطوف عليه بعد الهمزة وقبل الواو.
وقال صاحب الإيجاز: إنما تدخل ألف الاستفهام على فاء العطف مع منافاة العطف
للاستئناف لأن المتنافي في المفرد إذ الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام
الأول والاستئناف يخرجه عن أن يكون منه ويصح ذلك في عطف جملة على جملة لأنه على
استئناف جملة على جملة.
وقال الطَّيبي: الحق أن هذه الهمزة مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير،
فتدخل بين الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر والحال وعاملها، وقد نص عليه الزجاج في
قوله تعالى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ
مَنْ فِي النَّارِ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: اختلفت كلمتهم في الواو والفاء وثم الواقعة بعد همزة
الاستفهام، فقيل: عطفت على مذكور قبلها لا مقدر بعدها بدليل أنه لا يقع ذلك قط في
أول الكلام وقيل بل بالعكس لأن الاستفهام له صدر الكلام، وصاحب الكشاف يحملها في
بعض المواضع على هذا وفي بعضها على ذلك بحسب مقتضى المقام وسياق الكلام، ولم يلزم
بطلان صدارة الهمزة إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه وتعلق معناها
بمضمونه، غاية الأمر أنَّها توسطت بين الكلامين المتعاطفين لإفادة إنكار جمع
الثاني مع الأول، أو وقوعه بعده متراخياً أو غير متراخ، ولا ينبغي أن يخفى على
المحصل أن هذا مراد من قال إن الهمزة مقحمة مزيدة للإنكار أو التقرير، أي مقحمة
على المعطوف مزيدة بعد إعتبار عطفه، ولم يرد أنَّها مزيدة بمنزلة حروف الصلة غير
مذكورة لإفادة معناها.
فإن قيل: هلا جعل المعطوف عليه (فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فإنه
أقرب؟ قلنا: لأن مساق (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى) إلى (يَكْسِبُونَ) مساق
التكرير والتأكيد بخلاف ما قبله فإنه لبيان حال القرى وقصة هلاكها قُصدا، فالعطف
عليه أنسب وإن كان هذا أقرب. اهـ
قوله: (بَيَاتًا ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (بَيَاتًا) إذا جعل بمعنى البتوت فنصب على المصدر من
(3/430)
(يَأْتِيَهُمْ) لكونه نوعاً فيه، أو على الحال من ضمير
(يَأْتِيَهُمْ) لكونه بمعنى اسم المفعول أو من (بَأسُنَا) لكونه بمعنى اسم الفاعل.
اهـ
قوله: (تقرير لقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى)).
قال الطَّيبي: فحينئذ مكر الله تعالى عبارة عما ذكره الله تعالى في دوله (أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ... ) الآيتين، والفاء في (فَلا يَأْمَنُ) للعطف على مقدر،
والهمزة في قوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) للتقريع والتوبيخ يعني: من بعدما
عرفوا ذلك أمنوا واطمأنوا فإذن خسروا لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
اهـ
قوله: (وإنما عدى (يهد) باللام لأنه بمعنى: يبين).
قال الطَّيبي: وذلك أنه يتعدى إلى المفعول الثاني باللام أو بـ (إلى)، وهنا عدى
إلى الأول باللام. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن اعتبار التضمين إنما هو على قراءة النون حيث ذكر
المفعول الثاني، وأما على قراءة الياء فهو من قبيل التنزيل منزلة اللازم ولا حاجة
إلى تقدير المفعول، أي: ألم يبين لهم هذا البيان الطريق المستقيم. اهـ
قوله: ((ونطبع على قلوبهم) عطف على ما دل عليه (أولم يهد) أي: يغفلون عن الهداية).
قال أبو حيان: هذا الوجه ضعيف، لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صح أن يكون على
الاستئناف من باب عطف الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام،
وهو الوجه الثاني من كلام المصنف. اهـ
قوله: (أو منقطع عنه بمعنى: ونحن نطبع).
هذا ما رجحه أبو حيان.
وقال الطَّيبي: المختار أن تكون الجملة منقطعة واردة على الاعتراض والتذييل: أي:
ونحن نطبع على قلوبهم، أي: من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلوب من لم نرد منه
الإيمان حتى لا يعتبر بأحوال الأمم السالفة ولا يلتفت إلى الدلائل الدالة كما شوهد
من هؤلاء حيث آمنوا واطمأنوا. اهـ
(3/431)
وقال الشيخ سعد الدين: معنى الانقطاع في هذا الوجه أنه استئناف
واعتراض ولا يعتبر في مثله معطوف عليه معين بخلاف الأول. اهـ
قوله: (ولا يجوز عطفه على (أصبناهم) على أنه بمعنى: وطبعنا لأنه في سياقه جواب
(لو) لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم).
قال الطَّيبي: أي لأنه لو عطف ما في خبره (أو) لدخل في حكمه، وهي لامتناع الشىء
لامتناع غيره، فيلزم أن القوم لم يكونوا مطبوعاً على قلوبهم، والحال أنهم مطبوعون.
وقال في الانتصاف: يجوز عطفه عليه ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولو
كانوا كفاراً إذ ليس الطبع من لوازم الكفر والاقتراف، إذ الطبع هو التمادي في
الكفر والإصرار حتى ييأس من قبول صاحبه للحق، وليس كل كافر ولا مقترف بهذه المثابة
بل يهدد الكافر بأن يطبع على قلبه، فتكون الآية قد هددتهم بأمرين: الإصابة ببعض
الذنوب، والطبع على القلوب، وهذا الثاني وإن كان نوعاً من الإصابة بالذنوب فهو أشد
كما قال تعالى (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
وقال صاحب التقريب: في كلام الزمخشري نظر، لأنَّ المذكور من كونهم مذنبين دون
الطبع، وأيضاً جاز أن يراد: لو شئنا لزدنا في الطبع على قلوبهم أو لأدمنا.
وقال الطَّيبي: هذا مردود، لأن الكلام وارد على التوبيخ والتهديد بالإهلاك
والاستئصال لقوم ورثوا ديار قوم هلكوا بالاستئصال وهؤلاء استخلفوهم واقتفوا آثارهم
بمثل تلك الذنوب وهم أهل مكة لأن قوله (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) إما مظهر
وضع موضع المضمر، أو عام فيدخلون فيه دخولاً أولياً، ولا شك أنَّ الطبع وازديادهم
ليس من الإهلاك في شيء حتى يهددوا به. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: استدل في الكشاف على نفي كونه عطفاً على جواب (لو) بأنه
يستلزم انتفاء كونهم مطبوعاً على قلوبهم لما تعطيه كلمة (لو) من انتفاء جملتها،
واللازم باطل لقوله تعالى (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي مصرون على عدم القبول وكقوله
تعالى (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) على ما يعم أهل
القرى من الوارثين والموروثين وقوله (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) لدلالته على أن
حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منهم ألبتة، وبهذا يندفع الاعتراض بأن غاية
الأمر كونهم كفاراً مذنبين ولا يلزم
(3/432)
كونهم مطبوعاً على قلوبهم لأن معناه التمادي والإصرار على الكفر
بحيث لا يرجى زواله، وأما الدفع بأنَّ الكافر مخذول غير موفق ولا معنى للطبع سوى
هذا، غاية الأمر أنه قد يكون دائماً وقد يكون زائلاً كما في الكافر الذي وفق
للإيمان ففي غاية الفساد. اهـ
وقال أبو حيان: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون معطوفاً على (أصبنا) إذا كان بمعنى
نصيب، فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما قال تعالى
(تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) أي: إن يشاء، يدل
عليه قوله تعالى (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا).
قال أبو حيان: فجعل لو شرطية بمعنى (إن) ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع
غيره، ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب، وهذا الذي قاله ابن الأنباري رده الزمخشري من
جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون (وَنطبَع) بمعنى: وطبعنا، فيكون قد عطف المضارع على
الماضي لكونه بمعنى الماضي، وابن الأنباري جعل التأويل في (أصبنا) الذي هو جواب
(لوْ نشَآءُ) فجعله بمعنى نصيب، فتأول المعطوف عليه وهو الجواب ورده إلى المستقبل،
والزمخشري تأول المعطوف ورده إلى المضي، وأنتج رد الزمخشري أن كلا التقديرين لا
يصح.
قال: وما رد به الزمخشري ظاهر الصحة، وملخصه: أن المعطوف على الجواب جواب سواء
تأولنا المعطوف عليه أم المعطوف، وجواب (لو) لم يقع بعدُ سواءً كانت حرفاً لما كان
يقع لوقوع غيره أم بمعنى (إن) الشرطية، والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع
فلا يصح أن يعطف على الجواب فلو تأول (وَنَطْبَعُ) على معنى: ونستمر على الطبع على
قلوبهم، أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع. اهـ
قوله: (حال إن جعلنا (القرى) خبراً، وتكون إفادته بالتقييد بها).
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب التقريب: فيه نظر، لأنه جعل شرط كون (تِلْكَ
الْقُرَى) كلاماً مقيداً تقييده بالحال، وإذا جعل (نقُصُّ) خبراً ثانياً انتفى ذلك
الشرط إلا أن يريد: تلك القرى المعلومة حالها وصفتها، على أن اللام للعهد، لكنه
حينئذ يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال.
وقال الطَّيبي: هذا وهم، لأن ذلك على الوجه الأول، لأن المشهور أن الحال فضلة في
فائدة الجملة، بخلافه إذا كان خبراً بعد الخبر، لأن القرى حينئذ بمنزلة حلو في
قولك: هذا حلو حامض، فلا يكون كلاماً تاماً.
(3/433)
قال الزجاج: الحال هنا من لطيف النحو وغامضه، وذلك أنك إذا قلت:
هذا زيدٌ قائماً فإن قصدت أن تخبر من لم يعرف زيداً أنه زيد لم يجز أن يقول: هذا
زيدٌ قائماً، لأنه يكون زيد ما دام قائماً فإذا زال عن القيام فليس بزيد، وإنما
يقول ذلك للذي يعرف زيداً فيعمل في الحال التنبيه أي: أنبه لزيد في حال قيامه، أو
أشير إلى زيد في حال قيامه لأن هذا إشارة إلى ما حضر يريد بقوله أحضر تقييد المشار
إليه بالحال وإلا فلا فائدة في الجملة لأن السامع يعرفها، وكذا في الآية المعنى:
نخبرك عن القرى التي عرفتها في حال أنَّا قاصُّون بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم
نقصها عليك، وإذا كان المقصود من الإيراد هذا فلا بد من ذكر الحال.
فبطل قوله: لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تقرير ما قاله المصنف: لا خفاء أنَّ الكلام فيما إذا أريد
الجنس لا تلك القرى المعلومة حالها وقصتها، أو تلك القرى الكاملة في شأنها مثل
(ذَلِكَ الكتابُ) فإن الكتاب بمنزلة الموصوف، واعترض بأن الحال راجع إلى تقييد
المبتدأ لأن العامل فيه ما في اسم الإشارة من معنى الفعل، ولو سلم فالسؤال إنما
يندفع على تقدير كون (نقُص) حالاً لا خبراً بعد خبر، والقول بأن حصول الفائدة
بانضمام الخبر الثاني الذي هو بمنزلة الجزء على طريقة هذا حلو حامض أي مر فالسؤال
إنما هو على تقدير الحالية لأن الحال فضلة ربما يتوهم عدم حصول الفائدة بها ليس
بشيء لظهور أن ليس هذا من قبيل حلو حامض بمعنى مر، بل كل من الخبرين مستقل. اهـ
قوله: (والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان).
قال الطَّيبي: هو تفسير لقوله: لتأكيد النفي، يعني جاء باللام تأكيد لهذا المعنى
الذي يعطيه التركيب. اهـ
قوله: (والآية اعتراض).
قال الشيخ سعد الدين: إن كان الضمير للناس، وإن كان للأمم المذكورين من تتمة
الكلام السابق. اهـ
وقال الحلبي: فيه نظر، لأنه إذا كان الأول خاصاً ثم ذكر شيء مندرج فيه ما بعده وما
(3/434)
قبله كيف يجعل ذلك العام معترضاً بين الخاصين. اهـ
قوله: (أو لأكثر الأمم المذكورين).
قال الطَّيبي: فعلى هذا تكون الجملة تتميماً لا اعتراضاً.
قال: وعلى الوجهين قوله (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ
وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) من باب الطرد والعكس إن فسرنا الفاسقين
بالناكثين. اهـ
قوله: (ذا الحفاظ).
قال الجوهري: يقال أنه لذو حفاظ: إن كانت له أنفة. اهـ
قوله: (الضمير للرسل فى قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) أو للأمم).
قال الطيبي: الأول أوفق لأن تلك القصص ذكرت تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أصالةً (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ) واعتبار الأمة تبع، ويقويه أنه قيل (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ) ولم يقل: ثم أنشأنا من بعدهم أمة فرعون
وبعثنا إليهم موسى. اهـ
قوله: (فقلب لأمن الإلباس).
قال أبو حيان: أصحابنا يخصون القلب بالضرورة، فينبغي أن ينزه القرآن عنه. اهـ
وقال الحلبي: الناس فيه ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، والمنع، والتفصيل بين أن يفيد
معنى بديعاً فيجوز، أو لا فيمتنع. اهـ
قوله: (كقوله: وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر).
هو لخداش ابن زهير، وأوله: وتلحق خيل لا هوادة بينها
وقبلها:
كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا ... قوادم قرب لا تلين ولا تمرى.
يقال: أمرت الناقة إذا در لبنها، والهوادة: الصلح، والميل، والتهويد: المشي
(3/435)
الرويد مثل الدبيب، والضيطر: الرجل الضخم الذي لا غناء عنده،
والحمر:
العجم، لأن الشقرة غلبت عليهم، والأصل: ويشقى الضياطرة بالرماح.
قوله: (أو لأن ما لزمك فقد لزمته).
قال صاحب التقريب: حقيق في هذا الوجه بمعنى اللازم.
وقال الطَّيبي: بل هو إيماء إلى أن الأسلوب من الكناية الإيمائية كقوله:
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
يعني: بلغت اللازمة بين الجود والممدوح بحيث وجب وحق على الجود أن لا يفارق ساحته
فيسير حيث سار، وهو المراد بقول الكشاف: فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو
حقيقاً على قول الحق. اهـ
قوله: (أو للإغراق في الوصف بالصدق ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني كيف ينسحب إلي الكذب ولو كان الصدق مما يعقل لكان الواجب عليه
أن يجعلني قائله، أي: يجتهد لتحصيل ما يوجب أن أكون أنا قائله، فيكون من الاستعارة
المكنية. اهـ
وقال أبو حيان: لا يتضح هذا الوجه إلا إن عنى أن يكون (عَلَى أَنْ لا أَقُولَ) صفة
له، كما تقول: أنا عليَّ قول الحق، أي: طريقي وعادتي قول الحق. اهـ
وقال السفاقسي: هو على المبالغة في اتصاف موسى بالصدق بحيث يجب على الحق أن لا
يقوم به إلا هو. اهـ
قوله: (أو ضمن (حقيق) معنى حريص).
قال ابن المنير: هذا يلائم بين القراءتين. اهـ
(3/436)
قال أبو شامة بعد ذكره هذه الأوجه الأربعة: هذه وجوه متعسفة،
والأوجه (عَلَى) متعلقة بـ (رَسُول).
قال ابن مقسم: حقيق من نعت الرسول، أي: رسول حقيق من رب العالمين أرسلت على أن لا
أقول على الله إلا الحق، وهذا معنى صحيح واضح، وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب
اللغة عن تعليق (عَلَى) بـ (رَسُول)، ولم يخطر لهم تعليقه إلا بـ (حَقِيق).
قال أبو حيان: وكلامه فيه تناقض في الظاهر، لأنه قدر أولاً العامل في (عَلَى) أرسلت،
وقال أخيراً: إنهم غفلوا عن تعليق على بـ (رَسُول)، فأما هذا الأخير فلا يجوز عند
البصريين لأن رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز، وأما تعليقه بأرسلت
مُقَدَّراً لدلالة لفظ رسول عليه فهو تقدير سائغ ويتأول كلامه أنه أراد بقوله
تعليق (عَلَى) بـ (رَسُول) أنه لما كان دالاً عليه صح نسبة التعليق إليه. اهـ
قوله: (فاغراً).
أي: فاتحاً.
قوله: (وتعريف الخبر وتوسط الفصل).
قال الطَّيبي: فإن قلت ما الفرق بين أن يكون الضمير مؤكداً وبين أن يكون فصلاً؟
قلت: التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي: نحن
نفعل الإلقاء ألبتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم لأنه لتخصيص المسند بالمسند
إليه فيعرى عن التوكيد. اهـ
قوله: (وتأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل).
قلت: في جمع المصنف بين العبارتين نظر فإنه ليس في الآية إلا لفظ (نحن) فإما أن
يكون من باب ضمير الفصل، وإما أن يكون من باب تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، ولا
يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الاعراب، وعلى الثاني كالمؤكد.
قوله: (وأرهبوهم).
(3/437)
إشارة إلى أن استفعل في (اسْتَرْهَبُوهُمْ) كما قال أبو حيان
بمعنى أفعل، لا للاستدعاء والطلب كما قال الزمخشري، لعدم ظهوره هنا، إذ لا يلزم
منه حصول المستدعي والمطلوب.
قوله: (وهي مع الفعل).
أي المصدر.
قوله: (بمعنى المفعول)
أي المأفوك.
قوله: (فثبت الحق).
قال الطَّيبي: استعير للثبوت الوقع لأنه في مقابل (وَبَطَل) والباطل زائل،
وفائدتها شدة الرسوخ والتأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام. اهـ
قوله: (أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه تمثيل شبه حالهم في سرعة الخرور وشدته بحال من
أُلقي. اهـ
قوله: (وقرأ حفص (آمنتم) على الإخبار).
قال الكشاف: توبيخاً لهم. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن هذا الإخبار الصوري لقصد التوبيخ على ما يقتضيه
المقام، فإنَّ إلقاء الجملة الخبرية قد يكون لأغراض آخر سوى إفادة الحكم أو لازمه.
