مصاحف م الكتاب الاسلامي

/ / / / / / /

دعائي لربي

قلت المدون تم بحمد الله وفضله ثم قلت: اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده عدد خلقه وزنة عرشه ورضا نفسه ومداد كلماته } أقولها ما حييت وبعد موتي والي يوم الحساب وارحم واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 سبتمبر 2022

ج1.وج.نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي

 

ج1. نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي
(المتوفى: 911هـ)

ـ[نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي]ـ
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)
الناشر: جامعة أم القرى - كلية الدعوة وأصول الدين، المملكة العربية السعودية
عام النشر: 1424 هـ - 2005 م
عدد الأجزاء: 3
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع (الرسالة الجامعية) وهو مقابل]
__________
تنبيهات:
1 - ذكر المؤلف أنه وصل في هذه الحاشية إلى آخر سورة الأنعام
1 - القدر الذي وقفنا عليه من الكتاب هو 3 أجزاء ((رسائل دكتوراة من جامعة أم القرى - كلية الدعوة وأصول الدين - قسم الكتاب والسنة، 1424 هـ - 2005 م))
• جـ 1 [من أول الكتاب: البقرة (20)]: د أحمد حاج محمد عثمان بإشراف د أمين محمد عطية باشا
• جـ 2 [البقرة (21): آل عمران (112)]: د محمد كمال علي بإشراف د أمين محمد عطية باشا
• جـ 3 [آل عمران (113): التوبة (48)]: د أحمد بن عبد الله بن علي الدروبي بإشراف د سليمان الصادق البيرة
2 - الصفحة رقم 238 من المجلد الأول ناقصة من النسخة المصورة
3 - تمت مقابلة الجزء الأول والثالث فقط

(/)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الإمام السيوطي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سبحان الله وبحمده منزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، آتيا من أساليب البلاغة بالعجب العُجاب، راقيا من ذرى الفصاحة مرقى لا يجال ولا يجاب، معجزة للنبي الهاد، سيد من ركب الجواد، وأهدى من سلك الجوادَّ، وأفصح من نطق بالضادِ، المبعوث بالمنهل العذب لِيَرْوِيَ (1) كل صادٍ، ويهدي كل صاد، المؤيد بالمعجزات التي لا يحصيها عدُّ (2) عادٍّ، المخصوص باستمرار معجزته إلى يوم التنادِ، وبقراءة كتابه في الجنان باللسان (3) العربي المستجادِ، المؤتى جوامعَ الكلم بالإيجادِ، لتقوم أمته إلى قيام الساعة بالاستنباط والاجتهاد.
صلوات الله عليه وسلامه ما حدا حادٍ، وشدا شادٍ، وبدا باد، وعدا عادٍ، وما غدا أو راح رائح وغاد، وعلى آله الأمجاد وأصحابه الأنجادِ.
أما بعد (4)، فإن التفسير في الصدر الأوّل كان مقصورا على السماع، محصورا في باب الاتّباع، يحفظ في الصدور عن الصدور، ويرجع إلى الأثر والنقل ويدور (5)، فلما حدث تدوين الكتب (6) وتصنيفها، وذلك في منتصف المائة الثانية أجروه مُجرى الأحاديث والآثار، وساقوه مساق (7) ما دوّنوه من الأخبار، فقلّ إمام من أئمة الحفظ ألّف جامعا أو مسندا إلاّ وألّف تفسيرا ساق فيه ما وقع له بالأسانيد موردا.
ومفتتح هذه الطبقة مالك (8)؟. . . . . . . . .
__________
(1) في د: فيروي.
(2) في ح: عدد.
(3) في ح، د: بلسانه.
(4) في ت، ظ: وبعد.
(5)
في ح: وعلى النقل يدور.
(6) في هامش نسخة ظ: تدوين الكتب في منتصف المائة الثانية من الهجرة.
(7) في ت: سياق.
(8) لم يدون الإمام مالك رحمه الله كتابًا في التفسير مستقلاً، أو مضافًا إلى الموطأ، ولكن كان له كلام في التفسير على حسب الحاجة، تلقاه عنه أصحابه ونقلوه، وقد بين ذلك القاضي أبو بكر ابن العربي حين قال في كتابه القبس في شرح موطأ مالك بن أنس 3/ 1047 كتاب التفسير: هذا كتاب التفسير، أرسل مالك رضي الله عنه كلامه فيه إرسالاً، فلقطه أصحابه عنه، ونقلوه=

(1/1)


ووكيع (1)، وسفيان (2)، وتبعهم من جاء بعدهم من الأئمة الأعيان، كعبد الرزاق (3)،
والفريابي (4)، وسعيد بن منصور (5)، وآدم بن أبي إياس (6)، وابن أبي شيبة (7)
وإسحاق بن راهويه (8) وعبد بن حميد (9)، وخلائق كلهم مليءٌ بالحفظ ريّان.
__________
=كما سمعوه منه، ما خلا المخزومي، فإنه جمع له فيه أوراقًا فألفيناها في دمشق في الرحلة الثانية، فكتبناها عن شيخنا أبي عبد الله المصيصي، الأجل الأمين المعدل، وكان كلامه رحمه الله في التفسير على جملة علوم القرآن.
قلت: وجمع الحافظ محمد بن عمر بن محمد أبو بكر البغدادي الجعابي ت 355هـ جزءًا فيه التفسير المروي عن مالك، وقعت روايته للحافظ ابن حجر. انظر في المعجم المفهرس 109.
(1) هو وكيع بن الجراح بن مليح أبو سفيان الرؤاسي، كان من بحور العلم، وأئمة الحفظ، صاحب التفسير الذي رواه عنه محمد بن إسماعيل الحساني، توفي سنة سبع وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 9/ 140، وطبقات المفسرين 2/ 357.
(2) هو سفيان بن مسروق أبو عبد الله الثوري، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، توفي سنة ست وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 7/ 229، وبطقات المفسرين 1/ 186 وتفسيره مطبوع بتحقيق امتياز علي عرشي.
(3) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع أبو بكر الصنعاني، عالم اليمن، توفي سنة إحدى عشرة ومائتين. سير أعلام النبلاء 9/ 563، وطبقات المفسرين 1/ 278 وتفسيره مطبوع، حققه الدكتور مصطفى مسلم، والدكتور الطبيب عبد المعطي قلعجي.
(4) هو جعفر بن محمد بن الحسن أبو بكر الفريابي، تميز في العلم، توفي سنة إحدى وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 96، وتذكرة الحفاظ 2/ 692 وتفسيره وصل إلى الحافظ ابن حجر، وأفاد منه في كتبه، فتح الباري 1/ 68، وتغليق التعليق 2/ 24، والعجاب في بيان الأسباب 1/ 24/.
(5) هو سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراساني، كان ثقة صادقًا من أوعية العلم، توفي سنة سبع وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 586، وتذكرة الحفاظ 2/ 416 وتفسيره طبع بعضه بتحقيق الدكتور سعد عبد الله آل حميد.
(6) هو آدم بن أبي إياس أبو الحسن الخراساني، محدث عسقلان، توفي سنة عشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 335، وتذكرة الحفاظ 1/ 409.
(7) هو عبد الله بن محمد بن القاضي أبي شيبة إبراهيم أبو بكر العبسي، سيد الحفاظ، وصاحب المسند، والمصنف، والتفسير، توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين. سير أعلام النبلاء 11/ 122، وطبقات المفسرين 1/ 246.
(8) هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو يعقوب المروزي، شيخ المشرق، صاحب المسند، والسنن، والتفسير المشهور الذي رواه عنه محمد بن يحيى بن خالد المروزي، توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين سير أعلام النبلاء 11/ 358 وطبقات المفسرين 1/ 102.
(9) هو عبد بن حميد بن نصر، أبو بكر الكسي، روى عن كثيرين مذكورين في تفسير الكبير، توفي سنة تسع وأربعين ومائتين. سير أعلام النبلاء 12/ 235، وطبقات المفسرين 1/ 368.

(1/2)


وجاءت بعدهم طبقة أخرى أصحاب نحو ولغة فألفوا في معاني القرآن ما يزيل الإغراب، وضموا إلى معانيه المقتبسة من اللغة ما تحتاج إليه تراكيبه من الإعراب، كالفراء (1)، والزجاج (2)، والنحاس (3)، وابن الأنباري (4)، في آخرين أتراب.
ثم حدث في المائة الرابعة مصنّفون ألّفوا تفاسير لخصوا فيها من تفاسير الحفاظ الأقوال بترا، ومن كتب أصحاب المعاني معاني وأعاريب صاغوها بعد أن كانت تبرا.
ثم جاءت فرقة أصحاب نظر في علوم البلاغة التي يُدرَكُ بها وجه الإعجاز وأسرار البلاغة (5) التي هي لحلل التراكيب طراز.
وصاحب (6) الكشاف هو سلطان هذه الطريقة، والإمام السالك في هذا المجاز إلى الحقيقة، فلذا طار كتابه في أقصى الشرق والغرب، ودار عليه النظر إذ لم يكن لكتابه نظير في هذا الضرب.
__________
(1) هو يحيى بن زياد بن عبد الله أبو زكرياء الفراء، كان فقيهًا عالمًا بأيام العرب وأخبارها وأشعارها متكلمًا يميل إلى الاعتزال، توفي سنة سبع ومائتين. معجم الأدباء 6/ 2812 وبغية الوعاة 2/ 333 حقق الأستاذ محمد علي النجار معاني القرآن للفراء.
(2) هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق النحوي، كان من أهل الدين والفضل، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. معجم الأدباء 1/ 51 وإنباه الرواة 1/ 159 حقق الدكتور عبد الجليل عبده معاني القرآن وإعرابه للزجاج.
(3) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر النحاس، صاحب الفضل الشائع والعلم الذائع، توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. معجم الأدباء 1/ 468 وإنباه الرواة 1/ 101 وللنحاس إعراب القرآن، حققه الدكتور زهير غازي زاهد، ومعاني القرآن، حققه الشيخ محمد علي الصابوني.
(4) هو محمد بن القاسم بن محمد أبو بكر ابن الأنباري، كان من أعلم الناس بنحو الكوفيين وأكثرهم حفظًا للغة، له كتاب المشكل في معاني القرآن، بلغ فيه إلى سورة طه، وأملاه سنين كثيرًا ولم يتمه، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. معجم الأدباء 6/ 2614، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 1/ 212.
(5) في د: البراعة.
(6) هو محمود بن عمر بن أحمد أبو القاسم الزمخشري جار الله، كان إمامًا في التفسير والنحو واللغة والأدب، وكان معتزلي الاعتقاد، متظاهرًا به، توفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. معجم الأدباء 6/ 2687 ووفيات الأعيان 5/ 168.

(1/3)


ولما علم مصنفه أنه بهذا الوصف قد تحلى (1) وترقى (2) إلى مرتبة ما دنا إليها غيره ولا تدلى قال -تحدثا بنعمة ربّه وشكرا، لا علوّا في الأرض ولا فخرا -:
إِنَّ التَّفاسيرَ في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثلُ كشَّافي
إِنْ كنت تبغي الهدى فالزم قراءتَهُ ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي (3) (4)
وقد نبّه هو في خطبة كتابه على الوصف الذي به تميز (5) جليل نصابه، فقال:
__________
(1) في د: تجلى
(2) في ح: ورقى
(3) لا تغيب عن أذهاننا في خضم هذا الثناء البالغ حقيقة الزمخشري وكشافه، فإنه -سامحه الله- رجل مجاهر بالاعتزال، مباه به، قد وظب مقدرته البلاغية، وملكته الأدبية في لَيِّ أعناق النصوص الشرعية، وقيادها إلى مذهبه، وفي محاولة إفساد استدلال أهل السنة بها على الحق الذي دلت عليه، وفي الازدراء بأهل السنة، ونبزهم بالألقاب الشنيعة وتشييد أركان الاعتزال ورفع أهله، فأصبح كتابه -بجانب إظهار النكت البلاغية، واللطائف الإعجازية التي تميز بها- حشو بدع وضلالات.
ويحتال للألفاظ حتى يديرها لمذهب سوء فيه أصبح مارقًا
وهاك بعض مقالات أهل العلم الذين سبروا كتابه، وخبروا شأنه، قال العلامة تاج الدين السبكي في كتابه: معيد النعم ومبيد النقم ص80: واعلم أن الكشاف كتاب عظيم في بابه، ومصنفه إمام في فنه إلا أنه رجل مبتدع متجاهر ببدعته، يضع من قدر النبوة كثيرًا، ويسيء أدبه على أهل السنة والجماعة، والواجب كشط ما في الكشاف من ذلك كله. ولقد كان الشيخ الإمام يقرئه فلما انتهى إلى الكلام على قوله تعالى في سورة التكوير: {إنه لقول رسول كريم} أعرض عنه صفحًا، وكتب ورقة حسنة سماها: سبب الانكفاف عن إقراء الكشاف.
وقال فيها: قد رأيت كلامه على قوله تعالى: {عفا الله عنك} وكلامه في سورة التحريم في الزلة، وغير ذلك من الأماكن التي أساء أدبه فيها على خير خلق الله تعالى سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرضت عن إقراء كتابه حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع ما في كتابه من الفوائد والنكت البديعة.
وقال السيوطي نفسه في كتابه التحبير في علم التفسير ص545: وممن لا يقبل تفسيره: المبتدع، خصوصًا الزمخشري في كشافه، فقد أكثر فيه من إخراج الآيات عن وجهها إلى معتقده الفاسد بحيث يسرق الإنسان من حيث لا يشعر، وأساء فيه الأدب على سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - في مواضع عديدة، فضلاً عن الصحابة وأهل السنة، وقد أحسن الذهبي إذ ذكره في الميزان وقال: كن حذرًا من كشافه.
وانظر: في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 359 والبحر المحيط لأبي حيان 7/ 85.
(4) لم أر هذين البيتين في ديوان الزمخشري. وانظر: في معجم الأدباء 6/ 2689، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 280.
(5) في ت، د: الذي يميز.

(1/4)


اعلم أن متن كل علم، وعمود كل صناعة، طبقات العلماء فيه متدانية، وأقدام الصُنّاع فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلاّ بخطى يسيرة، أو تقدّم الصانع الصانع لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة.
وإنما الذي تباينت فيه الرُّتب، وتحاكت فيه الرُّكب، ووقع فيه الاستباق والتناضل، وعظم فيه التفاوت والتفاضل حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد، وترقى إلى أن عدّ ألف بواحد = ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفِقَر، ومن لطائف معان فيها (1) مباحث للفِكَر، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلاّ أوحَدِيُّهم (2) وأخصهم، وإلاّ واسطتهم وفَصُهُم، وعامتهم عُماةٌ عن إدراك حقائقها بأحداقهم، عُناةٌ في يد التقليد، لا يُمَنّ عليه بجزّ نواصيهم وإطلاقهم.
ثم إن أملأ العلوم بما يَغمُرُ القرائح، وأنهضها بما يَبهرُ الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدقّ سلكها = علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ (3) في كتاب "نظم القرآن ".
فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلّم وإن بَزّ (4)
أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن
القِريِّة (5) حفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري (6) أوعظ، والنحويّ وإن
__________
(1) كذا في النسخ: وفي الكشاف 1/ 2 معان يدق فيها مباحث للفكر.
(2) في د: أوحدهم.
(3) هو عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ، كان من الذكاء والحفظ بحيث شاع ذكره، وإليه تنسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين. معجم الأدباء 3/ 2010، ووفات الأعيان 3/ 470 وكتابه: نظم القرآن من الكتب التي تكرر تأليفها ثلاث مرات، ولا أعلم له نسخة مخطوطة. قال ياقوت: كتاب نظم القرآن له ثلاث نسخ.
(4) بزه يبزه بزاه: أي سلبه. الصحاح/ مادة بز.
(5) هو أيوب بن زيد بن قيس أبو سليمان الهلالي، المعروف بابن القرية، والقرية جدته، كان أعرابيًّا أميًّا، وكان يضرب به المثل في الفصاحة والبيان، قتله الحجاج سنة أربع وثمانين. وفيات الأعيان 1/ 250 وتاريخ الإسلام حوادث سنة 81 - 100 ص43.
(6) هو الحسن بن أبي الحسن: يسار أبو سعيد البصري، كان من سادات التابعين وكبرائهم، توفي سنة عشر ومائة. وفيات الأعيان 2/ 69 وسير أعلام النبلاء 4/ 563.

(1/5)


كان أنحى من سيبويه (1) واللغوي وإن علك اللغات بقوّة لحييه لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلاّ رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهّل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانّهما همّة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات طويل المراجعات، قد رجع زمانًا ورجع إليه، ورَدّ ورُدّ عليه، فارسًا في علم الإعراب، مقدمًا في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقّادها، يقظان النفس، درّاكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لاكزًا (2) جاسيًا (3) ولا غليظا جافيا، متصرّفا، ذا دربة بأساليب النظم والنثر، مرتاضا -غير رِّيضٍ (4) - بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلّف، وكيف ينظّم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضه ومزالقه (5).
هذا ما ذكره في خطبة الكشاف مشيرا إلى ما يجب في هذا الباب من الأوصاف، عرضا بأنه المتحلّي بهذا الوصف، وأن كتابه هو الآتي على سنن (6) هذا الوصف.
ولقد صدق وبرّ ورسخ نظامه في القلوب فوقر وقرّ.
وتعقّبه البلقيني (7) في الكشاف فلم يدرك مغزاه، ولا طابق ما أورده منطوق
__________
(1) هو عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المعروف بسيبويه، عمل كتابه المنسوب إليه، الكتاب، وهو مما لم يسبقه إليه أحد، توفي سنة ثمانين ومائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 346 وبغيية الوعاة 2/ 229.
(2) الكززة الانقباض واليبس. الصحاح/ مادة كزز.
(3) جسا ضد لطف. الصحاح/ مادة جسا.
(4) يقال: ناقة مروضة وقد ارتاضت، وناقة ريض أول ما ريضت وهي صعبة بعد. الصحاح/ مادة روض.
(5) الكشاف: 1/ 17.
(6) في د: نسق.
(7) هو عم بن سلان بن نصير سراج الدين أبو حفص الكناني البلقيني، كان أحفظ الناس لمذهب الشافعي، واشتهر بذلك وطبقة شيوخه موجودون، توفي سنة خمس وثمانمائة. الضوء اللامع على الكشاف، ومنها قطعة مخطوطة في مجلد يشتمل على تفسير جزء من سورة النساء. انظر في فهرس دار الكتب المصرية 1/ 7 ملحق الجزء الأول.

(1/6)


ما ذكره ولا فحواه، قائلا:
قصد الزمخشري بما أبان الإشارة إلى براعته في علم المعاني وعلم البيان.
وكيف يترجح فنان جمعتهما أوراق يسيرة، وجدولان جاريان في جداول (1) صغيرة، قد وضعا بعد الصحابة والتابعين بمئين من السنين، وحفرا بعد البحار الزاخرة، ووشيا بالتحبير بعد تكملة الخِلع (2) الفاخرة = على الفنون التي طافت المشارق والمغارب كالطوفان؟.
أين ذكرهما في الصحابة الذين هم أسد الغابة؟ أين ذكرهما في التابعين الذين كانوا للصحابة شاهدين سامعين؟ أين ذكرهما في عصر الفقهاء؟ من نبّه عليهما في الأقدمين من النبهاء.
وما على الناس من اصطلاح أتى به عبد القاهر الجرجاني (3) واقتفاه السكاكي (4) فيما ذكر من المعاني، ولا يقوم لهما في كثير من المقامات دليل، وليس لهما إلى ذلك سبيل. وعلم التفسير إنما هو يتلقى من الأخبار، ويسلك فيه مسالك الآثار.
وأقول: لم يتوارد البلقيني والزمخشري على محلّ واحد، وليس الزمخشري لانحصار تلقي التفسير من الأحاديث (5) والآثار بجاحد.
كيف وانحصار التفسير في السماع كلمة إجماع، والنهي عن القول في القرآن بالرأي ملأ الأسماع.
ولهذا لم يذكر أهل الحديث مع من عدد (6) من أرباب الفنون، ولا أدرجهم
__________
(1) في ح، ق: أخاديد.
(2) في ت: الحلل.
(3) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر النحوي الجرجاني، عالم بالنحو والبلاغة، توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 188 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 106.
(4) هو يوسف بن أبي بكر: محمد سراج الدين أبو يعقوب السكاكي الخوارزمي، كان علامة بارعًا في فنون شتى، خصوصًا المعاني والبيان، وله كتاب: مفتاح العلوم فيه اثنا عشر علما من علوم العربية، توفي سنة ست وعشرين وستمائة، بغية الوعاة 2/ 364 وتاج التراجم في من صنف من الحنفية 284.
(5) في ظ: الأخبار.
(6) في ت: عد.

(1/7)


في زمرة من ذكر وإن جالت من المعترض الظنون، وإنما مقصوده ما أشار إليه أوّلا أن القدر الزائد على التفسير من استخراج محاسن (1) النكت والفقر ولطائف المعاني التي يستعمل فيها الفكر، وكشف الأستار عن غوامض الأسرار، وبيان ما في القرآن من الأساليب، وما تضمنه من وجوه البلاغة في التراكيب = لا يتهيأ له إلاّ من برع في هذين العلمين، وتبحر في هذين الفنين، وصار مجتهدا في علوم البلاغة، ذا تصرّف في أفانين البراعة، خبيرا بأساليب الكلام، بصيرا بمسالك النظام؛ لأن لكل نوع (2) أصولا وقواعد، هي للوصول إلى حقيقته مصاعد، ولا يُدرك فنّ بقواعد فنّ آخر وإن شرف ذلك الفنّ، وفضل على الأوّل لما فاخر (4).
والفقيه والمتكلّم بمعزل عن أسرار البلاغة، واللغوي والنحوي إنما يدركان من مدلول اللفظ وإعرابه بلاغة، والقاص والأخباري أقلّ من أن يُتَوَهّمَ فيهما الصلاحية للتكلّم في القرآن، وأذلّ من أن يجوز لهما الخوض في أسرار الفرقان.
ومراده بحافظ الأخبار الحافظ لأيام الناس والمؤرخ الذي اقتصر على ما ليس له في بنيان العلم (5) أساس، ولهذا ضرب له المثل بابن القرِّيِّة، لأنه كان بهذه الصفة، ولم يكن له بالأخبار النبوية حفظ ولا معرفة.
ولو أراد به حافظ الأحاديث لضرب المثل بمالك وسفيان (6)، أو بأحمد والبخاري، ونحوهما (7) من الأعيان، فعرف أن للزمخشري مقصدا غير ما فهمه المعترض، ومنحى لا ينخدش بما ذكره المتعقب ولا ينتقض.
وقد كان الصحابة يعرفون هذا المعنى بالسليقة، وبه قامت عندهم المعجزة على الحقيقة، فاهتدوا بسببه إلى أقوم طريقة.
ألم يثبت عن جبير بن مطعم أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم في
__________
(1) في ظ: من
(2) في د: فن.
(3) في د: حقائقه.
(4) في د: وفاخر.
(5) في ح: العلوم.
(6) في هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون، شيخ الإسلام أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 400 والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 4/ 591.
(7) في د: ونحوه.

(1/8)


فداء أسرى بدر فوجدته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [سورة الطور 35] كاد قلبي يطير (1) وأدركه الإسلام.
ومرّ أعرابي على قارئ يقرأ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [سورة الحجر 94] فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام (2).
فكانوا يعرفون بالطبع وجوه بلاغته كما كانوا يعرفون وجوه إعرابه، ولم يحتاجوا إلى بيان النوعين في ذلك العصر؛ لأنه لم يكن يجهلهما أحد من أصحابه (3)، فلما ذهب أرباب (4) السليقة والتبس الإعراب باللحن، والمجاز بالحقيقة وضع لكل من الإعراب والبلاغة قواعد يدرك بها ما أدركه الأولون بالطبع وتُساعد، فكان حكم علم (5) المعاني والبيان كحكم علم النحو والإعراب، وكانت الحاجة إليهما داعية لإدراك وجه الإعجاز والإعراب.
ولما كان كتاب الكشاف هو الكافل في هذا الفنّ بالبيان الشاف اشتهر في الآفاق اشتهار الشمس، وجهر به في محافل المجالس (6) بين الفضلاء من غير همس، واعتنى الأئمة والمحققون بالكتابة عليه، وتسارع العلماء والفضلاء في المناقشة والمنافسة إليه:
فمن مميز لاعتزال (7) حاد فيه عن صوب الصواب، ومن مناقش له فيما أتى به من وجوه الإعراب، ومن محش وضّح ونقح، وتمم ويمم، وفسر وقرّر، وحبّر وحرّر، وجال وجاب، واستشكل وأجاب.
ومن مخرّج لأحاديثه عزا وأسند، وصحح وانتقد.
ومن مختصر لخص وأوجز، وكمّل ما أعوز.
فممن كتب عليه الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد ابن المُنَيِّر الإسكندري
__________
(1) رواه البخاري في 4/ 1839 ح4573، ومسلم 1/ 338 ح 463.
(2) قال عبد الله الثعالبي: ثلاث كلمات اشتملت على شرائط الرسالة، وشرائعها، وأحكامها، وحلالها، وحرامها، الإعجاز والإيجاز 23.
(3) في د، ق الصحابة.
(4) في د: أصحاب.
(5) في: علمي.
(6) في ح: الفضلاء.
(7) في ظ: للاعتزال.

(1/9)


المالكي (1) كتابه " الانتصاف " بيّن فيه ما تضمنه من الاعتزال، وناقشه في أعاريب أحسن فيها الجدال.
وتلاه الإمام علم الدين عبد الكريم بن علي العراقي (2) في كتابه " الإنصاف " جعله حكما بين " الكشاف " و " الانتصاف ".
ولخصهما الإمام جمال الدين ابن هشام (3) في مختصر لطيف مع يسير زيادة، خفيفة.
وأكثر الإمام أبو حيان (4) في بحره من مناقشته في الإعراب ومجادلته في الإضراب (5).
وتلاه تلميذاه الشهاب أحمد بن يوسف الحلبي المشهور بـ " السمين " (6)، البرهان إبراهيم بن محمد بن السفاقسي (7). . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن منصور أبو العباس الاسكندري المعروف بابن المنير -بضم الميم وفتح النون وياء مثناة من تحت مشددة مكسورة- له الباع الطويل في علم التفسير والقراءات، توفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 1/ 243 وفوات الوفيات 1/ 149 وحاشيته مطبوعة في هامش الكشاف في بعض طبعاته.
(2) هو عبد الكريم بن علي بن عمر علم الدين الأنصاري العراقي، له في التفسير اليد الباسطة، صنف فيه: الإنصاف في مسائل الخلاف بين الزمخشري وابن المنير، توفي سنة أربع وسبعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 10/ 95 والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 399، وحاشته مخطوطة ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، مخطوطات التفسير وعلومه 1/ 351.
(3) هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله بنه هشام أبو محمد النحوي، أتقن العربية ففاق الأقران، بل الشيوخ، توفي سنة واحدة وستين وسبعمائة. الدرر الكامنة 2/ 308 وبغية الوعاة 2/ 68 وحاشتيه مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 416.
(4) هو محمد بن يوسف بن علي أثير الدين أبو حيان الأندلسي الجياني، كان عارفا باللغة وأما النحو والتصريف فهو الإمام المطلق، توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة 4/ 302 وبغية الوعاة 1/ 28.
(5) في ت، ظ: بالإضراب.
(6) هو أحمد بن يوسف بن محمد أبو العباس الحلبي المعروف بالسمين، لازم أبا حيان إلى أن مهر في حياته، توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة، كتاب المقفى الكبير 1/ 750 والدرر الكامنة 1/ 360.
(7) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحياق السفاقسي المالكي النحوي، جمع إعراب القرآن،=

(1/10)


في إعرابهما (1)، ثم قد يوافقانه، وقد يتبعانه بالجواب، ويقرران أن الذي قاله الزمخشري هو الصواب.
ولخص الشيخ تاج الدين ابن مكتوم (2) مناقشات شيخه أبي حيان في تأليف مفرد سمّاه " الدرّ اللقيط من البحر المحيط ".
وممن كتب عليه حاشية العلاّمة قطب الدين الشيرازي (3) في مجلدين لطيفين، والعلاّمة فخر الدين أحمد بن الحسن الجابردي (4)، والعلاّمة شرف الدين الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي (5) وهي أجلّ حواشيه، في ست مجلّدات ضخمات، والعلاّمة أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي (6)، رأيت منها مجلّدا
__________
=توفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 61 وبغية الوعاة 1/ 425 وإعراب القرآن له اسمه: المجيد في إعراب القرآن المجيد، حقق موسى محمد إعراب الفاتحة والجزء الأول من سورة البقرة، ثم حقق الدكتور حاتم الضامن إعراب الفاتحة ضمن نصوص محققة في علوم القرآن الكريم.
(1) في د، ق: في إعرابهما.
(2) هو أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم أبو محمد النحوي، جمع من تفسير أبي حيان مجلدا سماه: الدر اللقيط من البحر المحيط، قصره على مباحث أبي حيان مع ابن عطية والزمخشري، توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة. الدر الكامنة 1/ 174 وبغية لوعاة 1/ 326.
(3) هو محمود بن مسعود بن مصلح قطب الدين الشيرازي، كان من بحور العلم ومن أذكياء العالم، له حاشية على الكشاف في مجلدين لطيفين، توفي سنة عشر وسبعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 10/ 386 وبغية الوعاة 2/ 282 وكشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/ 1477 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 352.
(4) هو أحمد بن الحسن بن يوسف فخر الدين الجابردي، كان إماما فاضلا دينا مواظبا على الشغل في العلم وإفادة الطلبة، له حواش على الكشاف مشهورة، توفي سنة ست وأربعين وسبعمائة. الطبقات الكبرى 9/ 8 والدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 242 وحاشتيه مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 404.

(5) هو الحسين بن محمد بن عبد الله شرف الدين الطيبي، كان مقبلاً على نشر العلم، آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن، شرح الكشاف شرحا كبيرا، توفي سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 185 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 1/ 522 حققت حاشيته على الكشاف رسائل علمية في الجامعة الإسلامية.
(6) هو محمد بن محمود بن أحمد بن أحمد أكمل الدين البابرتي، كان فاضلاً صاحب فنون، وافر العقل له حاشية على الكشاف، توفي سنة ست وثمانين وسبعمائة. الدرر الكامنة 4/ 250، وتاج التراجم ص276.

(1/11)


على الفاتحة، وقطعة من البقرة، ولا أدري أكمّلها أم لا (1)، والعلاّمة سعد الدين
مسعود بن عمر التفتازاني (2)، وهي ملخصة من حاشية الطيبي، مع زيادة تعقيد
في العبارة، ولم يتمها (3)، والعلاّمة السيد الجرجاني (4)، رأيت منها كراريس،
ولا أدري إلى أين وصل (5)، وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وهي أسلوب
آخر غير أساليب المذكورين.
وإنما كتب منها اليسير (6)، والشيخ وليّ الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ
الكبير زين الدين عبد الرحيم العراقي (7) في مجلدين لخص فيهما كلام ابن المنير،
__________
(1) قال قاسم بن قطلوبغا زين الدين في: تاج التاجم ... : وحاشيته على الكشاف إلى تمام الزهراوين. ص277 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 424.
(2) هو مسعود بن عمر بن عمر بن عبد الله سعد الدين التفتازاني، العلامة الكبير، له شرحا التخليص، وحاشية الكشاف، توفي سنة واحدة وتسعين وسبعمائة. الدرر الكامنة 5/ 350 وبغية الوعاة 2/ 285 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 425.
(3) قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: والذي تحرر منها من أول القرآن إلى أثناء سورة يونس، ومن سورة الفتح.
وقال حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1478 وصل فيها إلى سورة الفتح.
وفي آخر نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 536 ل784 التفسير في أثناء سورة الفتح: هذا آخر ما وفق الشارح العلامة، وهو السعد التفتازاني لتحريره وتحقيقه وتصنيفه وتعليقه على الكشاف، جزاه الله.
(4) هو علي بن محمد بن علي أبو الحسن الجرجاني، يعرف بالسيد الشريف، عالم الشرق، كان بينه وبين التفتازاني مباحثات ومحاورات في مجلس تمرلنك، وله من الحواشي: حاشية على أوائل الكشاف، توفي سنة ست عشرة وثمانمائة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 5/ 328 والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 488 وحاشيته مطبوعة في هامش الكشاف في بعض الطبعات.
(5) وصل إلى تحشية تفسير الآية السادسة والعشرين من سورة البقرة. انظر في: الكشاف مع حاشية الجرجاني 1/ 261.
(6) ذكر السيوطي في معجم شيوخه: المنجم في المعجم ص126 أن علم الدين صالح بن عمر البلقيني ولد المؤلف أكمل هذه الحاشية.
(7) هو أحمد ابن الحافظ عبد الرحيم بن الحسين أبو زرعة الكردي، يعرف كأبيه بابن العراقي، كان عالما فاضلا، له تصانيف في الأصول والفروع، وفي شرح الأحاديث، ويد طولي في الإفتاء، اختصر الكشاف مع تخريجه أحاديث، وتتمات ونحوها، توفي سنة ست وعشرين وثمانمائة. الضوء اللامع 1/ 336 والبدر الطالع 1/ 72 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسختان. انظر في: الفهرس الشامل 1/ 450.

(1/12)


والعلم العراقي، وأبي حيان، وأجوبة الحلبي، والسفاقسي مع زيادة تخريج أحاديثه.
وممن خرّج أحاديثه الإمام المحدث فخر الدين الزيلعي (1)، ولخص كتابه حافظ العصر الشهاب أبو الفضل ابن حجر في مختصر لطيف.
وسيد المختصرات منه كتاب " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " للقاضي ناصر الدين البيضاوي، لخصه فأجاد، وأتى بكل مستجاد، وماز منه أماكن الاعتزال، وطرح مواضع الدسائس وأزال (2)، وحرر مهمات، واستدرك تتمات، فبرز كأنه (3) سبيكة نُضَار، واشتهر اشتهار الشمس في وسط النهار، وعكف عليه العاكفون، ولهج بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فأكبّ عليه العلماء والفضلاء تدريسا ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة، ومرّوا على ذلك طبقة بعد طبقة، ودرجوا عليه من زمن مصنفه إلى زمن شيوخنا متسقة.
ولقد كان شيخاي الإمامان الأكملان، والأستاذان الأفضلان، بقية النحارير المدققين، وعمدة المشايخ المحققين تقي الدين الشمني (4)، ومحيي الدين الكافيجي (5)، سقى الله ثراهما شآبيب الغفران، وأمطر على مضجعهما سحائب
__________
(1) هو عبد الله بن يوسف بن محمد أبو محمد جمال الدين الزيلعي، اشتغل كثيرا ولازم مطالعة كتب الحديث إلى أن خرج أحاديث الهداية، وأحاديث الكشاف، توفي سنة اثنتين وستين وسبعمائة، الدر الكامنة 3/ 310 والبدر الطالع 1/ 402.
وتخريج أحاديث الكشاف له اسمه: كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف للزمخشري. حقق رسائل علمية في جامعة أم القرى، وطبع بعناية سلطان بن فهد الطبيشي.
(2) ولكن بقيت مع ذلك فيه دسائس اعتزالية، وواسب فلسفية، تبع فيها الزمخشري وجاراه، سببه: التوغل في علوم الفلاسفة، وعدم التضلع بالأحاديث والآثار، ولقد أحصى السيوطي -رحمة الله عليه- أكثر من عشرين موضعا زلت فيها قدم البيضاوي، فناقشه فيها ورد عليه. انظر في الداسة.
(3) في ت، ظ: كتابه.
(4) هو أحمد بن محمد بن محمد أبو العباس الشمني -بضم الشين المعجمة والميم وتشديد النون- القسطيني الحنفي، إمام النحاة في زمانه وشيخ العلماء في أوانه، له شرح المغني لابن هشام، توفي سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 2/ 174 وبغية الوعا 1/ 375.
(5) هو محمد بن سليمان بن سعد أبو عبد الله الكافيجي الحنفي: كان إماما كبيرا في المعقولات كلها، الكلام وأصول الفقه والنحو والتصريف والمعاني والبيان والجدل والمنطق والفلسفة، توفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة. الضوء اللامع 7/ 259 وبغية الوعاة 1/ 117.