اهـ
وقال الطَّيبي: في هذا الخبر معنى التوبيخ كما في الاستفهام ونحوه، لأن الجملة إذا
ألقيت إلى من هو عالم بها تؤكد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام. اهـ
قوله: (أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء).
قال الطَّيبي: فهي استعارة تبعية في (أَفْرِغْ)؛ والقرينة (صَبْرًا)؛ لأن الصبر لا
يستعمل فيه الإفراغ. اهـ
قوله: (أو صب علينا ماءً يطهرنا من الآثام وهو الصبر).
(3/438)
قال الطَّيبي: فعلى هذا الاستعارة مكنية مستلزمة للتخييلية، لأن
الإفراغ إنما يستعمل في الماء والصبر المكنية. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: وقد فهم البعض وحاشاه من سوء الفهم من قوله: كما يفرغ الماء
أن الأول أيضاً كذلك إلا أن الجامع ثمة الغمر وهنا التطهير. اهـ
قوله: (كقول الحطيئة:
ألم أك جاركم وتكون بينى ... وبينكم المودة والإخاء).
أول القصيدة:
ألا قالت أمامة هل تعزى ... فقلت أمام هل غلب العزاء
وقبل هذا البيت:
ألا أبلغ بني عوف بن كعب ... فهل قوم على خلق سواء
ألم أك نائياً فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والرجاء
قوله: (أو اسئئناف أو حال).
قال الطيبي: بإضمار، أي: وهو يذرك، أما الاستئناف فعلى أن تكون الجملة معترضة
مؤكدة لمعنى ما سبق، وأما الحال فمقررة لجهة الإشكال. اهـ
قوله: (وقرئ بالسكون، كأنه قيل ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه من قبيل العطف على التوهم فإن جواب الاستفهام
كثيراً ما يكون بالجزم وترك الفاء فكان هنا كذلك فعطف عليه (يذرْك) بالجزم كما جعل
(فَأَصَّدَّقَ) بالنصب في جواب التخصيص منزلاً منزلة أصدق بالجزم فعطف عليه
(وَأَكُنْ). اهـ
وقال ابن جني: بل هو كقراءة أبي عمرو (يأمرْكم) بسكون الراء استثقالاً للضمة عند
توالي الحركات. اهـ
قوله: (ثم اشتق منها فقيل: أسنت القوم، إذا قحطوا).
قال في الصحاح: السنة إذا قلته بالهاء وجعلت نقصانه بالواو فهو من الناقص يقال:
أسنى الناس يسنون إذا لبثوا في موضع سنة، وأسنتوا: إذا أصابتهم الجدوبة بقلب الواو
(3/439)
تاءً للفرق بينهما فقال المازني: هذا شاذ لا يقاس. اهـ
وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية إذا وجدوها ثالثة فقلبوها تاء. اهـ
قوله: (أي سبب خيرهم وشرهم ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: اعلم أن لفظ الطائر يطلق على الحظ والنصيب سواءً كان خيراً أو شراً،
وهو المراد بقوله: أي سبب خيرهم وشرهم، وعلى التشاؤم وحده وهو الوجه الثاني. اهـ
قوله: (أصلها (ما) الشرطية ضمت إليها (ما) المزيدة للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء).
قال أبو حيان في شرح التسهيل: اختلف النحويون في (مهما) من حيث البساطة والتركيب،
فذهب الخليل إلى أنها مركبة من (ما) التي هي جزاء و (ما) التي تزاد بعد الجزاء
نحو: أيًّا ما، فكان الأصل ما ما فاستقبحوا التكرير فقلبوا الألف الأولى هاء،
ونظير ذلك قولهم: جأجأت جأجيت، ودهدهت الحجر ودهديت قلبوا الألف والهاء الأخيرة
ياء كراهية اجتماع الأمثال، وذهب الأخفش والزجاج والبغداديون إلى أنها مركبة من
(مه) بمعنى: اكفف، و (ما) الشرطية، وذهب بعض النحويين إلى أنَّ مهما اسم بسيط ليس
مركباً من شيء، ووزنه فعلى والألف فيه للإلحاق وللتأنيث.
قال أبو حيان: والذي نختاره أنَّها ليست مركبة وأنها موضوعة كلمة مفردة بسيطة لأن
دعوى التركيب لم يقم عليه دليل، ولأن من يدعي أن أصلها ما ما يضعف لأنه أصل لم
ينطق به في موضع من المواضع. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: (مهما) بسيطة، لا مركبة من (مه) و (ما) الشرطية، ولا من
(ما) الشرطية و (ما) الزائدة، ثم أبدلت الهاء من الألف الأولى دفعاً للتكرار،
خلافاً لزاعمي ذلك. اهـ
قوله: (والضمير فى (به) و (بها) لـ (مهما) ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ، وأنثه
باعتبار المعنى).
قال الطَّيبي: قالوا اللطيفة فيه هى أن الضمير الأول لما عاد إلى (مَهْمَا) ولفظه
مذكر ذُكر، والضمير الثاني إنما رجع إليه بعد ما بين بقوله (مِنْ آيَةٍ) فأنث بهذا
الاعتبار. اهـ
(3/440)
وقال ابن هشام في المغني: الأولى أن يعود ضمير (بِهَا) لـ
(ءَايَة). اهـ
قوله: (بعهده عندك وهو النبوة).
قال الشيخ سعد الدين: قيل سميت النبوة عهداً لأن الله تعالى عهد أن يكرم النبي،
وهو عهد أن يستقل بأعبائها، أو لأن فيها كلفةً واختصَاصاً كما بين المتعاهدين، أو لأن
لها حقوقاً تحفظ كما يحفظ العهد، أو أنَّها بمنزلة عهد ومنشور يكتب للولاة. اهـ
قوله: (فاجؤوا النكث).
قال الشيخ سعد الدين: محافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة (لما) من
الفعلين يجب أن يكون ماضياً لفظاً أو معنى؛ لإنَّ مقتضى ما ذكروا من (إذا)
الفجائية في موضع موقع المفعول به للفعل المتضمن فيما أتاه أن يكون التقدير:
فاجأوا زمان النكث؛ أو مكانه وحقيقته، على ما نقل صاحب الكشاف أنه شبه وجود هذا
بوجود ذاك، فكأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان. اهـ
وقال أبو حيان: لا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير، لأن ما دخلت عليه (لما) ترتب
جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بد من تعقل
الابتداء أو الاستمرار حتى تتحقق الغاية، ولذلك لا تصح الغاية في الفعل غير
المتطاول لا يقال: لما قتلت زيداً إلى يوم الجمعة جرى كذا وكذا، وجعل بعضهم (إِلَى
أَجَلٍ) من تمام الرجز أي الرجز كائناً إلى أجل، والمعنى أن العذاب كان مؤجلاً،
ويقوي هذا التأويل كون جواب (لما) بـ إذا الفجائية، أي: فلما كشفنا عنهم العذاب
المقرر عليهم إلى أجل فاجأوا بالنكث، وعلى معنى تغيية الكشف بالأجل المبلوغ لا
تتأتي المفاجأة إلا على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا فتكون المفاجأة بالنكث إذ
ذاك ممكنة. اهـ
وقال الحلبي بعد نقله كلام أبي حيان: وهو حسن، وقد يجاب عنه بأن المراد بالأجل هنا
وقت إيمانهم وإرسالهم بني إسرائيل معه، ويكون المراد بالكشف: استمرار رفع الرجز،
كأنه قيل: فلما تمادى كشفنا عنهم إلى أجل، وأما من فسر الأجل بالموت أو بالغرق
فيحتاج إلى حذف مضاف تقديره: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى قُرْب أجلٍ هم بالغوه،
وإنما احتاج إلى ذلك لأن بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكث فكيفَ يتصور أن يكون
(3/441)
النكث منهم بعد موتهم أو غرقهم. اهـ
وقال السفاقسي: لا نسلم إن ما دخلت عليه (لما) يترتب جوابه على ابتداء وقوعه، بل
قد يترتب على ابتدائه وقد يترتب على انتهائه، فلا يمتنع أن يقال: لما قرأ زيد من
يوم السبت إلى يوم الخميس قرأ عمرو، والكشف يمتد باستمراره فلا يشبه ما ذكره من
المثال. اهـ
قوله: (فأردنا الانتقام).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: إنما قدر أردنا لأن ما تعقبه الإغراق هم إرادة
الانتقام لا هو بعينه فإن الإغراق عين الانتقام، ومنهم من يجعل الفاء لمجرد
التفسير كقوله تعالى (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). اهـ
قوله: (وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبراً لـ (إن)).
قال أبو حيان: لا يتعين هذا، بل الأحسن في إعرابه أن يكون خبر (إِن) (مُتَبَّرٌ)
وما بعده مرفوع به، وكذا (ما كَانوا) مرفوع بقوله (وَبَاطِلٌ) فيكون إذ ذاك قد
أخبر عن اسم (إِن) بمفرد لا جملة. اهـ
قال الحلبي: وهو كما قال إلا أن الزمخشري رجح ما ذكره من جهة ما ذكر من المعنى،
وإذا دار الأمر بين مرجح لفظي ومرجح معنوي فاعتبار المعنوي أولى. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: ما ذكر من تقديم الخبر مبني على أن (ما هُم فيهِ) مبتدأ و
(مُتَبَّرٌ) خبر له وإن كان يحتمل احتمالاً مساوياً أو راجحاً أن يكون (ما هُمْ
فيهِ) فاعل (مُتَبَّرٌ) لاعتماده على المسند إليه وذلك لاقتضاء المقام الحصر
المستفاد من التقديم، أي: (مُتَبَّرٌ) لا ثابت وباطل لا حق، ولم يتعرض في تقديره
لهذا الحصر لظهوره. اهـ
قوله: (وهو فضلكم على العالمين).
قال الشيخ سعد الدين: أي على جميع من سواكم إلا ما يخصه العقل من الأنبياء
(3/442)
والملائكة. اهـ
قوله: ((مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار ولمجرور).
قال الشيخ سعد الدين: لم يجعل (مَوْعِظَةً) مفعولاً له وإن كانت شرائط النصب حاصلة
لأن الظاهر أنَّ (وَتَفْصِيلاً) عطف عليه، وظاهر أنه لا معنى لقولك: كتبنا له من
كل شىء لتفصيل كل شيء، وأما جعله عطفاً على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ
والمعنى. اهـ
قوله: (أي: وكتبنا له كل شيء).
قال الشيخ سعد الدين: ربما يشعر بأن (من) مزيدة لا تبعيضية ولم يجعلها ابتدائية
حالاً من (مَوْعِظَةً)، و (مَوْعِظَةً) مفعولاً به لأنه ليس له كبير معنى. اهـ
قوله: (من زمرذ).
قال الشيخ سعد الدين: بالذال المعجمة وضم باقي الحروف، وعن الأزهري: فتح الراء.
اهـ
وقوله: (وسقفها بأصابعه).
قال الطَّيبي: أي جعلها سقائف وهي الألواح، وقال في بعض النسخ: شقفها بالشين
المعجمة. اهـ
قوله: (عطف على (كتبنا) أو بدل من قوله (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ)).
قال الطَّيبي: العطف على (كتَبْنَا) أجرى على سنن البلاغة لما يلزم في البدل من
تباطل التركيب وفك النظم لأن قوله تعالى (وَكتَبْنَا لَهُ) مع ما عقب به من قوله
(فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) معطوف على قوله (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) مع
ما عقب به وهو (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) على سبيل البيان والتفصيل، فلو جعل بدلاً
لدخل بين المعطوف والمعطوف عليه أجنبي. اهـ
قوله: (كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار والاقتصاص).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: هذا ينافي ما تقرر من أن المكتوب على بني إسرائيل
هو
(3/443)
القصاص قطعاً.
زاد الشيخ سعد الدين: والجواب أنه مثال للحسن والأحسن لا أنه مكتوب في التوراة
بعينه. اهـ
قوله: (كقولهم: الصيف أحر من الشتاء).
قال الشيخ سعد الدين: أي هو في حره أبلغ من الشتاء في برده، فكذا هنا المأمور به
أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح. اهـ
قوله: (لتعتبروا فلا تفسقوا).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) تأكيد لأمر
القوم بالأخذ بأحسن ما في التوراة، وبعث عليه في موضع الإرادة موضع الاعتبار إقامة
للسبب مقام المسبب. اهـ
قوله: (أي ولقائهم الدار الأخرة، أو ما وعد الله تعالى في الدار الآخرة).
قال في الكشاف: هو على الأول من إضافة المصدر إلى المفعول به، وعلى الثاني من
إضافته إلى الظرف. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: على تنزيله منزلة المفعول؛ كما ذكر في (مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ). اهـ
إتساعاً كما أفصح به أبو حيان، لأن الإضافة إلى الظرف لا على وجه الاتساع، ونصبه
نصب المفعول به لا يجوز لأنه على تقدير (فِي)؛ والإضافة إنما تكون على تقدير اللام
أو (من).
قوله: (من بعد ذهابه إلى الميقات).
قال الطَّيبي: فيكون (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) عطفاً على (وَوَاعَدنَا مُوسىَ)
عطف قصة على قصة. اهـ
قوله: ((ولما سقط في أيديهم) كناية).
قال الشيخ سعد الدين: جعله كناية لا مجازاً لعدم المانع عن الحقيقة. اهـ
(3/444)
قوله: (بمعنى وقع العض فيها).
قال الشيخ سعد الدين: جعل الفاعل ضمير العض دون الغم لأنه أقرب إلى المقصود، ولأن
كونه كناية إنما هو حيث يكون سقوط الغم على وجه العض، ثم الأيدي على هذا حقيقة
والكلام كناية. اهـ
قوله: (و (ما) نكرة موصوفة تفسير المستكن في (بئس)).
قال الشيخ سعد الدين: لأنه يلزم أن يكون فاعل (بئس) مضمراً مفسراً بالنكرة، أو
مظهرًا معرفاً باللام أو بالإضافة. اهـ
زاد الطَّيبي: ولا يجوز أن تكون (ما) هي المخصوص بالذم لأنه يبقى (بئس) بلا فاعل
لأنه إنما يضمر فاعل (بئس) بشرط أن يعقبه المفسر. اهـ
قوله: (الذي وعدنيه من الأربعين).
قال الطَّيبي: هذا الميعاد غير ميعاد الله تعالى لموسى في قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) لضرب ميعاد موسى قبل مضيه
إلى الطور لقوله سبحانه (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ
مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) وميعاد القوم عند مضيه لقوله
(بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ). اهـ
قوله: (وفى هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث أنه جعل الغضب ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فهو استعارة مكنية مقارنة بالتخييلية، شبه الغضب بإنسان يغري موسى
ويقول له: افعل كذا وكذا، ثم يقطع الإغراء ويترك كلامه، وجعلها صاحب المفتاح
استعارة تبعية لأنه استعار لتفاوت الغضب عن اشتداده إلى السكون إمساك اللسان عن
الكلام والظاهر الأول. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: مرجعه إلى كون الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق،
والسكوت استعارة تصريحية عن ظفره وسكون هيجانه وغليانه لكن في غاية من اللطف
والبراعة وغاية من الفصاحة والبلاغة. اهـ
قوله: (ما كلفوا به من التكاليف الشاقة).
قال الزجاج: الأغلال تمثيل. اهـ
(3/445)
قوله: (من الحراك).
أي: الحركة.
قوله: (ويجوز أن يكون (به) متعلقاً بـ (اتبعوا)).
قال الطَّيبي: فعلى الأول هو حال من الضمير في (أُنزِل) والمضاف مقدر، المعنى:
اتبعوا النور الذي أُنزل مصحوباً معه نبوته يعني إن حكم ثبوت نبوته نزل من السماء،
وهو مشفوع بهذا النور، وعلى الثاني يكون ظرفاً لـ (اتبَعُوا) فيكون كل واحد من
النور والنبي مستقلاً بالاتباع، وقد أشير به إلى متابعة الكتاب والسنة. اهـ
قوله: (أو مدح منصوب).
قال في الكشاف: إنه الأحسن.
قال الشيخ سعد الدين: أما لفظاً فلسلامته من الفصل بين الصفة والموصوف وإن كان
جائزاً وبغير أجنبي، وأما معنى فلما له من نوع أصالة واستقلال. اهـ
قوله: (وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله)
في الكشاف: أنه بدل من الصلة أيضاً.
قال الشيخ سعد الدين: والإبدال لا ينافي البيان، ولم يجعله عطف بيان لتغاير
المدلولين، ولأنه ليس لمجرد الإيضاح والتفسير، وسوق كلامه يشعر بأن بدل اشتمال.
اهـ
وقال أبو حيان: إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه، والأحسن أن
تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى.
اهـ
قول: (و (إذ) ظرف -إلى قوله- أو بدل منه).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز لأن (إذ) من الظروف التي لا تنصرف، ولا يدخل عليها حرف
جر، وجعلها بدلاً يجوز دخول (عن) عليها لأن البدل على نية تكرار العامل. اهـ
وأورد ذلك أيضاً على قوله بعد: أو بدل بعد بدل.
(3/446)
قوله: ((وإذ قالت) عطف على (إِذْ يَعْدُونَ)).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على (إِذْ تَأْتِيهِمْ)
وإن كان أقرب لفظاً لأنه إما بدل أو ظرف، فيلزم أن يدخل هؤلاء في حكم أهل العدوان،
وليس كذلك. اهـ
قوله: (أو عزم، لأن العازم على الشىء يؤذن نفسه بفعله ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني إنما عبر عن العزم بالإذن لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في
الفعل والترك ثم يجزم على الفعل ويطلب من النفس الإذن بالفعل، فكنى عن العزم
بالإذن، ولما كان العازم جازماً على الشيء مخاطباً كان معنى عزم: جزم وقضى، فصار
كفعل القسم في التأكيد وأجيب بما يجاب به القسم. اهـ
قوله: (وهم الذين بالمدينة).
قال الطَّيبي: الظاهر خلافه لما يقتضيه النظم لقوله تعالى (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بالفاء. اهـ
قوله: (ومنهم ناس دون ذلك).