(1/13)


الرضوان يقرآن هذا الكتاب فيأتيان في تقريره بالعجب العجاب، ويرشدان من كنوزه ورموزه إلى صوب الصواب.
فلما توفاهما الحق إلى رحمته، ونقلهما من هذه الدنيا الدَّنِيَّةِ إلى فسيح جنته شغرت الديار المصرية من محقق، وخلت من مدرّس يبدي ضمائره مدقق، فصار الكتاب بما فيه من الكنوز كصندوق مقفل، وأصبح لفقد من فيه أهلية لتدريسه كأنّه مغفل، فألهمني الله سبحانه وتعالى أن جردت الهمّة لتدريسه، وشددت المئزر لتقرير ما فيه وتأسيسه، فشرعت في إقرائه مفتتح سنة ثمانين وثمانمائة، فأقرأت فيه (1) في مدة عشر سنين متوالية من أوّله إلى أثناء سورة هود، وبذلت المجهود في استقراء مواده، والتنقير عن معادنه، ولزمت النظر والسُهود والكواكب شُهود، وشرعت مع ذلك في تعليق حاشية عليه تحلل خفاياه، وتذلل مطاياه، فسمع بذلك السامعون، وطمع في الوصول إليها الطامعون، وجسر على إقرائه حينئذٍ كل جسور وهجم من متعرّبة ومن عجم، ممن لا يفرق في مقدمة التصريف بين باب ضرب يضرب، وباب نصر ينصر، فضلا عن أن يحوي عنده شتاتَ تلك العلوم التي هي أصول له ويحصر، وممن إذا قرأ الكرّاس نظرا يصحف التفقية بالتقفية، ويحرّف الترفية بالترقية، وإذا سمع باستعارة أو حجاز كان بينه وبين إدراك ذلك مجاز، بحيث سمع قولي في مقامة:
" وأنا " الحامل للشريعة المحمدية على كاهلي، والراقم لها في تصانيفي بأناملي " فاستنكر ذلك وقال:
" الشريعة لا تحمل على الكواهل، ولا ترقم، إنما ترقم الخطوط الدالة عليها بالأنامل ".
فانظروا من بلغ به الجهل المفرط هذا الحد، ومن أدّاه السقوط والعامية إلى أن يعيب هذا الكلام البليغ، ويوجه نحوه الردّ! وبحيث سمع قولي:
" أعلم خلق الله الآن قلما وفما " فاستثكر ذلك من حيث الإعراب وعده وهما، وقال:
" إن نصب الاسمين على التمييز فرع أن يقال: قلم عالم، وفم عالم، وهو بعيد عن التجويز ".
__________
(1) في د، ح، ق: منه.

(1/14)


فانظروا إلى من لم يسمع قط في علم المعاني بالإسناد المجازي، ولا مرّ على أذنه تمثيلهم بشعر شاعر، وقصيدة شاعرة، ونهار صائم، وما له يوازي، ولا قرأ القرآن وهو ممتلئ به على لغة كل عربيّ حجازي، وغير حجازي.
ثم ارتقى من الجهل مصعدا يرتقي عنه أسفل السافلين، ويرتفع عنه (1) أجهل الجاهلين الغافلين، وقال: " إن هذه العبارة منكرة شرعا، ممنوعة من قبل الحكم الديني منعا؛ لأنها تشمل الملائكة وجبرائيل وميكائيل " فملأ بذلك وعاءه جهلا، لا وَزَنَهُ ولا كاله؛ لأنه لم يقف قط على قول العلماء في مثل ذلك: إنه موكول إلى تخصيص العقل بعالم القائل السالك، وعلى ذلك قوله تعالى لبني إسرائيل (وأني فضلتكم على العالمين) قالوا: لا تدخل فيه لما ذكر الأنبياء ولا الملائكة.
ولولا اعتبار هذه القاعدة التي ليس عنها براحٌ لكان التلقيب بقاضي القضاة، وأقضى القضاة محرّما غير مباح، لأنه شامل لكل نبي، أجل، بل ولربِّ العالمين سبحانه عزّ وجلّ.
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا. . . ولكن لا حياةَ لمن تنادي (2)
وممن إذا سمع بذكر الاجتهاد الذي هو من آكد فروض الشريعة تعجب منه، وعدّه من المنكرات الفظيعة (3) (4).
الله أكبر! نزر العلم، وغزر الجهل، وتكلّم من ليس للخطاب بأهل.
وممن إذا روي له حديث لم يفرّق بين الموقوف والمرفوع، ولا بين الموصول والمقطوع، ولا بين الصحيح والموضوع.
وأعظم من ذلك أنه يعتمد الأخبار المختلقة الموضوعة، ويرد الأحاديث الصحيحة المسموعة، سنة بني إسرائيل، وتحريف ابن صوريا على جبرائيل (5).
__________
(1) في ت، ح، د: عنده.
(2) لكثير عزة، انظر في: ديوان كثير ص222 قال شارح الديوان: قيل البيت في الرثاء، ثم أصبح مثلاً يضرب لمن يوعظ فلا يقبل ولا يفهم.
(3) في د: القطيعة.
(4) انظر في تحدث السيوطي عن إنكار ابن الكركي الاجتهاد على السيوطي في شرح مقامات جلال الدين السيوطي 1/ 388.
(5) المقصود بهذا الكلام هو: إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد أبو الوفاء الكركي الأصلي، القاهري المولد والدار 835 - 922 الذي نعته السخاوي في الضوء اللامع 1/ 62 بقوله: =

(1/15)


أفتارك (1) أنا هذا الكتاب البديع المثال، المنيع المنال عرضة لهؤلاء، كأنه خبز شعير، وفيه من فرائد الفوائد ما يجلّ عن مقابلته من الذهب الناض بحمل بعير، ففرقة تأكله وتذمه، وتتوهّم فيه بحسب فهمها السقيم أدنى خلل فلا ترمه.
ومنهم من يريد أن يعربه فيعجمه (2)، ويصبح ظمآن وفي البحر فمه (3).
__________
="وقد درس وصنف، وأفتى، وحدث وروى، ونظر ونثر، ونقب وتعب، وخطب ووعظ، وقطع ووصل، وقدم وأخر، كل هذا مع الفصاحة والبلاغة وحسن العبارة".
وذلك أنه كان بينه وبين جلال الدين السيوطي خصومة عنيفة أملتها المعاصرة، واقتضتها المنافسة، فنال أحدهما من الآخر، وصوب إليه سهام الطعن، وفوق إليه نصال الأذى، فألف السيوطي عنه مقام سماها: الدوران الفلكي على ابن الكركي، قال فيها: "وأذكر بناء البروز إذ أفتيت بأنه لا يجوز، فغضب من ذلك وزمجر، ونبع الشر من فيه وتفجر وقال: ما له وللتكلم في هذا! فقد ضر الناس بذلك وآذى.
وذلك لأن له بروزا أحدثه خشي من هدمه، فيا فضيحة الإنسان من ربه إذا لم يعمل بعلمه، ثم يطوق تلك الأرض في عنقه من سبع أرضين، وكيف لا أتكلم في ذلك وأنا الحامل للشريعة المحمدية على كاهلي، والراقم لها في تصانيفي بأناملي، وأنا الذي بالعلم حقيق وقمن، أعلم خلق الله الآن قلما وفما، إن لم أكن أحق بالتكلم فمن"؟ شرح مقامات جلال الدين السيوطي 1/ 408 ثم إن إبراهيم الكركي ألف مقامة دفاعاً عن نفسه، وردا على مقامة السيوطي، لم أقف عليها، لكن في مكتبة الأزهر كتاب جمع فيه إبراهيم الكركي مسائل فقهية، سماه: فيض الكريم على عبده إبراهيم، ربما تكون المقامة من محتوياته، انظر في: فهرس الأزهر 2/ 234.
ثم ألف السيوطي مقامة أخرى سماها: طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة، ردا على مقامة ابن الكركي جال وصال فيها، وأبدأ وأعاد فيها، واستفرغ وسعه، وبذل قصارى جهده في نقضها، والنيل منه، والوقيعة فيه. ثم وصل أمرها إلى الخليفة العباسي المتوكل على الله أبي العز عبد العزيز بن يعقوب، ففض بينهما، وردعهما من التهارش، ومنعهما من التناوش. انظر في: شرح مقامات السيوطي 2/ 813.
(1) في ح: أفأترك.
(2) مقتبس من رجز الحطيئة جرول بن أوس:
فالشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه ... والشعر لا يسطيعه من يظلمه
يريد أن يعربه فيعجمه
ديوان الحطيئة 239
(3) مقتبس من رجز لرؤبة بن العجاج:
كالحوت لا يرويه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه
انظر في: مجموع أشعار العرب 159.

(1/16)


فحبست ما كتبت منه عشرين سنة، ولم أسمح به لأحد، لا في يقظة ولا في سنة.
ولقد جاءني رائد منهم ناصبا لي الحبالة يريد ليوصله إلى من يستعين به على إقرائه، لا أبا له، فألقمت الحجر فاه، وتلوت على قفاه:
أتت بجرابها تكتال فيه. . . فردت وهي فارغة الجراب
ألم تر إلى الذي توسل إلينا بأبناء الحنفاء، وتوصل إلينا بأولاد الخلفاء، وتطفل علينا في الموائد فأذنّا لبعض تلامذتنا أن يسمحوا له ببعض ما لنا من الفوائد، فكان أوّل أمره نصب، وآخره غصب، وأغار على كتابنا " المعجزات والخصائص " وغيره، وخان وجنى ثمار غروسنا، وهو فيما جناه جان، فسوّد بذلك وجهه، وتوجه من ترك أداء الأمانة إلى شر وجهة، وسرق من عدة كتب لنا جواهر، لا ملك له فيها ولا شبهة، فنبهنا على خيانته، وإنا لصادقون، وبعثنا في ناديه مؤذنا يؤذن (أيتها العير إنكم لسارقون) [سورة يوسف 70] وعلمنا بذلك بخس ميزانه في الوازنين (1)، وتلونا على قفاه (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) [سورة يوسف 52] (2).
__________
(1) في د، ق: في الموازين.
(2) كان بين السيوطي وبين بعض علماء عصره منازعات أدبية ومخاصمات علمية، فألف عددا من المقامات ردا عليهم وانتصافا منهم، مصرحا بأسمائهم، فمن ذلك: ما ألفه ردا على شمس الدين السخاوي سماها: الكاوي في تاريخ السخاوي، وما ألفه ردا على إبراهيم الكركي، وهي عدة مقامات: الدوران الفلكي على ابن الكركي، الجواب الزكي عن قمامة ابن الكركي، الصارم الهندي في عنق ابن الكركي، وما ألفه ردا على شمي الدين الجوجري سماه: اللفظ الجوهري في رد خباط الجوجري.
ومن هذه المقامات مقامة أخرى سماها: الفارق بين المصنف والسارق ألفها ردا على مؤلف اتخذ قرصنة الكتب بضاعة بعد أن أفلس في عالم العلم والتأليف، وتعرض له في مقامة له أخرى سماها: ساحب سيف على صاحب حيف. شرح مقامات السيوطي 1/ 564.
اتهمه السيوطي بأنه سلخ أربع كتب له، كتاب الخصائص والمعجزات، وكتاب أنموذج اللبيب، وكتاب طي اللسان عن ذم الطيلسان، وكتاب مسالك الحنفا في والدي المصطفى، ثم امتد سلخه، ووصلت إغارته إلى كتب قطب الدين الخيضري، وشمس الدين السخاوي.
ولم يصرح باسم السارق في هاتين المقامتين، وأجهل السبب الذي جعله يبهم اسمه، ويصرح بأسماء الآخرين.
بيد أن جمهرة من الباحثين، الدكتور سمير الدروبي في تحقيق شرح مقامات السيوطي 1/ 54 وصالح آل الشيخ في كتابه هذه مفاهيمنا 24 - ولم يجزم- وعبد الإله نبهان في تحقيق بهجة العابدين 140 والدكتور هلال ناجي في تحقيق الفارق بين المصنف والسارق 26 فسروا هذا=

(1/17)


فلما كان هذا العام الذي هو ختام القرن رأيت أن أنظر في تبييض هذا الكتاب وتحريره، وتكميل ما بقي منه إلى أخيره، فجمعت الموادَّ، وسلكت الجوادَّ، وحبرته تحبيرا، وبالغت في تهذيبه تقريرا وتحريرا، وسميته " نواهد الأبكار وشوارد الأفكار ".
واعلم أني لخصت فيه مهمات مما في حواشي الكشاف السابق ذكرها ما له تعلّق بعبارة الكتاب، وضممت إلى ذلك نفائس تستجاد وتستطاب، مما لخصته من كتب الأئمة الحافلة (1)، كتذكرة أبي عليّ الفارسي (2)، والخصائص، والمحتسب،
__________
=السارق الذي أبهمه السيوطي بالعلامة شهاب الدين القسطلاني صاحب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية.
قلت: إن السيوطي ذكر في مقامته الفارق بين المصنف والسارق بعض الملامح عن ذلك السالخ، فإذا هي لا تنطبق على شهاب الدين القسطلاني. قال السيوطي: "قال -أي السالخ-: تتبعت وجمعت ووقع لي" شرح مقامات السيوطي 2/ 819 وهذه العبارات ليست في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية.
وقال أيضا: "وهذا الرجل لست أعرفه في سر ولا جهر، وإنما قيل لي عند السؤال -وأنا بالروضة-: رجل من أهل ما وراء النهر، فما أجدر هذا السارق الأعجم بأن تقطع منه اليمنى، ويؤخذ منه باليمين" شرح مقامات السيوطي 2/ 829.
وشهاب الدين القسطلاني أولاً: ليس مجهولاً عن السيوطي، ب هو معروف لديه، جرت بينهما خصومة عند زكريا الأنصاري.
وثانيا: ليس رجلاً أعجميا من بلاد ما وراء النهر، بل هو مصري المولد والمنشأ من أصول إفريقية، وعليه فليس هذا السارق الذي ألف السيوطي مقامة الفارق بين المصنف والسرق ردا عليه، وذكره في كتابه هذا نواهد الأبكار = شهاب الدين القسطلاني.
دعا السيوطي على هذا السارق فقال: إن كان سارقا سالخا، وناسخا ماسخا، وكاذبا في دعوى اطلاعه على الأصول، ومدعيا ما لا حاصل عنده به، ولا محصول، ومغيرا على تصنيفي، ومنتحلا لتأليفي فلا يأمن أن يحرمه الله نفعه وثوابه، وأن يعدم عليه نفسه وكتابه. شرح مقامات السيوطي 2/ 827.
ولعل دعوة السيوطي عليه قبلت فيه، فلم يبارك في عمله وتأليفه، ولم ينتشر بين الناس، ولم ينتفع به.
(1) في د، ق: الكافلة.
(2) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي النحوي الفارسي، صنف كتبا عجيبة لم يسبق إلى مثلها واشتهر ذكره في الآفاق، له كتاب التذكرة في العربية عشرون مجلدا، توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 1/ 273 ومعجم الأدباء 2/ 811 وفهرست ابن خير الإشبيلي 318. والتذكرة مفقودة.

(1/18)


وذا القد لابن جني (1)، وأمالي ابن الشجري (2)، وأمالي ابن الحاجب (3)، وتذكرة (4) الشيخ جمال الدين ابن هشام، ومغنيه، وحاشية الإمام (5) بدر الدين الدماميني (6)، وشيخنا الإمام تقي الدين الشمني، غير ناقل حرفا من كلام أحد إلا معزواً إليه؛ لأن بركة العلم عزوه إلى قائله (7).
وحيث كان المحل من المشكلات التي كثر كلام الناس عليها أشبعت القول (8)
__________
(1) هو عثمان بن جني أبو الفتح النحوي الموصلي، صاحب التصانيف البديعة في علم الأدب، له كتاب التذكرة الأصبهانية، مختار تذكرة أبي علي وتهذيب، وكتاب ذي القد في النحو، وهو ما استملاه من أبي علي، وكتاب المحتسب في علل شواذ القراءات، وكتاب الخصائص، توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 335 ومعجم الأدباء 4/ 1585 ذو القد مفقود، والآخران مطبوعان.
(2) هو هبة الله بن علي بن محمد أبو السعادات المعروف بابن الشجري، أحد أئمة النحاة، وله معرفة تامة باللغة والنحو، صنف الأمالي، وهو أكبر تصانيفه وأمتعها، أملاه في أربعة وثمانين مجلسا، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 3/ 356، ومعجم الأدباء 6/ 2775 حقق الأمالي الدكتور المحقق المتضلع من علوم العربية، محمود الطناحي، وطبعت في ثلاث مجلدات بدار الخانجي.
(3) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر المصري الإسكندري المعروف بابن الحاجب، كان وحيد عصره علما وفضلا واطلاعا، له الأمالي في ثلاث مجلدات في غاية الإفادة، توفي سنة ست وأربعين وستمائة. الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/ 86، وبغية الوعاة 2/ 235 والأمالي هي إعراب آيات من القرآن، وشرح مواضع من المفصل والكافية، وشرح مسائل خلافية في النحو، وأمالي مطلقة، حققها الدكتور فخر صالح سليمان، وطبعت بدار الجيل.
(4) قال عنها الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة 3/ 94 والسيوطي في بغية الوعاة 2/ 69: إنها في خمسة عشر مجلدا وقد اقتبس منها السيوطي أكثر من عشرين نصا في الأشباه والنظائر في النحو 1/ 45، 61، 74، 103، 164، 247.
(5) في ت، ح، ظ: وحاشيته للإمام.
(6) هو محمد بن أبي بكر بن عمر بدر الدين الإسكندري المعروف بابن الدماميني، فاق في النحو، والنظم والنثر والخط، وشارك في الفقه وغيره، له تحفة الغريب في حاشية مغني اللبيب، توفي سنة سبع وثلاثين وثمانمائة.
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 7/ 184 وبغية الوعاة 2/ 66 ومن حاشيتي بدر الدين، وتقي الدين نسخ مخطوطة كثيرة، وطبعتا بمصر قديما. انظر في تاريخ الأدب العربي 6/ 77 ومعجم المطبوعات العربية والمعربة 1/ 880.
(7) في ت، ظ: قائليه.
(8) في ت، ظ: الكلام.

(1/19)


فيه بذكر كلام كل من تكلم عليه تكثيرا للفائدة.
ومن المواضع ما وقع فيه تنازع وتباحث بين الأئمة قديما وحديثا بحيث أفردوه بالتأليف فأسوق خلاصة ذلك المؤلف.
فدونك كتابا تشد إليه الرحال، وتخضع له أعناق فحول الرجال.
جعله الله تعالى خالصا لوجهه الكريم، ونورا يهديني به إلى الصراط المستقيم، إلى جنات النعيم بمنّه وكرمه.

(1/20)


ترجمة المؤلّف
هو الإمام القاضي ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي البيضاوي، من قرية يقال لها: البيضاء من عمل شيراز.
قال الأسنوي (1) في " طبقات الشافعية ": كان عالما بعلوم كثيرة صالحا خيرا، صنّف التصانيف المشهورة في أنواع العلوم. منها مختصر الكشاف، ومختصر الوسيط في الفقه المسمى بـ " الغاية " و " المنهاج " في أصول الفقه. وتولى قضاء القضاة بإقليمه. وتوفي سنة إحدى وتسعين وستمائة (2).
وقال القاضي تاج الدين السبكي (3) في " الطبقات الكبرى ": كان إماما مبرزا، نظارا صالحا متعبدا زاهدا، صنّف " الطوالع " و " المصباح " في أصول الدين، و " شرح المصابيح " في الحديث، وولي قضاء القضاة بشيراز، ودخل تبريز وناظر بها، وصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء فجلس في أخريات القوم بحيث لم يعلم به أحد، فذكر المدرّس نكتة زعم أن أحدا من الحاضرين لا يقدر على جوابها، وطلب من القوم حلّها، والجواب عنها، فإن لم يقدروا فالحل فقط، فإن لم يقدروا فإعادتها، فلما انتهى من ذكرها شرع البيضاوي في الجواب، فقال له: لا أسمع حتى أعلم أنك فهمتها، فخيره بين إعادتها بلفظها أو معناها، فبهت المدرس، وقال: أعدها بلفظها، فأعادها ثم حلها، وبيّن أن في تركيبه إيَّاها خللا، ثم أجاب عنها وقابلها في الحال بمثلها، ودعا المدرّس إلى حلّها، فتعذّر عليه ذلك فأقامه الوزير من مجلسه، وأدناه إلى جانبه، وسأله من
__________
(1) هو عبد الرحيم بن الحسن بن علي أبو محمد الإسنوي، كان بحرا في الفروع والأصول، تخرج به الفضلاء، وانتفع به العلماء، صنف التصانيف المفيدة، منها المهمات على الروضة، وشرح المنهاج للبيضاوي، وشرح المنهاج للنووي، توفي سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. الدر الكامنة، 2/ 354، وبغية الوعاة 2/ 92.
(2) طبقات الشافعية 1/ 283.
(3) هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي أبو نصر تاج الدين السبكي، طلب الحديث مع ملازمة الاشتغال بالفقه والأصول والعربية حتى مهر وهو شاب، توفي سنة واحد وسبعين وسبعمائة. الدرر الكامنة 2/ 425، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 410.

(1/21)


أنت؟ فأخبره أنه البيضاوي، وأنه جاء في طلب القضاء بشيراز، فأكرمه وخلع عليه في يومه، ورده، وقد قضى حاجته (1).
وقال الصلاح الصفدي (2) في تاريخه: قال لي الحافظ نجم الدين سعيد الدهلي (3): توفي القاضي ناصر الدين البيضاوي سنة خمس وثمانين وستمائة بتبريز، ودفن بها.
وهو صاحب التصانيف المشهورة البديعة. منها: " المنهاج " في الأصول، وشرحه أيضاً و " شرح مختصر ابن الحاجب " في الأصول، و " وشرح الكافية " في النحو لابن الحاجب، و " شرح المنتخب " في الأصول للإمام فخر الدين، و " شرح المطالع " في المنطق (4).
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى 8/ 157.
(2) هو خليل بن أبيك بن عبد الله أبو الصفاء صلاح الدين الصفدي، حبب إليه الأدب فولع به، وكتب الخط الجيد، وأكثر من النظم والنثر والترسل، له الوافي بالوفيات في نحو ثلاثين مجلدة، توفي سنة أربع وستين وسبعمائة، الدرر الكامنة 1/ 87، والبدر الطالع 1/ 243.
(3) هو سعيد بن عبد الله نجم الدين أبو الخير الدهلي، الحافظ الإمام، حافظ الشام بعد الذهبي، توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 269، وكتاب الوافي بالوفيات 15/ 233.
(4) كتاب الوافي بالوفيات 17/ 379.

(1/22)


الكلام على الخطبة
قوله: (الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)
هو من الاقتباس، وقد أجمع على جوازه في النثر (1)، واستعمله العلماء قاطبة في خطبهم وإنشاءاتهم، وللمصنّف في ذلك خصوصية، وهي: أن تفسيره هذا مبني كالكشاف على أساليب علم المعاني والبيان والبديع، والاقتباس من تلك الأساليب، فكان في افتتاحه براعة استهلال (2) من وجهين:
أحدهما: الإشارة إلى أن هذا المصنف الذي شرع في افتتاحه تفسير للقرآن.
والثاني: الإشارة إلى أن هذا التفسير على قوانين وأساليب البراعة، ولمثل ذلك افتتح الطيبي والتفتازاني معا حاشيتي الكشاف بقوله:
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (3)) [الكهف 1].
فإن قلت: نرى في هذا الزمان قوما يستنكرون ذلك، ويقولون: ألفاظ القرآن لا تستعمل في غيره.
قلت: إنّما استنكره هؤلاء جهلا منهم بالنصوص والنقول، فقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلّم في غير ما حديث، والصحابة، والتابعون، والعلماء قديما وحديثا، ونصوا في كتب الفقه على جوازه.
فإن قلت: لعلّ المالكية يشددون في ذلك ما لا يشدده أهل مذهبكم.
قلت: قد استعمله إمامهم الإمام مالك بن أنس، ونصّ على جوازه غير واحد، منهم ابن عبد البر (4)؟. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) انظر في: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 2/ 223 والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر 14/ 321 وشرح مقامات السيوطي 2/ 726 - 729.
(2) هي أن يكون افتتاح الخطبة أو الرسالة أو غيرهما دالا على غرض المتكلم. شرح الكافية البديعية لصفي الدين الحلي 59 وشرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان 172، 173.
(3) فتوح الغيب 1/ 1 وحاشية سعيد الدين ل1.
(4) هو يوسف بن عبد الله بن محمد أبو عمر النمري القرطبي المالكي، فقيه حافظ، عالم بالقراءات وبالخلاف وبعلوم الحديث والرجال، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي، توفي سنة ثلاث=

(1/23)


والقاضي عياض (1)، واستعمله في خطبة " الشفا (2) " وابن المنير، واستعمله في " الانتصاف (3) " وفي خطبه المنبرية.
ونص الشيخ داود الباقلي (4) في تأليف له على أن المالكية والشافعية اتفقوا على جوازه.
فإن قلت: سمعنا الإنكار ممن يزعم أنه متمذهب بمذهب أبي حنيفة رحمه الله. قلت: هو غير عالم بمذهبه، فلو رأى " شرح مجمع البحرين " لابن الساعاتي (5) - خصوصا في باب الاستسقاء - لظلت عنقه لجوازه خاضعة، ولاعترف بجهله حيث أنكر ما قامت عليه الأدلة الساطعة.
ولأجل ذلك ألّفت في المسألة كتابا حافلاً (6) فيه جمل من النصوص والنقول،
__________
=وستين وأربعمائة. سير أعمال النبلاء 18/ 153 والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/ 367.
(1) هو عياض بن موسى بن عياض أبو الفضل اليحصبي السبتي، كان إمام وقته في الحديث وعلومه عالما بالتفسير وجميع علومه، فقيها أصوليا، عالما بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، له إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، توفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة. الديباج المذهب 1/ 2 ولشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني كتاب: أزهار الرياض في أخبار عياض، في خمس مجلدات، ظريف مشحون بالفوائد.
(2) انظر إكمال المعلم بفوائد مسلم 6/ 180 والشفا بتعريف حقوق المصطفى 2.
(3) الانتصاف من الكشاف 1/ 133، 157.
(4) لم أعرف عنه سوى أن له رسالة في جواز الاقتباس من القرآن، تسمى "اللطيفة المرضية" انظر في: شرح مقامات السيوطي 2/ 726 وكشف الظنون 2/ 1556.
(5) هو أحمد بن علي بن تغلب مظفر الدين المعروف بابن الساعاتي، كان علامة بارعا، له البديع في أصول الفقه، ومجمع البحرين، وشرحه في مجلدين، توفي سنة أربع وتسعين وستمائة. الطبقات السنية في تراجم الحنفية 1/ 400 وتاج التراجم فيمن صنف من الحنفية 16 وقد أحصى محقق البديع في أصول الفقه للمؤلف مخطوطات مجمع البحرين فبلغت أكثر من خمس عشرة مخطوطة.
(6) واسمه: رفع الباس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس. طبع ضمن الحاوي للفتاوي 1/ 399 - 441 وأحفل منه كتاب الاقتباس من القرآن الكريم، لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في جزأين، إذ جمع فيه اقتباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب وأحسنهم بيانا، والسلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمان المؤلف من معاني القرآن وألفاظه في أمور معاشهم ومعادهم، وأداره على خمس وعشرين بابا، فجاء كتابا أحفل في بابه وأجمع لقضايا الاقتباس.

(1/24)


فليطلبه من أراد تحقيق ذلك.
واعلم أن الاقتباس أنواع؛ لأنه تارة يورد فيه نظم القرآن بنصه كما في هذا المطلع، وتارة يزاد فيه الكلمة ونحوها، أو ينقص منه، أو يغير بعض عبارته وإعرابه، وقد استعمل المصنف جميع هذه الأنواع في الخطبة تنبيها منه على جوازها شرعا وبلاغة.
فمن الزيادة قوله: (ثم بيّن للناس ما نزّل إليهم حسبما عنَّ لهم من مصالحهم، ليدبّروا آياته وليتذكّر أولو الألباب تذكيرا) فزاد لفظة " تذكيرا "
ومن التغيير قوله: (فكشف قناع الانغلاق عن آياتٍ محكماتٍ، هن أُم الكتاب وأخر متشابهات، هن رموز الخطاب، تأويلا وتفسيرا)
وقوله: (فَمَنْ كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فهو في الدارين حميد وسعيد) ومن النقص والتغيير والنقل عن المنزل فيه قوله: (ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وإلماعها؛ ليذهب عنهم الرجز، ويطهرهم تطهيرا) وكلّ ذلك سائغ شائع، فقد استعمله الأئمة، والعلماء، والبلغاء قديما وحديثا، ولا ينكره إلاّ من هو في عداد البهائم.
قوله: (فتحدى) الضمير فيه وفي الأفعال بعده راجع إلى (عبده) والتحدي طلب المعارضة والمقابلة.
قال في الصحاح: تحديت فلانا إذا باريته في فعل ونازعته الغلبة (1).
وقال في الأساس: حدا حدوا، وهو حادي الإبل، واحتدى بها حُداء إذا غنى لها.
ومن المجاز: تحدى أقرانه إذا باراهم، وأصله في الحُداء يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدى كل واحد منهما صاحبه، أي يطلب حداءه، كما يقال: توفاه، بمعنى استوفاه (2).
وقال غيره: كانوا عند الحَدْوِ يقوم حاد عن يمين القطار، وحاد عن يساره يتحدى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي يطلب حداءه، ثم اتسع فيه
__________
(1) الصحاح/ مادة حدا.
(2) أساس البلاغة/ مادة حدا. وفيه: وحدى بها بدل: واحتدى بها.

(1/25)


حتى استعمل في كل مباراة.
قوله: (مصاقع) جمع مصقع، وهو الفصيح.
قال الجوهري: خطيب مصقع، أي بليغ (1).
زاد غيره: يجهر بخطبته، من صقع الديك إذا صاح، وقيل: لأنه يأخذ في كل صقع، أي جانب من الكلام.
قوله: (العرب) هم ولد إسماعيل عليه السلام، والعاربة والعرباء الخلص منهم، أخذ من لفظه وأكّد به، كليل أليل، وظلّ ظليل.
قوله: (وأفحم) أي أسكت. قال في الصحاح: كلمته حتى أفحمته، إذا أسكته في خصومة (2).
قوله: (تصدّى) أي تعرض، والمصاداة المعارضة.
قوله: (عدنان) الجد الأعلى للنبي صلى الله عليه وسلّم، وسائر العرب، وهو عدنان بن أدّ بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار (3) بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وقحطان أبو اليمن. كذا في الصحاح (4).
وقال الكلبي (5): هو الهميسع بن نبت (6) بن إسماعيل بن إبراهيم.
كذا نقله المبرد (7) في كتاب " نسب عدنان وقحطان " وبين في الكتاب المذكور رجوع جميع العرب إليهما (8).
__________
(1) الصحاح/ مادة صقع.
(2) الصحاح/ مادة فحم.
(3) في ح: قيذر.
(4) الصحاح/ مادة قحط.
(5) هو هشام بن محمد بن السائب أبو المنذر الكلبي، كان عالما بالنسب وأخبار العرب وأيامها ووقائعها ومثالبها، توفي سنة أربع ومائتين. معجم الأدباء 6/ 2779 وسير أعمال النبلاء 10/ 101.
(6) في نسب عدنان وقحطان 28 ونسب ابن الكلبي قحطان إلى إسماعيل عليه السلام فقال: قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت.
(7) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس النحوي، كان إمام العربية في بغداد، وإليه انتهى علمها، توفي سنة خمس وثمانين ومائتين. معجم الأدباء 6/ 2678 وسير أعمال النبلاء 13/ 576.
(8) نسب عدنان وقحطان 9، 28.

(1/26)


قوله: (حسب) أي قدر، وهو بفتح السين.
قال في الصحاح: وربما سكن للضرورة (1).
قوله: (عنَّ) بالتشديد، أي عرض.
قوله: (قناع الإنغلاق) القناع بكسر القاف ما تغطي به المرأة رأسها.
وفي الصحاح: كلام غلق، أي مشكل (2). ففيه استعارة بالكناية (3): شَبَّهَ الكلام الغلق بالمرأة المخدرة، أي المحتجبة، فأضْمَرَ التشبيه في النفس، وحذف المشبه به، ودلّ عليه بلازمه، وهو القناع.
قوله: (وأبرز) أي أظهر.
قوله: (غوامض) جمع غامض، وهو خلاف الواضح.
قوله: (ولطائف) جمع لطيفة، وهي الكلام الدقيق المؤثر في النفس.
قوله: (لتتجلى لهم خفايا الملك والملكوت، وخبايا قدس الجبروت)
قال الغزالي (4) في إملائه: حد عالم الملك: ما ظهر للحواس، ويكون بقدرة الله، بعضه من بعض، ويصحبه التغيير.
وحد عالم الملكوت: ما أوجده سبحانه بالأمر الأزليّ بلا تدريج، وبقي على حالة واحدة من غير زيادة فيه ولا نقصان منه.
وحد عالم الجبروت هو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك، فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت (5). انتهى.
__________
(1) الصحاح/ مادة حسب.
(2) الصحاح/ مادة غلق.
(3) وذلك أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه، ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، فيسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية، ومكنيا عنها، لأنه لم يصرح به، بل دل عليه بذكر خواصه. شرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان 98 ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها 1/ 145.
(4) هو محمد بن محمد بن محمد زين الدين أبو حامد الغزالي الطوسي، كانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين، توفي سنة خمس وخمسمائة، سير أعمال النبلاء 9/ 322 وطبقات الشافعية الكبرى 6/ 191.
(5) الإملاء في إشكالات الإحياء 38 قلت: تفسير أبي حامد الغزالي هذه الألفاظ بهذه المعاني فيه نظر، وذلك أن الفلاسفة وضعت هذه الألفاظ لهذه المعاني، واستعملها الغزالي فيها موافقا لهم، وهي غير المعاني التي استعملت في اللغة والشرع، ولا شك أن هذا محاداة للغة، ومشاقة=

(1/27)


وفي " الحقائق " و " الدقائق " جناس لاحق. وفي " خبايا " و " خفايا " جناس مضارع؛ لأن الاختلاف بحرف مقارب في المخرج.
قوله: (ومهد) أي وطَّأ وسوى وأصلح.
قوله: (وإلماعها) كنى به عن الآيات المشيرة إلى الأحكام إشارة خفية؛ لذكره في مقابلة النصوص، وهو لغة الاختلاس.
قوله: (نبراسه) هو المصباح، وفيه مع " رأسه " جناس مُذَيَلٌ (1). وفي " الوجود " و " الجود " جناس ناقص (2).
قوله: (ذميما) أي مذموما.
قوله: (توازي) أي تحاذي.
قوله: (غناءه) بفتح المعجمة والمدّ.
قوله: (وتجازي عناءه) بفتح المهملة والمد، هو التعب، وفي " توازي " و "
__________
=للشرع، وتلاعب بالألفاظ، وتلبيس على المسلمين.
قال مرتضى الزبيدي في تاج العروس -آثرا عن غيره-: والجبروت فعلوت من الجبر والقهر والقسر، والتاء فيه زائدة للإلحاق بقبروس، ومثله ملكوت من الملك، ورهبوت من الرهبة، ورغبوت من الرغبة، ورحموت من الرحمة، قيل: ولا سادس لها.
وقال أبو جعفر الطبري في جامع البيان 11/ 470: ملكوت السماوات والأرض يعني ملكه، وزيدت فيه التاء كما زيدت في الجبروت من الجبر، وكما قيل: رهبوت خير من رحموت، بمعنى رهبة خير من رحمة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة عظيمة نافعة في العبادات 52: وابن سيناء ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشارع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، وكسوه لحاء الشريعة، وهذا كلفظ الملك، والملكوت، والجبروت، واللوح المحفوظ، والملك، والشيطان، والحدوث، والقدم، وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحاد لما ذكرنا قول ابن سبعين، وابن عربي، وما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، والذين يحرفون كلام الله ورسوله عن موضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. وانظر في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 210.
(1) هو أن يقع الاختلاف بأكثر من حرف، وهو مخصوص بما كانت الزيادة في الآخر مثاله قوله تعالى "وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ" شرح عقود الجمان 145 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 84.
(2) هو أن يختلفا في عدد الحروف. شرح عقود الجمان 145 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 107.

(1/28)


تجازي " جناس لاحق (1)، وفي " غناءه " و " عناءه " جناس مُصَحَف (2).
قوله: (ومنارا) هو علم الطريق يوضع ليهتدي به المارون (3).
وبيان كون التفسير أعظم العلوم مقرر في " الإتقان " بما لا مزيد عليه، وكذا حده، والفرق بينه وبين التأويل (4)
قوله: (برع) في الصحاح: برع الرجل بالضم والفتح براعة، أي فاق أصحابه في العلم وغيره (5).
قوله: (في العلوم الدينية) هي التفسير والحديث والفقه وأصول الدين وأصول الفقه.
أمّا العلوم الشرعية فذكر الفقهاء في الوصية اختصاصها بالثلاثة الأوَّل، وحكوا في الرابع خلافا، والأكثرون على عدم دخوله فيها.
واختار المتولي (6) دخوله (7)، وقال الرافعي (8): إنه قريب (9).
وقال السبكي (10): العلم بالله وصفاته وما يجب له وما يستحيل عليه ليُردّ على
__________
(1) هو ما وقع الاختلاف فيه في أنواع الحروف، ويشترط أن [لا] يكون بأكثر من حرف واحد، وإلا يبعد التشابه ويفقد التجانس، وهو قسمان: ما يكون التحالف بحرف مقارب في المخرج، وما يكون بغيره، والأول يسمى المضارع، والثاني اللاحق. شرح عقود الجمان 146 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 76.
(2) هو ما اختلفت الحروف في النقط، وبعضهم يسميه جناس الخط. شرح عقود الجمان 144 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 70.
(3) في ظ: المار.
(4) الإتقان 2/ 1189 - 1196.
(5) الصحاح/ مادة برع.
(6) هو عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي، صاحب التتمة، أحد الأئمة الرفعاء، برع في المذهب وبعد صيته، توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 5/ 106 ووفيات الأعيان 3/ 133.
(7) انظر في: روضة الطالبين للنووي 6/ 169.
(8) وهو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم أبو القاسم الرافعي، كان متضلعا من علوم الشريعة تفسيرا وحديثا وأصولا، له فتح العزيز في شرح الوجيز، والمحرر، توفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن بغزوين. تهذيب الأسماء واللغات 2/ 264 وطبقات الشافعة الكبرى 8/ 281.
(9) انظر في: المحرر في الفقه 3/ 859 وفتح العزيز 7/ 90.
(10) هو علي بن عبد الكافي بن علي أبو الحسن تقي الدين السبكي، جامع أشتات العلوم المبرز=

(1/29)


المبتدعة، ويميز بين الاعتقاد الفاسد والصحيح، وتقريرُ الحق ونصرُهُ من العلوم الشرعية، والعالم به من أفضلهم. ومن دأبه الجدال والشُبَهُ وخَبْطُ عَشْواءَ وتضييع الزمان فيه والزيادة عليه إلى أن يكون مبتدعا، أو داعيا إلى ضلال (1) فذاك باسم الجهل أحقّ.
ولم يعدّ أحد من الفقهاء أصول الفقه في العلوم الشرعية.
قوله: (وفاق) في الصحاح: فاق أصحابه يفوقهم، أي علاهم بالشرف (2).
قوله: (في الصناعات العربية، والفنون الأدبية)
أحسن المصنف جدا في تفريقه بين العلوم الدينية، والآلات، حيث أطلق على الأولى اسم العلوم، وعلى الأخرى اسم الصناعات والفنون؛ لشرف تلك وشرف لفظ العلم، بخلاف لفظ الصناعات والفنّ.
قال في الصحاح: الصناعة حرفة الصانع، وعمله الصنعة. والفنّ النوع (3).
وقال الشيخ سعد الدين في حاشية الكشاف: معلومات العلم إن حصلت بالتمرن على العمل فربما خصت باسم الصناعة، أو بمجرّد النظر والاستدلال فبالعلم، وقد يقال: الصناعة لما تدرّب فيه صاحبه وتمكّن، أو لما يكون المقصود الأصلي منه هو العمل.
وبالجملة الصناعة تعلق بالعمل؛ ولذا قالوا: هي ملكة نفسانية يقتدر بها الإنسان على استعمال موضوعات مّا نحو غرض من الأغراض صادرا عن البصيرة بحسب ما يمكن فيها (4).
وقال الطيبي -بعد ما حكى القول الأول ممثلا للتمرن بحصول معلومات النحو بمطارحات الأعراب، ومعلومات صناعتي البلاغة والفصاحة بتتبع خواص تراكيب البلغاء إفادة ودلالة وترتيبا-: والحق أن كل علم مارسه الرجل سواء كان استدلاليا أو غيره حتى صار كالحرفة لة يسمى صناعة.
__________
=في المنقول منها والمفهوم، طار اسمه فملأ الأقطار، وحلق على الدنيا، توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 10/ 139 وطبقات المفسرين 1/ 412.
(1) في ح: ضلالة.
(2) الصحاح/ مادة فوق.
(3) الصحاح/ مادة صنع، وفنن.
(4) حاشية سعد الدين ل4 - 5.

(1/30)


قال صاحب " الكشاف " في قوله (لبئس ما كانوا يصنعون) [سورة المائدة 63] " كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه (1) ".
قوله: (بأنواعها)
قال ابن الكمال الأنباري (2): أنواع علوم الأدب ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف والعروض والقوافي، وصنعة الشعر، وأنساب العرب، وأخبارهم. قال: وألحقنا بها علمين وضعناهما: علم جدل النحو، وعلم أصول النحو (3).
ومعلوم أن الخمسة الأخيرة من الثمانية غير محتاج إليها في التفسير إلا صنعة الشعر، فإنه إشارة إلى علم البلاغة وتوابعها، فإن ذلك كان يسمى قديما صنعة الشعر، ونقد الشعر، ونقد الكلام.
وفيه ألّف العسكري (4) كتابا سماه " الصناعتين " يعني صناعة النثر، وصناعة النظم.
وألف قدامة (5) كتابا سماه " نقد الشعر " وإنما التسمية بالمعاني والبيان والبديع حادثة من المتأخرين.
قوله: (ولطالما) قال الشيخ سعد الدين: " ما " فيه وفي " قلما " قيل: مصدرية، والمصدر فاعل، وقيل: كافة للفعل عن طلب الفاعل، ولذا (6) تكتب متصلة،
__________
(1) الكشاف 1/ 627 وفتوح الغيب 1/ 35.
(2) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله كمال الدين أبو البركات الأنباري النحوي، كان إماما ثقة صدوقا، فقيها مناظرا غزير العلم، له المؤلفات المشهورة، توفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 169 وبغية الوعاة 2/ 86.
(3) نزهة الألباء في طبقات الأدباء 76.
(4) هو الحسن بن عبد الله بن سهل أبو هلال اللغوي العسكري، كان الغالب عليه الأدب والشعر، له كتاب صناعتي النظر والنثر مفيد جدا. معجم الأدباء 2/ 918 طبع كتابه بعنوان كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، بتحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم.
(5) هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج، كان أحد البلغاء، له كتاب نقد الشعر، وكتاب في الخراج وصناعة الكتابة، توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. معجم الأدباء 5/ 2235 طبع كتابه نقد الشعر بتحقيق كمال مصطفى.
(6) في ح: ولهذا.

(1/31)


ويجوز الفصل (1).
قوله: (يحتوي) في الصحاح: حواه يحويه جمعه، واحتوى مثله، واحتوى على الشيء أَلْمَأ - يعني اشتمل - عليه (2).
قوله: (صفوة) في الصحاح: صفوة الشيء خالصه، مثلث الصاد، فإذا أسقطت التاء قيل: صفو، بالفتح لا غير (3).
قوله: (وينطوي) بمعنى يحتوي.
قوله: (نكت) جمع نكتة.
قال الشيخ سعد الدين: النكتة. كل نقطة من بياض في سواد، أو عكسه. ونكت الكلام لطائفه ودقائقه التي تفتقر إلى تفكر. ونَكَت في الأرض، أي ضرب فيها بالقضيب إذا أثّر فيها (4).
قوله: (رائعة) بمهملة، من راعني الشيء، أي أعجبني.
قوله: (وأماثل) في الصحاح: أماثل القوم خيارهم، وقد مثُل الرجل بالضم مثالة، أي صار فاضلا (5)، والواحد أمثل.
قوله: (يثبطني) يقال: ثبطه عن الأمر تثبيطا، شغله عنه.
قوله: (فسنح) بمهملتين بينهما نون. في الصحاح: سنح لي رأي في كذا، أي عرض (6).
__________
(1) حاشية سعد الدين ل6.
(2) الصحاح/ مادة حوا.
(3) الصحاح/ مادة صفا.
(4) حاشية سعد الدين 5.
(5) الصحاح/ مادة مثل.
(6) الصحاح/ مادة سنح.

(1/32)


قوله: (سورة فاتحة الكتاب)
قال الشيخ أكمل الدين: الفاتحة في الأصل إمّا مصدر كالعافية، سمي بها أوّل ما يفتتح به الشيء، من باب إطلاق المصدر على المفعول، والتاء للنقل إلى الاسمية، كما في " النطيحة " وإمّا صفة والتاء للمبالغة، كما في " راوية " نقلت إلى أوّل ما يفتتح به، على معنى الباعث للفتح. قيل: وهذا أشبه؛ لأن " فاعلة " في المصادر قليل.
وإضافتها إلى الكتاب بمعنى " من "؛ لأن أوّل الشيء بعضه، ثم جعلت علَماً للسورة المعيّنة؛ لأنها أوّل الكتاب المعجز. وقد تستعمل غير مضافة، إما اختصارا لعدم اللبس، وإما أن تكون علما لمضاف على سبيل الغلبة (1).
وقال الشيخ سعد الدين: فاتحة الشيء أوله، وخاتمته آخره، إذ بهما الفتح والدخول في الأمر، والختم والخروج منه.
ولعدم اختصاصها بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية دون تأنيث الموصوف في الأصل.
ولكون أَوّلِ الشيءِ بعضَهُ والمضافِ إليه كلَّه، لا سيما الكتاب المفتتح بالتحميد المختتم بالاستعاذة، فإنه هو المجموع الشخصي، لا المفهوم الكلي الصادق على الآية والسورة = كانت الإضافة بمعنى اللام، كما في جزء الشيء، دون " من " كما في " خاتم حديد ".
وقد يتوهم أن كل ما هو جزء من الشيء فإضافته إليه بمعنى " من " كأنهار دجلة، وفساده بيّن (2).
وقال الشريف الجرجاني: قال صاحب الكشف (3): الإضافة في فاتحة الكتاب
__________
(1) حاشية أكمل الدين 7.
(2) حاشية سعد الدين ل7.
(3) هو عم بن عبد الرحمن بن عمر سراج الدين الفارسي الغزويني، كان له حظ وافر من العلوم، سيما العربية، له الكشف على الكشاف، توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة. شذرات الذهب في أخبار من ذهب 8/ 249 والأعلام 5/ 49 انظر الكشف على الكشاف ل5 نسخة مخطوطة أصلية بجامعة أم القرى برقم 2699.

(1/33)


بمعنى " من "؛ لأن أول الشيء بعضه.
وردّ عليه بأن البعض قد يطلق على ما هو فرد من الشيء، كما يقال: زيد بعض الإنسان، وعلى ما هو جزء له، كما يقال: اليد بعض زيد، وإضافة الأوّل إلى الشيء بمعنى " من "، دون الثاني، ومن ثمّ اشترط في الإضافة بمعنى " من " كون المضاف إليه جنسا للمضاف صادقا عليه، وجعل " من " بيانية كخاتم فضة (1).
فإن قلت: لعلّه يجعل الكتاب بمعنى القدر المشترك الصادق على سورة الحمد، وغيرها، أي فاتحة هي الكتاب.
قلت: يأباه أن كونها فاتحة وَأَوَّلاً إنما هو بالقياس إلى مجموع المنزل، لا القدر المشترك.
فإن قلت: جوّز صاحب " الكشاف " في سورة لقمان الإضافة بمعنى " من " التبعيضية، وجعلها قسيمة للإضافة بمعنى " من " البيانية، حيث قال:
معنى إضافة اللهو إلى الحديث التبيين، وهي الإضافة بمعنى " من " كقولك: باب ساج.
والمعنى من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث، ومن غيره، فبيّن بالحديث.
والمراد بالحديث المنكر كما جاء في الحديث " الحديث في المسجد يأكل الحسنات (2) "
ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى " من " التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث، الذي اللهو منه (3).
فنقول -على التقدير الثاني-: إن أريد بالحديث مطلقه كان جنسا للهو منه، صادقا عليه كما يصدق عليه الحديث المنكر، فتكون الإضافة بيانية، ولا مقابلة،
__________
(1) في ح زيادة جملة هنا: وإضافة الثاني إليه بمعنى اللام كيد زيد.
(2) بيض للحديث الحافظ جمال الدين الزيلعي في كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف 2/ 57 وساقه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 6/ 294 في الفصل الذي جمع فيه أحاديث إحياء علوم الدين التي لم يحد لها إسنادا.
وقال الحافظ العراقي: لم أقف له على أصل. المعنى عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الآثار 1/ 107.
(3) الكشاف 3/ 229.

(1/34)


وإن أريد بالحديث العموم والاستغراق كان لهو الحديث جزءا منه، فقد ثبت إضافة الجزء إلى كلّه، بمعنى " من " التبعيضية وإن كانت غير مشهورة.
قلت: الظاهر أن المراد مطلق الحديث، لكنه دقق النظر في إضافة الشيء إلى ما هو صادق عليه، فما كان فيه المضاف إليه يحسن جعله بيانا وتمييزا للمضاف كالساج للباب، والحديث المنكر للهو جعلها بيانية، وما لم يحسن ذلك فيه كالحديث المطلق للهو جعلها تبعيضية ميلا إلى جانب المعنى.
ثم قال: ولما كانت تسمية هذه السورة بفاتحة الكتاب ظاهرة لم يتعرّض لها، بخلاف تسميتها ب " أم القرآن "، وسائر الأسماء، فتعرّض (1). لبيانها " انتهى.
قوله: (وتسمى أمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه)
توجيه تسميتها بذلك ذكره أبو عبيدة (2) في مجازه، وجزم به البخاري في صحيحه، وعبارته: لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، وبقراءتها في الصلاة قبل السورة (3).
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: وقد استشكل بأن ذلك يناسب تسميتها فاتحة الكتاب، لا أم القرآن.
وأجيب بأن ذلك بالنظر إلى أن الأمّ مبدأ الولد (4).
قلت: وهو معنى قول المصنّف: (فكأنها أصله ومنشؤه)
قال الماوردي (5): سميت بذلك لتقدمها وتأخر ما سواها تبعا لها؛ لأنها أمّته، أي تقدمته، ولهذا يقال لراية الحرب: أُمٌّ؛ لتقدمها واتباع الجيش لها.
وقد سألني بعض الأفاضل عن قوله: (لأنها مفتتحه ومبدؤه) هل المراد من
__________
(1) حاشية الشريف 1/ 22.
(2) هو معمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي البصري النحوي العلامة، قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه، وهو أول من صنف في غريب الحديث، له مجاز القرآن، توفي سنة تسع ومائتين. إنباه الرواة على أنباه النحاة 3/ 276 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 294 وانظر في: مجاز القرآن 1/ 20.
(3) صحيح البخاري 4/ 1623.
(4) فتح الباري 8/ 195.
(5) هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي، كان من وجوه الفقهاء الشافعيين، توفي سنة خمسين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 5/ 267 وطبقات المفسرين 1/ 421 وانظر في: النكت والعيون 1/ 49.

(1/35)


اللفظين واحد، وكذا عن قوله: (فكأنها أصله ومنشؤه) أم متغايران؟
فقلت: يحتمل الاتحاد في الموضعين على ما جرت به عادة البلغاء في الخطابات، ويحتمل التغاير، وإليه تشير عبارة أبي عبيدة السابقة، فكان المراد بـ " مفتتحه " أنها يفتتح بها المصاحف كتابة، وبـ " مبدئه " أنها يبدأ بها في الصلاة قراءة أو يراد بـ " المفتتح " ما ذكر، وبـ " المبدإ " أنها بدئ بها في النزول، وعلى هذين يحتمل الاتحاد في قوله: (فكأنها أصله ومنشؤه) لصلاحية ذلك للأمرين، مع تقارب ما بين الأصل والمنشأ، ويحتمل التغاير، ويكون من باب اللف والنشر المرتب، فليتأمل.
قوله: (أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله تعالى، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده)
قال القاضي بهاء الدين ابن عقيل (1) في تفسيره: بسط هذا أن آيات القرآن العظيم لا تخلو عن أحد أمور ثلاثة:
الثناء على الله تعالى، والتكليف، والحث على الطاعة، وكل من هذه الثلاثة على قسمين:
فالثناء يكون بالرأفة والرحمة، والجبروت والعظمة، والتكليف يكون بالأمر والنهي، والحث بالوعد والوعيد.
وأهمّ المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل التكليف بالإيمان وفروعه؛ لما فيه من مصالح العباد وانتظام العالم، فهو كالمقصود لذاته، وكل من القسمين الأخيرين (2) إنما جيء به لأجله، فالثناء بالرحمة والرأفة والحث بالوعد مرغبان في المأمور به، والثناء بالجبروت والعظمة والحث بالوعيد محذران عن المنهي عنه.
ولذلك وسط المصنّف - كالزمخشري - التعبد بالأمر والنهي، فأوقع ما هو كالمقصود لذاته مُكتَنَفاً بالأمرين المسبوقين لتقريره.
__________
(1) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل بهاء الدين، قال أبو حيان ما تحت أديم السماء أنحى من ابن عقيل، له تصانيف منها التفسير، وصل إلى أواخر سورة آل عمران، وله آخر مختصر لم يكمله، سماه بالتعليق الوجيز على الكتاب العزيز، توفي سنة تسع وستين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 3/ 42 وطبقات المفسرين 1/ 233.
(2) في ح: الآخرين.

(1/36)


وهكذا وقع الترتيب في الفاتحة، قدم فيها الثناء، وهو من أولها إلى قوله (يوم الدين)
ووسط الدال على التكليف، وهو من قوله (إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين) إلى قوله (المستقيم) وأتى بعد ذلك بالدال على الحث، وهو من قوله (صراط الذين أنعمت عليهم) إلى آخرها.
قال: وفي الفاتحة لطيفة أخرى، وهي تقديم الدالِّ على الرحمة، وهو (الرحمن الرحيم) على الدالُّ على الجبروت، وهو (مالك يوم الدين) وتقديم الدالّ على الوعد، وهو (أنعمت عليهم) على الدالّ على الوعيد، وهو (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) لأن الترغيب أبعث للنفوس، ولأن رحمته تعالى سبقت غضبه. انتهى.
الشيخ أكمل الدين: أما الثناء فمن قوله (الحمد لله) إلى (مالك يوم الدين) وأما الأمر فمن قوله (إيَّاك نعبد) فإن العبادة ما يكون مأمورا به.
وردّ بأنها إذا كانت أول منزل لم يسبق أمر.
وأجيب -على تقدير تسليم أوليتها- أن رأس العبادة التوحيد، وفي إجراء الصفات الكمالية على الله تعالى في صدر السورة ما يرشد إلى ذلك، لا سيما وقد سبقها تكليف النبي صلى الله عليه وسلّم بالتوحيد، وتبليغ السورة، ويكفي ذلك في السبق.
ومن الناس من قال: الأمر مستفاد من قوله تعالى (الحمد لله) فإن معناه إحماد الغير، أي جعله حامدا.
وأما النهي فقد قيل: إنه مستفاد من قوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأن معناه نستعينك في الاجتناب عما نهيت عنه.
وردّ بأنه يقتضي نهيا سابقا ولم يكن، وتنزيل جواب الأمر المتقدم على النهي متكلف (1).
وقيل: إنه مستفاد من قوله تعالى (الحمد لله) إذا كان معناه احمدوا؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وإن وقع الاختلاف في كيفية ذلك.
وأمّا الوعد والوعيد فقوله (أنعمت عليهم) يتضمن الوعد، وقوله (غير
__________
(1) في ح: بتكلف.

(1/37)


المغضوب عليهم) يتضمن الوعيد.
قال: ويجوز أن يقال: وجه اشتمالها على ذلك أن ما في القرآن كله إما أن يكون متعلقا بالألوهية خاصة، أو العبودية كذلك، أو جامعا بينهما، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: " إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله تعالى: مجدني عبدي " وهذا كله ثناء يتعلّق بالألوهية.
ثم قال: " وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي " وهذا كما ترى دخل فيه الأمر والنهي؛ لأن فيها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، فالأمر والنهي من جانب الله تعالى، والامتثال والاجتناب من جانب العبد.
ثم قال: " وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخره، قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " (1) يعني ما يشير إلى الوعد والوعيد (2). انتهى.
الشريف: أما الثناء أعني إجراء صفات الله تعالى فظاهر، وأما التعبد فقوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإن العبادة قيام العبد بحق العبودية وما تعبد به من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، أو في قوله (الصراط المستقيم) إذا أريد به ملة الإسلام المشتملة على الأحكام، أو في قوله (يوم الدين) أي الجزاء، فإنه يتناول الثواب والعقاب.
والوجه في انحصار مقاصد الكتاب المجيد في الأصول الثلاثة: أن القرآن أنزل إرشادا للعباد إلى معرفة المبدإ والمعاد ليعرفوا حق المبدإ بامتثال ما أمر ونهى، ويدخروا بذلك للمعاد مثوبة كبرى.
وبعبارة أخرى: أنزل القرآن كافلا لسعادة الإنسان، وذلك بأن يعرف مولاه، ويتوصل إليه بما يقرّب منه، ويتنصل عما عداه مما يبعده عنه، ولابد في التوصل من باعث هو الوعد، وفي التنصل من زاجر هو الوعيد، ولولاه هنا لاستقر الكسل
__________
(1) رواه الإمام مالك في الموطأ 1/ 136 ح 224 ومسلم1/ 296 ح 38 وأبو داود 1/ 520 ح817 والترمذي 5/ 67 ح2953 والنسائي 2/ 163 ح909 وابن ماجة 3/ 586 ح3852 من حديث أبي هريرة.
(2) حاشية أكمل الدين ل7.

(1/38)


الطبيعي على النفوس، وتسلط عليها دواعي الهوى، وحجبت عن حضرة النور بظلمات بعضها فوق بعض.
وقد يظن أن هاهنا مقصدا رابعا: هو الدعاء والسؤال في قوله تعالى (اهدنا الصراط) ويجاب بأنه متفرعّ على ما ذكر، فإن المعتد به من الدعاء ما كان في أمر الآخرة أو أداء الطاعة وترك المعصية.
لا يقال: كثير من السور تشتمل على هذه المعاني ولم تسم أم القرآن؛ لأنا نقول: لما كانت هذه السورة متقدمة على سائر السور وضعا، بل نزولا -على قول الأكثر (1) - وكانت مشتملة على تلك المعاني مجملة على أحسن ترتيب، ثم صارت مفصلة في السور ثانية نزلت منها منزلة مكة من سائر القرى، حيث مهدت أرضها أولا، ثم دحيت الأرض من تحتها، فكما أن مكة أم القرى كذلك الفاتحة أم القرآن (2)، على أن ما ذكرناه وجه التسمية، ولا يجب اطراده (3). انتهى.
قوله: (والتعبد) الأساس: تعبدني فلان: صيرني كالعبد له، وتعبّد فلان تنسك (4)، وعدّي بالباء، لتضمنه معنى التكليف، أي كلّفه بالأمر والنهي تعبدا، أي بالمأمور والمنهي، ويجوز أن تكون كالباء كما في كتبت بالقلم، والأمر والنهي على حقيقتهما (5).
قوله: (أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء)
هذا تعليل ثالث لتسميتها أم (6) القرآن مزيد على الكشاف.
وبسطه -على ما ذكره الطيبي- أنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم، هي مناط الدين:
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر: قال صاحب الكشاف (4/ 270) ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن سورة اقرأ سورة نزلت، وأكثر المفسرين إلى أن سورة نزلت فاتحة الكتاب. كذا قال! والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. فتح الباري 8/ 714 وانظر في: الإتقان 1/ 97.
(2) انظر في: جامع البيان 1/ 108.
(3) حاشية الشريف 1/ 23.
(4) أساس البلاغة/ مادة عبد.
(5) انظر في: فتوح الغيب 1/ 67.
(6) في ح: بأم.

(1/39)


أحدها علم الأصول، ومعاقده معرفة الله تعالى وصفاته، وإليها الإشارة بقوله (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) ومعرفة النبوات، وهي المرادة بقوله (أنعمت عليهم) ومعرفة المعاد، وهو المومأ إليه بقوله (مالك يوم الدين)
ثانيها: علم الفروع وأسه العبادات، وهو المراد بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)
ثالثها: علم التصوف (1)، وأجله الوصول إلى الحضرة والسلوك لطريقة
__________
(1) برز هذا الاسم كمصطلح في القرن الثاني الهجري -حسب علمي- ولم يتفق له على معنى، ولا على اشتقاق، وأدخل في مفهومه بعض مقامات الدين، مما عرف الاعتناء به والاهتمام من قبل بعض رجال القرون الفاضلة، كالزهد والورع والصبر على أوامر الله وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضا به وعنه، والإخبات إليه، والتوكل عليه، والمراقبة له، والرجاء له، وأدخل في مفهومه أيضاً كثير من الاعتقادات الباطلة، والسلوكيات الفاسدة، وكلما تأخر بالتصرف والصوفية الزمن كلما اتسعت مفاهيمه، حتى أصبح ثوبا فضفاضا يستع لكل لابسه من ملحد ماكر، أو حلواني زائغ.
فإن كان المقصود بالتصوف تلك المقامات من مقامات الدين فلا إنكار في المعنى، ولا بدعة، وإنما يبقى الاختلاف في اللفظ، فبعض الناس يسميها تصوفا، وبعض آخر يسميها بأسمائها من الزهد والورع.
وعلى ذلك فمن نسب إلى التصوف، وسلم من الاعتقادات الفاسدة، والعبادة الكاسدة، والتصورات الخاطئة فهو من أهل السنة والاستقامة ولا يضره أن ينسب إلى التصوف ويلصق به، ككثير من الزهاد في القرن الثاني والثالث أمثال أويس بين عامر القرني، وهرم بن حيان، وإبراهيم بن أدهم، وفضيل بن عياض، وأمثالهم، وقد نسب إلى التصوف بهذا المعنى هؤلاء وأمثالهم من خيرة الصالحين.
وإن كان المقصود به ما أدخله أهله في مفهومه من الضلالات العقدية، والانحرافات السلوكية فلا كرامة في اللفظ، ولا في المضمون.
وعلى ذلك يحمل ما ورد عن أئمة السنة في ذم التصوف والصوفية، فمن ذلك ما رواه أبو بكر أحمد بن محمد الخلال موجزا في كتابه: الحث على التجارة والصناعة والعمل والإنكار على من يدعي التوكل في ترك العمل 75، وفصله القاضي عياض في ترتيب المدارك 2/ 53 قال التنيسي: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: عندنا قوم يقال لهم: الصوفية، يأكلون كثيرا، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون، فقال مالمك: أ صبيان هم؟ قال: لا، قال: أ مجانين هم؟ قال: لا، هم قوم مشايخ، وغير ذلك، عقلاء، فقال مالك: ما سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا.
ومن ذلك أيضا ما رواه أبو بكر الخلال في الحث على التجارة 72 قال إسحاق بن داود بن صبيح: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: يا أبا سعيد إن ببلدنا قوما من هؤلاء الصوفية، قال: لا تقرب هؤلاء، فإنا رأينا من هؤلاء قوما، فبعضهم أخرجهم الأمر إلى الجنون، وبعضهم=

(1/40)


الاستقامة، وإليه الإشارة بقوله (اهدنا الصراط المستقيم)
رابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة والقرون الخالية، السعداء منهم والأشقياء، وما يتصل بها من وعد محسنهم، ووعيد مسيئهم، وهو المراد بقوله (أنعمت عليهم) إلى آخر السورة (1).
وللإمامين الغزالي (2) والرازي (3) في تقرير اشتمالها على علوم (4) القرآن كلامان آخَران ذكرتهما في " الإتقان " وفي " أسرار التنزيل " وبينت فيه وجه الجمع بين ذلك، وبين حديث " إنها ثلثا القزآن (5) "
فليطلب (6) منه (7) (8).
__________
=أخرجهم إلى الزندقة.
وما رواه أيضا 75 عن عبد الله بن المبارك قال: ما رأينا أحدا منهم عاقلا، يعني الصوفيين.
وما رواه أيضا البيهقي في مناقب الشافعي 2/ 207 عن يونس بن عبد الأعلى يقول: سمعت الشافعي يقول: لو أن رجلا تصوف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق.
وما رواه أيضاً 2/ 207 قال الشافعي: لا يكون الصوفي صوفيا حتى يكون فيه أربع خصال: كسوال، أكول، نؤوم، كثير الفضول.
وإذا كان الأمر كذلك فمن البعد عن الحقيقة والواقع وإطلاق القول على عواهنه أن يقال: إن التصوف مقتبس من الفاتحة.
(1) انظر المصدر السابق 1/ 67.
(2) انظر في: جواهر القرآن 93.
(3) هو محمد بن عمر بن حسين فخر الدين الرازي، خاض من العلوم في بحار عميقة، توفي على طريقة حميدة سنة ست وستمائة. سير أعلام النبلاء 21/ 500 وطبقات الشافعية الكبرى 8/ 18 وانظر في: التفسير الكبير 1/ 173.
(4) في د، ق: معاني.
(5) رواه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب 1/ 573) من حديث ابن عباس. ضعف السيوطي سنده في الدر المنثور في التفسير المأثور 1/ 15.
(6) في ح: فيطلب.
(7) انظر في: الإتقان في علوم القرآن 2/ 1136 وقطف الأزهار في كشف الأسرار 1/ 105.
(8) وللإمام ابن القيم في مدارج السالكين 1/ 43 استنباط ظريف، واستخراج لطيف، حيث رجع مطالب الدين كلها إلى الفاتحة بأسلوب ماتع، وتقرير جامع، دون التواء مانع، وتكلف قاطع قال: اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن: فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها، وهي: الله، والرب، والرحمن،=

(1/41)


قوله (وسورة الكنز، والوافية، والكافية لذلك)
أي لاشتمالها على معاني القرآن.
وقيل: إنما سميت الوافية لأنها لا تقبل التنصيف في الصلاة، بخلاف غيرها. قاله الثعلبي (1).
وقيل: لأنها جمعت بين ما لله وبين ما للعبد. قاله المرسي (2).
وقيل: إنما سميت كافية لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها.
وقال الشيخ أكمل الدين: سميت سورة الكنز لما رويناه عن عليّ رضي الله عنه (3).
قلت: يشير إلى ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عليّ رضي الله
عنه أنه سئل عن فاتحة الكتاب فقال: حدثنا نبي الله صلى الله عليه وسلّم أنها
أنزلت من كنز تحت العرش (4).
__________
=وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة، فإياك نعبد مبني على الإلهية، وإياك نستعين على الربوبية، وطلب الهداية إلى صراط مستقيم بصفة الرحمة، والحمد يتضمن الأمور الثلاثة، فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته، والثناء والمجد كمالان لحمده.
وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، حسنها وسيئها، وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل، وكل هذا تحت قوله مالك يوم الدين، وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة.
ثم أخذ يفصل هذه الجمل، ويوضح هذه المطالب في الكتاب كله، فما أوضح أسلوبه، وما أكثر فرائده، وما أبعده عن التعقيد!
(1) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري الثعلبي، كان أوحد زمانه في علم القرآن، له الكشف والبيان عن تفسير القرآن، توفي سنة ست وعشرين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 4/ 58 وطبقات المفسرين 1/ 65.
(2) هو محمد بن عبد الله بن محمد شرف الدين المرسي، كان محدثا فقيها، صنف تفسيرا حسنا، توفي سنة خمس وخمسين وستمائة. طبقات الشافعية الكبرى 8/ 69 وطبقات المفسرين 2/ 168 والإتقان 2/ 153.
(3) حاشية أكمل الدين ل7.
(4) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر 14/ 429 حدثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو زيد عبثر، عن العلاء بن المسيب، عن فضيل بن عمر، عن علي، ورواه الثعلبي في الكشف والبيان عن تفسير القرآن 1/ 418 وعنه الواحدي في أسباب=

(1/42)


قوله: (وسورة الحمد، والشكر، والدعاء، وتعليم المسألة لاشتمالها عليها)
على أي الأمور المذكورة، الحمد وما بعده.
قوله: (والصلاة) أي ومن أسمائها. سورة الصلاة، فيكون مجرورا معطوفا على الحمد وما بعده، ويجوز أن يكون مراده أن من أسمائها الصلاة من غير تقدير سورة، وهو قول ذكره بعضهم، لحديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي "
قال المرسي: لأنها من لوازمها، فهو من باب تسمية الشيء باسم لازمه، فيكون منصوبا معطوفا على سورة والأوّل هو الذي في الكشاف (1).
قوله: (لوجوب قراءتها، أو استحبابها فيها)
" أو " لتنويع الخلاف بين الأئمة في ذلك، فإن الوجوب مذهب الشافعي (2) رحمه الله، والاستحباب مذهب أبي حنيفة (3) رحمه الله.
قوله (والشفاء، والشافية لقوله: " هي شفاء لكل داء ")
أخرجه الدارمي (4) في مسنده، والبيهقي (5) في شعب الإيمان بسند صحيح من
مرسل عبد الملك بن عمير (6) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في
__________
=نزول القرآن 17 من طريق مروان بن معاوية، كلاهما (عبثر، ومروان) عن العلاء بن المسيب. وعند الثعلبي زيادة ... بمكة.
ورجال إسحاق بن راهويه رجال الشيخين ما عدا فضيلا فإنه من رجال مسلم، غير أن في السند انقطاعا، فإن فضيلا لم يلق أحدا من الصحابة. انظر في: جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي 252 وتحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل لأبي زرعة العراقي 409 قال الشيخ الألباني: ضعيف. ضعيف الجامع الصغير 576.
(1) الكشاف 1/ 24.
(2) انظر في: الأم 2/ 154.
(3) انظر في: كتاب الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن 1/ 106.
(4) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل أبو محمد الدارمي التميمي السمرقندي، أظهر علم الحديث والآثار بسمرقند، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين, تهذيب الكمال في أسماء الرجال 15/ 210 وسير أعلام النبلاء 12/ 224.
(5) هو أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي: كان أحد أئمة المسلمين، وهداة المؤمنين، توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 4/ 8 وسير أعلام النبلاء 18/ 313.
(6) هو عبد الملك بن عمير بن سويد أبو عمر القرشي، كان سفيان الثوري يعجب من حفظ عبد الملك، توفي سنة ست وثلاثين ومائة. تهذيب الكمال 18/ 370 وسير أعلام النبلاء 5/ 438.

(1/43)


فاتحة الكتاب: " شفاء من كل داء " (1)
وأخرج أحمد في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن جابر (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له: " ألا أخبرك بأخير سورة نزلت في القرآن، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاتحة الكتاب، وأحسبه قال: فيها شفاء من كل داء (3) "
وأخرج الثعلبي من طريق معاوية بن صالح (4)، عن أبي سليمان (5) قال: مرّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في بعض غزواتهم على رجل قد صرع، فقرأ بعضهم في أذنه بأم القرآن، فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " هي أم القرآن، وهي شفاء من كل داء (6) ".
وفي سنن سعيد بن منصور، وشعب الإيمان للبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: " فاتحة الكتاب شفاء من السُّمِّ (7) "
وأخرجه أبو الشيخ ابن حيّان (8) في " الثواب " من حديث أبي سعيد، وأبي
__________
(1) رواه الدارمي في مسنده 4/ 2122 ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان 2/ 450.
(2) هو عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي، ذكره البخاري في الصحابة، وقال ابن حبان: له صحبة. التاريخ الكبير للبخاري 5/ 22 والإصابة في تمييز الصحابة 4/ 33.
(3) رواه أحمد في مسنده 29/ 139 والبيهقي في شعب الإيمان 2/ 450. جواد السيوطي سنده في الدر المنثور 1/ 14.
(4) هو معاوية بن صالح بن حدير أبو عمرو مخضرم، روي عنه الليث بن سعد وهو في سند الثعلبي وهو ثقة، توفي سنة ثلاث وستين ومائتين. تهذيب الكمال 28/ 186 وسير أعلام النبلاء 7/ 158.
(5) لعله المترجم له في كتاب الكنى للبخاري 9/ 37 وكتاب الجرح التعديل لابن أبي حاتم 9/ 379 أبو سليمان روى عن أبي هريرة، روى عنه معاوية بن صالح.
(6) رواه الثعلبي في الكشف والبيان 2/ 615.
(7) رواه سعيد بن منصور في سننه 2/ 535 ومن طريقه الثعلبي في الكشف والبيان 1/ 424 والبيهقي في شعب الإيمان 2/ 450 ورواه الثعلبي 2/ 614 من طريق أبي عمر الحوضي 2/ 614 كلاهما (سعيد بن منصور، وأبو عمر الحوضي) عن سلام الطويل، عن زيد العمي، عن ابن سيرين، عن أبي سعيد الخدري. وفي سنده سلام الطويل، قال الحاف ابن حجر عنه: متروك. التقريب 425 وقال الشيخ الألباني: موضوع. ضعيف الجامع الصغير 576.
(8) هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أبو محمد المعروف بأبي الشيخ، كان أحد الأعلام، صنف الأحكام، والتفسير، له كتاب ثواب الأعمال في خمس مجلدات، يروي عنه أنه قال: ما عملت فيه حديثاً إلا بعد أن استعملته، توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 16/ 276 وطبقات المفسرين 1/ 240.