قال الشيخ سعد الدين: قد شاع في الاستعمال وقوع المبتدأ والخبر ظرفين، واستمر
النحاة على جعل الأول خبراً والثاني مبتدأً بتقدير موصوف دون العكس وإن كان أبعد
من جهة المعنى، والتأخير بالخبر أحرى وكأنهم يرون المصير إلى الحذف في أوانه أولى.
اهـ
قوله: ((وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) حال من الضمير في (لَنا)
أي: يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه).
لم يصرح في الكشاف بأن الحال من ماذا.
وقال الطَّيبي: الحال من الضمير في (ويقُولُون)، والقول بمعنى الاعتقاد والظن،
ولذلك قال: يرجون المغفرة مصرين. اهـ
وقال الحلبي: إنما جعل الزمخشري الواو للحال للغرض الذي ذكره من أن الغفران شرطه
التوبة، وهو رأي المعتزلة، وأما أهل السنة فيجوزون المغفرة مع عدم التوبة. اهـ
(3/447)
وقال السفاقسي: فيه اعتزال، ولا يرد عليه بأن جملة الشرط لا
تكون حالاً لأن ذلك جائز.
قال: والظاهر أن هذه الجملة مستأنفة. اهـ
قوله: (ودرسوا ما فيه) عطف على (ألم يؤخذ) من حيث المعنى فإنه تقرير).
قال الطَّيبي: أي عطف عليه وإن اختلفا خبراً وطلباً، لأن الاستفهام وارد على
التقرير فهو بمنزلة الإخبار عن الثابت فصح العطف لعدم المنافاة. اهـ
قوله: (على طريقة التمثيل).
أي الاستعارة التمثيلية المركبة من عدة أمور متوهمة، وهذا تبع فيه الزمخشري، وقد
قال ابن المنير: قد أجراه قوم على ظاهره وقالوا: لا تترك الحقيقة مع إمكانها.
قلت: والأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك.
قوله: (وقيل: لما خلق الله تعالى آدم أخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم
العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر).
قلت: هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وأحمد في مسنده، والبخاري في تأريخه، وأبو
داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في كتاب الأسماء
والصفات عن مسلم بن يسار الجهني أنَّ عمر ابن الخطاب سئل عن هذه الآية (وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فقال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه
فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره
فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون.
فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟
فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من
أعمال أهل الجنة فيدخله اللهُ الجنةَ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل
النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله اللهُ النارَ.
(3/448)
قال الإمام: أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير الآية
بالحديث لأنَّ قوله (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من قوله (مِنْ بَنِي آدَمَ)، فالمعنى:
وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، ولأنه لو كان
المراد أنه أخرج من ظهر آدم لما قال (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بل كان يجب أن يقول: من
ظهره وذريته.
ثم أجاب بأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه
أخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته ولا على نفيه
إلا أن الخبر قد دل فثبت إخراج الذرية من ظهر بني آدم بالقرآن وإخراج الذر من ظهر
آدم بالحديث ولا منافاة بينهما فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن
الاختلاف.
وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: إنما حد المعتزلة في الهرب عن القول في معنى
الآية بما يقتضي ظاهر الحديث لكان قوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) فيقال: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث
كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ
فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى رأينا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان
عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضاً أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار
بتوفيق وعصمة وحرمناهما من بعد ولو أمددناهما أبداً لكانت كل شهادتنا في كل حين
كشهادتنا في اليوم الأول، فتبين أن الميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من المعقول
وآتاهم من البصائر لأنَّها هي الحجة الباقية المانعة لهم عن قولهم (إِنَّا كُنَّا
عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما
جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا عنه من الغيوب، ولهم في ذلك كلام
كثير اكتفينا منه بهذا المقدار والغرض منه توقيف الطالبين على مواضع الإشكال. اهـ
وقال الطَّيبي: الواجب على المفسر المحقق أن لا يفسر كلام الله المجيد برأيه إذا
وجد من جانب السلف الصالح نقلاً معتمداً، فكيف بالنص القاطع من جانب حضرة الرسالة
صلوات الله وسلامه على صاحبها؛ فإن الصحابي رضي الله تعالى عنه إنما سأله صلى الله
عليه وسلم عما أشكل عليه من معنى الآية أن الإشهاد هل هو حقيقة أم لا؟ والإخراج
والمقاولة بقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) أهما على التعارف أم
على الاستعارة؟
(3/449)
فلما أجابه صلوات الله وسلامه عليه بما عرف منه ما أراده سكت
لأنه كان بليغاً، ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة، وكذا فهم
الفاروق رضوان الله تعالى عليه، وأما قولهم: لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم
لما قال (مِن ظُهُورِهِم) بل يجب أن يقول من ظهره وذريته، فجوابه أنَّ المراد آدم
وذريته لكن غلب إخراج الذراري من أصلاب أولاده نسلاً بعد نسل حينئذ على ذراري نفسه
لأنَّ الكلام في الاحتجاج على الأولاد بشهادة قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، ونحوه لكن في إرادة الامتنان
قوله تعالى (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) بقرينة قوله (اسْجُدُوا لِآدَمَ)
ويعضده ما رواه الواحدي عن الكسائي أنه قال: لم يذكر ظهر آدم وإنما أخرجوا جميعاً
من ظهره لأنَّ الله تعالى قد أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد
الأبناء عن الآباء فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنَّهم كلهم بنوه وأخرجوا من
ظهره.
وأما قولهم: إن كان هذا الإقرار عن الاضطرار إلى آخره فخلاصته أنه يلزم أن يكونوا
محجوجين يوم القيامة، وجوابه: أنَّهم إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة
ووكلنا إلى رأينا كان كذا كُذِّبوا بأنكم ما وكلتم إلى أرآئكم بل أرسلنا رسلنا
تتراً ليوقظوكم عن سنة الغفلة.
قال محي السنة: فإن قيل: كيف تلزم الحجة واحداً لا يذكر ذلك الميثاق؟ قيل: قد أوضح
الله سبحانه الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا فمن أنكره كان معانداً
ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار
المخبر الصادق.
وأما الجواب عن قولهم: فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرمناهما
من بعد فهو أن يقال: إن هذا مشترك الإلزام لأنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول
والبصائر. فلهم أن يقولوا: فإذن حرمنا اللطف والتوفيق، فأي منفعة لنا في العقل
والبصيرة.
ثم قال: ومن أبى هذا التقرير قرب أن يعدل إلى مذهب المعتزلة، والذي يقضي منه العجب
أن التوربشتي كيف نقل كلامهم هذا وقرره ولم يرد عليهم مع رسوخ علمه وعلو مرتبته،
إلى أن قال: والغرض من هذا الإطناب الإرشاد إلى التفادي عن القول في الأحاديث
الصادرة عن منبع الرسالة عن الثقات بأنها متروكة العمل لعلة كونها من
(3/450)
الآحاد لأن ذلك يؤدي إلى سد باب كثير من الفتوحات الغيبية ويحرم
قائله من عظيم منح الإلهية.
ثم ساق جملة من الأحاديث الواردة في وعيد من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثاً فرده، ومن كلام الأئمة في وجوب قبول خبر الواحد، من ذلك ما روى البيهقي في
المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن
واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها.
وقال الشافعي: من فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم، وكان من أهل الجهالة.
وروي الدرامي عن الشعبي قال: ما حدثك هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به،
وما قالوه برأيهم فألقه في الحش. اهـ
قوله: ((فَانْسَلَخَ مِنْهَا) من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها).
قال الطيبي: هذه للمبالغة لأن السلخ حقيقتة هو كشط الجلد من المسلوخ وإزالته عنه
بالكلية.
قال الإمام: يقال لكل من فارق الشيء بالكلية انسلخ. اهـ
قوله: (وإلى السفلة).
قال الطَّيبي: الرواية بفتح السين، وفي الصحاح: السفالة بضم السين نقيض العلم،
وبالفتح النذالة. اهـ
قوله: (والشرطية في موضع الحال).
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب الضوء: الشرطية لا تكاد تقع بتمامها موقع الحال، ولو
أريد ذلك فجعلت خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو: جاءني زيد وهو إن يسأل يعط،
فالحال إذن جملة اسمية، والسر فيه أن الشرطية لتصدرها بما يقتضي الصدرية لا تكاد
ترتبط بما قبلها إلا أن يكون هناك فضل قوة، نعم إنما يجوز إذا خرجت عن حقيقة الشرط
ثم هي لم تخل من أن عطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف، والأول حذف الواو فيه مستمر
نحو: أتيتك إن تأتي أو لم تأتني لأن النقيضين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على
(3/451)
معنى الشرط بل يتحولان، ومعنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين
في قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)،
وأما الثاني فلابد فيه من الواو نحو: أتيتك وإن لم تأتني، ولو ترك الواو لالتبس
بالشرط حقيقة.
قال الطَّيبي: والآية من الأول، ولذا ترك الواو لأن المراد إن حمل عليه أو لم
يحمل. اهـ
قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ).
قال الطَّيبي: من تفكر في هذا المثل المضروب في قصة بلعام تحقق له أن حال علماء
السوء أسوأ، وأقبح من ذلك وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون
إلى لذاتها وشهواتها ومن متابعة النفس الأمارة بالسوء وإرغامها في حرامها.
وكتب شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي إلى الإمام فخر الدين الرازي: من
تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله عليه، ينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب
الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفى الله مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من
شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحراً من العلم، ونوازع الهوى المركون في
النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم خطتة من أوجه،
وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله التي ينفد البحر دون
نفادها ويبقى العلم على كمال قوته وهذه مرتبة الراسخين في العلم لأن المترسمين به
وهم ورثة الأنبياء كثر عملهم على علمهم وكثر علمهم على عملهم وتناوب العلم والعمل
بينهم حتى صفت أعمالهم ولطفت فصارت مسامرات مرئية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال
بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى
الاستعدادات وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال
(3/452)
الله تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فتطهير نور الفكرة عن رذائل
التخيلات والارتهان بالموهومات التي تركت العقول الصغار المداهنة للنفوس القاصرة
هو من شأن البالغين من الرجال؛ فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسوح في ميادين
القدس، فالنزاهة النزاهة من محبة حطام الدنيا، والفرار الفرار من استجلاء نظر
الخلق وعقائدهم فتلك مصارع ... إلى آخره. اهـ
قوله: (أو منقطعاً).
قال الطَّيبي: وهذا الكلام تذييل وتأكيد لمضمون الجملة. اهـ
قوله: (أو ذرهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: هذا هو الصواب. اهـ
قوله: (واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن كل قرن طائفة بهذه الصفة).
فعلى هذا هذه الآية من الأدلة على أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى الساعة، لأن
المجتهدين هم أرباب الإجماع.
قوله: (لقوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر
الله).
أخرجه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن أبي شعبة).
قوله: (روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير عن قتادة بلفظ: يصوت، وهو معنى يهوت.
قال الطيبي: والأصل فيه حكاية الصوت، وقيل: هو أن يقول ياه ياه؛ وهو نداء الداعي
لصاحبه من بعد. اهـ
قوله: (و (أن) مصدرية أو مخففة من الثقيلة).
تبع في ذلك أبا البقاء، واقتصر في الكشاف على المخففة.
(3/453)
وقال الشيخ سعد الدين: لأن المصدرية لا تدخل الأفعال الغير
المنصرفة التي لا مصادر إليها. اهـ
قوله: (مغافصة الموت).
في الأساس: غافصه الأمر: فاجأه على غرة منه، ووقاك غوافص الدهر أي: حوادثه. اهـ
قوله: (ورسو الشىء: ثباته).
قال الطَّيبي: الرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة، وإطلاقه على الساعة تشبيهاً
للمعاني بالأجسام. اهـ
قوله: (وإشتقاق أيَّان من أي).
قال الشيخ سعد الدين: الاشتقاق في غير المنصرفة مما يأباه الأكثرون، وكذا اشتقاق
أي من أويت، وعبارة ابن جني في المحتسب: أيان بفتح الهمزة فَعلان، وبكسرها فعلان،
والنون فيهما زائدة حملاً على الأكثر في زيادة النون في نحو ذلك، ولم يجعل
فَِعَّالا من لفظ أين لما يمنع منه وهو كون أيان ظرف زمان وأين ظرف مكان، وأي من
لفظ أَوَيْت ومعناه، أما اللفظ فلأن باب طويت وشويت أضعاف باب حييت وعييت، وأما
المعنى فلأن البعض آوٍ إلى الكل ومتساند إليه، فأصلها على هذا أَوْىٌ ثم قلبت
الواو ياء وأدغمت في الياء وصارت أيا، كقولك: طويت الكتاب طياً وشويت اللحم شياً.
اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسَّلام: إن الساعة تهيج بالناس ... ) الحديث.
أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير من مرسل قتادة، وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة
بمعناه.
قوله: (وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب).
أي لئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى والأمر بخلافه، قاله الطَّيبي.
(3/454)
زاد الشيخ سعد الدين: لأن الذكَر هو الذي يميل في غالب الأمر
إلى الأنثى ويجامعها، ولأنه خلق أولاً وخلقت هي إزالةً لاستيحاشه فكان نسبة
المؤانسة إليه أولى. اهـ
قوله: (وقيل لما حملت حواء أتاها إبليس -إلى قوله- وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء).
قال الطَّيبي: هذا مكتسب من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة فقد أخرجه أحمد والترمذي
وحسنه والحاكم وصححه عن سمرة ابن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما
ولدت حواء طاف بها إبليس -وكان لا يعيش لها ولد- فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش،
فسمته، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره (1).
قال محي السنة: وهو قول السلف مثل ابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة.
قال: ولم يكن هذه إشراكاً في العبادة ولا أن الحارث ربهما فإن آدم كان نبياً
معصوماً من الشرك ولكن قصد أنَّ الحارث كان سبباً لنجاة الولد وسلامة أمه، ويطلق
اسم العبد على من لا يراد أنه مملوك كما إن اسم الرب يطلق على من لا يراد أنه
معبود، فعلى هذا قوله تعالى (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ابتداء كلام
وأريد به إشراك أهل مكة، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث كان الأولى بهما أن
لا يفعلانه من الإشراك في الاسم.
قال الطَّيبي: ويدفع هذا قوله (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا) فإنه في
الأصنام قطعاً على القول أنه ابتداء كلام. اهـ
قال غيره: يؤيد هذا التقرير أنَّ تقدير المضاف لا يصار إليه إلا عند الحاجة وكلمة
(لما) تستقيم عليه لأن إشراك أولادهما لا يكون حين آتاهما صالحاً بل بعده بأزمنة
متطاولة.
قوله: (ويحتمل أن يكون الخطاب لآل قصي من قريش فلأنهم خلقوا من نفس قصي، وكان له
زوج من جنسه عربية قرشية).
قال الشيخ سعد الدين: استبعد هذا الوجه بأن المخاطبين لم يخلقوا من نفس قصي كلهم
وإنما هو مجتمع قريش، ولم تكن زوجه عربية قرشية بل هي بنت سيد مكة من خزاعة
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَجَعَ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال
الشرك وفيه مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها
أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا الله مِنْ ضِلْعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ غَيْرِ
أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاها آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ... فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ
رَجُلٍ وَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ/ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ
بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ
أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ؟ فَخَافَتْ حَوَّاءُ، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ
السَّلامُ، فَلَمْ يَزَالا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ: إِنْ
سَأَلْتِ الله أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ
مِنْ بَطْنِكِ تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أَيْ
لَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شَرِيكًا أَيْ
جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ له شريكاً، والمراد به الحرث هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَذَلِكَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي:
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَافِ: 191] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
هَذِهِ الآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لله تَعَالَى،
وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرٌ. الثَّالِثُ: لَوْ
كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَنْ لا يَخْلُقُ شَيْئًا،
وَلَمْ يَقُلْ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ
بِصِيغَةِ «مَنْ» لا بِصِيغَةِ «مَا» الرَّابِعُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ
كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ، وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ
الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فَكَانَ
لا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أن اسم إبليس هو الحرث فَمَعَ الْعَدَاوَةِ
الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى
ولد نفسه بعبد الحرث؟ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ
يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ؟
الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ
الْخَيْرَ وَالصَّلاحَ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُسَمِّيَهُ
بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ
الْإِنْكَارِ. فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ
الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31]
وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ الَّتِي
وَقَعَ فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا
الْقَدْرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ
الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا السَّادِسُ: أَنَّ
بِتَقْدِيرِ أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فَلا يَخْلُو إِمَّا أَنْ
يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ، أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً
لَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أنه عبد الحرث وَمَخْلُوقٌ
مِنْ قِبَلِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا بالله لِأَنَّ
أَسْمَاءَ الْأَعْلامِ وَالْأَلْقَابِ لا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً،
فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ،
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلاً بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ
اعْتَقَدَ أَنَّ لله شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ
وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ، وَذَلِكَ لا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ وَيَجِبُ عَلَى
الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَأْوِيلِ الآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ
سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ.
التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى
ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ/ وَبَيَانِ أَنَّ
هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَةِ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ،
وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ،
فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ وَظَهَرَ الْحَمْلُ، دَعَا الزَّوْجُ
وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلائِكَ وَنَعْمَائِكَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا
الله وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا، جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ لله شُرَكَاءَ
فِيمَا آتَاهُمَا، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى
الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ
كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ
كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَنَزَّهَ الله
عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا
فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ،
وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ
وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا عَرَبِيَّةً قُرَشِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا،
فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ
مَنَافٍ، وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَعَبْدِ اللاّتِ، وَجَعَلَ
الضَّمِيرَ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا
بِهِمَا فِي الشِّرْكِ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ وَرَدَتْ فِي
شَرْحِ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي دَفْعِ
هَذَا الْإِشْكَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ
إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَيَرْجِعُ فِي
طَلَبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إِلَيْهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ
وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَحَكَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالا: لَئِنْ
آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما
ولداً سوياً صَالِحًا لاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَالَ:
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
وَرَدَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْعِيدِ،
وَالتَّقْرِيرُ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا أجعلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا
آتَاهُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى الله
عَنْ شِرْكِ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالشِّرْكِ
وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يُنْعِمَ
رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِنْعَامِ، ثُمَّ يُقَالُ
لِذَلِكَ الْمُنْعِمِ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ ذَمَّكَ
وَإِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْمُنْعِمُ: فَعَلْتُ فِي حَقِّ
فُلانٍ كَذَا وأحسنت إليه بكذا وكذا وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ
إِنَّهُ يُقَابِلُنِي بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا هاهنا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ
أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فِي حَقِّ آدَمَ وَحَوَّاءَ/ وَلا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ
مِنْ أَلْفَاظِهَا إِلاّ قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
فِيما آتاهُما فَنَقُولُ: التَّقْدِيرُ، فَلَمَّا آتَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا
سَوِيًّا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ أَيْ جَعَلَ أَوْلادَهُمَا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى
حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَكَذَا فِيمَا
آتَاهُمَا، أَيْ فِيمَا آتَى أَوْلادَهُمَا وَنَظِيرُهُ قوله: وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّثْنِيَةِ فِي
قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ.