(1/44)


هريرة معا.
قوله: (والسبع المثاني؛ لأنها سبع آيات بالاتفاق)
هو تعليل للسبع فقط، ويأتي تعليل المثاني.
وما ذكره من الاتفاق قد يعترض عليه بما ذكره حسين الجعفي (1): أنها ست آيات بإسقاط البسملة.
وعن الحسن البصري، وعمرو بن عبيد (2) أنها ثمان، بعد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وعن بعضهم أنها تسع بعدّها، وعدّ (أنعمت عليهم) إلا أنها أقوال شاذة، لا يعتد بها.
الشريف: المثاني جمع مُثَنَّى، على صيغة المفعول من التثنية مردَّدٌ ومكرر، ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية، أو مَثْناة مفعلة من الثَنْي (3).
* * *
فائدة (4): ليس في القرآن سورة هي سبع آيات سوى " الفاتحة "، و " أرأيت " ولا ثالث لهما.
قال جعفر بن أحمد بن الحسين السرّاج البغدادي (5) في أرجوزته التي نظم فيها النظائر.
فَسُوْرَةُ الحَمْدِ لَهَا نَظِيْرَهْ. . . أَرَأَيْتَ إِنْ أَنْتَ قَرَأْتَ السُّوْرَه
كلاهما إذا عددتَّ سبعُ. . . وليس للحق اليقين دفعُ (6)
قوله: (إلا أن منهم من عدّ التسمية، دون (أنعمت عليهم) (7) ومنهم من عكس)
__________
(1) هو حسين بن علي بن الوليد أبو عبد الله الجعفي، الإمام القدوة الحافظ المقرئ، توفي سنة ثلاث ومائتين. سير أعلام النبلاء 9/ 397 وتهذيب الكمال 6/ 449.
(2) هو عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري، الزاهد العابد القدري، كبير المعتزلة، توفي سنة أربع وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 104 وغاية النهاية في طبقات القراء 1/ 602.
(3) حاشية الشريف 1/ 24.
(4) في ح: تبنيه.
(5) هو جعفر بن أحمد بن الحسين أبو محمد السراج البغدادي القارئ، كان عالما بالقراءات والنحو واللغة، كثير التصنيف، توفي سنة خمسمائة. سير أعلام النبلاء 19/ 288 وبغية الوعاة 1/ 485.
(6) أرجوزة في نظائر القرآن العظيم ل20 نسخة مكتبة بلدية الإسكندرية، ومنها نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 1143.
(7) انظر في: البيان في عد آي القرآن، لأبي عمرو الداني 139.

(1/45)


أي عدّ (أنعمت عليهم) كما عبّره في الكشاف (1)
قال الشيخ أكمل الدين: وظاهره ليس بمراد؛ لأن (أنعمت عليهم) ليس بآية بالاتفاق، وإنما المراد (أنعمت عليهم) مع قوله (صراط الذين) لأنه صلة (الذين) وقد أضيف إليه (صراط) فاستغنى به عن ذكرهما (2).
وكذا قال الشريف: أراد (صراط الذين أنعمت عليهم) إلا أنه اختصر لظهور أن الصلة بدون الموصول، والمضاف إليه بدون المضاف لا يعدّ آية؛ لأن الكل في حكم كلمة واحدة (3).
قال الطيبي: قال في " المرشد (4) ": إن وقفت على (أنعمت عليهم) كان آخر آية على مذهب أهل المدينة والبصرة، وهو جائز، وليس بحسن؛ لأن (غير) مجرورا متعلّق به على الوصفية، أو البدلية، ومنصوبا على الحالية، أو الاستثنائية.
وجوازه إنما يكون بالخبر المروي أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقف عند أواخر الآيات، وهذا آخر آية عند من ذكرت، فهذا وجه جوازه (5).
قال الطيبي: وعدّ التسمية أولى؛ لأن (أنعمت عليهم) لا يناسب وزانه وزان فواصل السور، ولما روى البغوي (6) في " شرح السنة " عن ابن عباس أنه قال: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الآية السابعة (7) "
__________
(1) الكشاف 1/ 24.
(2) حاشية أكمال الدين ل7.
(3) حاشية الشريف 1/ 24.
(4) المرشد: كتاب في الوقف والابتداء، للمقرئ الحسن بن علي بن سعد أبي محمد العماني، قال ابن الجزي: له في الوقوف كتابان: أحدهما: ... والآخر: المرشد، وهو أتم منه وأبسط، أحسن فيه وأفاد. غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 223 وكشف الظنون 2/ 1654.
(5) كتاب المرشد في الوقف ل18 نسخة المتحف البريطاني، ولدى صورة منها.
(6) هو الحسن بن مسعود بن محمد محيي السنة أبو محمد البغوي الشافعي المفسر، كان سيدا إماما، عالما علامة، زاهدا قانعا بالسير، توفي سنة ست عشرة وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 19/ 439 وطبقات الشافعية الكبرى 7/ 75.
(7) رواه الشافعي في المسند 79 ومن طريقه البغوي في شرح السنة 3/ 50 من طريق عبد المجيد، والطبري في جامع البيان 14/ 55 من طريق يحيى الأموي، والحاكم في المستدرك 2/ 257 من طريق حفص بن غياث، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 44 من طريق حجاج بن محمد الأعور، وحفص بن غياث، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 200 من طريق أبي عاصم،=

(1/46)


قلت: ورواه الدارقطني (1)، والبيهقي عن عليّ (2) وأبي هريرة (3) أيضاً.
ورواه الطبراني، والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا.
وقال أبو عبد الله نصر بن علي الشيرازي (4) في كتابه " الموضح ": ليس قول
__________
=كلهم (عبد المجيد، ويحيى وحفص، وحجاج، وأبو عاصم) عن ابن جريح عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وصحح السيوطي سنده في الإتقان 1/ 246 وفي التصحيح نظر، فإن في سنده عبد العزيز بن جريج، قال الحافظ بن حجر عنه: لين، التقريب 611.
(1) هو علي بن عمر بن أحمد أبو الحسن الدارقطني، كان من بحور العلم، ومن أئمة الدنيا، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 16/ 449 وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 462.
(2) رواه الدارقطني في السنن 1/ 313 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 45 من طريق أسباط بن نصر، عن السدي، عن عبد خير، عن علي موقوفا. صحح السيوطي سنده في الدر المنثور 1/ 12 وفي الإتقان 1/ 247.
قلت: أني له الصحة! وفي سنده أسباط بن نصر، قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق كثير الخطأ يغرب. التقريب 124 وفي سنده أيضا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق يهم، ورمي بالتشيع. التقريب 141 وانظر في: الجوهر النقي حاشية السنن الكبرى لعلاء الدين ابن التركماني 2/ 45.
(3) رواه الطبراني في المعجم الأوسط 5/ 208 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 45 من طريق علي بن ثابت الجزري، والدارقطني 1/ 312 من طريق أبي بكر الحنفي كلاهما عن عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا، قال أبو بكر الحنفي: ثم لقيت نوحا فحدثتني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة بمثله، ولم يرفعه.
ال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن نوح بن أبي بلال إلا عبد الحميد بن جعفر، تفرد به علي بن ثابت.
قلت: رواية أبي بكر الحنفي، عن عبد الحميد بن جعفر واردة عليه.
قال البيهقي: روي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا، والموقوف أصح.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الزائد 2/ 282 رجاله ثقات.
وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1183 وهذا إسناد صحيح مرفوعا وموقوفا، فإن نوحا ثقة، وكذا من دونه، والموقوف لا يعل المرفوع، لأن الراوي قد يوقف الحديث أحيانا، فإذا رواه مرفوعا وهو ثقة -فهو زيادة يجب قبولها منه.
(4) هو نصر بن علي بن محمد أبو عبد الله الشيرازي الفسوي، له كتاب في القراءات الثمان، سماه "الموضح" يدل على تمكنه في الفن. غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 337 وبغية الوعاة 2/ 314.

(1/47)


من قال (أنعمت عليهم) رأس آية بصحيح؛ لأنه ليس بمشاكل لآيات السورة، ولا مقارب لها، ومقاطع القرآن إما متشاكلة، أو متقاربة.
ثم إن الابتداء ب (غير) في أوّل الآية ليس بمستقيم (1).
وقال سليم الرازي (2): ليس في القرآن آية آخرها عليهم، خصوصا وما بعد (أنعمت عليهم) غير مستقل بنفسه.
قوله: (وتُثَنى في الصلاة) هذا تعليل للمثاني، أي تكرر فيها بأن تقرأ في كل ركعة.
وهو مراد الكشاف بقوله: " لأنها تثنى في كل ركعة " أي صلاة، كما فسره الطيبي، وأكمل الدين، وقالا: كما في قوله (واركعوا مع الراكعين) سورة البقرة 43] أي صلوا مع المصلين (3).
قال الشريف: تسمية للكل باسم الجزء.
قال: وهذه العبارة أعني لأثها تثنى في كل ركعة وردت في صحاح الجوهري (4)، ولعل فائدة المجاز المبالغة في أن كل صلاة فعلة واحدة، ركعة واحدة، وقد تعددت الفاتحة فيها فيتضح تكريرها زيادة إيضاح، وقيل: إنها تكرر في كل ركعة بالقياس إلى أخرى، ففي الثانية لوقوعها مرة في الأولى، وفي الأولى عند انضمام الثانية إليها.
قال: والأشبه أن يراد بيان محل التكرير، على أن الفاتحة مما تتكرر بحسب الركعة، لا بحسب أركانها كالطمأنينة، ولا بحسب كل صلاة كالتسليم، فإن تعددت الركعة تكررت الفاتحة، وإلاّ فلا. كأنه قيل: لأنها تُثَنى باعتبار تعدد الركعة.
قال: وهذا المعنى وإن كان واضخا في نفسه إلا أن دلالة هذه العبارة عليه في غاية الخفاء (5)
__________
(1) الموضح في وجوه علل القراءات ل26 - 27 نسخة مكتبة راغب باشا، ومنها نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 1009 التفسير.
(2) هو سليم بن أيوب بن سليم أبو الفتح الرازي، سكن الشام مرابطا، ناشرا للعلم احتباسا، له كتاب البسملة، توفي سنة سبع وأربعين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/ 645 وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 388.
(3) الكشاف 1/ 24 وفتوح الغيب 1/ 68 وحاشية أكمل الدين ل7.
(4) الصحاح/ مادة ثنى.
(5) حاشية الشريف 1/ 24.

(1/48)


قلت: وبسبب ذلك عدل المصنّف إلى عبارة أوضح، لكن صاحب الكشاف آثر العبارة الأولى؛ لأنها وردت في صحاح الجوهري كما أشار إليه الشريف، بل هي مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أخرجه ابن جرير في تفسيره بسند حسن عنه قال: " السبع المثاني فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة (1) "
وعادة الأئمة المصنفين اتباع اللفظ الوارد في الحديث والأثر تبركا به، وليحتمل من التأويل ما احتمله.
قوله: (أو الإنزال) تعليل ثان لتسميتها بالمثاني على تقدير أو ثنيت في الإنزال، إذ لا يصح العطف على تقدير الفعل الأوّل كما لا يخفى، وإنما دعاه إلى ذلك إرادة الإيجاز وسهله (2) وضوح المراد.
قوله: (إن صحت أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، وبالمدينة حين حولت القبلة) أشار بهذا التشكيك إلى أنه لم يثبت في ذلك حديث ولا أثر، وإنما هو شيء قاله بعض العلماء اجتهادا، والوارد (3) أنها نزلت بمكة أول بدء الوحي.
كذا أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنّف "، وأبو نعيم (4)، والبيهقي كلاهما في " دلائل النبوة (5) " من مرسل أبي ميسرة (6).
وقد علل كونها مثاني أيضاً بأنها مشتملة على الثناء على الله تعالى، وبأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة، فلم ينزلها على غيرها.
__________
(1) لم أر هذا اللفظ في جامع البيان عن عمر، ولكن رأيت فيه: ما لهم رغبة عن فاتحة الكتاب، وما يبتغي بعد المثاني 14/ 54.
(2) في ح: وسهولة.
(3) في ظ: إذ الوارد.
(4) هو أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو نعيم الأصبهاني، كان في وقته مرحولا إليه، ولم يكن في أفق من الآفاق أسند ولا أحف منه، توفي سنة ثلاثين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/ 453 وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 18.
(5) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 14/ 292 والبيهقي في دلائل النبوة 2/ 158 قال البيهقي: هذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه "اقرأ باسم ربك" و"يا أيها المدثر". وقال ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 24: هو مرسل، وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل.
(6) هو عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني، قال أبو وائل: ما اشتملت همدانية على مثل أبي ميسرة، توفي في ولاية عبيد الله بن زياد. سير أعلام النبلاء 4/ 135 وتهذيب الكمال 22/ 60.

(1/49)


فالأولان من التثنية، والثالث من الثناء، والرابع من الاستثناء.
وأقوى الأربعة الأوّل؛ لما تقدم عن عمر رضي الله عنه.
قال البلقيني في " كشافه ": وبعضهم يعبر بقوله: السبع من المثاني، ويفسر المثاني بالقرآن؛ لأن القصص تُثَنّى فيه وتكرر للإفهام.
قوله: (وقد صحّ أنها مكية)
قلت: أخرجه الواحدي (1)، والثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2)، وأخرجه أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " المصاحف " عن قتادة (3).
قوله: (لقوله تعالى (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) [سورة الحجر 88] وهو مكي بالنص) قلت: إن أرد نص المفسرين فقريب، إلا أنه غير المصطلح عليه في إطلاق النص، إذ لا يفهم منه عند الإطلاق إلا الكتاب والسنة، وليس فيهما ما يدلّ على مكيته.
وقد يجاب بأن ذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه (4)، وكلام الصحابي في القرآن -خصوصا في النزول- له حكم المرفوع، فجاز إطلاق النص عليه بهذا الاعتبار.
ثم استدلاله على أن الفاتحة مكية بآية الحجر لهج به الناس كثيرا، ولكن غيره ْأقوى منه؛ لأنه موقوف.
أولا: على تفسير السبع المثاني بالفاتحة، وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث (5) فقد صح أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره تفسيرها بالسبع
__________
(1) هو علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن الواحدي النيسابوري، صاحب التفسر، إمام علماء التأويل، صنف التفاسير الثلاثة، البسيط، والوسيط، والوجيز، وتوفي سنة ثمان وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/ 339 وطبقات الشافعية الكبرى 5/ 240.
(2) سبق تخريجه في ص42.
(3) هو قتادة بن دعامة بن قتادة أبو الخطاب السدوسي، حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، توفي سنة ثماني عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 269 وتهذيب الكمال 23/ 498.
(4) رواه أبو عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس في فضائل القرآن وما أنزل من القرآن بمكة وما أنزل بالمدينة 33 والبيهقي في دلائل النبوة 7/ 142 وانظر في: الإتقان في علوم القرآن 1/ 29 - 31.
(5) كحديث أبي سعيد بن المعلى ... "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته" رواه البخاري 4/ 1623 ح4204 وأبو داود 2/ 270 ح1452 والنسائي 2/ 139 ح913 وابن ماجة 3/ 587 ح3853.

(1/50)


الطوال (1).
وثانيا: -بعد ثبوت الأوّل- على أنه يمتنع الامتنان بالشيء قبل إيتائه.
وهذا وإن ذكره كثيرون ففيه نظر واضح، وأيّ مانع من تقدم الامتنان على الإيتاء تعظيما للمؤتى وتفخيما لشأنه؛ لتتشوف النفس إلى حصوله، ولتتلقى عند حصوله بغاية الإقبال والقبول ما كما امتنّ عليه بأمور قبل إيتائه إيَّاها (2)، كقوله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) [سورة الفتح 1] وذلك قبل حصول الفتح بسنتين، والتعبير بالماضي في المقيس والمقيس عليه تحقيقا للوقوع.
فالأولى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل.
تنبيهان:
الأوّل: حاصل ما ذكره المصنّف لها أربعة عشر اسما، وبقي من أسمائها عشرة أخرى: فاتحة القرآن، وأم الكتاب، والقرآن العظيم، والنور، وسورة الحمد الأولى، وسورة الحمد القصرى، والرقية، وسورة السؤال، وسورة المناجاة،
__________
(1) أخرج عنه أبو جعفر الطبري في جامع البيان 14/ 52 بسند صحيح، وقال 1/ 110 وليس في وجوب اسم السبع المثاني لفاتحة الكتاب ما يدفع صحة وجوب اسم الماني للقرآن كله، ومائتي المئين من السور، لأن لكل وجها ومعنى مفهوما لا يفسد بتسمية بعض ذلك بالمثاني تسمية غيره بها.
(2) في النظر نظر، فإن الامتنان بالفتح لم يكن قبل إيتائه، بل بل الفتح هو صلح الحديبية، وقد نزلت سورة الفتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من الحديبية في السنة السادسة من الهجرة حين صده المشركون عن الوصول إلى البيت والاعتمار فيه. قال البراء - رضي الله عنه -: "أنتم تعدون الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية" فثبت إذن أن كلتي الآيتين المقيسة والمقسية عليها قرّرت منة منجزة، لا موعودة في المستقبل، وعلى ذلك صح الاستدلال بآية الحجر المكية على أن سورة الفاتحة مكية، وسلم الدليلان من الخدش.
قال السيوطي في الإتقان: الأكثرون على أنها مكية ... واستدل لذلك بقوله تعالى "ولقد آتيناك سبعا من المثاني" وفسرها - صلى الله عليه وسلم - بالفاتحة كما في الصحيح، وسورة الحجر مكية بالإتقان، وقد امتن على رسوله فيها بها، فتدل على تقدم نزول الفاتحة عليها، إذ يبعد أن يمتن عليه بما لم ينزل بعد.
وانظر في: صحيح البخاري 4/ 1525 ح3919 وجامع البيان 26/ 69 والمحرر الوجيز 13/ 427 وزاد المسير 7/ 418 والتفسير الكبير 1/ 177 وتفسير القرآن العظيم 7/ 325 والإتقان في علوم القرآن 1/ 34.

(1/51)


وسورة التفويض.
وقد ذكرتها بتوجيهها في " الإتقان (1) ".
الثاني: اسم السورة الذي تشتهر به توقيفي، وأما الأسماء المتعددة فهل هي توقيفية أيضاً؟ فيه بحث ذكرته في " الإتقان " أيضاً (2).
قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من الفاتحة)
هي من مهمات المسائل، وحق لها أن تكون كذلك؛ لأنه كلام يتعلّق بإثبات آية من كتاب الله تعالى، أو نفيها عنه.
وقد أفردها بالتصنيف خلق من الأئمة: منهم الإمام أبو بكر ابن خزيمة صاحب
الصحيح (3)، والحافظ أبو بكر الخطيب (4)، والحافظ أبو عمر ابن عبد البر،
ومال إلى مذهب الشافعي (5)، وهو من أئمة المالكية ومجتهديهم، وحجة الإسلام
__________
(1) الإتقان 1/ 167 وانظر في: الكشف والبيان 2/ 604 فقد ذكر لها أسماء عشرة، وقال: وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى.
(2) الإتقان 1/ 166.
(3) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري، عني بالحديث والفقه حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 365 وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 109.
قال ابن خزيمة في صحيحه 1/ 248: أمليت مسألة قدر جزأين في الاحتجاج في هذه المسألة أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من كتاب الله في أوائل سور القرآن.
(4) هو أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي، صاحب التصانيف، وخاتمة الحفاظ، له كتاب البسملة وأنها من الفاتحة، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/ 270 وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 29.
(5) ألف الإمام أبو عمر ابن عبد البر رسالة في البسملة سماها "الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب من الاختلاف" سرد فيها مذاهب العلماء في البسملة، في قرآنيتها وعدم قرآنيتها، في الجهر بها والإسرار بها، وساق فيها ما استدل به كل على مذهبه، ولم يمل فيها إلى مذهب الشافعي كما قاله المؤلف، وسبقه إليه عبد الرحمن بن إسماعيل شهاب الدين أبو محمد المشهور بأبي شامة في كتاب البسملة ل2 - بل مال إلى مذهب إمامه مالك بن أنس، فإنه قال فيها 192: أجمع علماء المسلمين على أنها سبع آيات، فدل هذا الحديث على أن أنعمت عليهم آية، وبسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من أول السورة، وهذا عد أهل المدينة والشام والبصرة، وأما أهل مكة وأهل الكوفة من العلماء والقراء فيعدون بسم الله الرحمن الرحيم أول آية من أم القرآن، وليست أنعمت عليهم بآية عندهم، فهذا حديث قد رفع الإشكال في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم، ورجاله ثقات.

(1/52)


أبو حامد الغزالي (1)، والفقيه سلطان بن إبراهيم المقدسي (2)، وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي، وأبو المعالي مُجَلِّي صاحب (3) " الذخائر "، والحافظ أبو شامة (4).
قوله: (وعليه قراء مكة) كابن كثير (5) (والكوفة) كعاصم (6) حمزة (7) والكسائي (8).
قوله: (وخالفهم قراء المدينة) كنافع (9) (والبصرة) كأبي عمرو (10))
__________
(1) سرد العلامة محمد بن محمد الحسيني الزبيدي في مقدمة شرح إحياء علوم الدين "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" مؤلفات الغزالي، ثم ألف عبد الرحمن بدوي كتابا حافلا في مؤلفات الغزالي، ولم يرد في واحد من الكتابين كتاب مفرد للغزالي في البسملة، بيد أن الغزالي تعرض لمسألة البسملة في كتابه "المستصفى" 2/ 13 - 23 وذكر أنه أورد أدلة كون البسملة من القرآن في كتاب حقيقة القولين، فلعله التصنيف الذي عناه السيوطي.
(2) هو سلطان بن إبراهيم بن المسلم أبو الفتح المقدسي، كان من أفقه الفقهاء بمصر، تفقه عليه صاحب الذخائر، توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. طبقات الشافعية الكبرى 7/ 94 وحسن الخاضرة في أخبار مصر والقاهرة 1/ 405.
(3) هو مُجَلِّي بن جميع بضم الجيم بن نجا أبو المعالي المخزومي، صاحب الذخائر وغيره من المصنفات، له إثبات الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، توفي سنة خمسين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 20/ 325 وطبقات الشافعية الكبرى 7/ 277.
(4) هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم شهاب الدين أبو شامة الدمشقي، كان أحد الأئمة، برع في فنون العلم، توفي سنة خمس وستين وستمائة. طبقات الشافعية الكبرى 8/ 165 وبغية الوعاة 2/ 77.
(5) هو عبد الله بن كثير بن عمرو أبو معبد الكناني المكي المقرئ، انتهت إليه الإمامة بمكة في تجويد الأداء، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة. معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار 1/ 197 وغاية النهاية في طبقات القراء 1/ 443.
(6) هو عاصم بن أبي النجود بهدلة أبو بكر الأسدي الكوفي المقرئ، واسم أبيه بهدلة على الصحيح، وقيل هي أمه، وليس ذا بشيء، انتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة، توفي سنة سبع وعشرين ومائة. معرفة القراء الكبار 1/ 204 وغاية النهاية 1/ 346.
(7) هو حمزة بن حبيب بن عمارة أبو عمارة القارئ، كان إماما حجة، قيما بحفظ كتاب الله، توفي سنة ست وخمسين ومائة. معرفة القراء 1/ 250 وغاية النهاية 1/ 261.
(8) هو علي بن حمزة بن عبد الله أبو الحسن الكسائي الكوفي المقرئ النحوي، انتهت إليه الإمامة في القراءة والعربية، توفي سنة تسع وثمانين ومائة. معرفة القراء 1/ 269 وغاية النهاية 1/ 535.
(9) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقرئ المدني، قرأ على سبعين من التابعين، توفي سنة تسع وستين ومائة. معرفة القراء /241 وغاية النهاية 2/ 330.
(10) هو زبان بن العلاء بن عمار أبو عمرو البصري المقرئ النحوي، شيخ القراء بالبصرة، توفي سنة=

(1/53)


والشام) كابن عامر (1).
قوله: " وفقهاؤهما (2) " كذا في النسخة التي وقفت عليها بضمير التثنية -ونعمّا هي- رجوعا إلى البصرة والشام فقط.
وفي " الكشاف ": وفقهاؤها بضمير جمع المؤنث رجوعا إلى المدينة أيضاً.
وقل تعقبه البلقيني في " كشافه " بأنه يقتضي إجماع أهل المدينة عليه، وليس كذلك، فإن جماعة من فقهاء المدينة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عمر والزهري ومن غيرهما يرون أنها آية من الفاتحة ومن غيرها.
فكأن المصنّف أصلح العبارة إشارة إلى ذلك.
ثم قوله: (من الفاتحة) يصدق بقول من جعلها آية منها ومن غيرها، ومن جعلها آية منها وبعض آية من غيرها، ومن جعلها آية منها وأنها بين السور قرآن مستقل، كسورة قصيرة، لا آية من السورة، ولا بعض آية.
وهي أقوال معروفة، ومقابلها النفي، فهي أربعة، وفيها قول خامس أنها آية من الفاتحة، وليست في سائر السور قرآناً أصلا.
قال الحافظ أبو شامة: سبب الاختلاف في البسملة أنه قد وقع الإجماع على استحباب ذكر الله تعالى عند ابتداء كل أمر له بال حين الشروع فيه، وقد ورد فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل ذلك فيقولون: باسمك اللهم، ويدلّ عليه ما في قصة هدنة الحديبية (3)، ثم إنه شرع للنبي صلى الله عليه وسلّم في ذلك لفظ البسملة. وذكر الله تعالى في كتابه حكاية عن كتاب سليمان عليه السلام أنها
__________
=أربع وخمسين ومائة. معرفة القراء 1/ 223 وغاية النهاية 1/ 288.
(1) هو عبد الله بن عامر بن يزيد أبو عمران اليحصبي الدمشقي، إمام الشاميين في القراءة، توفي سنة ثماني عشرة ومائة. معرفة القراء 1/ 186 وغاية النهاية 1/ 423.
(2) الكشاف 1/ 24.
(3) بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء موحدة مكسورة وياء اختلفو فيها، فمنهم من شددها، ومنهم من خففها، قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتها، وبين الحديبية ومكة مرحلة، ويقال لها اليوم: الشميسي. معجم البلدان 2/ 229 وصحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار 2/ 139 وانظر هدنة الحديبية في صحيح البخاري 4/ 1524 وصحيح مسلم 3/ 1410.

(1/54)


كانت في أوله. ثم أثبتها الصحابة في المصحف خطًّا في أوّل كل سورة سوى براءة، فاختلف العلماء هل كان ذلك لأنها أنزلت حيث كتبت، أو فعل ذلك للتبرك كما في غيره، ولم يكتف بها في أول الفاتحة، بل أعطيت كل سورة حكم الاستقلال إرشادا لمن أراد افتتاح أيّ سورة منها إلى البسملة في أولها.
ولما فقد هذا المعنى حين التلاوة بوصل السورة اختلف القراء فيه: فمنهم من اتبع المصحف فبسمل مستمرا على ذلك، إذ القراءة في اتباع الرسم شأن يُخَالَفُ لأجله قياس اللغة، على ما قد عرف في علم القراءة، فما الظن بهذا؟.
وقد كان تقرر عندهم أن المصحف لم تكتبه الصحابة إلاّ ليرجع إليه فيما كانوا اختلفوا فيه.
ومنهم من فهم المعنى فلم يبسمل إلاّ في أوّل سورة يبتدئ بها (1).
وقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أنزلت الكوثر وتلاها على الناس بسمل في أوّلها (2).
وكذا لما قرأ سورة حم السجدة على عتبة بن ربيعة (3)، ولما تلا سورة
__________
(1) قال أبو شامة في إبراز المعاني من حرز الأماني 1/ 227 في شرح بيت:
وبسمل بين السورتين بسنة ... رجال نموها درية وتحملا
لمبسملون من القراء هم الذين رمز لهم في هذا البيت من قوله: بسنة، رجال، نموها، درية [وهم قالون والكسائي، وعاصم، وابن كثير] وعلم من ذلك أن الباقين لا يبسملون، لأن هذا من قبيل الإثبات والحذف.
(2) رواه مسلم 1/ 300 ح 54 وأبو داود 1/ 507 ح 780 والنسائي 2/ 134 ح904 من حديث أنس.
(3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 14/ 295 وعنه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب 3/ 62) وأبو يعلى في مسنده 3/
349 من طريق علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال. فذكره.
ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 299 من طريق منجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر، ورواه البيهقي في دلائل النبوة 2/ 202 وابن عساكر في تاريخ دمشق 38/ 242 من طريق يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل، عن الأجلح، ورواه الحاكم في المستدرك 2/ 253 من طريق جعفر بن العون، عن الأجلح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/ 17 فيه الأجلح الكندي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق شيعي. التقريب 120 قلت: الحديث حسن إذن.

(1/55)


المجادلة على امرأة (1) أوس بن الصامت (2)، ولما قرأ سورة الروم على المشركين (3)، ولإيلاف قريش -أخرج البيهقي حديثهما في " الخلافيات (4) " - ولما
__________
(1) هي: خولة بنت ثعلبة، ويقال: خويلة، وخولة أكثر، وقيل: خولة بنت حكيم، وقيل: خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقيل: جميلة، وقيل: بل هي خولة بنت دليج، ولا يثبت شيء من ذلك، والله أعلم، والذي قدمنا أثبت وأصح إن شاء الله. الاستيعاب 4/ 1830 والإصابة 7/ 618.
(2) هو أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري، أخو عبادة بن الصامت، شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي ظاهر من امرأته فوطئها قبل أن يكفر، مات في أيام عثمان، وله خمس وثمانون سنة. الاستيعاب 1/ 118 والإصابة 1/ 156. وقصة ظهاره من امرأته رواها أحمد 45/ 300 وأبو داود 3/ 83 ح 2209 وابن حبان (الإحسان 10/ 107) والطبري في جامع البيان 28/ 5 من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة. وليس فيها البسملة، ورواها ابن أبي حاتم -وفيها البسملة- في تفسير القرآن العظيم (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 8/ 38) والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 385 عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية مرسلاً. وزاد السيوطي في الدر المنثور 7/ 77 نسبته إلى عبد بن حميد -ولم أرها في المسند المنتخب- وابن مردويه.
(3) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1/ 404 ومن طريقه البيهقي في الخلافيات ل44 وأبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة 1/ 291 من طريق محمد بن يحيى، عن سريج بن النعمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم مرفوعاً. وفيه البسملة.
ورواه البخاري في كتاب التاريخ الكبير 8/ 139 من طريق إسماعيل بن أبي أويس، وأبو الحسن بن قانع في معجم الصحابة 3/ 172 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 7/ 442 من طريق محمد بن سليمان لوين، والطبراني في المعجم الأوسط 7/ 200 من طريق ابن جريج، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة 1/ 143 ومن طريقه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات 1/ 585 وفي الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد 10/ 108 من طريق أبي معمر الهذلي، عن سريج بن النعمان، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 5/ 2704 من طريق محمد بن العباس المؤدب، عن سريج بن النعمان كلهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به، وليس في هذه الطرق البسملة، وهي المحفوظة.
(4) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 536 وعنه البيهقي في الخلافيات ل44 من طريق يعقوب بن محمد الزهري والبسملة في روايته والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 321 والطبراني في المعجم الكبير 24/ 409 وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 260 من طريق أبي مصعب الزهري، كلاهما (يعقوب بن محمد، وأبو مصعب الزهري) عن إبراهيم بن محمد، عن عثمان بن عبد الله بن أبي عتيق، عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن أبيه، عن جدته أم هانئ.=

(1/56)


قرأ سورة الحجر أخرجه ابن أبي هاشم (1) بسنده (2).
__________
=قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: يعقوب ضعيف، وإبراهيم صاحب مناكير، هذا أنكرها. تلخيص المستدرك.
وخالفه سليمان بن بلال فروى البخاري في التاريخ الكبير من طريق سليمان بن بلال، عن عثمان بن عبد الله بن أبي عتيق، عن ابن جعدة المخزومي، عن ابن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. قال أبو عبد الله: هذا بإرساله أشبه.
قال الحافظ العراقي في محجة القرب إلى محبة العرب 233: هذا حديث حسن، ورجاله كلهم ثقات معروفون إلا عمرو بن جعدة بن هبيرة فلم أجد فيه تعديلاً ولا جرحاً، وهو ابن ابن أخت علي بن أبي طالب، وهو أخو يحيى بن جعدة بن هبيرة أحد الثقات.
قلت: هنا وقفات:
الأولى: إن رواية البسملة في الحديث ضعيفة، تفرد بها يعقوب بن محمد الزهري، قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء. التقريب 1090.
الثانية: إن إبراهيم بن محمد اختلف فيه، فقال عنه ابن عدي في الكامل: مدني، روى عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره مناكير، وقال أيضاً: وأحاديثه صالحة محتملة، ولعله أتي ممن قد روى عنه. وقال عنه الذهبي: ذو مناكير. الميزان 1/ 56 وسبق قوله فيه في تلخيص المستدرك.
ثم إنه خالف سليمان بن بلال الثقة، فروايته حينئذٍ منكرة، ورواية سليمان معروفة، ولهذا رجح البخاري رواية سليمان فقال: هذا بإرساله أشبه.
الثالثة: قول الحافظ العراقي: هذا حديث حسن ورجاله كلهم ثقات معروفون. فيه نظر يعرف مما سبق، لكن يشهد لمرسل ابن شهاب هذا حديث الزبير الذي رواه الطبراني في المعجم الأوسط 9/ 76 من طريق عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير نحوه. قال الحافظ العراقي فيه: هذا حديث يصلح أن يخرج للاعتبار والاستشهاد، فإن عبد الله بن مصعب بن ثابت ذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن معين.
قلت: وخلاصة القول أن رواية البسملة في حديث أم هانئ ضعيفة، وباقي الحديث حسن لغيره.
(1) هو عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم أبو طاهر البغدادي المقرئ، انتهى إليه الحذق بأداء القرآن، قرأ بالروايات على ابن مجاهد، له كتاب البيان، وكتاب الفصل بين أبي عمرو والكسائي، ورسالة في الجهر بالبسملة، توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. معرفة القراء الكبار 2/ 603 وغاية النهاية 1/ 475 وإيضاح المكنون 5/ 562.
(2) رواه الطبري في جامع البيان 14/ 2 من طريق علي بن سعيد بن مسروق الكندي، وأبو بكر ابن أبي عاصم في السنة 1/ 582 والطبراني في المعجم الكبير (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 525) والحاكم في المستدرك 2/ 242 وعنه البيهقي في كتاب البعث والنشور القسم الثاني 1/ 207 من طريق أبي الشعثاء علي بن الحسن كلاهما عن خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى مرفوعاً، وليس فيه البسملة.=

(1/57)


وصحّ أنه صلى الله عليه وسلّم لما تلا الآيات التي أنزلت في شأن براءة عائشة لم يبسمل، ففهم من ذلك أمر زائد على ما مضى، وهو أن البسملة من خواص أوائل السور، وأن هذا ليس من باب ذكرها للتبرك عند ابتداء كل أمر ذي بال، وإلا لكانت قضية عائشة رضي الله عنها من أبلغ مقتض لذلك.
ثم الظن بالصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما أثبتوها في المصحف حيث أثبتوها لتلقيهم من النبي صلى الله عليه وسلّم النصوصية على أنها من أوّل كل سورة، أو لظنهم ذلك، وكان هذا عندهم من الأمور الواضحة الجلية، ولهذا لم يقع بينهم فيها نزاع حين كتبت، ولو كانت من باب التبرك لم تكتب كما لم يكتبوا التعوذ المأمور به قبل البسملة،
ولا " آمين " المأمور بها بعد قراءة القاتحة، ولا وقع بينهم نزاع في ذلك، فحصل ظنّ غالب أنها من القرآن (1). انتهى.
وقد حكى النووي في " شرح المهذّب " في البسملة (2) وجهين:
أحدهما: -وصححه- أن إثباتها قرآنا على وجه الظن.
والثاني: أنه على وجه القطع (3).
وقد شنّع القاضي أبو بكر الباقلاني (4) وغيره على الشافعي في ذلك بأن القرآن لا يثبت بالظن، إثما يثبت بالتواتر (5).
وأجاب عنه القاضي تاج الدين السبكي في " رفع الحاجب " بأنا لا ندعي تواتر
__________
=قال الحافظ ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به، وزاد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الهيثمي: وفيه خالد بن نافع الأشعري، قال أبو داود: متروك. مجمع الزوائد 7/ 131.
قال الذهبي: وهذا تجاوز في الحد، فإن الرجل قد حدث عنه أحمد بن حنبل، ومسدد، فلا يستحق الترك، ميزان الاعتدال 1/ 644.
(1) كتاب البسملة ل65.
(2) في ت، ح، ظ: المسألة.
(3) المجموع شرح المهذب 3/ 294.
(4) هو محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر الباقلاني، كان إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية، توفي سنة ثلاث وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/ 190 والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/ 228.
(5) الانتصار للقرآن 1/ 251 - 252.