قُلْنَا: لِأَنَّ وَلَدَهُ قِسْمَانِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَقَوْلُهُ: جَعَلا
الْمُرَادُ مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بلفظ التثنية
لِكَوْنِهِمَا صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ، وَمَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ
الْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:
جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما عَائِدٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا
السَّلامُ، إِلاّ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمَا الْوَلَدَ
الصَّالِحَ عَزَمَا عَلَى أَنْ يَجْعَلاهُ وَقْفًا عَلَى خِدْمَةِ الله
وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ عَلَى الْإِطْلاقِ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ،
فَتَارَةً كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا،
وَتَارَةً كَانُوا يَأْمُرُونَهُ بِخِدْمَةِ الله وَطَاعَتِهِ. وَهَذَا الْعَمَلُ
وَإِنْ كَانَ مِنَّا قُرْبَةً وَطَاعَةً، إِلاّ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ
سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ مَا
نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّهُ قَالَ حَاكِيًا عَنِ الله
سُبْحَانَهُ: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً
أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرْكُتُهُ وَشِرْكَهُ»
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا صِحَّةَ تِلْكَ
الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعيد الحرث لِأَجْلِ
أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الآفَةِ وَالْمَرَضِ بِسَبَبِ
دُعَاءِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بالحرث، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُنْعَمُ
عَلَيْهِ عَبْدًا لِلْمُنْعِمِ. يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَنَا عَبْدُ مَنْ
تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ كَتَبَ عَلَى
عُنْوَانٍ: كِتَابَةُ عَبْدِ وُدِّهِ فُلانٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَلا شِيمَةَ لِي بَعْدَهَا
تُشْبِهُ الْعَبْدَا
فَآدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تَنْبِيهًا
عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الآفَاتِ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، وَهَذَا لا
يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ عَبْدَ الله مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ
وَمَخْلُوقُهُ، إِلاّ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ
سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَلَمَّا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ الْعَبْدِ
لا جَرَمَ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُعَاتَبًا فِي هَذَا الْعَمَلِ
بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ الْحَاصِلِ فِي مُجَرَّدِ لَفْظِ الْعَبْدِ، فَهَذَا
جُمْلَةُ مَا نَقُولُهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ.
اهـ (مفاتيح الغيب. 15/ 427 - 429).
(3/455)
وقريش إذ ذاك متفرقون. اهـ
وقال صاحب الانتصاف: أقرب من هذا ومن الأول أن يراد جنسا الذكر والأنثى من غير قصد
إلى معين معلوم، أي: خلقكم جنساً وجعل أزواجكم منكم لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس
جنسه الآخر جرى من هذين الجنسين كذا وكذا، ويجوز إضافة الكلام إلى الجنس تقول: قتل
بنو تميم فلاناً، وعلى التفسير الأول إضافة الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من
بعضهم، وعلى الثاني أضافه إلى قصي وعقبه وأراد بعضهم، ويسلم هذا من حذف المضاف
اللازم للأول ومن استبعاد إرادة قصي بهذا، فالظاهر من قوله (لِيَسْكُنَ إِلَيهَا)
أن المراد الجنس. اهـ
قال الطيبي: إن لزم من التفسيرين ما ذكر من المحذور لزم من تفسيره أيضاً إجراء
جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة، والتأويل ما نص عليه من أُوحي إليه التنزيل
كما سبق بيانه. اهـ
قوله: (شبه وسوسته ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تبعية تشبيهاً للإغراء على المعاصي بالنزغ.
اهـ
قوله: (فيكون الخبر جارياً على ما هو له).
قال الطَّيبي: فعلى الأول التقدير: وإخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين الشياطين
يمدونهم؛ الضمير المسند إليه الفعل ليس للمبتدأ بل لمتعلقه، وعلى الثاني التقدير:
وإخوان الجاهلين الذين هم الشياطين يمدون الجاهلين. اهـ
قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم: [" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ
السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ -
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ
فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ]
... ) الحديث. (1)
رواه الثعلبي عن أُبي وهو موضوع.
__________
(1) في الأصل [إذا قرأ ابن آدم السجدة ... )] الحديث.
رواه الثعلبي عن أُبي وهو موضوع.
والحديث صحيح وهذا نصه في مسلم (" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ
فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي
رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ
فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ
").
وكلام الإمام السيوطي -رحمه الله- على رواية " «من قرأ سورة الأعراف جعل الله
يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة»." وهو ما
أثبتناه بفضل الله تعالى. ولم يتنبه محقق الكتاب لهذا الأمر. اهـ (مصحح النسخة
الإلكترونية).
(3/456)
سورة الأنفال
قوله: (وإنما سميت الغيمة نفلاً لأنها عطية من الله وفضل).
عبارة الإمام: لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم.
اهـ
قوله: (وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر ... ) إلى آخره.
أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن الصامت.
قوله: (وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له بلاء ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما.
قوله: (كنا ردءاً).
أي: عوناً.
قوله: (سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير
فقتلت به سعيد بن العاص ... ) الحديث.
أخرجه أحمد وابن أبي شيبة.
وقال أبو عبيد: كذا فيه سعيد بن العاص، والمحفوظ عندنا العاص بن سعيد.
قوله: (فى القبض).
هو بالتحريك: ما قبض من الغنائم.
قوله: (كما أخرجك ربك خبر مبتدأ -إلى قوله- أو صفة مصدر ... ) إلى آخره.
قال ابن الشجري في أماليه: الوجه هو الأول، والثاني ضعيف لتباعد ما بينهما. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن الأوجه هو الرفع، لأن الناصب
(3/457)
بعيد والفاصل كثير، وجعل (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ
بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) داخلاً في حيز (قُل) ليس بحسن الانتظام. اهـ
وقال أبو حيان: في الوجه الثاني بعد لكثرة الفصل بين المشبه والمشبه به، ولا يظهر
كبير معنى لتشبيه هذا بهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة.
قال: وخطر لي في المنام أن هنا محذوفاً وهو نصرك، والكاف فيها معنى التعليل أي:
لأجل أن خرجت لإعزاز دين الله نصرك وأيدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله بعد
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ... ) الآيات. اهـ
قوله: (وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام ... ) إلى آخره.
هو في سيرة ابن هشام من قول ابن إسحاق، وروى ابن جرير بعضه عن ابن عباس وبعضه عن
عروة ابن الزبير وبعضه عن السدي.
قوله: (النجاء النجاء).
قال الطيبي: هو منصوب بفعل مضمر، اللام فيهما للجنس، والنجاء ممدودة: الإسراع. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هو مصدر، أي: أسرعوا الإسراع، أو إغراء، أي: الزموا
الإسراع. اهـ
قوله: (على كل صعب وذلول).
قال الطيبي: أي: أسرعوا وبادروا مجتمعين ولا تقفوا لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون
صعب. اهـ
قوله: (عيركم وأموالكم).
قال الشيخ سعد الدين: أي: الزموها وبادروها واحفظوها. اهـ
(3/458)
وقال الطَّيبي: أموالكم بدل من عيركم. اهـ
قوله: (حلق بها).
قال الطَّيبي: التحليق بالشيء الرمي به إلى فوق. اهـ
قوله: (فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو).
قال الطَّيبي: هذا هو المراد من إيراد هذه القصة لأنَّها سبقت لبيان أن قوله تعالى
(وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) حال. اهـ
قوله: (إلى عدن أبين).
قال في النهاية: عدن أبين: مدينة معروفة باليمن أضيفت إلى أبين -بوزن أبيض- وهو
رجل من حمير عدن بها، أي: أقام. اهـ
وقال المرتضي اليماني: أبين اسم قصبة بينها وبين عدن مقدار ثمانية فراسخ يجلب منها
إلى عدن الفواكه والخضروات.
قوله: (لو استعرضت بنا هذا البحر).
أي: طلبت أن نقطعه عرضاً في صحبتك.
قوله: (أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير، فناداه
العباس وهو فى وثاقه ... ) الحديث.
أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما بزيادة: قال: صدقت.
قوله: (وما كان فيهم إلا فارسان).
قال الطَّيبي: قيل: هما المقداد بن الأسود والزبير بن العوام. اهـ
قوله: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) أو متعلق بقوله
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ)).
قال الطَّيبي: هذا أوجه من أن يكون بدلاً لأن زمان الوعد غير زمان الاستغاثة إلا
على
(3/459)
تأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في زمان واسع كما تقول: كفتنة
سنة كذا. اهـ
قوله: (وعن عمر أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين ... ) الحديث.
أخرجه مسلم والترمذي.
قوله: (متبعين المؤمنين ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان: هذا تكثير في الكلام وملخصه أن اتبع مشدداً يتعدى إلى واحد، وأتبع
مخففاً يتعدى إلى اثنين، وأردف أتى بمعناهما، والمفعول لاتبع محذوف، والمفعولان
لأتبع محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى. اهـ
قلت: فقول المصنف: ولا متبعين المؤمنين بالتشديد، وقوله ثانياً: أو متبعين بعضهم
بعضاً بالتخفيف، وقوله: أو أنفسهم المؤمنين، أي: متبعين أنفسهم المؤمنين، أي:
يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم.
قوله: (أو متعلق بالنصر).
قال أبو حيان: فيه ضعف من وجوه:
أحدها: أنه مصدر فيه أل، وفي إعماله خلاف.
الثاني: أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو (إِلاّ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) وذلك لا يجوز، لا يقال: ضرب زيد شديد عمراً.
الثالث: أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول
مستثنى منه أو صفة له، و (إذ) ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد
يوم الجمعة، وجوز ذلك الكسائي والأخفش. اهـ
قوله: (أو بما في (عند الله) من معنى الفعل).
قال أبو حيان: يضعفه المعنى، لأنه يصير استقرار النصر مقيداً بالظرف، والنصر من
عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره. اهـ
وقال الحلبي: هذا لا يضعف به، لأن المراد هذا النصر نصر خاص، وهذا النصر الخاص
(3/460)
كان مقيداً بذلك الظرف. اهـ
قوله: (أو بجعل).
قال أبو حيان: هو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك
الثلاثة. اهـ
قوله: (وهو مفعول له باعتبار المعنى).
أي لوجوب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً، ولا يتأتى ذلك إلا بهذا
التقدير، أي: ينعسون لأمنكم.
قوله: (ويجوز أن يراد بها الأمان).
قال الشيخ سعد الدين: هذا بعيد في اللغة. اهـ
قوله: (وأن تجعل على القراءة الأخيرة)
أي: قراءة ابن كثير وأبي عمرو (يغشاكم النعاسُ) بالرفع.
قوله: (فعل النعاس على المجاز).
قال الطَّيبي: أي على أنه من الاستعارة المكنية شبه النعاس بشخص طالب للأمن ثم خيل
أنه إنسان بعينه حيث أثبت له على سبيل الإستعارة التخييلية الأمنة التي هي من
لوازم المشبه به وجعل نسبتها إليه قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وفيه إغراق في
الوصف لأنه جعل النعاس الذي هو سبب للأمن بسبب غشيانه إياهم ملتمساً للأمن منهم.
وقد صوب ابن المنير هذا الوجه.
وقال العلم العراقي: فيه بعد، لأن مثل هذه الاستعارة البعيدة للنوم قد يستحسن في
الشعر لبنائه على المبالغة وغلبة باطله على حقه، ولا يكاد يوجد مثلها في الكتاب
العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقال الطَّيبي متعقباً عليه: إن منع استعمال المجاز في كتاب الله المجيد يمشى له
هذا المنع وإلا فهو غير مستحسن لأن هذا الأسلوب في الدرجة القصوى من البلاغة،
وكلام الله
(3/461)
تعالى إنما كان معجزاً من حيث اللفظ والمعنى إذا استعمل فيه
أمثال ذلك. اهـ
قوله: (يهاب النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُوناً ... تَهَابُكَ فَهُوَ نَفَّارٌ
شَرُودُ).
قال الطَّيبي: قيل إن هذا البيت للزمخشري، وتهابك: صفة لـ (عيوناً)، فهو: ضمير
للنوم، ونفار: صيغة مبالغة من نفرت الدابة نفاراً، وشرود: من شرد البعير، والمعنى:
يخاف النوم أن يدخل عيون أعدائك فهو لذلك نفار شرود. اهـ
قوله: (روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من حديث ابن عباس بمعناه، وليس
فيه: فاحتلم أكثرهم.
قوله: (كثيب أعفر).
أي: رمل أبيض تعلوه حمرة.
قوله: (تسوخ فيه الأقدام).
أي: تدخل وتغيب.
قوله: ((ذلكم) الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات).
قال الطَّيبي: من الغيبة في (شَآقُّوا). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: فيه إرشاد إلى أن الخطاب المعتبر في الالتفات أعم من أن
يكون بالاسم على ما هو الشائع كما في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، أو بالحرف كما في
(ذَلِكُم) بشرط أن يكون خطاباً لمن وقع الغائب عبارة عنه. اهـ
قوله: (أو نصب بفعل دل عليه (فذوقوه)).
أي: على الاشتغال.
قال أبو حيان: لا يجوز ذلك لأن الاشتغال إنما يصح إن جوزنا صحة الابتداء فِي
(ذَلِكم)، وما بعد الفاء لا يكون خبر المبتدأ إلا إن كان المبتدأ موصولاً أو نكرة
موصوفة. اهـ
قوله: (أو عليكم).
قال أبو حيان: لا يجوز هذا التقدير لأن (عليكم) من أسماء الأفعال، وأسماء الأفعال
(3/462)
لا تضمر. اهـ
وقال الحلبي: قد يكون المصنف نحى نحو الكوفيين، فإنَّهُم يجرونه مجرى الفعل
مطلقاً، وكذلك يعملونه متأخراً نحو (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ). اهـ
قوله: (عطف على (ذلكم)
أي: على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو عكسه.
قوله: (ووضع الظاهر فيه موضع المضمر).
أي: وضع (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) موضع: وأن لكم.
قوله: (وقرئ (وإن) بالكسر على الاستئناف).
قال الطَّيبي: فالجملة تذييل، واللام للجنس. اهـ
قوله: (روى ابن عمر أنه كان في سرية ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه بمعناه، وقال: العكَّار الذي نفر إلى إمامه لينصره
لا يريد الفرار من الزحف.
وفي النهاية: العكارون: الكرارون إلى الحرب، والعطافون نحوها، يقال للرجل يولي عن
الحرب ثم يكر راجعاً إليها عكر واعتكر. اهـ
قوله: (وانتصاب (مُتَحَرِّفًا) على الحال، وإلا لغو ... ).
قال الطَّيبي: من حيث اللفظ، أي: زائدة، لأن العامل يعمل في الحال استقلالاً لكنها
معطية في المعنى فائدتها، والكلام في سياق النفي، المعنى: (فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبَارَ) في حال من الأحوال إلا متحرفاً. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: إلا لغو في اللفظ مستوٍ وجودها وعدمها في حق إعراب ما بعدها
بخلاف النصب على الاستثناء فإن إلا عامل أو مشارك للعامل أو واسطة في العمل. اهـ
(3/463)
وقال أبو حيان: لا يريد بقوله: إلا لغو أنها زائدة بل يريد أن
العامل وهو (يُوَلِّهِمْ) وصل لما بعدها، كقولهم في نحو: جئت بلا زاد أنها لغو،
وفي الحقيقة هي استثناء من حال محذوفة، والتقدير: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) ملتبساً
بأية حالة إلا في حال كذا، وإن لم يقدر حال عامة محذوفة لم يصح دخول (إلا) لأن
الشرط عندهم واجب والواجب حكمه أن لا تدخل (إلا) فيه لا في المفعول ولا في غيره من
الفضلات لأنه استثناء مفرغ والمفرغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي
أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك يؤول. اهـ
قوله: (ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يحوز).
زاد في الكشاف: كالمتدير.
قال الشيخ سعد الدين: وذكر المرزوقي أن تدير تفعل نظراً إلى شيوع ديار بالياء.
قال: وعلى هذا يجوز أن يكون تحيز تفعل نظراً إلى شيوع الحيز بالياء ولهذا لم يجئ
يدور ولا يحوز. اهـ
قوله: (روي أنه لما طلعت قريش ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير عن عروة مرسلاً، وليس فيه أمر جبريل له بذلك.
وروي ابن جرير وابن مردويه أمر جبريل له بذلك عن ابن عباس، ولم يقف عليه الطَّيبي
فقال: لم يذكر أحد من أئمة الحديث أن هذه الرمية كانت يوم بدر إنما هي يوم حنين.
واغتر به الشيخ سعد الدين فقال: المحدثون على أن الرمية لم تكن إلا يوم حنين.
وليس كما قالا، والطَّيبي وإن كان له إلمام بالحديث لكنه لم ييلغ فيه درجة الحفاظ،
ومنتهى نظره الكتب الستة والموطأ ومسند أحمد ومسند الدارمي لا يُخَرِّج من غيرها،
(3/464)
وكثيراً ما يورد صاحب الكشاف الحديث المعروف فلا يحسن تخريجه
ويعدل إلى ذكر ما هو في معناه مما في هذه الكتب، وهو قصور في التخريج.