(1/58)


البسملة الآن، فإنا نحن لم نثبتها، إنما المثبت لها إمامنا الشافعي، فلعلّها تواترت عنده، ورب متواتر عند قوم دون آخرين، وفي وقت دون آخر.
واستشكل قوم النفي على وجه القطع، فإن المقطوع بكونه قرآنا يكفر نافيه.
وأجاب جماعة بأن قوّة الشبهة منعت التكفير من الجانبين (1).
قال ابن الصباغ (2) في " الشامل ": من أصحابنا من أثبتها قطعا لكونها في المصحف، ولم يكفر جاحدها، كما لم يكفر مثبتها، وإنما كان كذلك لحصول ضرب من الشبهة، كما قامت لابن مسعود في المعوذتين (4).
__________
(1)
رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب 2/ 86.
(2) هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر المعروف بابن الصباغ، مصنف كتاب الشامل، كان تقيا صالحا، وشامله من أصح كتب أصحابنا، وأثبتها أدلة، توفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة. وفيات الأعيان وأنباه الزمان 3/ 217 وطبقات الشافعية الكبرى 5/ 122 وقفت من كتابه الشامل على أجزاء متفرقة ليس منها الجزء الذي فيه كتاب الصلاة.
(3) هنا وقفتان: الأولى: في تخريج الحديث، فأقول: روى البخاري 4/ 1904 عن قتيبة بن سعيد، وعلي بن عبد الله، عن ابن عيينة، عن عبدة بن أبي لبابة، وعاصم، عن زر قال: سألت أبي بن كعب قلت: أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، قال أبي: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: قيل لي: فقلت، قال: فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ورواه الشافعي في السنن 1/ 203 - ومن طريقه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 11 - والحميدي في مسنده 1/ 367 - ومن طريقه الطحاوي 1/ 112 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 393، 394 - وأحمد في مسنده 35/ 114 عن وكيع، و115 عن عبد الرحمن بن مهدي، وأبو عبيد في فضائل القرآن ومعالجه وآدابه 2/ 80 عن عبد الرحمن أيضا كلهم (الشافعي، والحميدي، ووكيع، وعبد الرحمن) عن عبدة بن أبي لبابة، وعاصم، عن زر بنحوه.
ورواه أبو عبيد 2/ 81 وأحمد 35/ 115 عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الزبير ابن عدي، عن أبي رزين، عن زر، عن أبي بن كعب بنحوه.
ورواه أحمد 35/ 118 حدثنا سفيان، عن عبدة وعاصم، عن زر قال: قلت لأبي: إن أخاك يحكهما من المصحف - قيل لسفيان: ابن مسعود؟ فلم ينكر - قال: سألت رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي: فقلت، فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال سفيان: يحكهما: المعوذتين، وليس في مصحف ابن مسعود، كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته، فظن أنهما عوذتان، وأصر على ظنه، وتحقق الباقون من القرآن، فأودعوهما إياه.=

(1/59)


واستشكل آخرون الأمرين معا: الإثبات، والنفي، فإن القرآن لا يثبت بالظن، ولا ينفى بالظن، ولا شكَّ أنه إشكال قويّ كالجبل.
وقد أخبرني بعض الفضلاء بأنه سمع الحافظ ابن حجر يقرر في درسه في الجواب عنه: أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة، فتكون قطعية الإثبات، والنفي معا، ولهذا قرأ (1) بعض السبعة بإثباتها، وبعضهم بإسقاطها، فاستحسنت ذلك جدا.
ثم رأيت تلميذه الشيخ برهان الدين البقاعي (2) حكى ذلك عنه في ترجمته من معجمه (3).
ثم رأيت خاتمة القراء الشيخ شمس الدين ابن الجزري سبقه إلى ذلك فقال
__________
=ثبوت ذلك عن عبد الله، ويحكمون بوضعه واختلافه، ورفع الإشكال لا يكون عن طريق رد صحيح الحديث وإنكاره، فإن هذا ليس طريقة أهل السنة والجماعة.
ويحمل إنكار عبد الله على أنه لم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما في الصلاة، وسمع يعوذ بهما الحسن والحسين فظن أنهما مما يعوذ به من الأذكار النبوية، وليستا من القرآن، وسمع غيره يقرأ بهما في الصلاة كعقبة بن عامر عند مسلم 1/ 558 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 114 ورجل من الصحابة عند الصحابة أيضا 1/ 117 وعمرو بن عبسة عند أبي يعلى في مسنده (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 9/ 92) وتلك شبهة تمنع من تهويل الأمر وتفظيعه على الله. والله أعلم.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 8/ 531 وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء: أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة كتبوهما في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، وانظر في تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 42.
(1) في ظ: اقرأ.
(2) هو إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بضم الراء بعدها موحدة خفيفة أبو الحسن البقاعي، كان من أوعية العلم، الجامعيين بين علمي المعقول والمنقول، توفي سنة خمس وثمانين وثمانمائة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 1/ 101 والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 19.
(3) انظر في: عنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران 1/ 173.
(4) هو محمد بن محمد بن محمد أبو الخير، يعرف بابن الجزري، له تصانيف مفيدة كالنشر في القراءات العشر، تفرد بعلو الرواية، وحفظ الأحاديث والجرح والتعديل، ومعرفة الرواة المتقدمين والمتأخرين، توفي سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. الضوء اللامع 9/ 255 والبدر الطالع 2/ 775.

(1/62)


في كتابه " النشر " - بعد أن حكى الأقوال الخمسة السابقة في البسملة: - وهذه الأقوال ترجع إلى النفي، والإثبات.
والذي نعتقده أن كليهما صحيح، وأن كلّ ذلك حق، فيكون الاختلاف فيها كالاختلاف في القراءات (1). هذا لفظه (2).
ثم رأيت أبا شامة حكى ذلك في كتاب " البسملة " فقال: ونقل عن بعض المتأخرين (3) أنها آية حيث كتبت في بعض الأحرف السبعة، دون بعض، قال: وهذا قول غريب، ولا بأس به إن شاء الله تعالى.
وكأنه نزّل اختلاف القراء في قراءتها بين السور منزلة اختلافهم في غيرها، فكما اختلفوا في حركات وحروف اختلفوا أيضاً في إثبات كلمات وحذفها كقوله تعالى في سورة الحديد (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [سورة الحديد 24] اختلف القراء في إثبات (هو) وحذفها، وكذلك (من) في آخر سورة التوبة (تجري من تحتها الأنهار) [سورة التوبة 89] فلا بعد أن يكون الاختلاف في البسملة من ذلك، وإن كانت المصاحف أجمعت عليها فإن من القراآت ما جاء على خلاف خط المصحف كـ (الصراط) و (يبصط) و (مصيطر) اتفقت المصاحف على كتابتها بالصاد، وفيها قراءة أخرى ثابتة بالسين، وقوله تعالى (وما هو على الغيب بضنين) يقرأ بالضاد وبالظاء، ولم يكتب في مصاحف الأئمة إلا بالضاد، وقراءة القرآن تكون في بعض الأحرف السبعة أتم حروفا وكَلِماً من بعض، ولا مانع من ذلك يخشى، فالبسملة في قراءةٍ صحيحةٍ آيةٌ من أم القرآن، وفي قراءة صحيحة ليست آية من أم القرآن، والقرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها حق، وهذا كله من تلك الأحرف لصحته، فقد وجب -إذ كلّها حقّ- أن يفعل الإنسان في قراءته أيّ ذلك شاء.
قال: وقد تكلّم القاضي أبو بكر على صحة مجيء بعض الأحرف أتم من غيرها، وبيّنه في كتاب " الانتصار " (4).
__________
(1) في ح، د، ق: كاختلاف القراءات.
(2) النشر في القراءات العشر 1/ 270.
(3) في كتاب في البسملة: عن بعض متأخري الظاهرية.
(4) الانتصار للقرآن 1/ 386 وكتاب البسملة ل4.

(1/63)


ثم قال أبو شامة: فإن قلت: يتفرَّع على القول بهذا -بعد تقريره- أن المكلف بالصلاة مخير في قراءة البسملة فيها، إن شاء قرأها، وإن شاء تركها، كغير هذا الحرف مما اختلف فيه القراء، كلا الأمرين له واسع، وفي مذهبك تتحتم قراءتها.
قلت: إنما تتحتم قراءتها في مذهب الشافعي في الفاتحة وحدها، ولا ينافي هذا القول ذلك، فإن القراء مجمعون على قراءتها أول الفاتحة (1) إلا ما شذّ روايته عن بعضهم، فليس فيها في الفاتحة تخيير، بخلاف غيرها من السور، وإنما وجبت في الفاتحة احتياطا لما أمر به، وخروجا من عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما سماه الشرع فاتحة الكتاب (2). هذا كله كلام أبي شامة.
قوله: (ما بين الدفتين كلام الله تعالى) في الصحاح: الدفّ الجنب (4)، وكذا في " الغريبين " قال: ومنه دفتا المصحف، لمشابهتهما الجنبين (5).
قوله: (لنا أحاديث كثيرة):
منها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال: " فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ")
أخرجه الطبراني في الأوسط، وابن مرويه في تفسيره، والبيهقي في سننه بلفظ: " الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إحداهن، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، وهي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب "
وأخرجه الدارقطني -وصححه- والبيهقي بلفظ: " إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إحدى آياتها (5)
قوله: (وقول أم سلمة رضي الله عنها قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاتحة، وعدّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين آية)
__________
(1)
قال أبو شامة في إبراز المعاني من حرز الأماني 1/ 236 قال بعض العلماء: لا خلاف بين القراء في البسملة في أول فاتحة الكتاب، سواء وصلها القارئ بسورة أخرى قبلها، أو ابتدأ بها.
(2) كتاب البسملة ل5.
(3) الصحاح/ مادة دفف.
(4) المجموع المغيث فيغريبي القرآن والحديث/ مادة دفف.
(5) سبق تخريج هذا الحديث في ص47 غير أني لم أر التصحيح الذي عزاه السيوطي إلى الدارقطني في السنن للدارقطني المطبوع.

(1/64)


قلت: الحديث ليس بهذا اللفظ، وإنما الوارد في كل طرقه أنه عدّ البسملة آية. فأخرجه أبو عبيد في " فضائل القرآن " وأحمد، وأبو داود بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقطع قراءته آية آية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين "
وأخرجه ابن الأنباري في كتاب " الوقف والابتداء " والبيهقي في " الخلافيات " - وصححه بلفظ: " كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية، يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ويقف، ثم يقول: الحمد لله رب العالمين، ويقف، ثم يقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ويقف ثم يقول: مالك يوم الدين "
وأخرجه ابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي في سننه بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ في الصلاة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فعدّها آية، الحمد لله رب العالمين آيتين، الرحمن الرحيم، ثلاث آيات، مالك يوم الدين، أربع آيات وقال هكذا، إيَّاك نعبد وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وجمع خمس أصابعه "
وأخرجه الدارقطني بلفظ: " كان يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله
رب العالمين، إلى آخرها، فقطّعها آية آية، وعدّها عَدَّ الأعراب، وعدّ بسم الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، ولم يعدّ عليهم (1) "
__________
(1) هذا الحديث رواه عبد الله بن أبي مليكة، واختلف عليه، فرواه نافع بن عمر الجمحي عنه، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة، عند أحمد 44/ 46.
ورواه ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة، واختلف على ابن جريج، فرواه يحيى بن سعيد الأموي عند أبي عبيد في فضائل القرآن ومعالمه وآدابه 1/ 325 ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير 23/ 278 وأحمد 44/ 206 وأبي داود 4/ 379 ح3997 والترمذي 5/ 47 ح2927 وأبي بكر بن الأنباري في كتاب إيضاح الوقف والابتداء 1/ 258 والدارقطني 1/ 312 وأبي يعلى في مسنده 12/ 452 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 14/ 8 والحاكم في المستدرك 2/ 231، 232 والبيهقي في الخلافيات ل44 وعمر بن هارون عند الطحاوي 14/ 8 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 44، وحفص بن غياث عند ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 520، 10/ 524 وعنه أبو يعلى في مسنده 12/ 351 وابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 373 وهمام عند أحمد 44/ 324 والبيهقي 2/ 324 والبيهقي 2/ 44 كلهم (يحيى بن سعيد، وحفص، وهمام، وعمر بن هارون) عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 38 وعنه أحمد في المسند 44/ 170 ومن طريق عبد الرزاق الطبراني في المعجم الكبير 23/ 292 ومحمد بن بكر عند أحمد أيضاً 44/ 170 وابن حبان=

(1/65)


قال أبو شامة: ومما يجب أن ينبه عليه أن إمام الحرمين قال في " النهاية ": إن هذا الحديث رواه البخاري (1)، وتبعه في ذلك صاحبه أبو حامد الغزالي في البسيط، والوسيط (2)، وليس ذلك في " صحيح البخاري "، ولا في " تاريخه "، ولا في كتاب " القراءة خلف الإمام " له.
وقد اغترّ بذلك جماعة من المتفقهة الذين لا عناية لهم بعلم الحديث.
قال: وأظنّ الإمام بلغه أن ذلك في كتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة الصحيح، فلما صنّف " النهاية " سبق لفظه إلى تسمية البخاري، من جهة اتفاق اسمي الإمامين بمحمد، واسمي الكتابين بالصحيح، وذلك وهم (3). انتهى.
وقد نبّه على ذلك أيضاً النووي (4)، وطائفة آخرهم الحافظ أبو الفضل ابن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير (5).
__________
= (الإحسان 6/ 366) كلاهما (عبد الرزاق، ومحمد بن بكر) عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم سلمة.
ورواه أبو عاصم عند أبي بكر الفريابي في كتاب فضائل القرآن 206 والطبراني في المعجم الكبير = 23/ 407 عن ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم سلمة.
ورواه الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة أيضاً، واختلف على الليث، فرواه أبو صالح عند الطبراني في المعجم الكبير 23/ 292 عن الليث، عن ابن لهيعة، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة.
ورواه عبد الله بن المبارك عند أبي عبيد في فضائل القرآن، 1/ 325 وقتيبة بن سعيد عند الفريابي في كتاب فضائل القرآن 205 والنسائي 2/ 181 ح1022 ويزيد بن موهب عند الفريابي أيضاً، وشعيب بن الليث عند ابن خزيمة في الصحيح 2/ 188 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 14/ 9 وشرح معاني الآثار 1/ 201 ويحيى بن بكير عند الحاكم 1/ 309 وعنه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 13 كلهم (عبد الله، وقتيبة، ويزيد، وشعيب، ويحيى) عن الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة، وهو الصواب.
(1) نهاية المطلب في دراية المذهب ج2 ل37 نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم 9857.
(2) كتاب البسيط ل99 نسخة مصورة بجامعة الإمام محمد بن سعود برقم 1277 والوسيط في المذهب 2/ 729.
(3) كتاب البسملة ل24.
(4) التنقيح في شرح الوسيط 2/ 111.
(5) تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير 1/ 422.

(1/66)


قال ابن خزيمة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث: لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الصلاة عدها آية، ولا قول لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلّم خلاف قوله، إذ الله تعالى لم يجعل لبشر مع قوله صلى الله عليه وسلّم قولا يخالف قوله، وجعله متبوعا لا تابعا، وفرض على العباد طاعتهن وأمرهم باتباعه.
فيقال لمخالفينا: قد عدّها النبي صلى الله عليه وسلّم آية على ما روينا عن زوجته أم سلمة رضي الله عنها، هلمّوا دليلا إمّا بنقل خبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم يخالف خبرنا، أو غير خبر يؤيد مذهبكم في إنكاركم آية (1) من القرآن، وعدم وجود حجة تؤيّد مقالتكم بطلان دعواكم، وفي بطلان دعواكم صحة مذهبنا (2).
وقال أبو شامة: قد قدح بعض المخالفين فقال: هذا من قول أم سلمة ورأيها، ولا ننكر (3) الاختلاف في ذلك.
والجواب: أنه من قولها قطعا، ولكنها مخبرة عما رأت من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم ما فإنه لما عدّها بأصابعه على نحو ما عدت من باقي آيات الفاتحة جزمت بما قالت، وهو كما قالت.
وقال الطحاوي: إنما نعتت أم سلمة رضي الله عنها بذلك قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم -كسائر القرآن- كيف كانت، وليس في ذلك دليل أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فانتفى أن يكون في حديث أم سلمة رضي الله عنها حجة لأحد (4).
قال أبو شامة: الظاهر أنها حكت تلاوته للبسملة، وإلا لمثلت بغير ذلك؛ لأن الفاتحة هي التي كان يكررّها (5)، فعقلت هيئتها وكيفيتها عندها، فكانت لها أشد حفظا من كيفية قراءته لغيرها (6).
وقال الغزالي: حديث أم سلمة حجة ظاهرة على أن البسملة آية من الحمد.
__________
(1) في كتاب البسملة ل22: أنه.
(2) كتاب البسملة ل22.
(3) في ح: ينكر.
(4) شرح معاني الآثار 1/ 201 وكتاب البسملة ل32.
(5) في كتاب البسملة ل32: لأنها هي التي كانت تكرر قراءته لها.
(6) كتاب البسملة ل32.

(1/67)


فإن فعل: روايتها ليست رواية لفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل هي ظن منها، إذ قالت: عدَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية منها، فلعلّها غلطت في ظنها.
فالجواب إذا جزم الراوي الثقة العاقل في أمر محسوس لا يجوز حمله على الغلط، وإلا لجاز في أصل الرواية، وهو محال (1).
قوله: (ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها، أو بما بعدها)
أي ومن أجل الحديثين، فإن الأول يقتضي عدها آية مستقلة، والثاني يقتضي أنها مع ما بعدها آية.
وهذا منه بناء على اللفظ الذي أورده، وقد عرفت أن الأمر بخلافه.
قوله: (والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف، مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم يكتب " آمين ")
ذكر البيهقي والغزالي وغيرهما أن هذا أقوى ما يستدلّ به في المسألة.
قال البيهقي في " الخلافيات ": الأصل عندنا إجماع الصحابة، فإنهم أجمعوا على أن مصحف عثمان رضي الله عنه، وسائر المصاحف كتاب الله ووحيه وتنزيله، من غير تقييد فيه ولا استثناء، وكذلك الناقلون عنهم بعدهم لم يختلفوا فيما اتفقوا عليه، ووجدناه مكتوبا في تلك المصاحف كسائر القرآن (2).
وقال في " المعرفة ": أحسن ما يحتج به في أن البسملة من القرآن، وأنها في فواتح السور منها سوى براءة = ما روينا من جمع الصحابة كتاب الله في مصاحف، وأنهم كتبوا فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ على رأس كل سورة، سوى سورة براءة، من غير استثناء ولا تقييد ولا إدخال شيء آخر فيها، وهم يقصدون بذلك نفي الخلاف عن القراءة، فكيف يُتوهم عليهم أنهم كتبوا فيها مائة وثلاث عشرة آية ليست من القرآن (3).
وقال الغزالي: أظهر الأدلّة كونه مكتوبا بخط القرآن مع أوائل السور سوى سورة براءة.
__________
(1) كتاب البسملة ل13.
(2) الخلافيات ل39 نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم 3456.
(3) معرفة السنن والآثار 2/ 364.

(1/68)


ووجه الدلالة: أنه لا يخلو إما أن يكون ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أو بدعة من عثمان رضي الله عنه، أو غيره، لغرض التبرك في البداءة، كذكر اسم السورة، وعدد الآيات، ولما ابتدعت كتبتها في زمن التابعين اشتد الإنكار من جميعهم عليها، حتى أنكروا النقط، والأعشار، وقالوا: هذه بدعة وزيادة، وإنما تركها من تركها اعتمادا على أنها تكتب بالحمرة، لا بخط القرآن، فإنها لا تلتبس بالقرآن، ولا ضرر فيها، بل فيها منفعة ليكون ذلك أَعْوَن على الحفظ، وإنما اعتذروا بذلك ولم يعتذر أحد بأنّا أبدعنا ذلك بالاجتهاد، كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبة البسملة، مع أنه (1) لا بيان فيها، ولا حاجة إليها.
ثم إن كان تجاسر مبدع (2) على إبداعها (3) فكيف سكت (4) كافة المسلمين عنه، من غير إنكار وتبديع، وذلك مما يعلم استحالته قطعا، إذ النفوس لا تسمح بالسكوت في مثله.
ولو كتب الآن كاتب في القرآن، أو في أوّل السور: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم احتجاجا بقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) [سورة النحل 99] فهل يتصور أن يسكت الناس عنه، أو يوافقوه عليه.
هذا، والزمان زمان إهمال وتساهل في مهمات الدين، والوقت وقت فتور وضعف، فكيف يظن ذلك بالصحابة مع تصلبهم في الدين وشدتهم؟ وكيف سكتوا عن إبداع زيادة بخط القرآن شديدة الضرر، لكونها موهمة أنها من القرآن، خالية عن المنفعة، وإفادة نوع من البيان، وأسامي السور لا ضرر في إثباتها؛ إذ لا توهم كونها من القرآن، وفيها فائدة التمييز والتعريف، فينكر التابعون ذلك، مع كونهم دون الصحابة في الصلابة في الدين، ثم تسكت الصحابة عن إنكار ما فيه ضرر الاشتباه، وليس فيه فائدة البيان. هذا من المحال الذي لا ينشرح الوهم لقبوله أصلا.
ثم كيف يظن بمسلم أن يستجيز ذلك من غير فائدة، وسبب باعث؟.
فإن قيل: لعل الباعث قوله صلى الله عليه وسلّم: " كل أمر ذي بال لم يبدأ
__________
(1)
في ت، ظ: مع أنها.
(2) في ح: مبتدع.
(3)
في ح، ابتداعها.
(4) في ت، سكتت.
(5) في ت، ح: من.

(1/69)


فيه ببسم الله فهو أبتر " (1) وإرادةُ الفصل بين السور.
قلنا: فهلا كتب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في أول القرآن لقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وهذا للقرآن خاصة، وذلك أمر عام لا يختص بالقرآن؟.
فإن قلت: إنما أمر بالاستعاذة عند القراءة، لا عند الكتبة.
فنقول: وإنما أمر في بداءة الأمور بذكر اسم الله تعالى، لا بكتبه.
ثم من أين تقاوم هذه الفائدة ضرر الاشتباه، وجراءة الزيادة في كتاب الله تعالى، وإثبات ما ليس منه فيه.
وأما غرض الفصل فظاهر البطلان؛ إذ كان يمكن بإهمال خط كما في سورة براءة، أو بأن يكتب بالحمرة " سورة أخرى " وعدد آياتها كذلك حتى لا يلتبس، وكيف يعدل عنه إلى ما يلتبس بالقرآن (2)؟
فهذه الاحتمالات كلها فاسدة، ثم هو باطل بسورة براءة، وإثباتُها في جميع السور دون براءة على الخصوص كالقاطع بأن مأخذه التوقيف فقط.
وعلى الجملة فيعلم أن كتبة ما ليس بقرآن ويشتبه بالقرآن وبخطه من الكبائر، فلا يتصور أن يتجاسر عليه مسلم، وإن تجاسر عليه فلا يتصور أن يسكت عنه المسلمون فضلا عن أن يوافقوه بأجمعهم حتى لا يخالف مخالف.
فإن قلت: سلمنا أنه ليس مبدعا، بل هو مكتوب بالتوقيف، ولذلك لم يكتب في سورة براءة؛ لأنه لم يرد به التوقيف، ولكن هذا يدل على جواز كتبه، لا على كونه قرآنا، وليس يستحيل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بكتبة ما ليس بقرآن. وهذا السؤال ذكره القاضي (3).
فالجواب: أن هذا إبعاد في التأويل تستبعده النفوس وتشمئز عن قبوله الطباع.
وعلى الجملة فلا نقول: الإذن في كتبة ما ليس بقرآن مع القرآن محال في نفسه، ولكنا نقول: هو محال إلا أن يكون مقرونا بذكر أنه ليس بقرآن ذكرا صريحا متواترا حتى ينتفي به الوهم السابق إلى الأذهان.
__________
(1)
سيأتي تخريجه.
(2) في د: إلى ما ليس في القرآن ويشتبه بالقرآن.
(3) هو أبو بكر الباقلاني، انظر في: الانتصار للقرآن 1/ 257.

(1/70)


سلمنا أنه ليس بمحال، ولكنه لا يخفى أنه بعيد، وأن الأغلب على الظن أنه لا يكتب مع القرآن ما ليس بقرآن.
فإذن حصل من هذا أن الكتبة ليست إلا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم، وأمره بها من غير نص متواتر ينفي كونها قرآنا قاطع، أو كالقاطع بأنها من القرآن. انتهى كلام الغزالي (1).
وقال سليم الرازي: الدليل على أن البسملة من القرآن هو أن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في المصحف بخط سائر القرآن، مع قصدهم صيانة القرآن عن الاختلاط بغيره، وتوقيهم أن يثبتوا في المصحف ما ليس منه، فلولا أنه قرآن منزل ما فعلوا ذلك.
ثم ساق الأحاديث في جمع الصحابة القرآن في المصحف، والأحاديث في قراءة السور والآيات، كحديث " تعلموا البقرة وآل عمران (2) " و " اقرأ عليّ سورة النساء (3) " و " من قرأ الآيتين من آخر البقرة (4) " و " من حفظ عشر آيات من سورة الكهف (5) " إلى غير ذلك.
وقال: هذه الأخبار كلها دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج من الدنيا وسور القرآن معلومة، وآيات كل سورة مفهومة.
__________
(1)
نقله أبو شامة في كتاب البسملة ل12 - 13 ونقل المؤلف في مباحث البسملة هذه نقولاً عن الغزالي، وسليم الرازي، وابن خزيمة، والذي ظهر لي من صنيعه أنه لم ينقل عن مؤلفات هؤلاء في البسملة مباشرة، ولكنه نقل عنها بواسطة كتاب البسملة لأبي شامة.
(2) رواه أحمد في المسند 5/ 249، 254، 257 ومسلم 1/ 553 ح 252 من حديث أبي أمامة.
(3) رواه أحمد 1/ 94 والبخاري 4/ 1673 ح 4306 ومسلم 1/ 551 ح247 والترمذي 5/ 237 ح3024 والنسائي في السنن الكبرى 10/ 64 ح11039 وابن ماجة 4/ 205 ح4269 من حديث ابن مسعود.
(4) رواه البخاري 4/ 1914 ح4722 ومسلم 1/ 554 ح807 وأبو داود 2/ 240 ح1392 والترمذي 5/ 10 ح2881 والنسائي في السنن الكبرى 5/ 9، 14 ح8003، 8018 وابن ماجة 2/ 54 ح1387 من حديث أبي مسعود.
(5) رواه بهذا اللفظ أحمد في المسند 45/ 527 ومسلم 1/ 555 ح257 من طريق همام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء به، وفي الحديث بحث تجد استقصاء في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 122 والضعيفة 3/ 509.

(1/71)


وثبت بما ذكر أن جميع ما في المصحف قرآن منزل، ويؤكد (1) ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل هل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا؟ قال: لا، إلا ما في هذا المصحف، وقال محمد بن عليّ ابن الحنفية (2) لما سئل عن ذلك أيضاً: لا، إلا ما في هذين اللوحين (3).
فهذا نفي وإثبات، فيقتضي أن جميع ما في المصحف يجري مجرى واحدا، وأن جميعه قرآن منزل، وأن ما ليس في المصحف مخالف له.
وقد روى أبو طاهر ابن أبي هاشم في كتاب " الفصل (4) " بإسناده عن القاسم (5)، عن عائشة أنها قالت: " اقرؤوا ما في المصحف (6) "
وظاهر ذلك تسويتها بين جميع ما في المصحف، والحكم بأنه كله قرآن منزل.
هذا مع أن الرجوع إلى المصحف والائتمام به إجماع، فإن المسلمين من لدن الصحابة إلى زماننا هذا يرجعون فيما ينوبهم مما يتعلّق بالقرآن إليه، ويستدلون به، فيقال للذي يخالف في إثبات الكلمة: هي مكتوبة في المصحف.
ويؤيد ذلك أيضاً أنهم لما اختلفوا في كتابة " التابوت " قالت الأنصار: بالهاء، وقال سعيد بن العاصي (7): بالتاء لم يكتبوه حتى قيل لهم: إنه أنزل بلغة قريش،
__________
(1)
في ت، ح: ويؤيد.
(2) هو محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم القرشي الهاشمي المدني، أمه خولة بنت جعفر الحنفية، كان ورعا كثير العلم، توفي سنة ثمانين، سير أعلام النبلاء 4/ 110 والبداية والنهاية 12/ 313.
(3) روى البخاري 4/ 1917 ح4731 أثر ابن عباس، وابن الحنفية بنحوه.
(4) هو كتاب الفصل بين أبي عمرو والكسائي. انظر في: غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 475 وهدية العارفين 3/ 633.
(5) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أبو محمد القرشي التيمي، كان أفضل أهل زمانه، وكان من أعلم الناس بحديث عائشة، روي عن عمته عائشة، توفي سنة ست ومائة. تهذيب الكمال 23/ 427 وسير أعلام النبلاء 5/ 53.
(6) لم أقف عليه.
(7) هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية أبو عثمان الأموي، كان أحد أشراف قريش حمل السخاء والفصاحة، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، توفي خلافة معاوية سنة تسع وخمسين. الاستيعاب 2/ 621 والإصابة 3/ 107.

(1/72)


وهو في لغتهم بالتاء، فكتبوه بها (1)، فكيف يظن بهم مع هذا التثبت أن يكتبوا فيه ما ليس بقرآن؟.
ومما يبين أن كتابتهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في المصحف إنما هو بالتوقيف من الرسبول صلى الله عليه وسلّم أنهم كتبوها في أوائل سور، وتركوها في أول براءة، فلو كانوا إنما فعلوا ذلك لأجل التبرك والافتتاح بها لوجب لهذه العلة افتتاح براءة بها.
ويبين ذلك أن قوما كرهوا نقط المصاحف، والتعشير فيها، وكتابة عدد آيات السور (2).
روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه (3)، وعن إبراهيم النخعي (4)، ومكحول (5)، ومجا هد، وعطاء (6).
__________
(1)
يأتي تخريجه قريباً.
(2) في ح، ق: السورة.
(3) روى عبد الرزاق في المصنف 4/ 323 ح7944 وأبو عبيد في فضائل القرآن 2/ 230 ح895 وابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 472 ح421، 422 والداني في المحكم في نقط المصاحف 10 بلفظ: جردوا القرآن ولا تلبسوا به ما ليس منه. وروى عبد الرزاق في المصنف 4/ 322 ح7942 وأبو عبيد في فضائل القرآن 2/ 232 ح900، 901 وفي غريب الحديث 5/ 56 وابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 473 ح429 والداني في المحكم في نقط المصاحف 14 عن عبد الله أنه كره التعشير في المصاحف.
وروي ابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 470 والداني في المحكم 16 عن أبي حمزة قال: أتيت إبراهيم بمصحف لي، مكتوب فيه: سورة كذا، وكذا آية، فقال إبراهيم: امح هذا، فإن ابن مسعود كان يكره هذا، ويقول: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه.
قلت: وقد فسر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه غريب الحديث 5/ 55 أثر عبد الله بن مسعود تفسيراً جيداً، يوقف عليه في محله.

(4) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران الكوفي، فقيه أهل الكوفة، كان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانها، وكان رجلا صالحا فقيها، مات وهو مختف من الحجاج سنة ست وتسعين. تهذيب الكمال /233 وسير أعلام النبلاء 4/ 520.
(5)
هو مكحول أبو عبد الله الشامي، فقيه الشام، لم يكن في زمانه أبصر بالفتيا منه، توفي سنة اثنتي عشرة ومائة، تهذيب الكمال 27/ 473 وسير أعلام النبلاء 5/ 155.
(6) هو عطاء بن أبي رباح، واسمه أسلم أبو محمد المكي، مولى أل أبي خثيم، أدرك مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاق أهل مكة في الفتوى، توفي سنة أربع عشرة ومائة، تهذيب الكمال 20/ 69 وسير أعلام النبلاء 5/ 78.

(1/73)


هذا مع ظهور الحال في ذكر أسماء السور، وعدد أعشارها، وأنه لا شبهة على أحد أن ذلك ليس بقرآن، فلو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست من القرآن لكان إثباتها بالإنكار أولى؛ لإشكال الأمر فيها، ولظهر اختلافهم في ذلك وإنكاره والخوض فيه، فلما لم يكن كذلك صح وثبت أن جميع ما في المصحف الذي كتبه (1) الصحابة رضي الله عنهم قرآن منزل من عند الله تعالى.
ويوضح ذلك أيضاً ويكشفه أن الذين استجازوا من التابعين ومن بعدهم أن يكتبوا في المصحف أسماء السور، وعدد آي كل سورة، والتعشير، والنقط، خالفوا في الخط بين هذه الأشياء وبين ما وجدوه في المصحف، فكتبوا هذه الأشياء بالحمرة، أو الصفرة ونحوهما، وخط المصحف بالسواد، واعتذروا عن ذلك بأن الأمر لا يشكل فيه، ولم يحتجوا بكتب السلف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في فواتح السور، مع أنها ليست من القرآن، وإشكال الأمر فيها، فثبت أنهم اعتقدوا أنها قرآن منزل، لأنهم لو كانوا يعتقدون خلاف ذلك لسارعوا إلى الاحتجاج بما قلنا، ولم يجز على جميعهم إغفال هذا الأمر الظاهر الناقض لقول من خالفهم وبدّعهم.
ومما يوضح ما قلنا أيضاً أنه لو ذهب ذاهب في يومنا هذا إلى أن المعوذتين ليستا من القرآن، واحتج بما رُوي عن ابن مسعود، أو ذهب إلى أن سورتي القنوت من القرآن، واحتج بما روي عن أبيّ بن كعب (2) لم يحتجّ عليه في إثبات المعوذتين قرآنا، وإسقاط سورتي القنوت من القرآن بابلغ من الرجوع إلى المصحف، فكذلك في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
ومما يبينه أيضاً أن مخالفينا في كون البسملة آية من الفاتحة قد أجمعوا معنا على أن قوله (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [سورة التوبة 128] إلى آخر
__________
(1)
في ظ: كتبت.
(2) روي قنوت أبي بالسورتين "اللهم إنا نستعينك" "اللهم إياك نعبد" عبد الرزاق في المصنف 3/ 112 وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 314.
قال ابن قتيبة: وأما نقصان مصحف عبد الله بحذفه أم الكتاب والمعوذتين، وزيادة أبي بسورتي القنوت فإنا لا نقول: إن عبد الله وأبيًّا أصابا، وأخطأ المهاجرون والأنصار ... وإلى نحو هذا ذهب أبي في دعاء القنوت، لأنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به في الصلاة دعاءً دائماً فظن أنه من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة الصحابة. تأويل مشكل القرآن 42، 47.

(1/74)


السورة، وقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [سورة الأحزاب 23] من القرآن؛ لاتفاق المصاحف على ذلك، مع ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري (1)، لم أجدهما مع غيره.
وفي رواية أخرى فقدت آية من الأحزاب: قد كنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ بها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) فألحقتها في سورتها في المصحف (2)، فكذلك يلزمهم أن يحكموا بأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية من الفاتحة؛ لاتفاق المصاحف على كتابتها فيه، مع ما يذكرونه من أنه لم يرد فيها ماورد في سائر آيات الفاتحة.
فإن قال قائل: إنا لا نعلم من دين الأمة المتفقة على كتب المصحف أنها وقفت على أن جميع ما فيه من فواتح السور قرآن منزل من عند الله، وإن علمنا أنهم قد أثبتوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فاتحة للسور (3).
فالجواب أن يقال: بالذي علمت أنت من دينهم أنهم قد وقفوا على أن المعوذتين، والآيتين من آخر سورة التوبة، والآية من الأحزاب قرآن منزل من عند الله = علم خصمك من دينهم أنهم وقفوا على أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية من أول الفاتحة.
ثم يقال: كلما كتب في المصحف في (4) أيام أبي بكر، وأقرّ هو وسائر الصحابة عليه سنة بعد سنة إلى انقراضهم محكوم بأنه قرآن منزل، وجار مجرى ما ورد به الخبر المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلّم للعلم بأنهم لم يدونوا فيه إلا ما وضح عندهم أنه قرآن منزل.
__________
(1)
هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه أبو عمار الخطمي الأنصاري، يعرف بذي الشهادتين، جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادة رجلين، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكان مع علي بصفين فلما قتل عمار جرد سيفه فقاتل حتى قتل، وكان صفين سنة سبع وثلاثين. الاستيعاب 2/ 448 والإصابة 2/ 278.
(2) رواه أحمد 35/ 501 والبخاري 4/ 1720 ح4402 والترمذي 5/ 181 ح3104 والنسائي في السنن الكبرى 7/ 248 من حديث زيد بن ثابت. وانظر في: الفصل للوصل المدرج في النقل للخطيب البغدادي 1/ 417 - 432 فقد ساق طرق هذا الحديث ورواياته، وبيّن الألفاظ المدرجة في بعض طرقه.
(3) في ظ: للسورة.
(4) في ت، ظ: من.