قوله: (من العقنقل).
قال في الصحاح: العقنقل: الكثيب العظيم المتداخل الرمل؛ والجمع: عقاقل، وربما سموا
مصارين الضب عقنقلا. اهـ
قوله: (شاهت الوجوه).
أي: قبحت.
قوله: (والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم).
قال أبو حيان: ليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه
قال (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) وكان
امتثال ما أمروا به سبباً للقتل فقيل (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي: لستم مستبدين
بالقتل لأن الإقدار عليه والخالق له إنما هو الله سبحانه. اهـ
قال السفاقسى: وهذا أولى من دعوى الحذف. اهـ
وقال ابن هشام: تبع بدر الدين ابن مالك الزمخشري على ذلك، ويرده أن الجواب المنفي
بـ (لم) لا تدخل عليه الفاء.
قوله: (وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل
يخور حتى مات).
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري.
قوله: (أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على
فراشه).
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير.
قوله: ((وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) معطوف عليه).
قال الطَّيبي: أي عطف خبر على خبر، ويجوز أن يكون عطف جملة، أي: الأمر ذلكم
(3/465)
، والأمر أن الله موهن. وعليه كلام أبي البقاء. اهـ
قوله: (شر ما يدب على الأرض، أو شر البهائم).
قال الطَّيبي: الأول محمول على عرف اللغة، والثاني على العرف العام. اهـ
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي ... ) الحديث.
أخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة.
قوله: (لاَ تعْجَبَنَّ الجَهُولَ حِلَّته ... فَذَاكَ مَيتٌ وَثَوْبُهُ كَفَن).
هو للزمخشري.
قال الطَّيبي: هو مأخوذ من قول المتنبي:
لا يعجبن مضيما حسن بزتة ... وهل يذوق دفيناً جودة الكفن.
قوله: (كإقرار المنكر).
قال الطَّيبي: أي تمكين الفعل المنكر بين المسلمين، من أقره في مكانه فاستقر. اهـ
قوله: ((لا تُصِيبَنَّ) إما جواب الأمر ... ).
قال ابن هشام: هذا فاسد لأن المعنى حينئذ: فإنكم إن تتقوها لا تصيب الذين ظلموا
منكم خاصة، وقوله: إن التقدير: إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة مردود لأن الشرط
إنما يقدر من جنس الأمر لا من جنس الجواب ألا ترى أنك تقدر في: ائتني أكرمك، إن
تأتني أكرمك. اهـ
وذكر أبو حيان نحوه.
وقال صاحب التقريب: هذا ليس بجواب للأمر بل جواب لشرط مقدر إذ لا يستقيم: إن تتقوا
لا تصب، وهو ما يقتضيه جواب الأمر. اهـ
(3/466)
قال الطَّيبي: أراد أن الآية ليست من باب جواب الأمر إذ لو قدر
ذلك رجع إلى أن يقال: إن تتقوا لا تصب، فيفسد، بل هو من باب آخر وهو أن يقدر الشرط
بقرينة الجزاء واقتضاء المقام كما قال: إن أصابتكم لا تصب الظالمين. اهـ
وقال ابن الحاجب: قد قيل إنَّ (لا تُصِيبَنَّ) جواب للأمر، ويقدر: واتقوا فتنة إن
أصبتموها لا تصب الظالمين خاصة ولكن تعم فتأخذ الظالم وغيره، وهو غير مستقيم إذ
جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس المظهر لا من جنس الجواب، وإن يقول: فإنكم إن
تتقوا لا تصب الظالمين، فيفسد المعنى لأنه يصير الانتفاء سبباً لانتفاء الإصابة عن
الظالم المرتكب وهو بالعكس أشبه. اهـ
قال الطيبي: وجوابه: أنَّ هذا إذا أجرى الكلام على ظاهره، وإما إذا جعل الظاهر
مهجوراً وذهب إلى قوة المعنى فجعل القرينة المعنوية حاكمة على اللفظية فيجوز أن
يحمل على مسألة: لا تدن من الأسد يأكلك، وأن يقال: واتقوا فتنة فإنكم إن لم تتقوها
أصابتكم فإن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، فاكتفى بالسبب عن
المسبب.
وقال نور الدين الحكيم: تقرير كلام الزمخشري أنه مثل قول القائل: اتق غضب الله لا
يحلل عليك فإن من شأن غضبه إن حل لا يحل بالمجرم خاصة بل يعم، وأقرب منه: اتق
غضباً لا يحل على المجرم خاصة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هذا الوجه عليه إشكال ظاهر وهو أنَّ الشرط المقدر بجواب
الأمر يكون مضمون الأمر مثل: أسلم تدخل الجنة، إن تسلم تدخل الجنة، فيجب أن يكون
التقدير هنا: إن تتقوا لا تصيبن الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، وفساده بين، وأجيب
بأنه على رأي الكوفيين حيث يقدرون ما يناسب الكلام ولا يلتزمون أن يكون المقدر من
جنس الملفوظ، ففى مثل: لا تدن من الأسد يأكلك الإثبات أي: إن تدن يأكلك، وفي مثل:
اتقوا فتنة لا تصيبنكم النفى أي: إن لم تتقوا تصبكم، فالمصنف قدر شرطاً يستقيم به
المعنى لا مضمون الأمر ولا يقتضيه فلا يتبين به كون المذكور جواب الأمر فقيل:
مراده أنَّ التقدير: إن تتقوا لا تصبكم وإن أصابتكم لا تصب
(3/467)
الظالمين خاصة بل تعمكم، فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب
الشرط المقدر الذي هو مضمون الأمر لتسببه عنه وأنت خبير بأنَّ عموم إصابة الفتنة
ليس سبباً عن عدم الإصابة ولا عن الأمر، وقيل: مراده أن التقدير: إن لم تتقوا
أصابتكم على مذهب الكسائي وإن أصابتكم لا تخص الظالمين، وأنت خبير بأنه لا حاجة
إلى اعتبار الواسطة بل يكفي إن لم تتقوا لا تصيب الظالمين خاصة. اهـ
قوله: (أو النهي عن إرادة القول).
قال الشيخ جمال الدين ابن هشام في المغني: وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب
إضمار القول، أي: واتقوا فتنة مقولاً فيها ذلك. اهـ
قال البدر ابن الدماميني: هذا هو المشهور بين القوم، وقرره بعض المتأخرين على وجه
لا يحتاج معه إلى إضمار القول فقال: لا شك أن طلب الضرب مثلاً صفة قائمة بالمتكلم
وليس حالاً من أحوال الرجل مثلاً في قولك: مررت برجل أضربه، إلا باعتبار تعلقه به
أو كونه مقولاً فيه واستحقاقه أن يقال فيه فلا بد أن يلاحظ في وقوعه صفة له هذه
الحيثية فكأنه قيل: مررت برجل مطلوب ضربه، أو مقول في حقه ذلك لا على معنى الحكاية
بل على معنى أنه يستحق أن يقال فيه. اهـ
قوله: (حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط).
قال المبرد في الكامل: العرب تختصر التشبيه وربما أومأت إليه إيماء، قال أحد
الرجاز:
بتنا بحسان ومعزاه تئط ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط
حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
يقول في لون الذئب واللبن إذا خلط بالماء ضرب إلى الغبرة. اهـ
والمذق: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وقاف اللبن الممزوج بالماء.
قوله: (ويحتمل أن يكون نهياً بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم فإن وباله
يصيب الظالم خاصة).
قال أبو حيان: الذي دعاه إلى هذا استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بـ (لا)
واعتياض تقريره نهياً فعدل إلى جعله دعاء، فيصير المعنى: لا أصابت الفتنة الظالمين
خاصة، واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير: لا أصابت ظالماً ولا غير
(3/468)
ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنة لا أوقعها الله تعالى بأحد. اهـ
قوله: (و (من) فى (منكم) على الوجه الأول. .).
قال الطَّيبي وأبو حيان والشيخ سعد الدين: أي على أن يكون جواباً للأمر.
قوله: (للتبعيض).
قال الطَّيبي: محله نصب على أنه بدل من (الذين ظلموا). اهـ
قوله: (وعلى الأخيرين ... ).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: أي على أن يكون صفة أو نهياً. اهـ
قوله: (للتبيين).
قال الطَّيبي: لأنه تفسير للذين ظلموا، أي: لا يصيبن الظالم الذي هو أنتم.
قال صاحب التقريب: وفي تخصيص (من) بالتبعيض في الأول والتبيين في الثاني حزازة.
اهـ
وكذا قال الحلبي: في هذا التخصيص نظر، إذ المعنى يصح في كل الوجوه مع التبعيض
والبيان. اهـ
وقال الطَّيبي: إذا حقق النظر تبين أنَّ المخاطبين في الأول كل الأمة، وراكب
الفتنة بعضهم، فـ (من) لا محالة تبعيض، وفي الثاني بعض الأمة الذين باشروا الفتنة
خصوصاً فـ (من) بيان ولا محيد عنه. اهـ
ولذا قال الشيخ سعد الدين: إنما كان (من) للتبعيض على جواب الأمر لأن الذين ظلموا
بعض من كل الأمة المخاطبين بقوله (وَاتَّقُوا)، وللتبيين على النهي سواء أعتبر
مستقلاً أو صفة لأن المعنى لا تتعرضوا للظلم فتصيب الفتنة الظالمين الذين هم أنتم.
اهـ
قوله: (وروي أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة) الحديث.
أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب، ومن
(3/469)
طريق سعيد بن المسيب نحوه وفيه أنه حاصرهم خمساً وعشرين ليلة.
وأبو لبابة اسمه رفاعة بن عبد المنذر صحابي معروف، وفي حديث ابن المسيب أنه تصدق
بثلث ماله ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك إلا خيراً حتى فارق الدنيا.
وقوله: (إنه الذبح).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن حكم سعد هو القتل. اهـ
قوله: ((وأنتم تعلمون) أنكم تخونون، أو أنتم علماء).
قال الطَّيبي: يريد (أنتم تعلمون) إما مفعول مقدر منوي معه بقرينة السياق وهو أنكم
تخونون، أو غير منوى بمنزلة اللازم وهو المراد بقوله: وأنتم علماء. اهـ
قوله: (أو محنة من الله تعالى).
قال الطَّيبي: عطف على قوله: سبب الوقوع. اهـ
قوله: ((فُرْقَانًا) هداية ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فإن قلت: ذكر لقوله تعالى (فُرْقَانًا) وجوهاً وهو أن يكون نصراً أو
بياناً أو مخرجاً أو تفرقةً فأيها أحسن؟
قلت: الجمع بينها، لأن هذه الآية كالخاتمة لجميع ما سبق بدليل عوده إلى بدء القصة
وهو قوله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، و (أو) في كلام المصنف
للتخيير كما في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. اهـ
قوله: (تذكار لما مكر قريش به ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر قريش بتمامه
ذكره بدء حالهم معه ليعتبر فيشكر، وفيه بيان لتوفيق النظم. اهـ
قوله: (وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن هشام في السيرة الكبرى وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل من حديث ابن
(3/470)
عباس بمعناه، وابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وابن عباس.
ودار الندوة بمكة بناها قصي لينتدوا فيها أي: ليجتمعوا للمشاورة.
ولم يحسن الطيبي تخريج الحديث على عادته فقال: إنه في مسند أحمد، وليس فيه ذكر
إبليس.
وأساء والحديث إنما هو بتمامه في الكتب التي أشرنا إلى التخريج منها.
قوله: (للمزاوجة).
أي: المشاكلة.
قال الطَّيبي: هو وجه، وحمله صاحب الكشاف على الاستعارة بجامع الإخفاء والأخذ
بغتة، شبه صورة صنع الله تعالى ذلك معهم بصورة صنع الماكر، وعلى هذا لا يحتاج إلى
وقوعه في صحبة مكر العبد، ومنه قول علي رضي الله تعالى عنه: من وسع عليه في دنياه
ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في غفلة. اهـ
قوله: (وقرئ (صَلاتَهُمْ) بالنصب على أنه الخبر المقدم).
فيه كون الخبر معرفة والاسم نكرة كقول حسان:
يكون مزاجها عسل وماء
وقد ذهب صاحب المفتاح إلى أنه من باب القلب.
وقال ابن جني: إن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، فإنك لو قلت: خرجت فإذا أسد بالباب
أو إذا الأسد بالباب لم تجد الفرق بينهما لأنك لا تريد بالصورتين أسداً معيناً
فكأنه تعالى قال: ما كان صَلاتهم عند البيت إلا المكاء والتصدية، أي: هذا الجنس من
الفعل، ولم يجر هذا مجرى: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في قائم
(3/471)
وجالس معنى الجنسية التي يتلاقى معنى معرفتها ونكرتها. اهـ
قال الشيخ سعد الدين عقب حكايته: وما يقال إن في المعرفة الإشارة إلى الجنس
واعتبار الحضور في الذهن والنكرة خلو عن ذلك فتدقيق علمي بيّن الفرق بين المعرفة
وفائدة اللام، ولا أدري هل هو من اللغة؟. اهـ
ثم قال ابن جني: ويجوز أيضاً مع النفي جعل اسم كان نكرة ولا يجوز مع الإيجاب، ألا
تراك تقول: ما كان إنسان خيراً منك، ولا تقول: كان إنسان خيراً منك. اهـ
قوله: (وجعل ذاتها تصير حسرة).
قال الطَّيبي: يعني الظاهر أن يقال: ثم يكون عاقبة إنفاقها حسرة فأنث الفعل رداً
إلى الأموال. اهـ
قوله: (مبالغة).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة
إنفاقها حسرة بكون ذاتها حسرة وأطلق المشبه به على المشبه. اهـ
قوله: (سجالاً).
أي: مساجلة تارة لهم وتارة عليهم، وأصله المساجلة في ملء الدلو.
قوله: (والمعنى: قل لأجلهم).
قال أبو حيان: بل الظاهر أنَّها لام التبليغ، وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى
الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها. اهـ
قوله: (على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد).
قال الطَّيبي: هذه خاتمة شريفة في أمر الجهاد ولذلك كانت مخلصاً إلى ذكر ما بدأت
به السورة من حديث الغنائم وقسمتها. اهـ
قوله: ((فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ خبره محذوف).
قال أبو البقاء: خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم أن لله خمسه. اهـ
(3/472)
قال الشيخ سعد الدين: وفيه زيادة حذف -أعني اللام- إلا أنه ترجح
بأن حذف المبتدأ أكثر. اهـ
قوله: (وقرئ (فإن) بالكسرة).
قال أبو البقاء: فعلى هذا تكون (أن) وما عملت فيه مبتدأ وخبر في موضع خبر المبتدأ.
اهـ
قوله: (لما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة ثم يقسم
ما بقي على خمسة).
أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال، وأبو داود في المراسيل، وابن جرير
عن أبي العالية مرسلاً.
قلت: فينبغي أن يعزا قول المصنف لما روى -بفتح الراء والواو مبيناً للفاعل-
والضمير فيه لأبي العالية في قوله: وذهب أبو العالية.
قوله: (رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى) الحديث.
أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم، وفي الصحيحين بعضه.
والطَّيبي على عادته خرج هذا الحديث لكونه في الأصول المذكورة ولم يخرج هذا الحديث
الذي قبله لعزته عليه.
قوله: (وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة).
وذلك أن هاشماً والمطلب وعبد شمس ونوفل الأربعة أولاد عبد مناف، ونسبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء ينتهي إلى عبد مناف فهو محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب بن هاشم بن عبد مناف صلوات الله تعالى عليه وسلامه، وأما عثمان فهو ابن
عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأما جبير فهو ابن مطعم بن عدي بن
نوفل بن عبد مناف.
قوله: ((إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) متعلق بمحذوف).
قال الطَّيبي: أي جزاؤه محذوف. اهـ
(3/473)
قوله: (من الآيات والملائكة والنصرة).
قال الطيبي: يعني لم يذكر مفعول (وَمَا أَنْزَلْنَا) ليشتمل على جميع ما يناسب أن
ينزل في ذلك المقام. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تفسير (وَمَا أَنْزَلْنَا) بذلك: شبه الجمع بين الحقيقة
والمجاز. اهـ
ثم قال الطَّيبي: الآيات في قول المصنف مطلقة فيجوز أن يراد بها قوله
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) على ما ذهب إليه محي السنة، ويجوز أن يراد بها
الآيات الدالة على القدرة الباهرة ويكون عطف الملائكة والنصرة من باب عطف جبريل
وميكائيل على ملائكته، والذي يشعر بالثاني قوله (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) وقراءة من قرأ (عُبُدنا) بالجمع. اهـ
قوله: (وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة).
أي فإن المقرر في التصريف قلب واو (فعلى) الاسم ياءً دون الصفة.
قال الطَّيبي: فإن قلت لا شك في وقوع الدنيا والقصوى في الآية صفتين للعدوة فكيف
يقال إنهما إسمان لا صفتان؟
فالجواب: ما قاله ابن جني أنهما وإن كانا صفتين في الأصل إلا أنهما ذهب بهما مذهب
الأسماء بتركهم إجراهما وصفاً في أكثر الأمر واستعمالهم إياهما استعمال الاسماء،
ولذا كان القياس فيهما قلب الواو ياء. اهـ
قوله: (كالقود).
قال الطَّيبي: يعني القياس أن تقلب واوه ألفاً كأشباهه فتركوه. اهـ
قوله: (وهو أكثر استعمالاً من القصيا).
وإن كان القصيا هو القياس.
قوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل منه).
أو من (لِيَقْضِيَ) بإعادة الحرف.
قوله: (أو متعلق بقوله مَفْعُولاً).
(3/474)
زاد أبو البقاء: أو بقوله (لِيَقْضِيَ).
قال الطَّيبي: والبدل أولى، لأن المراد بالحياة: الإيمان، وبالهلاك: الكفر،
وبالبينة: إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة، أي: فعلنا ذلك لتظهر حجة
من أسلم، ويدحض باطل من كفر، ولا ارتياب في أن هذه المعاني في هذا التركيب أوضح
منها في قوله تعالى (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً). اهـ
قوله: (وقرئ (لِيَهْلَكَ) بالفتح).