(1/75)


فإن قال: ففي المصحف أسماء السور، وعدد الآي، والأعشار، والأخماس، وليس شيء من ذلك بقرآن فكذلك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فالجواب: أن هذه الأشياء حادثة أحدثتا في المصحف بعد الصدر الأول من الصحابة، وحين أحدثوها كتبوها بغير القلم واللون اللذين كتب بهما سائر المصاحف، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بخلاف ذلك.
وجميع ما في " الإمام " كتبه كُتّاب المصحف في أيام أبي بكر رضي الله عنه بقلم واحد، ولون واحد، وأقرّهم سائر الصحابة على ذلك قاصدين به إلى حفظ التنزيل عن أن يضيع شيء منه، أو يختلط غيره به، فلم يجز أن يحكم بأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليس من جملة التنزيل، كما لا يجوز أن يحكم بمثل ذلك في المعوذتين، والآيتين من آخر التوبة، والآية من الأحزاب، فمن ادعى أن سطرا مما تضمنه " الإمام " ليس بقرآن كان كمن ادعى ذلك في المعوذتين، والآيات الثلاث.
فإن قال قائل: أنا لا أصحح خلاف ابن مسعود في المعوذتين.
قيل: الأمر في ذلك أشهر من أن يتهيأ لك جحده، ولو جاز لك ذلك -مع شهرة الأمر فيه- لجاز لخصمك أن يقول: وأنا لا أصحح اختلاف السلف في كون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآنا منزلا.
فإن قال: إنما أثبتت المعوذتان قرآنا مع الاختلاف الذي وجد؛ للإعجاز القائم فيهما، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليس فيه إعجاز، ولا هو متفق عليه.
قيل له: فأثبت سورتي القنوت قرآنا؛ لأن كل واحدة منهما قدر يكون فيه الإعجاز، كما أن كل واحدة من المعوذتين كذلك، وأنت لا يمكنك أن تثبت بدعواك هذه أكثر (1) من ذلك.
ثم يقال له: فاحكم بأن قوله (هو) في سورة الحديد في قوله (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) ليس من جملة التنزيل، لحصول الاختلاف، وعدم الإعجاز فيه، بل هذا أولى من وجهين:
أحدهما: أن كلمة (هو) غير مكتوبة في مصاحف أهل المدينة والشام، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مكتوبة في جميع المصاحف.
والآخر: أن كلمة (هو) أبعد من أن يكون فيها إعجاز من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
__________
(1) في ح: أكبر.

(1/76)


فإن قال: المعوذتان لما لم يجز إخراجهما من القرآن باختلاف كذلك لم يجز إثبات غيرهما في القرآن باختلاف.
فالجواب: أن هذا يلزم من يروم إثبات شيء في المصحف بعد الصحابة على أنه قرآن، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قد أثبتتها (1) الصحابة كما أثبتت سائر القرآن.
ثم يقال: أليس قد اتفقنا أنه لا يجوز إخراج المعوذتين عن أن يكونا قرآنا، مع كونهما مكتوبتين في المصحف، بخلاف من خالف فيهما، فكذلك لا يجوز إخراج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول الفاتحة عن أن تكون قرآنا مع كونها مكتوبة في المصحف، بخلاف من خالف فيها (2). انتهى كلام سليم الرازي.
وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة، صاحب الصحيح -وهو أحد الأئمة الجامعين بين الفقه والحديث، لقي أصحاب الإمام الشافعي، وأخد عنهم-: الرجوع فيما يختلف فيه من القرآن إلى ما هو مثبت بين الدفتين، كما أنه قد اختلف في المعوذتين، ولا حجة أثبت عند العلماء أنهما (3) من القرآن من إثبات هاتين السورتين، وكتبهما بين الدفتين باتفاق من جميع من جمع القرآن على عهد الصديق من المهاجرين والأنصار وأمهات المؤمنين، وهم أهل القدوة الذين شاهدوا التنزيل، وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلّم، وحفظوا عنه القرآن يقرأ به في الصلاة، ويعلمهم إياه، وهم الذين حفظوا سنن النبي صلى الله عليه وسلّم، وبلغوا عنه جميع ما بالمسلمين إليه الحاجة من دينهم، فكتبوا المعوذتين بين الدفتين باتفاق من جميعهم، لم ينازعهم في ذلك منازع، ولا خالفهم في ذلك بشر، ولا ترك أحد من المسلمين في شيء من الأقطار إلى يومنا هذا نعلمه كتبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في شيء من أوائل سور القرآن.
قال: فهذه الحجة العظمى عند علمائنا على من خالفنا ونازعنا وادعى أنهما ليستا من القرآن، ومخالفونا من العراقيين مقرون (4) أنهما من القرآن.
__________
(1)
في ظ: اثبتها.
(2) نقله أبو شامة في كتاب البسملة ل14 - 17 وسمى رسالة سليم الرازي بالمقنعة، ولا أعرف لها وجوداً في عالم المخطوطات.
(3) في ت، ظ: من أ نهما.
(4) في د: يقرون.

(1/77)


وابن مسعود - مع جلالته وعلمه وفقهه ومكانه (1) من الإسلام - كان ينكر أن المعوذتين من القرآن، وهم معترفون أنه لم يكتبهما في مصحفه، ولا كان يرى قراءتهما في الصلاة، فحجتنا العظمى على مخالفينا من العراقيين أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من القرآن هذه الحجة، حذو القذة بالقذة.
ولم نر في بلدة من بلاد الإسلام التي وطئناها من الحرمين، والحجاز، وتهامة، ومدن العراق، والشام، ومصر، وخراسان، ولا خبرنا أحد عاين، ولا خبر عن غيره أنه رأى مصحفا، ولا جزءا من أجزاء القرآن كتب فيه قديما وحديثا من لدن جمع القرآن بين الدفتين في عهد الصديق رضي الله عنه إلى زماننا أسقط في شيء من أوائل السور كتبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فكيف يجوز لعالم أن يتوهم عليهم أنهم كتبوا في المصاحف بين أضعاف القرآن في مائة وبضعة عشر موضعا ما ليس بقرآن بمثل القلم الذي كتبوا به القرآن، وبمثل ذلك السواد والخط؟.
فمن تدبر ما وصفنا، وعلم موضع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من دين الله والعلم والفقه في الدين، وشدة خوفهم من خالقهم، وورعهم علم واستيقن أنهم لم يكونوا يستحلون ولا يستجيزون لأنفسهم كتبة ما ليس بقرآن بين أَضعاف القرآن بمثل خط القرآن، بمثل ذلك السواد، ومثل ذلك القلم، ولم يميزوا بين كتبة القرآن، وكتبة ما ليس بقرآن.
ثم قال: قال لي بعض من يحتجّ للعراقيين: أثبت قرآن باختلاف؟.
فقلت مجيبا له: نعم، قد اختلف العلماء (2) في المعوذتين أهما من القرآن أم لا؟، وأنت مقر أنهما من القرآن مع اختلاف العلماء في ذلك، فلو لم يثبت قرآن باختلاف، بأن كان مسطورا بين الدفتين. لوجب أن تنفي المعوذتين من القرآن، فبهت ولم يحر جوابا.
قال: فهذه إحدى الحجج، وهي أعلاها وأقواها وأثبتها أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من كتاب الله في افتتاح كل سورة من القرآن.
ويقال لمخالفينا: خبرونا ما الحجة على بعض جهّال المعتزلة إن ادعى مدع
__________
(1)
في ت، ظ: ومكانته.
(2) إن كان يقصد بالعلماء عبد الله بن مسعود وحده فهذا فيه تسامح في العبارة وإلا فلم أقف على قول غير قول ابن مسعود في إنكار أن تكون المعوذتان من القرآن.

(1/78)


منهم أن ما في القرآن مما هو خلاف مذهبهم ليس بقرآن، وقال جاهل منهم مثل مقالة صاحبهم عمرو بن عبيد: إن (تبت يدا أبي لهب) لم تكن في اللوح المحفوظ؟
فهل يمكن إقامة الحجة أنها قرآن بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم؟ وهل الحجة أنه قرآن إلا أنه مكتوب بين الدفتين؟
أرأيت لو قالت الغالية من الرافضة: ما الدليل على أن ما تقرؤون في صلاتكم قرآن، فإن عندنا قرآنا مسنونا نظيره، إذا خرج المهدي ظهر العدل والحق والإنصاف؟
فهل يمكن إقامة دليل فيما ينكر هؤلاء أنه قرآن إلا أن يقال: اتفق الجميع من العلماء أن ما كتب في المصاحف والأجزاء والأسباع بالسواد قرآن؟ فهذه إحدى الحجج.
الحجة الثانية: أن أهل الصلاة جميعا لم يختلفوا من الأسلاف والأخلاف أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآن ووحي أنزله الله على النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله (إنه من سليمان وإنه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [سورة النمل 30]
وإذا اتفق الجميع أن ذلك في موضع واحد قرآن ووحي كان ما هو مثل حروفه ونظمه، ولفظه مما هو مكتوب في أوائل السور كلها بمثل كتابته قرآن ووحي مثله، لا فرق، إذا كان قرآنا في موضع فهو قرآن في كل موضع كتب بين الدفتين.
ثم قال: وابن مسعود مع إنكاره أن تكون المعوذتان من القرآن لم ينكر أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من القرآن؛ لأن في كراهته التعشير في المصحف، وفي قوله: " جردوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه " دلالة واضحة على أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لو لم تكن عنده في أوائل كل سورة من القرآن لما كتبت في أوائل السور.
ولم نسمع أحدا من العلماء، ولا من الجهّال ذكر أن ابن مسعود لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أوائل السور.
وقد نظرت في المصحف الذى يذكر أنه مصحف ابن مسعود - وهو خلاف تأليف مصاحف الآفاق - فرأيت في أوائل كل سورة من ذلك المصحف مكتوبا
__________
(1) في د، ق: حروف نظمه.

(1/79)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كما قد كتب في مصاحفنا، فالعلم محيط عند من سمع قول ابن مسعود: " جردوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه " أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أوائل كل سورة من القرآن كان عنده من القرآن؛ إذ لو لم يكن عنده من القرآن لما لبس القرآن بغيره، ولجرد القرآن، وجرد أصحابه الذين كانوا يرونه قدوة، لا يرون مخالفته واتباع غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم.
ومحال أن يكره عالم التعشير في المصحف كراهية أن يكون قد ألحق بالقرآن ما ليس منه، ثم يكتب ما ليس بقرآن في مائة موضع، وأكثر من عشرة مواضع حروفا منظومة. هذا ما لا أظنّه يخفى على عاقل (1).
قوله: (والباء متعلقة)
الشريف: الأدوات التي تفضي معاني الأفعال إلى ما بعدها فروع لها ومتعلقة بها، وكذلك المعمول من حيث هو معمول فرع على عامله ومتعلق به، فلذلك قال: " متعلقة "
وتراهم يقولون: أحوال مُتَعَلِّقاتِ الفعل بكسر اللام.
وإذا نظر إلى جانب المعنى قيل: تعلق الفعل بكذا، إما بنفسه أو بواسطة حرف (2).
قال: ثم إنه تارة يذكر تعلق الجار وحده، وتارة تعلق المجرور وحده، وتارة مجموع الجار والمجرور؛ وذلك لأن الجار أداة لإفضاء معنى الفعل، والمجرور معمول بواسطة الجار، فكل واحد منهما متعلق به، فكذا المجموع (3).
وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي في " شرح القواعد " له: فإن قلت: الجار له تعلق بمعنى الفعل، والمجرور له تعلق به، فما الفرق بينهما؟
قلت: تعلق الجار من جهة الإفضاء، وتعلق المجرور من جهة المعمولية، فمعلوم أن محلّ الإعراب إنما يتصور في الجهة الثانية فقط.
قوله: (بمحذوف)
قال شيخنا العلامة الكافيجي: هذا المحذوف ثابت لغة، ساقط لفظا وذكرا،
__________
(1)
نقنله أبو شامة في كتاب البسملة 21 - 24.
(2) حاشية الشريف 1/ 26.
(3) لم أجده في حاشية الشريف.
(4) شرح قواعد الإعراب 33.

(1/80)


وإلا فلا يكون الحذف من الأبحاث المتعلقة باللغة (1).
قوله: (تقديره بسم الله أقرأ)
تابع فيه " الكشاف (2) "، وقد ظن قوم أن الزمخشري تفرد به، وأنه خالف فيه طائفتي البصريين والكوفيين معا.
وليس كما ظنوه، فقد سبقه إلى ذلك إمام المفسرين ابن جرير (3).
قال الإمام ناصر الدين ابن المنير في " الانتصاف ": الذي يقدره النحاة - وهو أبتدئ - هو المختار؛ لوجوه:
منها: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل تسمية ابتدئ بها فعل من الأفعال، بخلاف فعل القراءة، والعام لعموم صحة تقديره أولى، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا، أو صفة، أو صلة، أو حالا بالكون والاستقرار حيثما وقع، ويؤثرونه لعموم صحة تقديره.
ومنها: أن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض المقصود من التسمية، فإن الغرض منها أن تقع مبتدأ، فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت " أقرأ " قدرت " أبدأ بالقراءة " لأن الواقع في أثناء القراءة قراءة أيضاً، والبسملة غير مشروعة فيها.
ومنها: ظهور فعل الابتداء في قوله صلى الله عليه وسلّم: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله فهو أقطع (4) ".
وأما ظهور فعل القراءة في قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك) فإنما ظهر ثم؛ لأن الأهمّ هو القراءة، غير منظور فيه إلى ابتدائها، ولهذا قدم الفعل فيها على متعلقه؛ لأنه الأهمّ، ولا كذلك في التسمية، فإن الفعل المقدر كائنا ما كان يقع بعدها، إذ لو قدر قبل الاسم لفات الغرض من قصد الابتداء، فدل على أنه الأهمّ، فوجب تقديره (5).
__________
(1)
المصدر السابق 34.
(2) الكشاف 1/ 26.
(3) جامع البيان عن تأويل القرآن 1/ 115.
(4) سيأتي تخريجه.
(5) الانتصاف 1/ 28.

(1/81)


وأجاب الإمام علم الدين العراقي في " الإنصاف " بأن قال: ما ذكره الزمخشري أصح؛ لأنه أمسّ وأخص بالمقصود، وأتم شمولا؛ فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها مقرونة بالتسمية، مصاحبة لها، أو أن القراءة كلها بالله تعالى على اختلاف المذهبين الآتي ذكرهما، بخلاف تقدير أبدأ؛ فإنه يقتضي مصاحبتها بأول القراءة دون باقيها، أو أن ابتداء قراءته بالله تعالى غير متعرض إلى تمامها.
وأما استشهاده بتقدير النحاة الكون والاستقرار فليس بجيد، فإنهم إنما فعلوه تقريبا وثمثيلا.
ولو قلت: زيد على الفرس، أو زيد من العلماء، أو زيد في حاجتك، أو زيد في البصرة، لقدرت: راكب، ومعدود، ومهتم، ومقيم، وكان أمسّ من الاستقرار، فقد استبان لك أن تمثيل النحاة بالكون والاستقرار إنما هو حيث لا يقصدون عاملا بعينه، بل يريدون الكلام على العامل من حيث هو عامل، كتمثيلهم بزيد وعمرو، لا لخصوصيتهما، بل ليقع الكلام على مثال، فيكون أقرب إلى الفهم، ثم لا يقال: الفاعل إذا أبهم يقدر بزيد وعمرو.
وأما ما ذكره ثانيا من أن فعل البداية مستقل بالغرض لا نسلمه، فالقراءة أمسّ وأشمل كما سبق.
وقوله: الغرض أن تقع التسمية مبتدأ فنقول بموجبه، وأن ذلك يقع بالبداية بها فعلا، لا بإضمار الابتداء ولا بنيته، فإن ذلك يحصل بالبداية بالتسمية، غير مفتقر إلى شيء، فإن من صلى فبدأ بتكبيرة الإحرام، أو توضا فبدأ بغسل وجهه لا يحتاج في كونه بادئا بذلك إلى إضمار بدأت، لكنه مفتقر إلى بركة التسمية وشمولها لجميع فعله.
وأما ما ذكره ثالثا من ظهور فعل البداية في الحديث فجوابه: أن كون التسمية مبتدأ بها حاصل بالفعل، لا بإضمار فعلها، ولم يقل في الحديث: كل أمر ذي بال لم يقل أبدأ، ولم يضمر فيه، بل طلب وقوعها فعلا.
فإن قلت: الباء في بسم الله في الحديث متعلق بيبدأ بلا خلاف، وهذا وجه الدليل قلت: لا تغفل عما قررته، فإن الحديث فيه حث على البداية، وأما امتثال ذلك فهو بنفس البداية، لا بلفظها، وأما شمول بركة التسمية فذلك بالله، لا بفعلنا (1). انتهى.
__________
(1) الإنصاف ل1.

(1/82)


وقد أورد ذلك الطيبي (1)، ولم يزد عليه، والشريف، وزاد:
قال الفاضل اليمني (2) - تقوية للمجيب -: النحويون يقدرون في الظرف المستقر فعلا عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص، وأما إذا وجدت فلا بد من تقديره؛ لأنه أكثر فائدة (3).
قال الشريف: وأقول: تحقيقة أن هذا القسم من الظرف إنما سمي مُسْتَقَرًّا؛ لأنه استقر فيه عامله، وفهم منه، فإن لم يفهم منه سوى الأفعال العامة كان المقدر منها، وإن فهم منه معها شيء من خصوص الأفعال كان المقدر بحسب المعنى فعلا خاصا كما في الأمثلة السابقة، وذلك لا يخرجها عن كونها ظرفا مستقرا؛ لأن معنى ذلك الفعل الخاص استقر فيها أيضاً، وجاز تقدير الفعل العام لتوجيه الإعراب فقط.
ولما كان تقدير الأفعال العامة ضابطا مطردا اعتبره النحاة، وفسروا المستقرَّ بما عامله محذوف وعام.
هذا. وقد يتوهم من قول " الكشاف " فيما بعد: " فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله تعالى بالابتداء (4) " أن المقدر هو أبتدئ، فكأنه جوز كل واحد من التقديرين. انتهى (5).
وهذا الكلام الأخير سبقه إليه الشيخ سعد الدين فإنه قال: فإن قيل: ينبغي أن يقدر بسم الله أبتدئ، لأن المفهوم من الحديث وجوب الابتداء بها، ولأن الابتداء لعمومه أولى بالتقدير، كما يقدر في الظرف المستقر الحصول والكون.
قلنا: آثر ذلك لما فيه من الدلالة على تلبس الفعل كله بسم الله، بخلاف تقدير أبتدئ، ولأن المذكور عند عدم الحذف هو القراءة، دون الابتداء بها، كما في قوله
__________
(1) فتوح الغيب 1/ 73.
(2) هو يحيى بن القاسم بن عمر عز الدين الصنعاني، برع في علوم كثيرة، وأكثر الاشتغال بالكشاف، له درر الأصداف في حل عقد الكشاف، وتحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 2/ 857 وكشف الظنون 2/ 1480.
(3)
تحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف ل6 نسخة مصورة بمركز البحوث العلمية برقم 961 التفسير.
(4) الكشاف 1/ 29.
(5) حاشية الشريف 1/ 28.

(1/83)


تعالى (اقرأ باسم ربك) والنحويون إنما يقدرون متعلق الظرف المستقر عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص.
هذا. ولكن قوله بعد ذلك: فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص الله بالابتداء " يشعر بأن المقدر أبتدئ، فكأنَّه أشار في الموضعين إلى استواء الأمرين (1).
وقال الشريف بعد ذلك: فإن قلت: قوله: اختصاص اسم الله بالابتداء " يدل على أن المقدر أبتدئ (2).
قلت: أراد بالابتداء الفعل الذي يبتدئ به ويشرع فيه كالقراءة ونحوها، لا مفهومه الحقيقي، ولذلك قال عقبه: وتأخير الفعل، ولم يقل: وتأخير الابتداء.
وقال شيخنا العلامة الكافيجي: ما ذهب إليه صاحب " الكشاف " هاهنا هو المختار، فإن فيه قلة الحذف، ورعاية حق خصوصية المقام، ودلالة على اختصاص القراءة ببسم الله، وتعليما للمؤمنين بأن طريقهم هو الحق والصواب، وتعريضا للكفار بأن سبيلهم هو الخطأ والطغيان، فمعلوم أن هذه الاعتبارات تناسب نظم القرآن، وتشهد بفصاحته، وغاية إعجازه.
وأما ما ذهب إليه البصريون والكوفيون فهو خال عما ذكر، بل غاية جل أمره بيان المتعلق من غير رعاية المقام، وأنت خبير بأن التقدير مهما كان أوجز كان أولى، لا سيما مع تلك الدقائق اللطيفة.
فإن قلت: تقدير أبتدئ يلائم مفتتح الكتاب (3)، ويناسب منطوق الحديث.
قلت: نعم، لكن رعاية مقتضى المقام أمر راجح، وشاهد يكشف أسرار بلاغة نظم القرآن (4) (5)؟.
وقال شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في " الكشاف ": وأما كون الفعل
مضارعا فقدره الطبري (6)، ويعزى إلى الزجاج (7)،. . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) حاشية سعد الدين ل8.
(2) حاشية الشريف 1/ 29.
(3) كذا في النسخ، وفي شرح قواعد الإعراب: الكلام.
(4) في ظ: النظم القرآني.
(5) شرح قواعد الإعراب 34.
(6) جامع البيان 1/ 115.
(7) لكن الذي في معاني القرآن وإعرابه 1/ 39 تقدير المتعلق فعلا ماضيا حيث قال: الجالب للباء=

(1/84)


وخالف فيه قوم منهم الفراء (1) وقالوا: المقدر فعل أمر؛ لأن الله تعالى قدم التسمية حثا للعباد على فعل ذلك في القراءة وغيرها، فيكون التقدير ابتدئوا واقرأوا.
واحتج الطبري للأول بأثر عن ابن عباس فقال: مفهوم أنه أريد بذلك أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وكذلك قوله: بسم الله عند نهوضه للقيام، أو عند قعوده وسائر أفعاله تنبئ عن معنى مراده بقوله: بسم الله، وأنه أراد أقوم بسم الله، وأقعد بسم الله، وكذلك سائر الأفعال.
وهذا الذي قلناه في تأويل ذلك هو معنى قول ابن عباس الذي:
حدثنا به أبو كريب (2) قال: حدثنا عثمان بن سعيد (3)، حدثنا بشر بن عمارة (4)، حدثنا أبو روق (5)، عن الضحاك (6)، عن ابن عباس قال: " إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلّم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يقول: اقرأ بذكر الله، وقم واقعد بذكر الله " (7) وما ذكره الطبري والفراء (8) أرجح.
وقد استأنس بعضهم لتقديره فعلا خاصا ماضيا مؤخرا بقوله صلى الله عليه وسلّم " باسمك ربي وضعت جنبي " (9) انتهى.
__________
=معنى الابتداء، كأنك قلت: بدأت بسم الله الرحمن الرحيم، إلا أنه لم يحتج لذكر بدأت، لأن الحال تنبئ أنك مبتدئ.
(1)
لم يتعرض لمتعلق الباء في كتابه معاني القرآن، فلعله ذكره في غيره من كتبه.
(2) هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب الهمداني، روى عن عثمان بن سعيد الزيات، روى عنه أبو جعفر الطبري. ثقة. تهذيب الكمال 26/ 243 وسير أعلام النبلاء 14/ 267.
(3)
هو عثمان بن سعيد بن عمار الكوفي الزيات، روى عن بشر بن عمارة، روى عنه أبو كريب محمد بن العلاء، لا بأس به. تهذيب الكمال 19/ 379 وتهذيب التهذيب 7/ 119.
(4) هو بشر بن عمارة الخثعمي، روى عن أبي روق عطية بن الحارث، روى عنه عثمان بن سعيد الزيات، ضعيف. تهذيب الكمال 4/ 137 وتهذيب التهذيب 1/ 455.
(5)
هو عطية بن الحاث أبو روق الهمداني، روى عن الضحاك بن مزاحم، روى عنه بشر بن عمارة ليس به بأس، تهذيب الكمال 20/ 144.
(6) هو الضحاك بن مزاحم أبو القاسم الهلالي، روي عن عبد الله بن عباس، وروى عنه أبو روق، ثقة مأمون. تهذيب الكمال 13/ 291 وتهذيب التهذيب 4/ 453.
(7) رواه الطبري في جامع البيان 1/ 115 وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 1/ 146.
(8) جامع البيان 1/ 115 ومعاني القرآن 1/ 2.
(9) رواه أحمد 15/ 282 والبخاري في 5/ 2329 ح5961 ومسلم في 4/ 2084 ح2714 وأبو داود في 5/ 372 ح5011 والترمذي في 5/ 406 ح3401 والنسائي في السنن الكبرى 9/ 291 ح1055 وابن ماجة في 4/ 31 ح3943 من حديث أبي هريرة.

(1/85)


قلت: يشير بذلك إلى عبارة الشيخ جمال الدين ابن هشام، فإنه قال في " المغني ":
تنبيه: عبارة " الكشاف ": تقديره باسم الله أقرأ، أو أتلو " (1).
قال الشريف: وهو تنبيه على أن المعتبر خصوص المعنى، لا اللفظ (2). انتهى.
وقد أسقط المصنف قوله: " أو أتلو " ففاتته هذه الفائدة.
قوله: (لأن الذي يتلوه مقروء)
قال الطيبي: هذا تعليل لتعيين المقدر؛ لأن حروف الجر وإن لم تنفك عن متعلق لأن وضعها لإفضاء معاني الأفعال إلى الأسماء، غير أنها تدل على مطلق الفعل، ولابد في تخصيصه من قرينة، وفيما نحن فيه القرينة ما يتبع التسمية، وهو قوله (الحمد لله) وهو مقروء ومتلوّ، فدلّ ذلك على أن المضمر أقرأ، أو أتلو.
وقال: وكان الأنسب أن يقال: الذي يتلو التسمية القراءة؛ لأن الابتداء بالتسمية إنما يكون في الفعل الذي يريد أن يفعله المسمِّي، يدل عليه قوله: " كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له " والمضمر الفعل لا المفعول، كما أن تسمية الذابح إنما يتلوها الذبح لا المذبوح (3).
قال الشيخ أكمل الدين، والجواب أن القراءة علة المقروء، ولا يحصل إلا بها، وهما في الوجود الخارجي معا، فيجوز أن يقال: إن كل واحد منهما يتلو التسمية، إذ المقصود - وهو بيان القرينة الخاصة - حاصل بذلك (4).
وبسطه الشريف فقال: أجيب بأن المقصود من تلو المقروء تلو القراءة؛ لاستلزامه إياه، وإنما ترك ذكره ودلّ عليه رعاية للمجانسة بين التالي والمتلو إذا أمكنت.
وبيانه أن المراد بالتسمية من هذه العبارة المخصوصة التي عدت آية، لا
__________
(1)
ليست عبارة ابن هشام في المغني هكذا، بل هكذا: يقدر (الزمخشري) الفعل مؤخراً ومناسباً لما جعلت التسمية مبتدأ له، فيقدر باسم الله أقرأ، باسم الله أحل، باسم الله أرتحل. المغني 496.
(2) حاشية الشريف 1/ 26.
(3) فتوح الغيب 1/ 71.
(4) حاشية أكمل الدين ل8.

(1/86)


المعنى المصدري، ويتلوها هاهنا شيآن:
أحدهما: من جنسها، ويتلو ذكره ذكرها، وهو المقروء، أعني (الحمد لله) مثلا.
والثاني: من غير جنسها ويتلو وجوده ذكرها، وهو القراءة، وتلو كل واحد منهما يستلزم تلو الآخر، فصرّح بتلو الأول ليفهم الثاني مع المحافظة على التجانس.
وإنما قلنا: " هاهنا " لأن تسمية الذابح مثلا لا يتلوها إلا الذبح، فإنه يتبع وجودُهُ ذكرَهَا، وأما المذبوح فلا يتبع ذِكْرها، لا في الوجود، ولا في الذكر، فلا يستقيم أن يقال: الذي يتلو التسمية مذبوح (1).
ولخص الشيخ سعد الدين العبارة فقال: يعني أن حرف الجر يدلّ على أن له متعلقا، وليس بمذكور، فيكون محذوفا، وقرينة تعيين المحذوف في بسم الله هو ما يتلوه ويتحقق بعده، وهو هاهنا القرآن؛ لأن الذي يتلوه في الذكر مقروء مثل (الحمد لله)، فيكون الفعل هو القراءة، فلما كان للمتلو هاهنا تال من جنسه حسنت هذه العبارة، بخلاف ما إذا قيل في تسمية الذابح: إن الذي يتلو التسمية مذبوح، فإنه لا يستقيم؛ لأن التسمية لا تالي لها هاهنا إلا في الوجود، وهو الذبح، وفيما نحن فيه لها تال في الذكر، وهو المقروء، وفي الوجود وهو القراءة (2).
قوله: (وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له)
قال الشيخ أكمل الدين: قيل: وفي هذا الكلام تسامح؛ لأن ما جعل التسمية مبدأ له هو فعله، ولا يضمره، بل يضمر ما اشتق منه.
قال: ويمكن أن يجاب عنه بذلك الجواب بعينه (3) يعني الذي تقدم من قول الطيبي: إن الذي يتلو التسمية القراءة، لا المقروء.
وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن المضمر هو الفعل النحوي، والتسمية إنما جعلت مبدأ للفعل الحسي، ففي الكلام حذف مضاف، أي لفظ ما جُعِل. وتابعه الشريف (4).
__________
(1)
حاشية الشريف 1/ 27.
(2) حاشية سعد الدين ل8.
(3) حاشية سعد الدين ل8.
(4) حاشية سعد الدين ل8 وحاشية الشريف 1/ 27.

(1/87)


قوله: (أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه)
أي لأنه يحوج إلى تقدير كائن، أو ثابت، أو نحوه.
والبصريون قالوا: إن إضمار ابتدائي أولى، على أنه من باب حذف المبتدإ، والمتعلِّق به الجار، وهو كائن أو نحوه، ورجحوه بأن فيه بقاء أحد ركني الإسناد، وبأن الأسماء أصل، وغيرها فرع، والأصل أحق بالتقدير، وبأن المحذوف يكون مفردا، بخلاف تقدير الفعل فإنه يكون المحذوف جملة، وقلة الحذف أولى، وبأن الاسم المقدر إما مضاف، وإما معرّف بلام التعريف فيفيد العموم، بخلاف تقدير الفعل.
وما يقع في عبارات المعربين من أن البصريين يقولون: التقدير: ابتدائي بسم الله تعقب ظاهره؛ فإنه يوهم أن ابتدائي متعلق الجار، وليس كذلك، إذ يلزم أن يحتاج بعده إلى خبر، وهو ثابت أو موجود، وانما البصريون يقولون: إن الجار في مثل هذا متعلق بكائن، أو مستقر، والمبتدأ محذوف، وهو ابتدائي، على ما تقدمت الإشارة إليه.
قوله: (وتقديم المعمول هاهنا أو قع)
قال البلقيني: وأما كون الفعل متأخرا فهو خلاف ما عليه الأكثرون من تقديره متقدما.
وقد استأنس بعضهم لتقديره فعلا ماضيا مؤخرا بقوله صلى الله عليه وسلّم: " باسمك ربي وضعت جنبي "
وأما كون المتعلُّق به مقدما على الرحمن الرحيم فقضية البداية بالاسم وإفادة الاختصاص التي ادعاها أن يكون المقدر مؤخرا عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بكمالها، لئلا يقع الفصل بين الموصوف والصفة بما لم يتعين تقديره في هذا الموضع.
قال: ولم أر من تعرض لها.
وقال ابن المنير: لو قدرنا العامل متقدما لفات الغرض من كون التسمية مبدأ (1).
وقال الشريف: هذا لا يختص بتسمية القارئ، بل يتناول تسمية المسافر
__________
(1) الإنصاف 1/ 27.

(1/88)


والذابح، وكل فاعل جعل التسمية مبدأ لفعله، فإنه يجعل فيه المقدر مؤخرا (1) (2). قوله: (كما في (بسم الله مجراها ومرساها) [سورة هود 42]
قال الشيخ أكمل الدين: هذا على تقدير أن يكون (باسم الله مجراها ومرساها) - أي إرجاؤها وإرساؤها - جملة مقتضية من مبتدإ وخبر، وأما إذا كان معمول (اركبوا) فليس مما نحن فيه (3).
وتابعه الشيخ سعد الدين والشريف (4).
قوله: (لأنه أهم)
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى ما ذكره الشيخ عبد القاهر من أنا لم نجدهم اعتمدوا في التقديم شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام إلا أنه لا يكفي أن يقال: قدم للاهتمام، بل ينبغي أن تبيّن أنه لم كان أعنى به، ولم كان أهمّ، ثم إن بعض وجوه الاهتمام الاختصاص (5).
قوله: (وأدل على الاختصاص)
الفرق بين الاهتمام والاختصاص أن الثاني يستدعي الرد على مدعي الشركة، بخلاف الأول فإنه للتبرك، لا للرد.
وقال الشيخ سعد الدين: معنى اختصاص اسم الله بالابتداء جعله من بين الأسامي منفردا بذلك.
قال: والظاهر أنه قصر إفراد (6)؛ لأن ابتداء المشركين باسم اللات والعزى كان لمجرد الاهتمام، دون الاختصاص، فعلى الموحد قطع شركة الأصنام (7).
وقال البلقيني " أما كون الابتداء بالمتعلِّق أهمَّ فالمتعلق إنما هو الجار،
__________
(1)
في ح، ق: متأخرا.
(2) حاشية الشريف 1/ 29.
(3)
حاشية أكمل الدين ل8.
(4) حاشية سعد الدين ل9 وحاشية الشريف 1/ 30.
(5) كتاب دلائل الإعجاز 108 وحاشية سعد الدين ل8.
(6) هو التخصيص بشيء دون شيء، ويخاطب به من يعتقد شركة صفتين في موصوف واحد، وشركة موصوفين في صفة واحدة، فالمخاطب بقولنا: ما زيد إلا كاتب من يعتقد اتصافهة بالشعر والكتابة، ويسمى هذا قصر إفراد؛ لقطع الشركة التي اعتقدها المخاطب.
(7) حاشية سعد الدين ل8.

(1/89)


والاسم إنما هو ذكر المجرور، وأما إفادة الاختصاص في ذلك فممنوع، ولا يقوم على إفادة الاختصاص دليل من جهة اللفظ، ولكن حال الموحد يقتضي ذلك ولو كان المتعلَّقُ به مقدما.
وقال الشريف: دلالة التقديم على الاختصاص بالفحوى وحكم الذوق (1).
وقال الشيخ أكمل الدين: اعلم أن صاحب " الكشاف " أشار إلى أن تقديم بسم الله للاهتمام، ثم أعقبه بذكر الاختصاص، والشارحون بنوا كلامهم على أن المراد بالاختصاص هو التخصيص، فتكلموا في كونه قصر إفراد، أو قصر قلب (2).
ولاشك أن كلا من الاهتمام والاختصاص ينفك عن معنى التخصيص، فإن علماء المعاني يقولون: إن الحالة التي تقتضي تأخير المسند ما إذا كان ذكر المسند إليه أهم، كقولك: زيد في الدار، وليس فيه فائدة التخصيص.
واتفقوا على أن قولهم: الجل للفرس يفيد الاختصاص، ولا تخصيص فيه؛ لأنه ليس على الطرق المذكورة للقصر، ولانتفاء شرطه، وهو ردّ الخطإ إلى الصواب.
فإما أن يكون قد اصطلح على أن الاختصاص بمعنى الاهتمام، ولا نزاع في جوازه فيكون كلام الشارحين في القصر في غير محله، وفيما ليس مرادا، وإما أن يكون قد اصطلح على أن الاختصاص بمعنى التخصيم، والاهتمام مراد فيهما، وهو ملبس وقصور في حفظ الأوضاع، لا لنكتة (3).
قوله: (كيف وقد جعل آلة لها)
إشارة إلى أن الباء للاستعانة.
قال في " الكشاف ": " لما اعتقد المؤمن أن فعله لا يجيء معتدا به في الشرع، واقعا على السنة حتى يصدر بذكر الله، وإلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولا باسم الله، كما يفعل الكاتب بالقلم ".
قوله: (لقوله صلى الله عليه وسلّم " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله فهو
__________
(1)
حاشية الشريف 1/ 30.
(2) هو التخصيص بشيء مكان شيء، ويخاطب به من يعتقد عكس الحكم الذي أثبته المتكلم، فالمخاطب بقولنا: ما زيد إلا قائم من يعتقد اتصافه بالقعود دون القيام، وبقولنا: ما شاعر إلا زيد من يعتقد أن الشاعر عمرو لا زيد، ويسمى هذا قصر قلب؛ لقلبه ما عند المتكلم. شرح عقود الجمان 43 ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها 2/ 450.
(3) حاشية أكمل الدين ل8.

(1/90)


أبتر " أخرجه الحافظ عبد القادر بن عبد الله الرُّهاوِي (1) في كتاب " الأربعين " له
قال: أخبرنا محمد بن حمزة بن محمد القرشي (2) قال: أخبرنا هبة الله بن أحمد بن
محمد الأكفاني (3) قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ (4)، أخبرنا محمد بن علي بن
مخلد الوراق (5)، ومحمد بن عبد العزيز بن جعفر البرذعي (6) قالا: حدثنا أحمد
بن محمد بن عمران (7)، حدثنا محمد بن صالح البصري (8)، حدثنا عبيد بن عبد
الواحد بن شريك (9)، أخبرنا يعقوب بن كعب الأنطاكي (10)، حدثنا مبشر بن
__________
(1) هو عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الرهاوي الحنبلي، كان عالما مأمونا صالحا، عمل "أربعي البلدان" المتباينة الأسانيد ولو أحقها ومتعلقاتها، فجاءت في مجلدين، دلت على حفظه ونبله، وله فيه أوهام، توفي سنة اثنتي عشرة وستمائة. سير أعلام النبلاء 22/ 71 وذيل طبقات الحنابلة 2/ 82.
(2) هو محمد بن حمزة بن محمد أبو عبد الله، يعرف بابن أبي الصقر، سمع من هبة الله بن الأكفاني، وروى عنه عبد القادر الرهاوي، محدث ثقة مفيد، توفي سنة ثمانين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 21/ 109 والعبر 4/ 239.
(3) هبة الله بن أحمد بن محمد أبو محمد، المعروف بابن الأكفاني، سمع من أبي بكر الخطيب، كان ثقة ثبتا متيقظا، توفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 19/ 576 وتذكرة الحفاظ 4/ 1275.
(4) سبقت ترجمته.
(5) لم أعرف عنه سوى أنه شيخ الخطيب البغدادي، وأنه روى عنه عشرات المرات في كتبه، منها تاريخ بغداد 1/ 296، 317، 333، 342 ومنها الجامع لأخلاق الراوي 1/ 261، 264، 265.
(6) هو محمد بن عبد العزيز بن جعفر أبو الحسن البرذعي، المعوف بمكي، قال الخطيب: كتبت عنه، توفي سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة. تاريخ بغداد 2/ 353 والأنساب 2/ 144.
(7) هو أحمد بن محمد بن عمران أبو الحسن النهشلي البغدادي، وى عنه محمد بن عبد العزيز البرذعي، ومحمد بن علي بن مخلد الوراق، ليس بشيء، توفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة. تاريخ بغداد 5/ 77 وسير أعلام النبلاء 16/ 555.
(8) لم أعرف عنه سوى أنه ذكره الحافظ ابن حجر في نزهة الألباب في الألقاب تحت لقب فروجه 2/ 69.
(9) هو عبيد بن عبد الواحد بن شريك أبو محمد البزار، روى عن يعقوب بن كعب الأنطاكي، صدوق، توفي سنة ثمان وثمانين. تاريخ بغداد 11/ 99 وسير أعلام النبلاء 13/ 385.
(10) هو يعقوب بن كعب بن حامد أبو يوسف الأنطاكي، روى عنه عبيد بن عبد الواحد، وروى عن مبشر بن إسماعيل، ثقة، رجل صالح، صاحب سنة. تهذيب الكمال 32/ 358 وسير أعلام النبلاء 11/ 524.

(1/91)


إسماعيل (1)، عن الأوزاعي (2)، عن الزهري (3)، عن أبي سلمة (4)، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أقطع " إسناده حسن.
وقد أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو القاسم البغوي (5)، وأبو سعيد ابن الأعرابي (6) من طرق عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن بن حَيْوِيل (7) عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
ولفظ ابن ماجه: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع "
ولفظ ابن الأعرابي " بالحمد لله أقطع "
ولفظ البغوي ((بحمد الله))
__________
(1)
هو مبشر بن إسماعيل أبو إسماعيل الحلبي، روى عن الأوزاعي، روى عنه يعقوب بن كعب، كان ثقة مأمونا، توفي سنة مائتين. تهذيب الكمال 27/ 190 وسير أعلام النبلاء 9/ 301.
(2) هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه، روى عن الزهري وقرة بن عبد الرحمن بن حيويل، روى عنه مبشر بن إسماعيل، توفي سنة سبع وخمسين ومائة. تهذيب الكمال 17/ 307 وسير أعلام النبلاء 7/ 107.
(3) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله أبو بكر القرشي الزهري المدني، كان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار، وروي عن أبي سلمة، روى عنه الأوزاعي، توفي سنة أربع وعشرين ومائة. تهذيب الكمال 26/ 419 وسير أعلام النبلاء 5/ 326.
(4) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني، كان ثقة فقيها كثير الحديث، روى عن أبي هريرة، توفي سنة أربع وتسعين. تهذيب الكمال 33/ 370 وسير أعلام النبلاء 4/ 287.
(5) هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي، ثقة إمام من الأئمة، حدث عنه مسلم وأبو داود وغيرهما، توفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهراً واحداً. سير أعلام النبلاء 14/ 440 وميزان الاعتدال 2/ 492.
(6) هو أحمد بن محمد بن زياد أبو سعيد ابن الأعرابي البصري، نزيل مكة وشيخ الحرم، كان كبير الشأن بعيد الصيت عالي الإسناد، خرج معجما كبير، وحمل السنن عن أبي داود، توفي سنة أربعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/ 407 ولسان الميزان 1/ 308.
(7) هو قرة بن عبد الرحمن بن حيويل أبو محمد المعافري المصري، لا بأس به، روى عن الزهري، روى عنه الأوزاعي، توفي سنة سبع وأربعين ومائة. تهذيب الكمال 23/ 581 وميزان الاعتدال 3/ 388.

(1/92)


ولفظ أبي داود والنسائي " كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم " (1).
__________
(1) رواه أحمد 14/ 329 من طريق ابن المبارك، وأبو داود 5/ 289 ح4807 والنسائي في السنن الكبرى 9/ 184 والدارقطني 1/ 229 من طريق الوليد بن مسلم وابن ماجة 2/ 324 ح1924 وابن الأعرابي في كتاب المعجم 1/ 206 والبيهقي في شعب الإيمان 4/ 90 وكتاب الدعوات الكبير 1/ 3 وأبو سعد السمعاني في كتاب أدب الإملاء والاستملاء 1/ 283 والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 70 وفي كتاب الفقيه والمتفقه 2/ 253 من طريق عبيد الله بن موسى، وابن حبان (الإحسان 1/ 173، 174) من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين، وشعيب بن إسحاق، وأبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/ 448 من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين والدارقطني في السنن 1/ 229 من طريق موسى بن أعين، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 208 من طريق أبي المغيرة كلهم (ابن المبارك، والوليد، وعبيد الله، وعبد الحميد، وشعيب، وموسى، وأبو المغيرة) عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً.
قال الدارقطني: تفد به قرة عن الزهري، عن أبي سلمة، وأرسله غيره عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرة ليس بقوي في الحديث.
وقال الخليلي: هذا حديث لم يروه عن الزهري إلا قرة، وهذا ليس عند عقيل، ولا غيره من المكثرين من أصحاب الزهري، ورواه شيخ ضعيف، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، وهو إسماعيل بن أبي زياد الشامي صاحب التفسير.
ثم ساق بسنده إلى إسماعيل، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
ثم قال: وحديث الأوزاعي عن قرة مشهور، رواه الكبار عن الأوزاعي: الوليد بن مسلم، وأبو المغيرة، وعبيد الله بن موسى، وابن المبارك عن الأوزاعي، والمعول عليه، ولا يعتمد على رواية إسماعيل عن يونس. كتاب الإرشاد 1/ 448، 449.
ورواه أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد 3/ 966 من طريق خارجة بن مصعب والخطيب في الجامع 2/ 69 ومن طريقه السمعاني في كتاب أدب الإملاء والاستملاء 1/ 283 والرهاوي في أربعينه ولم أقف عليه سوى أجزاء منه في المكتبة الظاهرية ليس فيها الحديث ومن طريق الرهاوي ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 1/ 12 من طريق مبشر بن إسماعيل كلاهما عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً.
قال الخليلي: هذا لم يسمعه الأوزاعي عن الزهري، وإنما سمعه من قرة بن عبد الرحمن، هكذا رواه عن الأوزاعي: ابن المبارك، وأبو المغيرة، وابن أبي العشرين، وعبيد الله بن موسى.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير 19/ 72 من طريق صدقة بن عبد الله، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الدارقطني في السنن: ولا يصح الحديث، وصدقة ضعيف.
وواه النسائي في السنن الكبرى 9/ 184، 185 من طريق سعيد بن عبد العزيز، وعقيل،=

(1/93)


والبال الحال والشأن، وأمر ذو بال، أي شريف يحتفل به ويهتم، والبال في غير هذا القلب، وقيل: إنما قال: " ذو بال " لأنه من حيث أنه يشغل القلب كأنه مَلَكَهُ، وكان صاحب بال.
قال الشريف: وشبه بذي قلب على الاستعارة المكنية.
قال: وفي هذا الوصف فائدتان: إحداهما رعاية تعظيبم اسم الله بأن يبتدأ به في الأمور المعتد بها.
والأخرى: التيسير على الناس في محقرات الأمور (1).
قال الشيخ سعد الدين: وليس معنى يبدأ فيه " بسم (2) الله " أنه يجب أن يكون ابتداء الأمر اسما من أسماء الله، بل أن يذكر اسم الله تعالى.
قال: وبهذا يندفع ما خطر ببعض الأذهان أن الابتداء بالتسمية ليس ابتداء بسم
الله؛ لأن اسمه هو لفظ " الله " لا لفظ " اسم (3) ".
وقال الشريف: تصدير الفعل " بسم الله " لا يكون إلا بذكر اسمه ويقع على وجهين:
أحدهما: أن يذكر اسم خاص من أسمائه كلفظ " الله " مثلا.
والثاني: أن يذكر لفظ دالّ على اسمه كما في التسمية فإن لفظ " اسم " مضافا إلى " الله " يراد به اسمه، فقد ذكر هاهنا أيضاً اسمه، لكن لا بخصوصه، بل بلفظ دال عليه مطلقا، فيستفاد أن التبرك أو الاستعانة بجميع أسمائه، وأن الباء والاسم وسيلة إلى ذكره على وجه يؤذن بجعله مبدأ للفعل، فهي من تتمة ذكره على الوجه المطلوب، فاندفع ما يتوهم من أن الابتداء بالتسمية ليس ابتداء بسم الله؛ لأن الباء
__________
=والحسن بن عمر عن الزهري مرسلاً.
قال أبو داود 5/ 289 رواه يونس، وعقيل، وشعيب، وسعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
قال الداقطني في العلل 8/ 30 والصحيح عن الزهري المرسل، وقال في السنن: والمرسل هو الصواب.
(1) حاشية الشريف 1/ 32.
(2) في ح: ببسم.
(3) حاشية سعد الدين ل9.

(1/94)


ولفظ " اسم " ليس شيء منهما اسما لله (1).
وقال شيخنا العلاّمة محيي الدين الكافيجي: فإن قلت إن حديث الابتداء بالتسمية يعارض حديث الابتداء بالحمد (2)، فإن الابتداء بأحدهما يفوّت الابتداء بالآخر.
قلت: يحمل حديث التسمية على ابتداء الكلام بحيث لا يسبقه أمر من الأمور، ويحمل حديث الحمد على ابتداء ما عدا التسمية.
فإن قلت: أرى كثيرا من الأمور يبتدأ فيها بسم الله مع أنه لا يتم، وأرى كثيرا بالعكس.
قلت: المراد من الحديث أن لا يكون معتبرا في الشرع، ألا ترى أن الأمر الذي ابتدئ فيه بغير اسم الله غير معتبر شرعا وإن كان تاما حسا (3).
قوله: (وقيل: الباء للمصاحبة، والمعنى متبركا باسم الله أقرأ)
قال الطيبي: في هذا التعلُّق بحث؛ لأن " أقرأ " حينئذٍ ليس بعامل في الجار والمجرور، فهو إما أن يحمل على اللغوي، فإن للحال تعلقا بعاملها فسلك به طريق المشاكلة، أو على الإفضاء كما نص عليه في قوله تعالى (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا (4)) [سورة يونس 27].
ونحوه قول ابن عقيل: لما كان المذكور معمولا لفعل القراءة صح أن يجعل مُتَعَلَّقاً به مجازا.
وقال الشيح أكمل الدين: قوله: " على معنى متبركا باسم الله " يدلّ على أن الباء متعلّق بمحذوف، وهو " متبركا "، فإن متبركا ليس معنى المصاحبة، فليس مما نحن فيه (5).
وقال الشيخ سعد الدين: يعني أن التقدير ملتبسا بسم الله، ليكون المقدر من
الأفعال العامة، لكن المعنى بحسب القرينة على هذا، فلهذا يجعل الظرف مستقرا،
__________
(1) حاشية الشريف 1/ 31.
(2) هما حديث واحد، يروى تارة بلفظ البسملة، وتارة بلفظ الحمدلة، وسبق تخريجه.
(3) شرح قواعد الإعراب 35.
(4) الكشاف 1/ 32 وفتوح الغيب 1/ 77.
(5) حاشية أكمل الدين ل8.

(1/95)


لا لغوا (1).
وقال البلقيني: قوله: " على معنى متبركا باسم الله ". شاححه فيه صاحب الحاشية من جهة دلالته على أن الباء تتعلق بمحذوف وهو " متبركا " فإن التبرك ليس معنى الباء، وحينئذ لا تكون الباء للملابسة.
والأولى أن تقول: ملتبسا (2) بسم الله، أي مع اسم الله.
قال البلقيني: ويقال - على ما في الحاشية - قد جمعت بين الحرف والحرف، وليس هذا بالأولى، بل الأولى أن يقال: على اسم الله أقرأ (4).
تنبيه: ظاهر صنيع المصنف اختيار الوجه الأوّل حيث جزم به، وحكى الثاني بقيل.
والذي في " الكشاف " ترجيح الوجه الثاني، فإنه قال بعد ذكره: " وهذا أعرب وأحسن ".
قال الطيبي: قوله: " أعرب " أي أفصح، من قولهم: كلام عربي، أي فصيح، وقيل: أبين، قيل: إنما كان أعرب وأحسن؛ لأن باء المصاحبة تقتضي الاستدامة في قصد المتكلّم، فمعناه كل حرف مما أتكلّم به بعد التسمية أقدر فيه بسم الله، ففيه تعميم الفعل مع التسمية، كما في قوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [سورة المؤمنون 25] أي تنبت ثمارها وفيها الدهن، ويناسبه ما روي في الحديث: " تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم سمى أو لم يسم (5) "
وقيل: إنّما كان أحسن؛ لأن التبرك مؤذن برعاية حسن الأدب، واسم الآلة بخلافه، وفيه نظر؛ لأن القارئ في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إنما يطلب من الله المعونة والتوفيق على عبادته في جميع أفعاله، ولا يلزم من كون الله معينا ما تصوّر في القلم، كأنه يقول: أقرأ باستظهاره ومكانتة عند مسماه، وفي الحقيقة الله المعين في كل حرف.
__________
(1)
حاشية سعد الدين ل9.
(2) في ظ: متلبسا.
(3) في د: ويقال إن الحاشية.
(4) في ح، ظ: على معنى مع اسم الله، وفي ت: على معنى مع بسم الله.
(5) لم أقف على تخريجه.

(1/96)


وقال صاحب التقريب: إنما كان أحسن لتقدير الموجود حسا في الأول كالمعدوم.
لعلّ مراده منه قوله: " كان فعلا كلا فعل " وفيه نظر؛ لأن جعل الموجود كالمعدوم بسبب الجري، لا على المقتضى من محسنات الكلام ولطيف إشاراته (1).
ومما يختص بهذا الموضع من النكتة هي أن شبه اسم الله تعالى - بناء على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها - بالأمر المحسوس، وهو حصول الكتب بالقلم، وعدم حصوله بعدمه، ثم أخرج مخرج الاستعارة على سبيل التبعية لوقوعها في الحرف.
وقيل: المراد أن بسم الله موجود في القراءة، فإذا جعلت الباء للاستعانة كان سبيله سبيل القلم، فلا يكون مقروءا والحال أنه مقروء.
فيقال: إنا بينا ضعف التشبيه بالقلم، وقيل: إنما كان أعرب؛ لأن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى، وهذا أقرب.
وبيانه أن الحال لبيان هيئة الفاعل هنا، وقد ثبت بالدليل أن لابد لكل فعل يتقرّب به إلى الله تعالى من إعانة الله وتسديده، فدلّ تقدير الحال على أمر زائد، فيكون أبين.
وينكشف هذا المعنى كشفا تاما في قولك: تنبت هذه الشجرة بالماء، إذا أردت بالباء الصلة، كأن المعنى تنبت بواسطة الماء، وإذا أردت الحال رجع إلى أنها تنبت وهي ملتبسة بالماء، فأفاد أنها طرية رَيَّا.
والتحقيق أن يقال - على تقدير الحال -: أقرأ وأنا متبرك باسم الله، ومتوسل بمكانته عند الله؛ لاستزادة التوفيق على إتمام ما شرعت فيه، وقبول ما تقربت به إليه، هذا كله يعطيه معنى التبرك المقدر لإرادة الحال.
وقال: البركة كثرة الخير وزيادته.
ولما كان مآل ذلك الوجه في الحقيقة إلى هذا، وكان هذا أبين منه قال: أعرب وأحسن (2). انتهى.
وقال الشيخ أكمل الدين: قوله: " أعرب " قيل: أفصح، وقيل: أبين، وقيل:
__________
(1)
في ظ: اشارته. وانظر في: التقريب في التفسير ل2.
(2) فتوح الغيب 1/ 79.

(1/97)


أدخل في لغة العرب، وذُكِرَ لذلك أوجه:
قيل: لأن باء المصاحبة أكثر استعمالا من باء الاستعانة، وهذا يقتضي الاستقراء لأكثر كلامهم.
وقيل: لأن الاستعانة تستدعي جعل اسم الله المقصود بالتقديم آلة غير المقصود، وقيل: لأن المصاحبة فعية، وفيها مصاحبة اسم الله من أول الفعل إلى آخره، بخلاف الاستعانة.
وقيل: لأن الاستعانة تقتضي جعل الموجود حسا كالمعدوم، وفيه تعسف.
قال الطيبي: على هذا الوجه يكون مجازا، وهو أبلغ (1).
وقوله: " أحسن "، قيل: لأن فيه " متبركا "، وفيه رعاية الأدب، وفيه نظر؛ لأن تقديره ضعيف، ولعلّ كلما يصح أن يذكر في وجه الأعربية يصح أن يذكر في الأحسنية.
وقال الشيخ سعد الدين: قوله: " أعرب "، أي أفصح وأبين وأدخل في العربية " وأحسن " أي أوفق لمقتضى الحال؛ لأن استعمال الباء في المصاحبة والملابسة أكثر من الاستعانة، ودلالتها على تلبس أجزاء الفعل بالتبرك أظهر، ولأن في التبرك باسم الله من التأدب ما ليس في جعله بمنزلة الآلة التي لا تكون مقصودة بالذات.
وأما الترجيح بأن جعل في الأوّل الموجود كالمعدوم - وهو تكلّف - فليس على ما ينبغي؛ لأن مثل ذلك يعد من المحسنات (2).
وقال الشريف: أما كونه أعرب، أي أدخل في لغة العرب وأفصح وأبين فلأن باء المصاحبة والملابسة أكثر استعمالا من باء الاستعانة، لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأقوال.
وأما كونه أحسن، أي أوفق لمقتضى المقام فلوجوه:
أحدها: أن التبرك باسم الله تعالى تأدب معه وتعظيم له، بخلاف جعله آلة فإنها غير مفيدة له، وغير مقصودة بذاتها.
الثاني: أن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك بها، فينبغي أن يرد عليهم في ذلك.
__________
(1)
حاشية أكمل الدين ل8 وليس ما عزاه إلى الطيبي في فتوح الغيب.
(2) حاشية سعد الدين ل9.

(1/98)


الثالث: أن الباء إذا حملت على المصاحبة والمعية كانت أدلّ على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله تعالى منها إذا حملت على الآلة.
الرابع: أن التبرك باسم الله تعالى معنى مكشوف يفهمه كل أحد ممن يبتدئ في أموره، والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق.
الخامس: أن كون اسم الله آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه يتوسل إليه ببركته، فقد رجع بالآخرة إلى التبرك، وليس في اعتباره زيادة معنى يعتد به.
وقد يقال: جعله آلة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل، ويشتمل على جعل الموجود - لفوات كماله - بمنزلة المعدوم، ومثله يعد من محسنات الكلام (1).
وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي: معنى الباء هاهنا المصاحبة والملابسة كما في قوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)
ويجوز أن تكون للاستعانة كالباء في كتبت بالقلم، فالأوّل يناسب الدراية، والثاني يناسب الرواية، لكن الأوّل لما كان أظهر رجح على الثاني (2).
وقال البلقيني في " الكشاف ": قول " الكشاف " في المعنى الأوّل: " جعله مفعولا بسم الله كما يفعل الكتب بالقلم " يقال عليه: القراءة حاصلة وإن لم يسم، وأما الكتابة فلا تحصل إلا بالقلم فأين التسوية.
قال: وقد استؤنس للمعية والمصاحبة بقوله صلى الله عليه وسلّم: " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (3) "
وفيه نظر، إذ المراد الخبر عن أنه لا يضرّ مع ذكر اسم الله شيء مخلوق.
ويقال - على هذا الوجه -: المصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها، نحو جاءكم الرسول بالحق، أي مع الحق، والقراءة لم تحصل حينئذ فتعذرت حقيقهّ المصاحبة فيما نحن فيه.
قال: فإن قيل: فإذا كان كل من الوجهين عندك مخدوشا فهل من ثالث؟
__________
(1) حاشية الشريف 1/ 32.
(2) شرح قواعد الإعراب 32.
(3) رواه أبو داود الطيالسي في المسند 1/ 77 وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 244 وأحمد في المسند 1/ 498 وأبو داود 5/ 392 ح5047 والترمذي 5/ 397 ح3388 والنسائي في السنن الكبرى 9/ 11 ح9759 وابن ماجة 4/ 27 ح3938 من حديث عثمان. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب.

(1/99)


قلت: جوّز بعضهم أن تكون باء الإلصاق، ويقال عليه: معنى الإلصاق يقع على وجهين:
أحدهما: أن لا يصل الفعل إلى المفعول إلا به كمررت بزيد، وهذا لا يتأتى هاهنا؛ لأن الفعل يتوصل إليه هنا بنفسه تقول: أقرأ كذا.
والثاني: ما دخل على المفعول المنتصب بفعله ليفيد المباشرة، نحو أمسكت بزيد، وهذا لا يتأتى هنا أيضاً.
فإن قيل: فإذا كان كل من الأوجه الثلاثة عندك مخدوشا فهل من رابع؟
قلت: في فكري وجه رابع، وعندي فيه وقفة سأبينها: وهو أن الباء هنا بمعنى " على " ويشهد له قوله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) [سورة الأنعام 119] (ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) [سورة الأنعام 122] (فاذكروا اسم الله عليها صوافّ) [سورة الحج 37] والمعنى على اسم الله أقرأ.
فإن قيل: إنما قال " على " في المواضع المذكورة من أجل فعل الذكر.
قلنا: فعل الذكر يتعدى إلى مفعوله الثاني مرة بعلى، ومرة باللام نحو ذكرته لزيد، فلما عداه بـ " على " عرف أن المراد أن يكون الذبح على اسم الله تعالى، بأن يقول: بسم الله، أي على اسم الله أذبح.
قال: فإن قيل: نقلتنا من حرف جر إلى حرف جر يحتاج أن يفسر معناه.
قلنا: ذهب بعض النحاة إلى أن " على " اسم، وليس بحرف، ولئن قلنا: إنها حرف كما هو المشهور فالمعنى على اسم الله أقرأ، وهذا من الاستعلاء الدالّ على التمكن نحو على الله توكلت، ونحو قوله (أولئك على هدى من ربهم) [سورة البقرة 6] ونحو " أنا على عهدك ووعدك ما استطعت (1) " قال: ولم أر من تعرّض لذلك.
قال: ومن عجيب ما قيل في بسم الله الرحمن الرحيم: إنها قسم في أوّل كل سورة.
ذكره صاحب كتاب الغرائب والعجائب (2). . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) رواه البخاري 5/ 2330 ح5964 والنسائي في المجتبى 8/ 279 ح5522 وفي السنن الكبرى 9/ 13 ح9763 من حديث شداد بن أوس.
(2) هو محمود بن حمزة بن نصر تاج القراء أبو القاسم الكرماني، أحد العلماء النبلاء، صاحب التصانيف، صنف عجائب القرآن، كان في حدود الخمسمائة ومات بعدها. طبقات المفسرين 2/ 312 وكشف الظنون 2/ 1126.

(1/100)


فعلى هذا تكون باء القسم (1). انتهى.
وقال أبو الحسن ابن بابشاذ (2) في شرح مقدمته: الباء من بسم الله الرحمن الرحيم معناها الإلصاق، وهو تارة إلصاق معنى شيء بشيء، وذلك الشيء يكون موجودا مثل تبركت بسم الله، وبدأت بسم الله، وفعلت بسم الله، ويكون تارة محذوفا في حكم الموجود مثل بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن هذه الكلمة قد كثر استعمالها عند استفتاح الأذكار والأفكار والأفعال والأعمال قولا وفعلا واعتقادا، فأغنت دلالة الحال عن التلفظ بالأفعال، ولذلك تختلف تقدير الأفعال بحسب المقام، فإن ذكرت عند استفتاح قراءة، فتقديره: أقرأ بسم الله، أو عند ابتداء أكل أو شرب أو ذبح، أو نحر فتقديره: آكل بسم الله، وأشرب وأذبح وأنحر، وكذلك حكمها أبدا مع كل فعل، فالباء ملصقة تلك المعاني بالاسم الذي بعدها (3).
* * *
تذنيب: قال الرضي (4): إن الباء لا تكون بمعنى المصاحبة إلا مستقرا (5).
قال شيخنا الإمام تقي الدين الشمني في حاشية المغني: والظاهر أنه لا منع من كونها لغوا (6).
* * *
تنبيه: قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام (7) في أماليه: إن قيل: إن كان المراد التبرك كيف يحسن ذلك في القرآن؛ لأن البسملة هي كلام الله في الله،
__________
(1) غرائب التفسير وعجائب التأويل 1/ 29.
(2) هو طاهر بن أحمد بن بابشاذ أبو الحسن البصري، أحد الأئمة في علوم العربية وفصاحة اللسان، له المحسبة، وشرح المحسبة، توفي سنة تسع وستين وأربعمائة. معجم الأدباء 4/ 1455 وبغية الوعاة 2/ 16.
(3) شرح المقدمة المحسبة 2/ 478.
(4) هو محمد بن الحسن الرضي نجم الدين الاستراباذي صاحب شرح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها -بل ولا في غالب كتب النحو- مثلها جمعا وتحقيقا وحسن تعليل، وقد أكب الناس عليه، توفي سن أربع وثمانين وستمائة. بغية الوعاة 1/ 567 والأعلام 6/ 86.
(5) شرح الرضي على الكافية 4/ 280.
(6) المصدر السابق 4/ 280 وحاشية تقي الدين الشمني على مغني اللبيب ل5 نسخة مصور بمعهد البحوث العلمية برقم 880 النحو.
(7) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي، إمام عصره بلا مدافعه، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، لقبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد بسلطان العلماء، صنف التفسير، والقواعد الكبرى، والقواعد الصغرى، توفي سنة ستين وستمائة. طبقات الشافعية الكبرى 8/ 209 وفوات الوفيات 2/ 350.

(1/101)


والقراءة هي كلام الله في الله، أو كلام الله في غير الله، وأيا ما كان فيكون أشرف من البسملة، فكيف يبارك بالمشروف على الشريف؟.
فالجواب: أن البركة هاهنا معناها: أن يدفع عنه الشيطان الذي يوسوسة في القراءة حتى يحمل القرآن على غير محمله، أو يلهو عنه، لا أنها توجب للقراءة صفة كمال وشرف، بل ذلك عائد على القارئ (1).
قوله: (وهذا وما بعده مقول على ألسنة العباد)
هي عبارة " الكشاف (2) ".
قال الطيبي: قال الزمخشري: مثاله: ما إذا أمرك إنسان أن تكتب رسالة من جهته إلى غيره فإنك تكتب " كتبت هذه الأحرف " وانما تفعل هذا على لسان آمرك.
الراغب: إن قيل: لم لم يقل: الحمد لي؟
قيل: لأن ذلك تعليم منه لعباده، كأنه قال: قولوا: (بسم الله) و (الحمد لله)، وقيل: قولوا: غير مقدر؛ لأن الله حمد نفسه ليقتدى به، أو لأن أرفع حمد ما كان من أرفع حامد، وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه (3)؛ ولهذا قال: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك (4) "
وقيل: كلما أثنى الله على نفسه فهو في الحقيقة إظهاره بفعله، فحمده لنفسه هو بث آلائه، وإظهار نعمائه بمحكمات أفعاله، وعلى ذلك قوله تعالى (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [سورة آل عمران 18] فإن شهادته لنفسه إحداثه الكائنات دالّة على وحدانيته، ناطقةً بالشهادة له.
قال ذو النون (5): لما شهد الله لنفسه أنطق كل شيء بشهادته (وإن من شيء
__________
(1)
فوائد في مشكل القرآن 38 قلت: وهذا الكلام ظاهر التكلف، واضح التمحل، بين الفجاجة، وذلك أن المفاضلة والمشارفة بين آي القرآن وسوره مرجعه التوقيف فحسب، فإذا ورد به الأثر فاضلنا بينها، وإذا لم يرد بذلك الأثر لا يصح أن يقال هذه الآية أفضل من تلك، لأن هذه تتحدث عن الله، وعن غير الله، وتلك تتحدث عن الله فحسب.
(2) الكشاف 1/ 32.
(3) مقدمة جامع التفسير 120.
(4) رواه مسلم 1/ 352 ح222 وأبو داود 2/ 10 ح875 والترمذي 5/ 474 ح3493 والنسائي في المجتبى 1/ 102 ح169 وفي السنن الكبرى 7/ 160 ح7701 وابن ماجة 4/ 11 ح3909 من حديث عائشة.
(5) هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل: فيض بن أحمد، وقيل: فيض بن إبراهيم أبو الفيض، النوبي=

(1/102)


إلا يسبح بحمده (1)) [سورة الإسراء 44]
* * *
تنبيه: قال البلقيني: قول صاحب " الكشاف ". " هذا مقول على ألسنة العباد " دسّ فيه دسيسة الاعتزال من جهة القول بخلق القرآن.
قال: والجواب أنه سبحانه يحمد نفسه ويقسم باسمه وبصفته نحو قوله (فورب السماء والأرض إنه لحق) [سورة الذاريات 24] وفي الصحيح: " أنت كما أثنيت على نفسك " وفي مسند الدارمي عن النبي صلى الله عليه وسلّم " قرأ الله طه قبل أن يخلق السموات والأرض بألف عام (2) " وظهر من ذلك الجواب. انتهى.
ولم ينبه أحد من أرباب الحواشي على أن في هذا دسيسة سواه، وهو غير واضح؛ ولهذا لم يتجنبه المصنف.
قوله: (ومن حق الحروف المفردة أن تفتح)
__________
=الإخميمي، ذو النون المصري، كان عالما فصيحا حكيما، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. وفيات الأعيان 1/ 315 وسير أعلام النبلاء 11/ 532.
(1) مقدمة جامع التفسير 120 وفتوح الغيب 1/ 80.
(2) رواه الدارمي في المسند 4/ 2148 وابن أبي عاصم في السنة 1/ 416 وابن خزيمة في التوحيد 1/ 402 والعقيلي في كتاب الضعفاء 1/ 79 وابن حبان في كتاب المجروحين 1/ 105 والطبراني في المعجم الأوسط 5/ 133 وابن عدي في الكامل 1/ 218 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/ 251 والبيهقي في الأسماء والصفات 1/ 566 وابن الجوزي في كتاب الموضوعات 1/ 156 من طريق إبراهيم بن المنذر، عن إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، عن عمر بن حفص بن ذكوان، عن مولى الحرقة، عن أبي هريرة به.
قلت: حكم عليه ابن حبان وابن الجوزي والسيوطي في اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 10 بالوضع. وقال ابن عدي: وإبراهيم بن مهاجر لم أجد له حديثا أنكر من حديث قرأ طه ويس.
وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 5/ 271 هذا حديث غريب، وفيه نكارة.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 152 فيه إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وضعفه البخاري بهذا الحديث، ووثقه ابن معين.
وقال الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة 15/ 303 وزعم ابن حبان -وتبعه ابن الجوزي- أن هذا المتن موضوع، وليس كما قالا، والله أعلم، فإن مولى الحرقة هو عبد الرحمن بن يعقوب من رجال مسلم، والراوي عنه وإن كان متروكا عند الأكثر، ضعيفا عند البعض فلم ينسب للوضع، والراوي عنه لا بأس به، وإبراهيم بن المنذر من شيوخ البخاري.

(1/103)


قال الزجاج: أصل الحروف التي يتكلم بها وهي على حرف واحد الفتح أبدا إلا أن تجيء علة تزيله؛ لأن الحرف الواحد لاحظ له في الإعراب (1) فيقع مبتدأ في الكلام، ولا يبتدأ بساكن فاختير له الفتح؛ لأنه أخفّ الحركات (2).
وعبارة غيره: لمّا بالغوا في تخفيفها بوضعها على حرف واحد ناسب ذلك بناؤها على الفتح؛ لأنه أخفّ الحكات.
* * *
تنبيه: عبارة " الكشاف ": " من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد (3) ".
وتعقبه البلقيني فقال: الحروف التي هي أحد أقسام الكلمة لا تكون إلا للمعاني، فقوله: " حروف المعاني " يوهم إثبات حروف ليست لمعان، وليس ذلك بموجود في الحروف التي هي قسيمة الأسماء والأفعال. انتهى.
فكان المصنّف حذف هذه اللفظة لعدم الحاجة إليها، ولإزالة الإبهام.
قوله: (لاختصاصها بلزوم الحرفية والجرّ).
قال الطيبي: قيل: ينتقض بواو القسم، فإنها لازمة الحرفية والجر، وبنيت على الفتح.
وأجيب أن هذه الواو إنما تجرّ لنيابتها عن الفعل، وعن هذه الباء، على ما صرّح به صاحب " الكشاف " في (والشمس) فاجريت على الأصل (4).
وقال الشيخ سعد الدين: كل من الحرفية والجرّ يناسب الكسر.
أما الحرفية فلأنها تقتضي عدم الحركة، والكسر يناسب العدم لقلته؛ إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف من الأسماء، ولا في الحروف إلا نادرا ك " جَيْرِ "
وأما الجر فللموافقة - أي لموافقة حركة الباء أثرها - كما أفصح به الشريف.
وهذا بخلاف كاف التشبيه فإنها لا تلزم الحرفية وإن لزمت الجرّ، وبخلاف الواو فإنها لا تلزم الجر وإن لزمت الحرفية، إذ قد تكون عاطفة.
__________
(1)
عبارة الزجاج: ولكن يقع.
(2) معاني القرآن وإعرابه 1/ 41.
(3) الكشاف 1/ 32.
(4) الكشاف 4/ 258 وفتوح الغيب 1/ 82.

(1/104)


ومن اعتذر بأن واو القسم لا تلزم الجرّ في نفسها؛ لأنها إنما تجرّ لنيابتها عن الباء، فقد اعتبر خصوصية القسمية، وليس بلازم، وحينئذ لا يحتاج إلى هذا الاعتذار في تاء القسم؛ لأنها بدون الخصوصية، لا تلزم الجرّ ولا الحرفية، إذ قد تكون اسما كضمير الخطاب. ولا يخفى حينئذ أن الكاف أيضاً لا تلزم الجر ما لم تعتبر خصوصية التشبيه. وكلام الزجاج: أن الباء إنما كسرت للفصل بين ما يجرّ وقد يكون اسما كالكاف، وبين ما يجر ولا يكون إلا حرفا كالباء (1).
ويشبه أن يكون هذا مراد المصنف. انتهى كلام الشيخ سعد الدين (2).
* * *
تنبيهان: الأوّل: المراد بلزوم الحرفية والجر - كما قال الشيخ سعد الدين والشريف - كونها ملاصقة لهما غير منفكة عنهما، بمعنى أنها لا توجد بدونهما (3).
وعبار الشريف: أي غير مفارقة لهما، بمعني أنها لا توجد بدونهما، يقال: لزم فلان بيته إذا لم يفارقه، ولم يوجد في غيره، ومنه قولهم: أم المتصلة لازمة لهمزة الاستفهام.
الثاني: قال الشريف: لزوم الحرفية والجر قيل: هما وجهان، وثقض الأوّل بواو العطف وفائه اللازمين للحرفية، والثاني بكاف التشبيه اللازمة للجرّ، وقيل: المجموع دليل واحد فاندفعا، وبقي النقض بواو القسم وتائه.
وأجيب بأن عملهما بنيابة الباء، وكان الجرّ ليس أثرا لهما.
لا يقال: اعتبار الحرفية احترازا. عن كاف التشبيه مستدرك؛ لأن الكاف إذا كانت
اسما لا تعمل جرا في المضاف إليه، إذ العامل فيه هو الحرف المقدر، على ما ذكره في المفصل (4)؛ لأنا نقول: احترز عنها دفعا للانتقاض بها على مذهب من جعل المضاف عاملاً.
ومن الناس من دفع النقض بواو القسم وتائه بأن اعتبار خصوصيته ليس بلازم، فالواو وإن لزمت الحرفية لكن لا تلزم الجرّ، إذ قد تكون عاطفة، والتاء لا تلزم شيئا منهما؛ لأنها قد تكون اسما كضمير الخطاب، فورد عليه أن الكاف أيضاً لا
__________
(1)
معاني القرآن وإعرابه 1/ 41.
(2) حاشية سعد الدين ل9.
(3) المصدر السابق ل9.
(4) المفصل في علم العربية 82.

(1/105)


تعتبر فيها خصوصية التشبيه، فلم تكن لازمة للجر أيضاً كضمير المخاطب، فيلغو قيد لزوم الحرفية؛ لأنه احتراز عن الكاف اتفاقا، فالتجأ إلى كلام الزجاج: أن الباء بنيت على الكسر فصلا بين ما تجرّ، وقد تكون اسما كالكاف، وبين ما تجر ولا تكون إلا حرفا كالباء.
وقال: ويشبه أن يكون هذا مراد المصنف. وفيه بعد؛ لأن القوم اعتبروا خصوص المعاني فقالوا: كاف التشبيه إما حرف، وإما اسم بمعنى مثل، ولم يلتفتوا إلى مجرّد صورة الكاف، ولم يقولوا: إنها أيضاً تكون ضميرا، أو حرف خطاب (1).
وقول " الكشاف ": " نحو كاف التشبيه ولام الابتداء (2) " إلى آخره يدلّ على خصوصيات المعاني، وكيف لا وبذلك يظهر تعدد اللامين، وكون أحدهما مفتوحة، والأخرى مكسورة (3). انتهى.
يشير بقوله: ومن الناس إلى الشيخ سعد الدين في كلامه السابق.
وقال مكي في إعرابه: كسرت الباء من بسم لتكون حركتها مشبهة لعملها، وقيل: كسرت ليفرق بين ما يخفض، ولا يكون إلا حرفا نحو الباء واللام، وبين ما يخفض وقد يكون اسما نحو الكاف (4).
وهذا ما أشار إليه الشريف بقوله: قيل: وهما وجهان.
وقال الشيخ أكمل الدين - بعد إيراد النقض والجواب -: والحق أن التعليلات الصرفية واقعية مستخرجة بعد الوقوع، فلا تقبل النقض، وإنما هي أمور مناسبة لا بأس بذكرها للتدرب في أوضاع الصرف، وأما ذكرها في مثل هذا الكتاب وإيراد النقض عليها فليس بمناسب، والاعتماد على التوقيف (5).
قوله: (ولام الإضافة)
قال الزمخشري: " حروف الجر كلها تسمى حروف الإضافة؛ لأنها تضيف
__________
(1) حاشية سعد الدين ل9.
(2) الكشاف 1/ 33.
(3) حاشية الشريف 1/ 33.
(4) كتاب مشكل إعراب القرآن 1/ 5.
(5) حاشية أكمل الدين ل9.

(1/106)


معاني الأفعال إلى الأسماء (1) ".
قوله: (داخلة على المظهر) بخلاف ما إذا دخلت على المضمر فإنها لا تكسر؛ لعدم الإلباس؛ لأن لام الابتداء لا تدخل إلا على المضمر المرفوع المتصل.
قوله: (والاسم عند البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها)
زاد في " الكشاف ": وصف الأسماء بالعشرة (2)
قال الطيبي: وهي ابن، وابنة، وابنم - بمعنى ابن - واسم، واست، واثنان، واثنتان، وامرؤ وامرأة، وأيمن الله.
قال: وأما أيم الله فمحذوف فيها نون أيمن (3)
وقال الشيخ سعد الدين: كأنه لم يعتد بأيم الله؛ لأنه منقوص أيمنٌ، واعتد بابنم مع أنه مزيد ابن؛ لأن الزيادة توجب تعدد الصيغة كضارب من ضرب، بخلاف الحذف كدم في دموٌ، ولا يخفى ضعفه (4).
وقال الشيخ أكمل الدين: عدها في " الكشاف " عشرة، وفي " المفصل " جعلها أحد عشر، بزيادة أيم الله، قيل: وهو الصواب (5).
وقال الشريف: عدها في " الكشاف " عشرة، وفي " المفصل ": جعلها أحد عشر، فإما أن لا يعتد بأيم الله؛ لأنه منقوص أيمن، وإما أن لا يعتد بابنم؛ لأنه مزيد ابن، والأوّل أولى؛ لأن المنقوص قد يوزن بوزن أصله، فيقال: أيم أفعل، كأيمن، فكأنَّه هو، بخلاف المزيد، إذ لا يوزن ابنم بوزن ابن أصلا (6)
قوله: (وبنيت أوائلها على السكون)
قال الشيخ أكمل الدين: غير معلل بشيء؛ لأن أوائل هذه الأسماء وغيرِها من حروف المباني، وحقها السكون، فيحتاج غيرها إلى بيان ما ترك الأصل لأجله، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، وما فيه مرجح، فالاعتماد على التوقيف (7).
__________
(1)
المفصل في علم العربية 283.
(2) الكشاف 1/ 33.
(3) فتوح الغيب 1/ 82.
(4) حاشية سعد الدين ل9.
(5) الكشاف 1/ 33 والمفصل 355 وحاشية أكمل الدين ل9.
(6) حاشية الشريف 1/ 33.
(7) حاشية أكمل الدين ل9.

(1/107)


وقال الشريف: أي بنوها كذلك تحقيقا واستعمالا وإن كان يعتبر تحرّك أوائلها تقديرا وقياسا، كما قال: أصله سمو، كما يقال: أصل ابن بنوٌ.
ولعلّ الحكمة في وضعها كذلك التفنن في الوضع، وتطلب الخفة فيها؛ لكثرة استعمالها في الدرج (1).
وقال البلقيني في " الكشاف ": ما جزم به من بناء أول الاسم على السكون هو طريقة بعض البصريين، وذهب كثير منهم إلى أنهم أدخلوا الهمزة على المتحرك، ثم سكنوا السين تخفيفا.
قال: ويزاد في العدة إيمن بكسر الهمزة، فإنها ليست جمعا بلا خلاف، والهمزة فيه همزة وصل بلا خلاف.
قال: وإذا عددت ما فيها من اللغات مع همزة الوصل كثر العدد.
قوله: (وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل)
قال الشريف: وجه خصوصيتها لينجبر بقوتها، وكونها من أقصى المخارج (2).
قوله: (لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك، ويقفوا على الساكن)
قال الطيبي: هذا يشعر أن الابتداء بالساكن ممكن، وموجود في اللغة، لكنه مستكره، وبه صرّح صاحب " المفتاح " في الصرف قال: دعوى امتناع الابتداء بالساكن فيما سوى حروف المد واللين ممنوعة، اللهم إلاّ إذا حكيت عن لسانك، لكن ذلك غير مجد عليك (3).
وقال الشريف: التعليل بذلك دون الامتناع إشارة إلى جواز الابتداء بالساكن، وهو الحق، ومن قال بامتناعه لا يسمع منه إلا حكايته عن لسانه.
نعم يمتنع الابتداء بالمدات، إلا أن ذلك لذواتها، لا لسكونها.
وإذا استقريت لغة العجم وجدت الابتداء بالساكن المدغم.
وقد يستدل على الجواز بأنه لو لم يجز لكان التلفظ بالحرف موقوفا على التلفظ بالحركة فيدور؛ لأن الحركة موقوفة على الحرف في التلفظ توقف العارض على المعروض.
__________
(1)
حاشية الشريف 1/ 33.
(2) حاشية الشريف 1/ 33.
(3) مفتاح العلوم 77 وفتوح الغيب 1/ 83.

(1/108)


ويجاب بأن امتناع الابتداء بالساكن يستلزم امتناع انفكاك الحركة عن الحرف المبتدإ به، وأما توقفة على الحركة فلا، لجواز أن تكون الحركة تابعة له، غير منفكة عنه.
قال: واعلم أن الحركة والسكون بالمعنى المشهور مختصان بالأجسام، وأن المراد بالحركة كونه بحيث يمكن أن يتلفظ بعده بإحدى المدات الثلاث، وبسكونه كونه بحيث لا يمكن فيه ذلك (1).
وقال الشيخ سعد الدين: التعليل بذلك مشعر بأنه ليس لامتناع الابتداء بالساكن، اللهم إلاّ إذا حكيت عن لسانك. صرّح بذلك في صرف " المفتاح (2) ".
وأما في المدات فالامتناع لذاتها، لا لسكونها، وإذا نظرت وجدت الابتداء بالساكن غير مرفوض في لغة العجم.
وقد يستدل على الإمكان بأنه لو امتنع لتوقف التلفظ بالحرف على التلفظ بالحركة ابتداء ضرورة تقدم الشرط على المشروط، لكن التلفظ بالحركة موقوف على التلفظ بالحرف ضرورة توقف وجود العارض على وجود المعروض.
وجوابه منع الشرطية؛ لجواز أن تكون الحركة لازما غير متقدم للحرف المبتدإ بها، لا شرطا سابقا.
على أنك إذا تحققت معنى حركة الحرف لم يكن هناك عارض ومعروض (3).
وقال الشيخ أكمل الدين: في هذا التعليل إشعار بأن الابتداء بالساكن ممكن، وهو قول بعضهم، وذلك لأن نقيضه محال؛ لأنه لو لم يمكن توقف التلفظ بالحرف في الابتداء على التلفظ بالحركة، والحركة عارضة للحرف، فيتوقف التلفظ بها على التلفظ بالحرف، وذلك دور.
فإن قيل: الحرف مع الحركة عند التلفظ، فكان التوقف توقف معية، ولا دور فيه.
أجيب بأنهما وإن كانا في الوجود عند التلفظ مقارنين، ولكن وجود المعروض بالذات سابق على العارض، فكان توقف تقدم، وهو الدور.
__________
(1) حاشية الشريف 1/ 33.
(2) مفتاح العلوم 77.
(3) حاشية سعد الدين ل10.

(1/109)


وردّ بأن كلامنا في الحروف الملفوظ بها ابتداء، لا في الحروف المعقولة، وهما في التلفظ معا بلا خلاف.
وإذا ظهر هذا ثبت قول من يقول بالامتناع.
وهذا ظاهر للمتأمل في الحروف الملفوظ بها ابتداء (1)
وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي: فإن قلت: الابتداء بالساكن ممتنع أو ممكن.
قلت: الحق هاهنا هو التفصيل، بأن يقال: إن كان السكون للساكن لازما لذاته فيمتنع كالألف، وإلاّ فيمكن، لكنه لم يقع في كلامهم لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة (2).
وقال بعض أرباب الحواشي (3): من زعم امتناع الابتداء بالساكن يحتج بالاستقراء، وهو - وإن كان تاما - لا يدلّ إلا على عدم الوقوع، وعدم الوقوع لا يستلزم الامتناع.
وقال البلقيني في " الكشاف ": ما استدل به من قال بإمكان الابتداء بالساكن قول غير صحيح، وممن حكاه ابن الخطيب في تفسيره (4).
والصحيح القطع بأن ذلك لا يمكن، ومقابله غلط، ومكابرة للحس.
قلت: وممن صرح بأن الابتداء بالساكن غير ممكن صاحب (5) " البسيط " في النحو، والشلوبين (6). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1)
حاشية أكمل الدين ل9.
(2) شرح قواعد الإعراب 36.
(3) انظر في ص383.
(4) التفسير الكبير 1/ 106.
(5) هو محمد أبو عبد الله ضياء الدين ابن العلج -بكسر العين المهملة وسكون اللام ثم جيم- مؤلف كتاب البسيط في النحو، ذكره أثير الدين أبو حيان في شرح التسهيل، ونقل عنه في كتاب البسيط كثيراً. قال: كان سكن اليمن وصنف بها. طبقات النحاة واللغويين لتقي الدين ابن قاضي شهبة 298 وانظر مقال الكشف عن صاحب البسيط في النحو للدكتور حسن موسى الشاعر. مجلة الجامعة الإسلامية عدد 77 ص145 - 167.
(6) هو عمر بن محمد بن عمر أبو علي الإشبيلي الأزدي المعروف بالشلوبين، كان إمام عصره في العربية، صنف شرحين على الجزولية، توفي سنة خمس وأربعين وستمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 332 وبغية الوعاة 2/ 224.

(1/110)


في " شرح الجزولية (1) "، لكن ذكر ابن يعيش (2) خلافه فقال: في " شرح المفصل ": اعلم أن أصحابنا يقولون: إن الابتداء بالساكن لا يكون في كلام العرب، وقد أحاله بعضهم، ومنع من تصوره، ولا شبهة في الإمكان، ألا ترى أنه يجوز الابتداء بالساكن إذا كان مُدْغَمًا، نحو اثَّاقلتم في تثاقلتم.
ويؤيد ذلك وأنه من لغة العرب أنهم لم يخففوا الهمزة إذا وقعت أولا بأيّ حركة تحركت نحو أحمد وإبراهيم، ونحو قوله (3):
أأن رأت رجلا أعشى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
لأن في تخفيفها تضعيفا للصوت، وتقريبا له من الساكن، فامتناعهم من تخفيف الهمزة مع إمكان تخفيفها والنطق بها دليل على أن ذلك من لغة العرب، وذلك من قِبَلِ أن المبتدئ بالنطق مُسْتَجمٌّ مستريح فيعظم صوته، والواقف تعب حسر يقف للاستراحة فيضعف صوته (4).
* * *
تنبيه: قال السهيلي (5): قولهم حرف متحرك، وتحركت الواو، ونحو ذلك تساهل منهم، فإن الحركة عبارة عن انتقال الجسم من حَيِّزٍ إلى حيز، والحرف جزء من الصوت، ومحال أن تقوم الحركة بالحرف؛ لأنه عرض، والحركة لا تقوم بالعرض، وإنما المتحرّك في الحقيقة هو العضو من الشفتين، أو اللسان، أو الحنك الذي يخرج منه الحرف، فالضمة عبارة عن تحريك الشفتين بالضم عند النطق، فيحدث من ذلك صوت خفي مقارن للحرف، إن امتدّ كان واوا، وإن قصر كان ضمة، والفتحة عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف، وحدوث الصوت الخفي الذي يسمى فتحة، وكذا القول في الكسرة، والسكون عبارة عن خلوّ
__________
(1)
شرح المقدمة الجزولية الكبير 2/ 461.
(2) هو يعيش بن علي بن يعيش أبو البقاء المشهور بابن يعيش، كان من كبار أئمة العربية، ماهراً في النحو والتصريف صنف شرح المفصل، توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة. إنباه الرواة 4/ 45 وبغية الوعاة 2/ 351.
(3) للأعشى، انظر في: ديوان الأعشى 91.
(4) شرح المفصل 3/ 83.
(5) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد أبو زيد السهيلي الأندلسي كان عالما بالعربية واللغة والقراءات، بارعا في ذلك، جامعا بين الرواة والدراية، صنف الروض الأنف في شرح السيرة، وشرح الجمل، توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. الديباج المذهب 1/ 480 وبغية الوعاة 2/ 81.

(1/111)


العضو من الحركات عند النطق بالحرف، ولا يحدث بعد الحرف صوت فينجزم عند ذلك، أي ينقطع، فلذلك سمي جزما اعتبارا بانجزام الصوت، وهو انقطاعه، وسكونا اعتبارا بالعضو الساكن، فقولهم: فتح، وضم، وكسر هو من صفة العضو، وإذا سميت ذلك رفعا ونصبا وجرا وجزما فهي من صفة الصوت؛ لأنه يرتفع عند ضم الشفتين، وينتصب عند فتحهما، وينخفض عند كسرهما، وينجزم عند سكونهما، وعبروا بهذه عن حركات الإعراب؛ لأنه لا يكون إلا بسبب، وهو العامل كما أن هذه إنما تكون بسبب، وهو حركة العضو، وعن أحوال البناء بتلك؛ لأنه لا يكون بسبب، أعني بعامل، كما أن هذه الصفات تكون وجودها بغير آلة.
قال ابن القيم: وعندي أن هذا ليس باستدراك على النحاة، فإن الحرف وإن كان عرضا فقد يوصف بالحركة تبعا لحركة محله، فإن الأعراض وإن لم تتحرّك بأنفسها فهي تتحرّك بحركة محالها، فاندفع الإشكال جملة (2).
قوله: (ويشهد له تصريفه على أسماء، وأسامي، وسُمَيٌّ، وسميت)
قال ابن الخباز (3) في " شرح الدرّة ": يشهد لقول البصريين وجوهٌ:
الأوّل: أن جمع اسم أسماء، ولو كان من الوسم لقيل: أوسام.
الثاني: تصغيره سُمَيٌّ.
زاد ابن يعيش في " شرح المفصل ": وأصله سُمَيْوٌ فقلبوا الواو ياء، وأدغمت على حدّ سَيِّد ومَيّت، ولو كان من الوسم لقيل فيه: وُسَيْمٌ (4).
الثالث: أنك تقول لمن يساويك في الاسم: هو سَمِيِّيْ، ولو كان من الوسم لقلت: وسِيْمِيْ.
الرابع: أنك تقول في تصريف الفعل منه: تسميت، وأسميت، وسميت، وتقول في المصدر: التسمية، ولو كان كما ذكروا لقيل: توسمت.
__________
(1)
نتائج الفكر في النحو 83.
(2) بدائع الفوائد 1/ 34.
(3) هو أحمد بن الحسين بن أحمد بن الخباز الموصلي النحوي، كان علامة زمانه في النحو واللغة والفقه، وله المصنفات المفيدة منها الغرة المخفية في شرح الدرة الألفية، وتوجيه اللمع، توفي سنة سبع وثلاثين وستمائة. بغية الوعاة 1/ 304 والأعلام 1/ 117.
(4) شرح المفصل 1/ 23.

(1/112)


الخامس: أنه يقال في بعض لغاته: سُمًى كهدى، وأصله سُمَوٌ، فهذا من نظم لسُمُوِ.
السادس: أن همزة الوصل في أوله لا تكون إلاّ لمحذوف اللام، كابن والست.
السابع: أنه على مذهب البصريين يكون فيه حذف اللام، وعلى مذهب لكوفيين يكون فيه حذف الفاء، والأوّل أكثر.
الثامن: أن حذف الفاء يعوض منه أخيرا، بدليل عدة، وزنة، ولا يعوض منه أولاً (1).
قوله: (ومجيء سُمى كهدى لغة. فيه، قال:
(وَاللهُ أسماكَ سُمًى مبارَكاً. . . آثرَكَ اللهُ به إيثاركا) (2)
هذا الوجه ذكره ابن الأنباري في كتاب " الإنصاف " فقال:
الوجه الخامس: أنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا في اسم: سُمًى على وزن عُلاً، والأصل فيه سموٌ إلاّ أنهم قلبوا الواو منه ألفاً؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فصار سمى، وأنشد البيت (3).
قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": ولا حجة في ذلك؛ لاحتمال أن يكون على لغة من قال: سُم، ونصبه؛ لأنه مفعول ثان.
قال: فإن صحت هذه اللغة من جهة أخرى فمجازها أنه تمم الاسم، ولم يحذف منه شيئا، كما تمم الآخر غدا فقال:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إِنَّ مَعَ اليومِ أخاهُ غَدْوًا (4).
وقال الخطيب أبو زكريا التبريزي (5) في " شرح أبيات إصلاح المنطق ":
__________
(1) شرح الدرة الألفية لابن الخباز ل7 نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 124 النحو.
(2) يأتي تخريجه قريباً.
(3) الإنصاف في مسائل الخلاف 1/ 15.
(4) شرح المفصل 1/ 24 والبيت في أمالي ابن الشجري 2/ 230 بدون نسبة، وقد خرجه محققه تخريجاً لا مزيد عليه، يوقف عليه في محله.
(5) هو يحيى بن علي بن محمد أبو زكريا ابن الخطيب التبريزي، كان أحد الأئمة في النحو واللغة والأدب، صنف شرح القصائد العشر، وتهذيب إصلاح المنطق لابن السكيت، توفي سنة اثنتين وخمسمائة. معجم الأدباء 6/ 2823 وبغية الوعاة 2/ 338 وانظر في: تهذيب إصلاح المنطق 333 - 3334 وشرح أبيات إصلاح المنطق للسيرافي 300.

(1/113)


المبارك الذي يُتَيَمَّنُ به ويتفاءل، مثل غانم وسعيد. وآثرك: قدمك به واختارك.
إيثارك: أي كإيثارك الغير على نفسك في العطاء والبذل.
قال: وأسماك له معنيان: يقال: أسميت الرجل إذا وضعت له اسما في مولده، وأسميته إذا دعوته بالاسم الموضوع له، والذي في البيت من الأول. انتهى.
وفي " شرح الجمل " لابن خروف (1): أن هذا البيت لأبي خالد القنانِي (2) من مذحج (3).
وقال العيني في (4) " شرح الشواهد الكبير (5) ": أسماك بمعنى سماك. وآثرك: أي بالتسمية الفاضلة كما آثرك بالفضل، وقيل: إيثارك للمعالي والذكر الحسن (6).
قوله: (والقلب بعيد غير مطرد)
قال ابن يعيش: إن ادعى القلب فليس ذلك بالسهل، فلا يصار إليه وعنه مندوحة (7).
وقال السخاوي (8) في " شرح المفصل ": اعتقاد الكوفيين في الاسم أنه مقلوب
__________
(1)
هو علي بن محمد بن علي أبو الحسن ابن خروف الأندلسي، كان إمام في العربية محققا مدققا، صنف شرح سيبويه، وشرح الجمل، توفي سنة تسع وستمائة. معجم الأدباء 5/ 1969 وبغية الوعاة 2/ 203.
(2) ذكره المبرد في الكامل 3/ 1081 وقال: أبو خالد القناني، وكان من قعد الخوارج.
(3) شرح جمل الزجاجي 1/ 244 والبيت في: إصلاح المنطق 134 وشرح الشواهد الكبرى 1/ 154 منسوبا إلى أبي خالد القناني، انظر في تخريجه الموسع في حاشية أمالي ابن الشجري 2/ 281.
(4) هو محمود بن أحمد بن موسى بدر الدين العيني، كان إماما عالما عرفا بالعربية والتصريف وغيرهما، وله مصنفات كثيرة، منها شرح البخاري، وشرح الشواهد الكبير والصغير، وشرح معاني الآثار، توفي سنة خمس وخمسين وثمانمائة. الضوء اللامع 10/ 131 وبغية الوعاة 2/ 275.
(5)
في د، ق: الكبرى.
(6) كتاب المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية 1/ 154.
(7) شرح المفصل 1/ 23.
(8) هو علي بن محمد بن عبد الصمد أبو الحسن السخاوي الشافعي، كان إماما في العربية، بصيرا باللغة، عالما بالقراءات، له كتاب جمال القراء، وشرح المفصل في أربع مجلدات، توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة. سير أعلام النبلاء 23/ 122 وغاية النهاية 1/ 568.

(1/114)


من وسم إلى سمو فجعلت فاؤه لاما، فوزنه على هذا " علف (1) ".
قوله: (واشتقاقه من السمو)
قال الكمال أبو البركات ابن الأنباري في كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف ": والأصل فيه على هذا سِمْوٌ، على وزن فعل بكسر الفاء وسكون العين فحذفت اللام التي هي الواو، وجعلت انهمزة عوضا عنها، ووزنه " افعٌ " بحذف اللام منه (2).
وقال السخاوي في " شرح المفصل ": أصله على هذا سِمْو مثل حمل، أو سُمْو مثل قفل، وفِعْل، وفُعْل يجمع على أفعال، وجمع اسم أسماء، ولا يجوز أن يقال: سَمْو يعني بفتح أوله؛ لأن فَعْلا جمعه فعول كفلس وفلوس.
وأجاز قوم أن يكون سَمَواً، كما قيل: أصل ابن بنو.
قال المبرد: فلما اختل وأزيل عن جهته سكن أوله، فدخلت ألف الوصل لذلك، فوزنه على هذا الذي ذكرناه من أصله " افع (3) ". انتهى.
قوله: (لأنه رفعة للمسمى) قال الزجاج: جعل الاسم تنويها للدلالة على المعنى؛ لأن المعنى تحت الاسم (4).
وقال السخاوي: معنى السمو فيه عندهم أنك تقول: سما لي شخص إذا ارتفع حتى استثبته وعرفته، فكان الاسم رفع لك مسماه حتى كشفته وعرفته، أو لأن الاسم تنويه ورفعة (5).
وقال الشيخ سعد الدين: احتيج إلى هذا؛ لأن مجرد بيان الأصل لا يفيد الاشتقاق من السمو ما لم يبين التناسب في المعنى، فلذا ذكره (6).
وقال الشريف: لما بين أن الاسم يوافق السمو في التركيب، ولم يكن كافيا في اشتقاقه منه، بل لابد معه من التناسب في المعنى أشار إليه بقوله: " لأنه رفعة
__________
(1) المفضل في شرح المفصل ل16 نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم ج2/ 4503.
(2) الإنصاف في مسائل الخلاف 1/ 7.
(3) المقتضب 1/ 229 والمفصل في شرح المفصل ل16.
(4) معاني القرآن وإعرابه 1/ 40.
(5) المفضل ل16.
(6) حاشية سعد الدين 10.

(1/115)


للمسمى (1) "
قوله: (ومن السمة عند الكوفيين)
قال مكي في إعرابه: قول الكوفيين أقوى في المعنى، وقول البصريين أقوى في التصريف (2).
وفي " تفسير ابن برجان (3) " اختيار قول البصريين في أسماء الله تعالى، وقول الكوفيين في أسماء المحدثات (4).
قوله: (وأصله وسم حذفت الواو وعوض عنها همزة الوصل)
زاد ابن الأنباري: ووزنه " اعل " بحذف الفاء منه.
وذهب قوم إلي أنه لا حذف ولا تعويض، وإنما قلبت الواو همزة كإعاء، وإشاح، ثم كثر استعماله فجعلت همزة وصل، وعلى هذا فوزنه " فِعْلٌ ".
قوله: (ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم)
قال الكمال ابن الأنباري: همزة التعويض إنما تقع تعويضا من حذف اللام، لا من حذف الفاء، ألا ترى أنهم لما حذفوا اللام التي هي الواو من " بنو " عوضوا عنها الهمزة في أوله، فقالوا: ابن، ولما حذفوا الفاء التي هي الواو من " وعد " لم يعوضوا عنها الهمزة في أوله فلم يقولوا: " اعد "، وإنما عوضوا عنها الهاء في آخره، فقالوا: " عدة "؛ لأن القياس فيما حذف منه لامه أن يُعَوَّضَ بالهمزة في أوله، وفيما حذف منه فاؤه أن يعوض بالهاء في آخره.
والذي يدل على صحة ذلك أنه لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه، وعوض بالهاء في آخره، فلما وجدنا في أول الاسم همزة التعويض علمنا أنه محذوف اللام، لا محذوف الفاء؛ لأن حمله على ما له نظير أولى من حمله على ما ليس له نظير،
__________
(1) حاشية الشريف 1/ 35.
(2) كتاب مشكل إعراب القرآن 1/ 6.
(3) هو عبد السلام بن عبد الرحمن ابن شيخ الصوفية أبي الحكم عبد السلام أبو الحكم اللخمي الإشبيلي، ويقال له: ابن برجان، كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث، له تواليف، منها تفسير القرآن، وشرح الأسماء الحسنى، توفي سنة سبع وعشرين وستمائة. سير أعلام النبلاء 22/ 334 وطبقات المفسرين 1/ 300.
(4) تفسير ابن برجان ل6 نسخة مصورة بمكتبة مركز الدراسات القرآنية بمجمع الملك فعد لطباعة المصحف.

(1/116)


فدلّ على أنه مشتق من السمو، لا من الوسم. انتهى.
وقال أبو البقاء العكبري (1) في كتاب " التبيين في الخلاف ": لنا في ترجيح قول البصريين ثلاثة مسالك، المعتمد منها أن المحذوف يعود في التصريف إلى موضع اللام، فكان المحذوف هو اللام كالمحذوف من ابن.
والدليل على عوده إلى موضع اللام أنك تقول: سَمَّيْتُ وأسميت، وفي التصغير سُمَىٌّ، وفي الجمع أسماء، وأسام، وفي فعيل منه سَمِيٌّ، أي اسمك مثل اسمه، ولو كان المحذوف من أوله لعاد في التصريف إلى أوله، وكان يقال: أو سمت وَوَسَمْتُ، ووسيم وأوسام، ووسيم.
وهذا التصريف قاطع على أن المحذوف هو اللام.
فإن قيل: هذا إثبات اللغة بالقياس، وهي لا تثبت به.
والثاني: أن عود المحذوف إلى الأخير لا يلزم منه أن يكون المحذوف من الأخير، بل يجوز أن يكون مقلوبا، وقد جاء القلب كثيرا عنهم، كما قالوا: لهي أبوك، فأخروا العين إلى موضع اللام، وقالوا: الجاه وأصله الوجه، وقالوا: أينق، وأصله أنوق، وقالوا: قِسِىٌّ، وأصله قووس، وإذا كثر ذلك في كلامهم جاز أن يحمل ما نحن فيه عليه.
فالجواب: أما الأول فغير صحيح، فإنا لا نثبت اللغة بالقياس، بل نستدل بالظاهر على الخفي، خصوصا في الاشتقاق، فإن ثبوت الأصل والزائد، والمحذوف لا طريق له على التحقيق إلا الاشتقاق، ويدل عليه لفظة ابن، فإنهم لما قالوا: بُنَيَّ، وأبناء، وتبنيت، والبنوة، علم أن المحذوف لامه.
وأما دعوى القلب فلا سبيل إليه لأن القلب مخالف للأصل، فلا يصار إليه ما وجدت عنه مندوحة، ولا ضرورة هنا تدعو إلى دعوى القلب، ويدل على ذلك أن القلب لا يطرد هذا الاطراد، ألا ترى أن جميع ما ذكر من المقلوب يجوز إخراجه على الأصل.
المسلك الثاني: أنا قد أجمعنا على أن المحذوف قد عوض منه في أوله،
__________
(1) هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله أبو البقاء العكبري النحوي، كان ثقة غزير الفضل، كثير المحفوظ ديناً، له إعراب القرآن، وشرح المقامات، والتبيين، توفي سنة ست عشرة وستمائة. بغية الوعاة 2/ 38 والأشباه والنظائر في النحو للسيوطي 1/ 44.

(1/117)


فوجب أن يكون المحذوف من آخره، كما ذكرنا في ابن، وإنما قلنا ذلك لوجهين:
أحدهما: أنا قد عرفنا من طريقة العرب أنهم إذا حذفوا من الأول عوضوا أخيرا (1) مثل عدة، وزنة، وإذا حذفوا من الآخِر عوضوا أولاً مثل ابن، وهنا قد عوضوا في أوّله، فكان المحذوف من آخره.
والثاني: أن العوض مخالف للبدل، فبدل الشيء يكون في موضعه، والعوض يكون في غير موضع المُعَوَّضِ عنه، فلو كانت الهمزة عوضا من الواو في أوله لكانت بدلا من الواو، ولا يجوز ذلك، إذ لو كانت كذلك لكانت همزة مقطوعة، ولمَّا كانت ألف وصل حكم بأنها عوض.
فإن قيل: التعويض في موضع لا يوثق بأن المعوض عنه في غيره؛ لأن القصد منه تكميل الكلمة، فأين كملت حصل غرض التعويض، ألا ترى أن همزة الوصل في اضرب وبابه عوض من حركة أول الكلمة، وقد وقعت في موضع الحركة.
ْفالجواب: أن التعويض على ما ذكرنا يغلب على الظن أن موضعه مخالف لموضع المعوض منه، لما ذكرنا من الوجهين.
قولهم: الغرض تكميل الكلمة ليس كذلك، وإنما الغرض العدول عن أصل إلى ما هو أخف منه، والخفة تحصل بمخالفة الموضع، فأما تعويضه في موضع محذوف لا يحصل منه خفة؛ لأن الحرف قد يثقل بموضعه، فإذا أزيل عنه حصل التخفيف.
المسلك الثالث: أن اشتقاق الاسم من السمو مطابق للمعنى، فكان المحذوف الواو كسائر المواضع.
وبيانه أن الاسم أحد أقسام الكلمة، وهو أعلى من صاحبيه، إذ كان يخبر به،
وعنه، وليس كذلك صاحباه، فقد سما عليهما، ولأن الاسم ينوه بالمسمى، ويرفعه للأذهان بعد خفائه، وهذا معنى السمو.
فإن قيل: هذا معارض باشتقاقه من الوسم فإن المعنى فيه صحيح، كما أن المعنى فيما ذكرتموه صحيح، فبماذا ثبت الترجيح؟
قيل: الترجيح معنا لوجهين:
أحدهما: أن تسمية هذا اللفظ اسما اصطلاح من أرباب هذه الصناعة، وقد
__________
(1) في ح: آخراً.

(1/118)


ثبت من صناعتهم علو هذا اللفظ على الآخَرين، ومثل هذا لا يوجد في اشتقاقه من الوسم.
والثاني: أنه يترجح بما ذكرناه من المسالك المتقدمة.
أما حجتهم فقد قالوا: الاسم علامة على المسمى، والعلامة تؤذن بأنه من الوسم وهو العلامة، فيجب أن يكون مشتقا منها.
والجواب عنه: ما تقدم من الأوجه الثلاثة، على أن اتفاق الأصلين في المعنى، وهو العلامة لا يوجب أن يكون أحدهما مشتقا من الآخر.
ألا ترى أن دمثا، ودمثراً سواء في المعنى، وليس أحدهما مشتقا من الآخر، وكذلك سبط وسبطر، وأبعد من ذلك الأسد، والليث بمعنى واحد، ولا يجمعهما الاشتقاق (1). انتهى.
قوله: (ومن لغاته سم وسم)
بقي منها اُسْمٌ بضم الهمزة، وسِماً بكسر أوله مقصورا كرضاً، حكاهما ابن إياز (2)، والسخاوي في " شرح المفصل " (3) فكملت لغاته ستة، وقد نظمتها في قولي:
اسم بضم أول والكسر. . . مع همزة وحذفها والقصر
قال الكسائي: العرب تقول: اسم بكسر الهمزة وضمها، فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسرها: سِمٌ بكسر السين، والذين لغتهم ضمها: سُمٌ بالضم.
وقال ثعلب: (4) من قال: أصله من سَمَى يَسْمِي قال: اِسْمٌ وَسِمٌ، ومن قال: أصله من سَمَا يَسْمُو قال: اُسْمٌ وسُمٌ.
وقال مكي في إعرابه: الاسم عند البصريين مشتق من سما يسمو، ولذلك ضمت السين في أصله في سُم، وقيل: هو من سمى يسمي، ولذلك كسرت السين
__________
(1) التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين 132، 138.
(2) انظر في كتاب شرح فصول ابن معطي لابن إباز ل5 نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 1102 النحو.
(3) المفضل في شرح المفصل ل16.
(4) هو أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس ثعلب النحوي اللغوي: إمام الكوفيين في النحو واللغة والثقة والديانة، له من الكتب كتاب معاني القرآن، وكتاب الفصيح، توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين. معجم الأدباء 3/ 1359 وبغية الوعاة 1/ 582.

(1/119)


في سِمٌ (1).
قوله: (قال: بِسمِ الذي في كلِّ سُورة سُمُهْ. . . . .)
قال السخاوي في " شرح المفصل ": أنشده أبو زيد (2) بكسر السين وضمها (3).
قال: وكذلك أنشدوا قول الآخر:
والله أسماك سُماً مباركا (4). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وكذلك قوله:
وعَامُنَا أعْجَبَنَا مُقَدَّمُهْ يُدْعَى. . . أبا السَّمْحِ وَقِرْضَابٌ سُمُهْ (5).
بالوجهين في جميع ذلك (6). انتهى.
والشاهد الذي أورده المصنف لرؤبة، (7) وبعده:
قَدْ وَرَدَتْ على طَرِيْقٍ يَعْلَمُهْ
وقبله:
أَرْسَلَ فيها بَازِلاً يُقَرِّمُهْ فَهْوَ. . . بِهَا يَنْحُوْ طَرِيْقاً يَعْلَمُهْ (8).
قال الشريف: وجعل الفاضل اليمني هذا البيت مقدما على قوله:
باسم الذي (9). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1)
كتاب مشكل إعراب القرآن 1/ 6.
(2) هو سعيد بن أوس بن ثابت أبو زيد الأنصاري الخزرجي النحوي، غلبت عليه اللغة والغريب والنوادر فانفرد بذلك، له كتاب النوادر، وكتاب النبات والشجر، توفي سنة خمس عشرة ومائتين. معجم الأدباء 3/ 1359 وبغية الوعاة 1/ 582.
(3) كتاب النوادر في اللغة 462.
(4) سبق تخريجه.
(5) مجهول القائل، وقد خرجه محقق أمالي ابن الشجري فانظر فيه 2/ 281.
(6) المفضل في شرح المفصل ل16.
(7) هو رؤبة بن العجاج، واسم العجاج عبد الله بن رؤبة أبو الجحاف، من رجاز الإسلام وفصحائهم، وهو من مخضرمي الدولتين، مدح بني أمية، ومدح بني العباس، وقد أخذ عنه وجوه أهل اللغة، وكانوا يقتدون به ويحتجون بشعره ويجعلونه إماما، توفي في أيام المنصور سنة خمس وأربعين ومائة. الشعر والشعراء 2/ 594 وكتاب الأغاني 20/ 312 ووفيات الأعيان 2/ 303.
(8) نسبها أبو زيد في كتاب النوادر في اللغة 461 لرجل من كلب، وأما نسبتها إلى رؤبة فقيها نظر، فإنها ليست في ديوانه المطبوع.
(9) تحفة الإشراف في كشف غوامض الكشاف ل7.

(1/120)


وأيًّا ما