قال ابن جني في المحتسب: هي شاذة مرغوب عنها لأن ماضيه هلك بالفتح ولا يأتي فعل
يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة.
قوله: (أكله جزور).
جمع آكل، أي: قليل يشبعهم جزور واحد، يضرب مثلاً في العد والأمر الذي لا يعبء به.
قاله الطَّيبي.
قوله: (ولم يصفها).
قال الشيخ سعد الدين: أي لم يقل فيه كافرة مع أنه المقصود. اهـ
قوله: (والريح مستعارة للدولة).
قال الطَّيبي: شبهت الدولة في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس
المشبه به إدِّعاءً، وأطلق المشبه به وهو الريح على المشبه المتروك. اهـ
قوله: (وقيل: المراد بها الحقيقة).
قال الطَّيبي: ويجوز أن يكون كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد. اهـ
قوله: (فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله).
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه
العدو وإذا كان كذلك لم يكن لهم قوام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن مقرن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
(3/475)
كان عند القتال لم يقاتل أول النهار إلى أن تزول الشمس وتهب
الرياح وينزل النصر.
قوله: (وفي الحديث: نصرت بالصبا، وأُهلكت عاد بالدبور).
أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس.
قوله: (وتعزف).
قال في النهاية: العزف: اللعب بالمعازف وهي الدفوف وغيرها مما يضرب.
قوله: (والعطف لتغاير الوصفين).
قال الشيخ سعد الدين: أي نقول الجامعون بين صفتي النفاق ومرض القلب.
قال: وجعل الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، أو من قبيل: أعجبني زيد وكرمه وهْمٌ.
اهـ
يشير إلى الرد على الطَّيبي حيث قال: ويجوز أن تكون الواو في (وَالذِين) من التي
تتوسط بين الصفة والموصوف لتأكيد لصوق الصفة، لأن هذه الصفة في المنافقين صفة لا
تنفك، قال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، أو تكون من التي تدخل بين المفسر
والمفسر؛
نحو: أعجبني زيد وكرمه. اهـ
قوله: (ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً).
قال الشيخ سعد الدين: لا بد أن يحمل المضي ههنا على الغرض والتقدير، وكأنه قيل: قد
مضى هذا المعنى ولم تره ولو رأيته لرأيت أمراً عظيماً قطعياً، وإلا فظاهر أن ليس
المعنى هنا على حقيقة المضي. اهـ
قوله: (وهو مبتدأ خبره (يضربون)).
قال الطَّيبي: فالجملة على هذا استئناف.
قوله: (ويقولون ذوقوا).
(3/476)
قال الشيخ سعد الدين: ليس الاحتياج إلى هذا التقدير لمجرد قبح
عطف الإنشاء على الإخبار، بل لأن المعنى على ذلك، لأن هذا من كلام الملائكة قطعاً
وإنما الكلام في (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) حيث يحتمل أن يكون من كلام
الله تعالى. اهـ
قوله: (فلا يتوقع منهم إيمان).
قال الطَّيبي: يعني دل قوله (فَهُم لا يُؤمِنُونَ) لما فيه من بناء (لا يؤمِنُونَ)
على (هم) المفيد لتقوي الحكم على عدم توقع الإيمان منهم وذلك لترتب هذه الجملة على
قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث أوقع
(الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو معرفة خبراً لـ (إِنَّ) وجعل اسمه (شَرَّ الدَّوَابِّ).
اهـ
قوله: (أن لا يمالؤا).
أي: يساعدوا.
قوله: (وعن عقبة بن عامر: سمعته عليه الصلاة والسلام على المنبر يقول: ألا إن
القوة الرمي، قالها ثلاثاً).
أخرجه مسلم.
قوله: ((وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) اسم للخيل التى تربط في سبيل الله تعالى).
قال الطَّيبي: قيل: فإذن يلزم من إضافته إضافة الشيء إلى نفسه. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: وليس بشيء، بل في التحقيق الرباط: اسم للمربوطات إلا أنه لا
يستعمل إلا في الخيل، فالإضافة باعتبار عموم المفهوم الأصلي. اهـ
قوله: (أو مصدر).
قال في الانتصاف: هذا هو المطابق للرمي. اهـ
قوله: (قال جرير:
إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا).
بعده:
وإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
(3/477)
قال الطَّيبي: حسبكم أي: محسبكم، وأن تلبسوا: فاعله، وخز
الثياب: نفيسها، ويروى خز بالخاء والزاي المعجمتين وهو نوع من الإبريسم، وتقنعوا:
أي غطوا رءوسكم ووجوهكم من الحياء، يهجوهم بأن همتهم مقصورة على المآكل والملابس.
اهـ
قلت: ذكر الزمخشري في شرح شواهد سيبويه أنَّ هذين البيتين لعبد الرحمن بن حسان،
وقيل: لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان وأورد الأول بلفظ: إني رأيت، وقال: جعل (أن
تلبسوا) أحد مفعولي (رأيت) و (حسبكم) المفعول الثاني، يهجو بني أمية بن عمرو بن
سعيد بن العاص وكانوا زوجوا أختهم من سليمان بن عبد الملك وحملوها إلى الشام
فصحبهم وكانوا وعدوه بالقيام بحوائجه فقصروا فهجاهم.
قوله: ((وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إما فى محل النصب على المفعول
معه).
قال أبو حيان: هذا مخالف لكلام سيبويه فإنه قال: قالوا: حسبك وزيداً درهم لما كان
فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قيل: بحسبك وبحسب زيداً
درهم.
قال: وفي ذلك الفعل المضمر ضمير يعود على الدرهم، والنية بالدرهم التقديم، فيكون
من عطف الجمل، ولا يجوز أن يكون من باب الإعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه
ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك فيه. اهـ
قوله: (فحسبك والضحاك سيفٌ مهند).
أوله: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا.
قال الطيبي: انشقاق العصا عبارة عن التفرق، ونصب (الضحاكَ) بـ (حسبك) لأنه في معنى
يكفيك، يقول: إذا كان يوم الحرب ووقع الخلاف بينكم فحسبك مع الضحاك سيف هندي.
وقال ابن يعيش في شرح شواهد الإيضاح: يروي (الضحاك) بالرفع والنصب والجر، فالرفع
على أنه مبتدأ خبره (سيف) وخبر (حسبك) محذوف لدلالة الكلام عليه لأنه
(3/478)
في معنى الأمر، أي: فلتكتف ولتثق والضحاك سيفك الأوثق، والنصب
على أنه مفعول معه و (حسبك) مبتدأ و (سيف) خبره، والمعنى: كافيك سيف مع صاحبه
الضحاك وحضوره، أي حضور هذا السيف المغني عن سواه، والجر على أن الواو واو قسم، أو
عطفاً على الكاف في (حسبك).
قال: وكلاهما مخالف للمعنى، لأن القصد الإخبار بأن الضحاك نفسه هو السيف الكافي
والإخبار بأن المخاطب يكفيه ويكفي الضحاك معه سيف. اهـ
قوله: (أو الرفع عطفاً على اسم الله).
زاد أبو البقاء: أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره: كذلك، أي: حسبهم الله تعالى. اهـ
قوله: (أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بِاللَّيْلِ نَاراً)
هو لأبي داود جعفر بن الحجاج، وقيل: حارثة بن حمران الإيادي الحذاقي من أبيات
أولها:
ودارٍ يقول لها الرائدو ... ن ويلُ امِّ دار الحذاقيّ دارا
يصف أيام لذته بالتقييد ثم مصيره إلى حال أنكرت عليه امرأته بمنزلته من السوء
فأنبأها بجهلها بمكانه وأنه لا ينبغي أن يغتر بأمرئٍ من غير امتحانه.
قال ابن يعيش: سيبويه يحمل قوله: (ونار) على حذف مضاف تقديره: وكل نار، إلا أنه
حذف ويقدرها موجودة، وأبو الحسن يحمله على العطف على عاملين، فيخفض (نارا) بالعطف
على (امرئٍ) المخفوض بـ (كل)، وينصب بالعطف على (أمرأً) المنصوب، وهذا البيت من
أوكد ما استشهد به أبو الحسن. اهـ
وقال غيره: يروي (وناراً) الأول بالنصب فراراً من العطف عاملين.
ووقع في كامل المبرد نسبة هذا البيت إلى عدي بن زيد.
قوه: (روي أنه عليه الصلاة والسلام أُتي يوم بدر بسبعين أسير ... ) الحديث.
أخرجه أحمد وابن جرير وابن مردويه من حديث ابن مسعود، ومسلم من حديث ابن عباس
بنحوه.
(3/479)
قوله: (روي أنه عليه السلام قال: لو نزل العذاب لما نجا منه غير
عمر وسعد بن معاذ).
أخرجه ابن جرير عن محمد بن إسحاق بلفظ: لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر
بن الخطاب وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إليَّ، وأخرجه ابن مردويه
من حديث ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ.
قوله: (روي أنها نزلت في العبَّاس ... ) الحديث.
أخرجه الحاكم وصححه من حديث عائشة.
قوله: (تشبيهاً لها بالعمل والصناعة).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (فعاله) بالكسر في المصادر إنما يكون في الصناعات
وما يزاول كالكتابة والزراعة والحراثة والخياطة، والولاية ليست من هذا القبيل إلا
على التشبيه. اهـ
قوله: (إلا تفعلوا ما أمرتم به).
قال الطَّيبي: يريد أن الضمير في (تَفعَلُوهُ) بمنزلة اسم الإشارة الذي يشار به
إلى جميع ما ذكر. اهـ
قوله: (من قرأ سورة الأنفال ... ) الحديث.
رواه الثعلبي عن أُبيٍّ وهو موضوع.
(3/480)
سورة التوبة
قوله: (ولها أسماء أخر ... ) إلى آخره.
قلت: لبراءة أكثر من عشرة أسماء، وقد نظمتها في أبيات فقلت:
أسماء براءة تفوق العشرة ... فاضحة البحوث والمنقرة
وسورة العذاب والتوبة ... مع حافرة مثيرة مبعثرة
مخزية مقشقشة مدمدمة ... منكلة مشردة يا بررة
قوله: (والبحوث).
بفتح الباء، كذا ضبطه.
قوله: (لما فيها من التوبة للمؤمنين).
أي في قوله (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ) إلى قوله تعالى (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). قاله
الطَّيبي.
قوله: (وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت سورة ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن
عباس.
قوله: (روي أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ... ) الحديث.
هو ملفق من عدة أحاديث بعضها في مسند أحمد من حديث علي، وبعضها في الصحيحين من
حديث أبي هريرة، وبعضها في الدلائل للبيهقي من حديث ابن عباس، وبعضها في تفسير ابن
مردويه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره. الشيخ سعد الدين.
قوله: (أمرت بأربع).
(3/481)
أي بأن أخبر وأنادي بها، وكان العلم بأن الكافر لا يدخل الجنة
لم يكن حاصل للمشركين قبل ذلك، أو أريد الإعلام بأنه لا يقبل من المشركين بعد هذا
إلا الإيمان، أو بأن التعادي والتباين بين النفسين المسلمة والكافرة ثابت في
الدنيا والآخرة.
الطَّيبي.
قوله: (العضباء).
لقب لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصله المشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته
الشريفة كذلك.
قوله: (في بعض الروايات: لا ينبغى لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي).
أخرج هذه الرواية أحمد والترمذي وحسنه من حديث أنسٍ.
قوله: (روي أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع
فقال: هذا يوم الحج الأكبر).
أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر.
قوله: (الحج عرفة).
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والدارقطني
والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر.
قوله: ((ورسوله) عطفاً على المستكن في (بريء) لوجود الفاصل).
قال الشيخ سعد الدين: ويحتمل أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي ورسوله كذلك. اهـ
قوله: (أو على محل (إن) واسمها في قراءة من كسرها).
قال الطيبي: وذلك لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على
(3/482)
محل ما عملت فيه، هذا معنى قولهم: يعطف على محلها مع اسمها، هذا
على ما قرئ في الشاذة بكسر (إن)، وأما على المشهورة بفتح (أن) فقال أبو البقاء:
إنه عند المحققين غير جائز لأن المفتوحة لها موضع غير الابتداء بخلاف المكسورة.
وقال ابن الحاجب: (وَرَسُولُهُ) بالرفع معطوف على (أنَّ) باعتبار المحل وإن كانت
مفتوحة لأنَّها في حكم المكسورة، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون فإنَّهُم قالوا
(إذا) يعطف على اسم (إنَّ) المكسورة دون غيرها، توهموا أنه لا يجوز العطف على
المفتوحة، والمفتوحة تنقسم إلى قسمين: قسم يجوز العطف فيه على اسمها بالرفع، وقسم
لا يجوز، فالذي يجوز هو أن يكون في حكم المكسورة كقولك: علمت أنَّ زيداً قائمٌ
وعمرو، لأنه في معنى إنَّ زيداً قائم وعمرو فكما جاز العطف ثَمَّ جاز هنا، ألا ترى
أنَّ (عَلمَ) لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر، يدل على ذلك وجوب الكسر في قولك:
علمتَ إنَّ زيداً القائم، وإنما انتصب بعدها توفيراً لما تقتضيه علمت من معنى
المفعولية، وإذا تحقق أنها في حكم المكسورة جاز العطف على موضعها، وإن كانت
المفتوحة على غير هذه الصفة لم يجز العطف على اسمها بالرفع مثل قولك: أعجبني أنَّ
زيداً قائم وعمرو، فلا يجوز إلا النصب لأنَّها ليست مكسورة ولا في حكمها.
وقال في موضع آخر: إنما لم يعطف على المفتوحة لفظاً ومعنى لأنها واسمها وخبرها
بتأويل جزء واحد، فلو قدرت أنها في حكم العدم لأخللت بموضعها بخلاف (إن) المكسورة
لأنَّها لا تغير المعنى فجاز تقدير عدمها لكونها للتأكيد المحض كما جاز تقدير عدم
الباء المؤكدة في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا. اهـ
قوله: (استثناء من المشركين).
أي في قوله (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
قوله: (أو استدراك).
أي: استثناء منقطع.
قال الشيخ سعد الدين: ولا يضره تخلل الفاصل -أعني قوله (وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ ... ) إلى آخره- لأنه ليس بأجنبي بالكلية لكونه أمراً بالإعلام، كأنه
قيل لهم: فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن اللهَ بريء منهم لكن الذين عاهدتم ولم
ينقضوا عهدهم أتموا إليهم عهدهم ولا تجعلوهم في حكم الناكثين الذين لا رخصة في
إمهالهم أربعة أشهر.
(3/483)
قال: وفي جعله استثناء متصلاً من (الْمُشْرِكِينَ) يلزم تخلل
الفاصل الأجنبي مع منافاته لعموم المشركين في قوله تعالى (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إلا أن يحمل على المعهود أعني المشركين الذين استثنى منهم
غير الناكثين، أو يخص عمومهم بهذه القرينة، لكن تأخر الاستثناء ينافي ذلك ولا محيص
سوى أن يجعل من جهة المعنى من المشركين الثاني أيضاً.
وذهب صاحب الانتصاف إلى أنه لا حاجة إلى تقدير القول في (فَسِيحُوا) وإنما هو تفنن
وذهاب من خطاب المسلمين إلى خطاب المشركين ثم رجوع إلى خطاب المسلمين بقوله تعالى
(إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ). اهـ
وعبارة الانتصاف: يجوز أن يكون (فَسِيحُوا) خطاباً من الله تعالى ولا يضمر قبله
قولوا، ويكون استثناء من قوله (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ)، والمعنى: براءة من
الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين
في (عَاهَدْتُمْ) إلى خطاب المشركين في (فَسِيحُوا)، والتفات بقوله (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ ... ) وقياسه: غير معجزي وأني،
فيه افتنان وتفخيم للشأن، ثم يعود إلى خطاب المؤمنين في قوله تعالى (إِلاّ
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا
وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ). اهـ
قوله: (وانتصابه على الظرف).
قال أبو حيان: سبقه إلى ذلك الزجاج، ورده أبو علي، لأنَّ المرصد: المكان الذي يرصد
فيه العدو، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً.
قال أبو حيان: وأقول يصح انتصابه على الظرف لأن قوله (وَاقْعُدُوا لَهُمْ) ليس
معناه حقيقة القعود بل المعنى: أرصدوهم في كل مرصد يرصد فيه، ولما كان المعنى هذا
جاز قياساً أن يحذف منه (في) لأن العامل في الظرف المختص إذا كان من لفظه أو معناه
جاز أن يصل إليه بغير وساطة (في). اهـ
وقال صاحب الانتصاف: يحتمل أن يكون المرصد مصدراً لأن اسم الزمان والمكان والمصدر
من فعله واحد. اهـ
قوله: (وَخَبَّرتماني أَنَّما الموْتُ بِالقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ
وَقَلِيبُ).
(3/484)
هو لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه وقبله:
لعمركما إن البعيد الذي مضى ... وإن الذي يأتي غداً لقريب
الهضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض، والقليب: البئر.
قال الزمخشري في شرح شواهد سيبويه: أي قلتما لي إن من سكن القرى مرض للوباء الذي
فيها فكيف مات أخي في برية وهذه هضبة أي جبل وقليب أي بئر، أشار إلى هضبة وبئر في
الموضع الذي مات فيه أخوه ومن أبيات هذه القصيدة قوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجب عند النداء مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا ... لعل أبا المغوار منك قريب
قوله: (قال حسان: لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإِلَّ السَّقْبِ مِنْ
رَأَلِ النَّعَامِ).
السقب: ولد الناقة الذكر، والرأل: ولد النعام.
قوله: (وهو الجؤار).
بضم الجيم والهمز: رفع الصوت.
قوله: ((وأكثرهم فاسقون) متمردون).
قال الطَّيبي: الكافر إذا وصف بالفسق دل على نهاية ما هو فيه من الكفر. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: أشار بقوله متمردون إلى دفع ما يقال إن الكفر أقبح من الفسق
كله فما وجه إخراج البعض بقوله (وَأَكْثَرُهُمْ)؟. اهـ
قوله: (من التفادي).
بالفاء، يقال: تفادى الرجل من كذا، إذا تحاماه. قاله الطيبي.
قوله: ((وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اعتراض).
قال الشيخ سعد الدين: بين (فَإن تَابُوا) (وَإِنْ نَكَثُوا). اهـ
قوله: (وإظهار الياء لحن).
قال الحلبي: لأنه إنما اشتهر من القراء التسهيل بين بين لا الإبدال المحض حتى إن
الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء فقال: وفي النحو إبدالاً. اهـ
(3/485)
قلت: فقوله: لحن مراده اللحن الخفي عند القراء لا الجلي الذي هو
خلاف مما تقتضيه قواعد النحو، فاندفع ما أورد عليه من أنه خلاف ما ذكره النحاة
ومنهم الزمخشري في المفصل حيث قال: إذا التقت همزتان في كلمة واحدة فالوجه قلب
الثانية إلى حرف لين على حسب حركتها.
قال ابن الحاجب في شرحه: كقولك أيمة بياء محضة. هذه عبارته.
قوله: (فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه).
قال الطَّيبي: وذلك أن المؤمن إذا اعتقد أن لا ضار ولا نافع إلا الله وإن أحداً لا
يقدر أن يضره وينفعه إلا بإذنه ومشيئته فلا يخاف إلا ربَّه. اهـ
قوله: (روي أنه لما أُسر العبَّاس. .) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، وأخرجه ابن جرير وأبو
الشيخ عن الضحاك بلفظه.
قوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد ...
) الحديث.
أخرجه الطبراني من حديث سلمان بلفظ: من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد
فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره، وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيريهما
والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن ميمون قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقولون: إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقاً على الله أن يكرم من زاره
فيها.
قوله: (وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول لما علم أن الإيمان باللهِ تعالى قرينه ...
) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه مذكور بطريق أبلغ لما اشتهر من تقارنهما وعدم
إنفكاك أحدهما عن الآخر.
وقال الطَّيبي: خلاصة الجواب أن في الكلام دلالة على ذكره وليس فيه بيان الفائدة
في
(3/486)
طي ذكره، ويمكن أن يقال: إن المراد بـ (مَنْ آمَنَ) الرسول صلى
الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم الأحق بعمارة مساجد الله، وهو الذي يدعو الناس إلى
توحيد الله تعالى وعبادته وذكره، فلما كان داخلاً في لفظ (من) لم يحسن أن يقال
ورسوله. اهـ
قوله: (نزلت فى المهاجرين ... ) إلى آخره.
أخرجه الثعلبي عن ابن عباس.
قوله: (وقيل نزلت نهياً عن مولاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة).
رواه الثعلبي عن مقاتل.
قوله: (وموطن يوم حنين ... ) إلى آخره.
تبع الزمخشري في تقدير موطن في الثاني، أو تفسير موطن بالوقت في الأول ليكون من
عطف الزمان على المكان، (وقد قال صاحب الانتصاف متعقباً عليه: لا مانع من عطف
الزمان على المكان كعطف أحد المفعولين على الآخر تقول: ضرب زيد عمرواً يوم الجمعة
وفي المسجد، كما تقول: ضربت زيداً وعمروا.
وقال الحلبي: لا أدري ما حمل الزمخشري على تقدير أحد المضافين أو على تأويل الموطن
بالوقت ليصح عطف زمان على زمان أو مكان على مكان إذ يصح عطف أحد الطرفين على
الآخر. اهـ
وقال الطَّيبي في توجيه صنع صاحب الكشاف: قيل يعني أن الفعل كما يقتضي ظرف المكان
يقتضي ظرف الزمان فلا يجوز أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر كما لا يعطف المفعول به
على المفعول فيه ولا الفاعل على المفعول ولا المصدر على شيء من ذلك ولا بالعكس.
ثم قال الطَّيبي: والزمخشري إنما راعى المناسبة وهي واجبة عند علماء البيان دون
النحويين. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا ينبغي أن يذهب في وجه ذلك لأنه ليس بينهما من المناسبة
ما يصلح معه العطف فإنه ظاهر الفساد، بل وجهه إن كلاً منهما متعلق بالفعل بلا توسط
العاطف كسائر المتعلقات لا يعطف بعضها على بعض، وإنما تعطف على البعض
(3/487)
ما هو من جنسه ولا يتعلق معه استقلالاً مثل: ضربت زيداً
وعمرواً، وصمت يوم الخميس ويوم الجمعة، وصليت في الدار وفي المسجد، ونحو ذلك،
فاحتاج إلى أن يجعله من عطف المكان على المكان بتقدير المضاف، أو الزمان على
الزمان كذلك، أو يجعل الموطن اسم زمان على ما يجوزه القياس وإن كان بعيداً من
الفهم قليلاً في الاستعمال، كأنه قيل: في أزمنة أوقات مواقف الحروب. اهـ
قوله: (ولا يمنع إبدال قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) منه أن يعطف على
موضع (في مَواطِنَ) فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي
كثرتهم وإعجابها إياهم في جمع المواطن).
هذا ردٌّ لقول الكشاف على أن الواجب أن يكون (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) منصوباً بفعل
مضمر لا بهذا الظاهر، وموجب ذلك أن قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من (وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ) فلو جعل ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك
المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فنفى أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به إلا إذا
كان نصبت (إذ) بإضمار اذكر.
وقد تكلم الناس على كلام الزمخشري هذا فمن متعقب ومن مقرر، فقال صاحب الانتصاف: ما
ذكره غير لازم، تقول: اضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد، والناصب للظرفين واحد، وهما
متغايران، إنما يمتنع أن ينتصب الفعل الواحد بظرفي زمان مختلفين عند عدم العطف.
اهـ
قال الطَّيبي بعد أن حكاه: وعليه قول القاضي: ولا يمتنع إبدال قوله (إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ) ... إلى آخره.
وقال صاحب التقريب تقريراً لقول الزمخشري: الواجب أن ينصب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) بـ
(نصر) مضمراً لئلا يعطف زمان على مكان بل يكون عطف جملة على جملة لا بهذا
الظاهر إن جعل (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدلاً من
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) لا منتصباً بـ (اذكر) إذ التقدير على البدلية نصركم في مواطن
كثيرة زمان أعجبتكم كثرتكم، ولا يصح لأن الإعجاب والكثرة لم يكونا في جميع تلك
المواطن، وقد يقال: يمكن أن ينصب بهذا الظاهر مطلقاً لا مقيداً بالظرف، وغاية
الجواب أنه إذا تقدم فعل مقيد بحال على ظرف نحو: صليت قائماً في المسجد، فالمعنى
أن الصلاة المقيدة بالقيام
(3/488)
وقعت في المسجد، والحال في المعنى ظرف فيعتبر في الثاني ذلك
الظرف كما يعتبر في الحال وللبحث فيه مجال.
قال الطَّيبي: وتمام التقرير أنَّ الأصوليين ذكروا أن الأصل اشتراك المعطوف
والمعطوف عليه فِى المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما هذا هو المراد من كلام
الزمخشري وصاحب التقريب.
قال: فالواجب أن يقال: ما في الآية ليس من باب عطف المفرد على المفرد بل هو من باب
عطف الجملة على الجملة، إما على تقدير ناصب من جنس المذكور، أو تقدير اذكر من غير
إبدال لئلا يلزم المحذور، وبيانه أن (نصر) مطلق وتقييده بحسب كل واحد من الظرفين
فإن الأحوال والظروف كلها مقيدات للفعل المطلق، فإذا قيد أحدهما بقيد لزم تقييد
الفعل به، لأن القيد بيان المراد من المطلق فيسري منه إلى الآخر، لعل هذا هو
المعنى من قول صاحب التقريب: إذا تقدم فعل مقيد بحال عنى ظرف نحو: صليت قائماً في
المسجد فيعتبر في الثاني ذلك القيد قريب من قولهم المتعقب للحمل للجميع. اهـ
وقال الحلبي: كلام الزمخشري حسن، وتقديره أن الفعل مقيد بظرف المكان، فإذا جعلنا
(إِذ) بدلاً من (ويوْم) كان معمولاً له، لأن البدل يحل محل المبدل منه، فيلزم أنه
نصرهم إذ أعجبتهم كثرتهم في مواطن كثيرة، والفرض أنَّهم في بعض المواطن لم يكونوا
بهذه الصفة، إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل في جميع المواطن حتى يلزم ما
قاله. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تقرير كلام الكشاف: الواجب أن ينتصب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)
بفعل مضمر وهو (نَصَرَكُمُ) ليكون من عطف الجملة على الجملة، لا بقوله (لَقَدْ
نَصَرَكُمُ) ليكون عطفاً على (فِي مَوَاطِنَ) بالتأويل وبدون التأويل وذلك لأن
(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) فيكون زمان
الإعجاب بالكثرة ظرفاً للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لأن الفعل واحد، ولأن
الأصل في العطف أن يتقيد المعطوف بما يتقيد به المعطوف عليه وبالعكس مثل: أعجبني
قيام زيد يوم الجمعة وقيام عمرو، وبالعكس، و (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) مقيد بزمان
الإعجاب بالكثرة لأن العامل
(3/489)
منسحب على البدل والمبدل منه جميعاً وكذا المواطن، واللازم باطل
إذ لا إعجاب بالكثرة في المواطن، وبهذا التقرير يندفع ما يقال: هذا إنما يلزم لو
كان المبدل منه في حكم التنحية مع حذف حرف العطف ليؤول إلى: نصركم الله في مواطن
كثيرة إذ أعجبتكم، وليس كذلك، بل يؤول إلى: نصركم في مواطن إذ أعجبتكم، وعلى ما
ذكره الزمخشري منع ظاهر مرجعه إلى أن الفعل في المعطوف والمعطوف عليه لا يلزم أن
يكون واحداً بحيث لا يكون له تعدد أفراد، ألا ترى إلى قولنا: ضرب زيد اليوم وعمرو
غداً، وأضربه حين يقوم وحين يقعد، وأضرب زيداً قائماً وعمرواً قاعداً، إلى غير ذلك
ولا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم
أن هذا هو الأصل حتى يفتقر خلافه إلى الدليل. اهـ
قلت: وهذا المنع هو تقرير ما مشى عليه البيضاوي.
(ثم قال الشيخ سعد الدين: وأما ما يقال إن هذه النكتة تدفع ما تقدم أيضاً) لأن
الزمان إنما لا يعطف على المكان لو كان زمان ذلك الفعل وهو ليس بلازم لجواز تغاير
الفعلين ففيه نظر لأن مراده الامتناع فيما إذا كان معمولي فعل واحد في اللفظ نحو:
ضربت زيداً وعمرواً في الدار ويوم الجمعة، حتى يجري فيما إذا تحقق التغاير مثل:
أكرمت أول الزائرين وآخرهم في الدار ويوم الجمعة. اهـ
قوله: (وحنين واد ... ) إلى آخره.
الحديث أخرجه مسلم من حديث العبَّاس بنقص يسير، وروى البيهقي في الدلائل عن الربيع
بن أنس أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأنزل الله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).
قال الربيع: وكانوا اثني عشر ألفاً منهم ألفان من أهل مكة.
قوله: (الطلقات).
قال الشيخ سعد الدين: هم الأسارى الذين أخذوا يوم الفتح وأطلقوا. اهـ
قوله: (لن نغلب اليوم من قلة).
قال الطَّيبي: ليس نفياً للمغلوبية بل نفي للقلة، يعني متى غلبنا كان سببه غير
القلة. اهـ
(3/490)
وقال الشيخ سعد الدين: هو نفى للقلة وإعجاب بالكثرة، يعني إن
وقعت مغلوبية فليس عنها. اهـ
قوله: (فقال العبَّاس وكان صيتاً).
أي عالي الصوت.
روى ابن سعد في الطبقات عن كذا.
قوله: (يا أصحاب الشجرة).
أي أصحاب بيعة الرضوان المذكورين في قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).
قوله: (يا أصحاب سورة البقرة).
قال الطَّيبي: قيل: أريد المذكورون في قوله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)، وقيل: الذي أنزل عليهم سورة البقرة. اهـ
قلت: الظاهر أن المراد الذين حفظوا سورة البقرة فإنَّهُم عظماء الصحابة، قال أنس
بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا.
قوله: (فكرُّوا عنقاً واحداً).
قال الزمخشري: أي رجعوا جماعة واحدة واحدة، أي دفعة، منه قوله (فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ) أي رؤساءهم وجماعاتهم. اهـ
قوله: (حمى الوطيس).
قال في النهاية: الوطيس: التنور.
وهو كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب، ذكر ابن دريد في المجتبى وغيره أن أول من
قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد البأس يومئذ، ولم يسمع قبله.
(3/491)
قال الطَّيبي: وهو من أحسن الاستعارات. اهـ
قوله: (رُوي أن ناساً جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) الحديث.
ذكره الثعلبي بلفظ المصنف بغير إسناد، وأصله عند البخاري من حديث المسور بن مخرمة
ومروان بن الحكم بنحوه.
قوله: (ما نعدل بالأحساب شيئاً).
قال في الأساس: الحسب ما يعده الرجل من مفاخر آبائه. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: كنوا بذلك عن اختيار الذراري والنساء على استرجاع الأموال
لأن تركهم في ذل الأمر يقضي إلى الطعن في أحسابهم. اهـ
قوله: (فشأنه).
قال الشيخ سعد الدين: أي فيلزم أمره وشأنه. اهـ
قوله: (وأكثر ما جاء تابع لرجس).
قال الطَّيبي: أي أكثر ما جاء نجس بكسر النون اهـ.
في الصحاح: قال الفراء: إذا قالوه مع الرجس أتبعوه إياه قالوا رجس نجس بالكسر. اهـ
قوله: (أهل تبالة).
هي بفتح التاء وتخفيف الموحدة بلدة صغيرة باليمن.
قوله: (وجُرَش).
بضم الجيم وفتح الراء: مخلاف من مخاليف اليمن، والمخلاف في اليمن كالرستاق في
العراق.
قوله: (مواتية).
أي: موافقة.
(3/492)
قوله: (أو عن يد قاهرة).
قال في الانتصاف: هدا الوجه أملأ بالفائدة.
قوله: (ويؤيده أن عمر لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنه
عليه الصلاة والسَّلام أخذها من مجوس هجر).
أخرجه البخاري إلى هنا، وأما قوله: وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب، فحديث آخر أخرجه
مالك في الموطأ والشافعي في الأم عنه عن جعفر عن أبيه عن عمر أنه قال: ما أدري ما
أصنع في أمرهم؟
فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول لم الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا
هم سنة أهل الكتاب.
قوله: (ووى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من
العرب).
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عنه.
قوله: (أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا، وهو مزيف لأنه يؤدي
إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر).
قال الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز طاعناً في هذا الوجه: الاسم إذا وصف بصفة
ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلماً، فلو كان
المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم
وحصل تسليم كونه ابناً لله وذلك كفر. اهـ
وقال الإمام: هذا الطعن ضعيف، أما قوله إنه يتوجه الإنكار إلى الخبر فمسلم، وأما
قوله ويكون ذلك تسليماً للوصف فممنوع لأنه لا يلزم من كونة مكذباً لذلك الخبر كونه
مصدقاً لذلك الوصف إلا أن يقال تخصيص ذلك الخبر يدل على أن ما سواه لا يكذبه وهذا
بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف. اهـ
وقال الطَّيبي: هذا الكلام يحتمل أمراً آخر وهو أن يقال إنَّ المراد من إجراء تلك
الصفة على الموصوف بناء الخبر عليه فحينئذ يرجع التكذيب إلى جعل الوصف علة للخبر،
قال
(3/493)
: فبطل ما ذكره المصنف من التزييف. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: القول بالوصفية ليكون حذف التنوين من اللفظ والألف من الخط
قياساً كما في قولك زيد بن عمرو حاضر يوهم بل يدل بدليل الخطاب وشهادة الاستعمال
أن الوصف -أعني النبوة- ثابتة وإنما الكذب والخطأ في الحكم وهو كونه معبوداً،
مثلاً إذا أنكرت على من قال زيد بن عمرو سيدنا كان إنكارك راجعاً إلى كونه سيداً
لا إلى كونه ابن عمرو.
قال: وقد يتمحل فيجاب بأن الصفة هنا للعلمية أو للمدح فإنكار العبودية يتضمن
إنكارها، ولو سلم فلا يستلزم تسليمها.
قال: وذكر بعضهم أن القول ههنا بمعنى الوصف فلا حاجة إلى تقدير الخبر، كما أنَّ
أحداً إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت ذلك المنكر فقط.
قال: وهو مع كونه مخالفاً لظاهر قوله (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ
قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ليس دفعاً للتزييف المذكور بل وجهاً آخر. اهـ
قوله: (إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها).
لم يذكر هذا الوجه في الكشاف، وقال أصحاب الحواشي إنه غير مناسب.
قال الطَّيبي: فإن قلت: فهلا يعتبر التأكيد نحو رأيته بعيني وقلته بفمي وكتبته
بيدي؟
قلت: المقام يأباه، لأن المقصود الإخبار عن ذلك القول الشنيع الذي يخرج من أفواههم
من غير تحاش ولا مبالاة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا يقال ذلك الأسلوب إلا في أمر
يعظم مثاله ويعز الوصول إليه ليؤذن بنيله وحصوله. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن جعل (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) من
قبيل كتبته بيدي وأبصرته بعيني وسمعته بأذني غير مناسب للمقام، فلذا حمله صاحب
الكشاف على وجهين حاصل الأول: أنه مجرد ملفوظ لا معقول له كالمهملات، وحاصل
الثاني: أنه رأي ومذهب لا أثر له في قلوبهم، وإنما يرونه ويتكلمون به جهلاً
وعناداً. اهـ
قوله: (ومنه قولهم: امرأة ضهياء على فعيل).
(3/494)
قال أبو البقاء: الأشبه أن لا يكون مشتقاً منه، لأنَّ الياء في
(ضهياء) أصلية والهمزة زائدة. اهـ
وقد قال الزجاج إن وزن ضهياء فعلاء والهمزة زائدة.
قوله: (وقيل إنه تمثيل لحالهم ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: هو استعارة مصرحة تمثيلية، والمستعار جملة الكلام، لأنَّ حالهم في
محاولة إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب هو المشبه وهو مطوي، والمشبه
به حال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق المعنى بقوله تعالى
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) وهو الظرف المذكور،
وقوله (وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ترشيح للاستعارة، لأنَّ إتمام
النور زيادة في استنارته ونشر ضوءه فهو تفريع على الأصل أي المشبه به، وقوله (هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) تجريد للاستعارة وتفريع على الفرع، وروعي في كل من الممثل
والممثل به معنى الإفراط والتفريط حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى
الله تعالى، وما شأن نور يضاف إلى الله تعالى؟، وكيف السبيل إلى إطفائه لا سيما
بالفم؟، ومن ثم قال: في نور عظيم منبث في الآفاق، وتمم كلاً من الترشيح والتجريد
بقوله تعالى (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وأوهم
التناسب بين الكفر والإطفاء، لأن الكفر التغطية والستر، وبين الشرك ودين الحق،
لأنَّ دين الحق التوحيد.
قال: ويجوز أن يجعل (نُورَ اللهِ) استعارة تحقيقية، والقرينة الإضافة، والمراد
بالنور رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، شبه بذلك
لما جلى الله سبحانه به صلى الله عليه وسلم من ظلمات الشرك وهدى به الضالين، ثم
أطلق اسم النور والسراج على المشبه المتروك، ثم رشح الاستعارة لأنه صفة ملائمة
للمشبه به وهو السراج ولذلك قال (بِأَفْوَاهِهِمْ)، وأما قوله تعالى (وَيَأْبَى
اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) فكما
سبق في الاستعارة الأولى. اهـ
قوله: (نور عظيم).
قال الشيخ سعد الدين: مستفاد من الإضافة إلى الله تعالى. اهـ
قوله: (منبث).
(3/495)
قلت: الظاهر أنَّها بالنون ثم الموحدة ثم المثلثة المشددة، أي:
منتشر.
قوله: (لأنه فى معنى النفي).
أي: لا يرضى ولا يريد.
قوله: (لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... )
الحديث.
أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس كذا.
قوله: (ما أدي زكاته فليس بكنز).
أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عدي الكامل وابن مردويه من حديث أبي ذر، والطبراني
من حديث أبي أمامة.
قوله: (أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز).
أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن حبان عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
موقوفاً عليه.
قوله: (قانون التمول).
في الصحاح: القوانين: الأصول، الواحد قانون وليس بعربي.
قوله: (أو للفضة ... ) إلى آخره.
قال الراغب: أعيد الضمير للفضة دون الذهب لأن جنس الفضة عن الناس أعظم ضرراً
(3/496)
، والحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب. اهـ
قوله: (وعن عطاء).
قال الشيخ سعد الدين: إذا أطلق عطاء فهو ابن أبي رباح. اهـ
قوله: (وقيل الضمير للرسول - صلى الله عليه وسلم).
قال الشيخ سعد الدين: وعلى الأول لله تعالى. اهـ
وقال في الانتصاف: يريد الثاني في قوله عقبه (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ). اهـ
قوله: (أي إن لم تنصروه فسينصره الله ... ) إلى آخره.
قال في الانتصاف: الفرق بين الوجهين عسير، وغايته أن في الأول وعد بنصر مستقبل أكد
تحقيقه بوجود نصره من قبل، وفي الثاني إخبار باستمرار نصر ماضي، والأمر فيهما
متقارب. اهـ
قال الطَّيبي: قوله (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) من باب قولك إن
تكرمني الآن فقد أكرمتك أمس، فقوله: فسينصره الله كما نصره؛ إخبار على سبيل
التوبيخ، والمقصود أن الله تعالى ناصره الآن كما كان ناصره فيما مضى، فهو مستغن
عنكم ولا يضره خذلانكم، وقوله: وأوجب له النصر، إخبار بأن الله تعالى حكم بأنه
منصور، والنصر على الأول وقع تحقيقاً، وهو إمارة النصر المستقبل، وعلى الثاني النصر
محتوم مقدر وما قدره الله تعالى واجب الوقوع. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الوجهان متقاربان، وحاصلهما أنَّ الجواب محذوف، والمذكور
بمنزلة العلة له، والفرق عائد إلى جهة العِلِّية، فالأول بمنزلة القياس الجلي، أي:
إن لا تنصروه فسينصره الله تعالى كما نصره، ولأنه نصره في وقت أصعب من هذا،
والثاني بمنزلة الاستصحاب المعلوم للمخاطبين، أي: فلا يخذله الله تعالى بل ينصره،
لأنه في حكم الله تعالى وفي سالف الزمان وسائر الأحوال من المنصورين لا من
المخذولين، وأنتم عالمون بذلك. اهـ
وقال أبو حيان: الوجه الثاني لا يظهر منه جواب الشرط لأنَّ إيجاب النصر له أمر
سبق،
(3/497)
والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذي يظهر الوجه الأول. اهـ
وقال السفاقسي: نصره له ثابت مستمر في المستقبل، فيصح حينئذ ترتبه على المستقبل،
وقد أشار إليه بقوله: فلن نخذله في غيره، وقد ذكر الشيخ أبو حيان جواز ذلك إذا كان
بهذا المعنى في البقرة. اهـ
قوله: (روي أن المشركين طلعوا فوق الغار ... ) الحديث.
أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي بكر إلى قوله: الله ثالثهما.
قوله: (فأعماهم الله تعالى عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه).
أخرجه ابن سعد والبزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل من حديث أنس وزيد
ابن أرقم والمغيرة بن شعبة.
قوله: (وقيل لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين) الحديث.
أخرجه المذكورون من هذا الوجه.
قوله: (أو على صاحبه وهو الأظهر).
قال الشيخ سعد الدين: ولا ينافي كون ضمير (وَأَيَّدَهُ) للرسول ألبتة، لأنه عطف
على (فَقَدْ نَصَرَهُ) لا على قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ). اهـ
قوله: (والرفع أبلغ).
قال الطَّيبي: لأنه يدل على الدوام والثبوت، وأن الجعل لم يتطرق على كلمة الله،
وأنها في نفسها غالبة، وفيه إشارة إلى قدم كلمة الله تعالى. اهـ
وقال أبو البقاء: النصب ضعيف لأنه فيه دلالة على أن كلمة الله كانت سُفلى فصارت
عُليا، وليس كذلك، ولأن التوكيد بالضمير المرفوع للمنصوب بعيد إذ القياس يأباه.
اهـ
(3/498)
وقال الشيخ سعد الدين: إنما كان الرفع أبلغ لما في النصب من
إيهام التقييد بالظروف السابقة أعني (إِذْ أَخْرَجَهُ) و (إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ) و (إِذْ يَقُولُ)، لكن لا يخفى أن هذا ورد على قوله (وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ) فالأَولى التعليل بأن جعل (وَكَلِمَةُ اللهِ) في حيز الجعل، والتصيير
غير مناسب بل هو دائم ثابت، ولا كذلك تسفيل كلمة الذين كفروا فإنه عبارة عن جعل
دعوتهم إلى الكفر مضمحلة مقهورة منكوسة فيما بين الناس، وأما التعليل بأن قولنا
جعل الله كلمة الله هى العليا؛ بمنزلة: أعتق زيد غلام زيد؛ فمدفوع بأن في إضافة
الكلمة إلى صريح اسم الله زيادة إعلاء لمكانها وتنويهاً بشأنها. اهـ
قوله: ((لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابى القسم والشرط).
قال أبو حيان: ليس هذا بجيد بل للنحويين في هذا مذهبان أحدهما: أن (لَخَرَجْنَا)
هو جواب القسم وجواب (لَو) محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم
على الشرط، وهو اختيار ابن عصفور، والآخر: أنَّ (لَخَرَجْنَا) هو جواب (لَو)،
وجواب القسم هو (لَو) وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك، وأما أنه سد مسدهما فلا أعلم
أحداً ذهب إليه.
قال: ويحتمل أن يتأول كلامه على أنه لما حذف جواب (لَو) ودل عليه جواب القسم جعل
كأنه سد مسدهما. اهـ
قوله: (وهو بدل من (سيحلفون)).
قال أبو حيان: هذا بعيد لأنَّ الإهلاك ليس مرادفاً للحلف ولا هو نوع منه، ولا يجوز
أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه. اهـ
وقال الحلبي: يصح على أنه بدل اشتمال، وذلك لأنَّ الحلف سبب للإهلاك فهو مشتمل
عليه فأبدل المسبب من سببه لاشتماله عليه، وله نظائر كثيرة منها قوله:
إن عليَّ الله أن تبايعا ... تؤخذَ كرهاً أو تجيء طائعا
فـ (تؤخذ) بدل من (تبايعا) بدل اشتمال بالمعنى المذكور، وليس أحدهما نوع من الآخر.
اهـ
قلت: وهذا معنى قول المصنف: لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك.
قوله: (كناية عن خطئه في الإذن لهم فإن العفو من روادفه).
(3/499)
تبع في هذه العبارة السيئة الزمخشري، وقد قال صاحب الانتصاف: هو
بين أمرين: أن لا يكون هذا المعنى مراداً فقد أخطأ، أو يكون مراداً لكن كنى الله
تعالى عنه إجلالاً ورفعاً لقدره، أفلا يتأدب بأدب الله تعالى لا سيما في حق
المصطفى صلى الله عليه وسلم. اهـ
وقال الطَّيبي: أخطأ الزمخشري في هذه العبارة خطأً فاحشاً، ولا أدري كيف ذهب عنه
-وهو العَلَمُ في استخراج لطائف المعاني- أنَّ في أمثال هذه الإشارات وفي تقديم
العفو إشعار بتعظيم المخاطب وتوقير حرمته. اهـ
وقال السجاوندي: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) تعليم بعظمته صلوات الله وسلامه عليه، ولولا
تصدير العفو في المقال لما قام بصولة الخطاب، وربما يستعمل في ما لم يسبق به ذنب
ولا يتصور كما يقول لمن يعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله عنك ما
جوابك عن كلامي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره
والله يغفر له. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: ما كان ينبغي له أن يعبر بهذه العبارة الشنيعة بعدما راعى
الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقديم العفو وذكر الإذن المنبيء عن علو
المرتبة وقوة التصرف وإيراد الكلام في صورة الاستفهام وإن كان القصد إلى الإنكار
على أن قولهم: عفا الله عنك؛ قد يقال عند ترك الأولى والأفضل بل وفي مقام التعظيم
والتبجيل مثل: عفا الله عنك ما صنعت في أمري. اهـ
وقال القاضي عياض في الشفا: قال مكي: هذا افتتاح كلام بمنزلة: أصلحك الله وأعزك
الله. اهـ
وقد ألف في هذا الموضع رداً على الزمخشري الصدر حسن بن محمد بن صالح النابلسي
الحنبلي كتاباً سماه جنة الناظر وجُنة المناظر في الانتصاف لأبي القاسم الطاهر صلى
الله عليه وسلم، وبهذه النكتة وأمثالها اشمأز أهل الدين والورع من النظر في الكشاف
(3/500)
ونهوا عن مطالعته وإقرائه.
وألف الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين السبكي كتاباً سماه (سبب الانكفاف عن
إقراء الكشاف) قال فيه: وبعد فإن كتاب الزمخشري كنت قرأت منه شيئاً على الشيخ علم
الدين عبد الكريم بن علي المشهور بالعراقي في سنة اثنين وسبعمائة وكنت أحضر قراءته
عند قاضي القضاة شمس الدين السروجي وكان له عناية ومعرفة ثم لم أزل أسمع دروس الكشاف
وأبحث فيه ولي فيه غرام لما اشتمل عليه من الفوائد والفضائل التي لم يسبق إليها،
والنكت البديعة والدقائق التي تقر العيون عليها، وأتجنب ما فيه من الاعتزال،
وأتخرج الكدر وأشرب الصفو الزلال، وفيه ما لا يعجبني مثل كلامه في قوله تعالى
(عَفَا اللهُ عَنْكَ)، وطلب مني مرة بعض أهل المدينة بنسخة من الكشاف فأشرت عليه
بأن لا يفعل حياءً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل إليه كتاب فيه ذلك الكلام،
ثم صار هذا الكتاب يقرأ عليَّ وأنا أبقر عن فوائده حتى وصلت إلى تفسير سورة
التحريم وقد تكلم في الزلة فحصل لي بذلك الكلام غص، ثم وصلت إلى كلامه في سورة
التكوير في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) إلى آخر الآية، والناس
اختلفوا في هذا الرسول الكريم من هو، فقال الأكثرون: جبريل، وقال بعضهم: هو محمد
صلى الله عليه وسلم، فاقتصر الزمخشري على القول الأول ثم قال: وناهيك بهذا دليلاً
على جلالة مكان جبريل وفضله على الملائكة ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد
صلى الله عليه وسلم إذا وازنت
بين الذكرين حين قرن بينهما وقايست بين قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ
أَمِينٍ (21). وبين قوله تعالى (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). فطرحت الكشاف من
يدي، وأخرجته من خلدي، ونويت أن لا أقربه ولا أنظر فيه إن شاء الله تعالى، وذلك
لأني أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأجله بحسب ما رزقني الله تعالى من محبته
وإجلاله، وأمتنعت من هذه الموازنة والمقايسة التي قالها الزمخشري، وهب أن الملائكة
أفضل البشر كما تقوله المعتزلة أما كان هذا الرجل يستحي من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يذكر هذه المقايسة بينه وبين جبريل (1) بل بهذه
__________
(1) قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
ورد في القرآن الكريم مرتين الأولى في سورة الحاقة والثانية في سورة التكوير
والمشهور عند سادتنا المفسرين أن آية الحاقة يراد منها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وآية التكوير يراد بها سيدنا جبريل - عليه السلام -
والآيتان سُبقتا بالقسم ففي الحاقة {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا
لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}
وفي التكوير {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}.
وتأمل في سورة التكوير أقسم الله تعالى بالكواكب وبالليل والنهار، وفي الحاقة أقسم
ربُّ العالمين بكل شيء {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا
تُبْصِرُونَ (39)} الليل والنهار، الدنيا والآخرة، الملك والملكوت، الخلق والخالق،
ماذا بعدد يقال بعد ذلك.؟!!
ولم يقسم ربُّنا - عز وجل - بعُمْرِ أحدٍ من خلقه إلا المصطفى - صلى الله عليه
وسلم - قال تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}.
والموضوع به كلام طويل لكن أختمه بلطيفة ذكرها الإمام ابن القيم.
قال عليه سحائب الرحمة والرضوان ما نصه:
فائدة: هل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أم الكعبة؟
قال ابن عقيل: "سألني سائل أيما أفضل حُجْرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم
الكعبة فقلت: إن أردتَ مجرد الحجرة فالكعبة أفضل وإن أردتَ وهو - صلى الله عليه
وسلم - فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا جنة عدْنٍ ولا الأفلاك الدائرة لأنَّ
بالْحُجْرة جسداً لو وُزن بالكونَين لرجح. اهـ (بدائع الفوائد. 3/ 135 - 136).
(مصحح النسخة الإلكترونية).
(3/501)
العبارة، والذي أقوله إن كتاب الله تعالى المبين لا مرية فيه
وفيه (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) و (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ
فَاتَّبِعُونِي) (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (قَدْ
جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ) وغير ذلك مما القرآن طافح به وبتعظيمه - صلى
الله عليه وسلم -، وأنا واحد الناس كل ما أنا فيه من خير أمور الدنيا والآخرة من الله
تعالى بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلم أن الله سبحانه تعبدني بذلك، (ومقام
جبريل) صلى الله عليه وسلم مقام عظيم قُوانا وعلومنا تقصر عنه، والنبي صلى الله
عليه وسلم يعلم أكثر منا، فما لنا وللدخول في هذا المكان الضيق ولم يكلفنا الله
تعالى بذلك، فحسب امرئ إذا لم يعرف تفضيل الملك على البشر ولا البشر على الملك أن
يتأدب ويقف عند حده، ويعظم كلاً منهما بما يجب له من التعظيم، ويكف لسانه وقلبه عن
فضول لا يعنيه ولم يكلف به، ويقدر في نفسه أنَّ هذين المخلوقين العظيمين حاضران
وهو بين أيديهما ضئيل حقير والله تعالى رابعهم وهو عالم بما تخفي الصدور. اهـ
قوله: (أي ليس من عادة المؤمنين).
قال الطَّيبي: نفي العادة مستفاد من نفي فعل المستقبل، والمراد به الاستمرار، على
نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: حمله على نفي الاستمرار، ولو حمله على استمرار النفي كما في
أكثر المواضع أي عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد. اهـ
قوله: (شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه).
قال الطَّيبي: أما الشهادة فمن وضع الظاهر موضع المضمر، أو إرادة الجنس بالمتقين
فيدخلون فيه دخولاً أولياً، وأما العدة فإن مقتضى العلم بعد ذكر أعمال العباد خيراً
أو شراً إما الوعد بالثواب أو الوعيد بالعقاب. اهـ
قوله: (وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا).
(3/502)
أوله: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا.
الخليط: المخالط، والإنجراد: المضي في الأمر.
قوله: (ولا سرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة).
قال الطَّيبي: يعني أنه من الاستعارة التبعية، شبه سرعة إفسادهم لذات البين
بالنمائم بسرعة سير الركائب ثم استعير لها الإيضاع وهو إسراع البعير، وأصل
الاستعارة: ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه
مقامهما لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة، ثم حذف الركائب. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: ولو قدر: ولأوضعوا النمائم، على أنَّها استعارة مكنية
والإيضاع تخييل لكفى. اهـ
قوله: (أي أن الفتنة هى التى سقطوا فيها -إلى قوله- لا ما احترزوا عنه).
قال الطَّيبي: التخصيص يفيده معنى تقديم الظرف على عامله، والتحقيق من تصدير
الجملة بأداة التنبيه فإنَّها تدل على تحقيق ما بعدها. اهـ
تم بفضل الله إلى نهاية الآية التاسعة والأربعين من سورة التوبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق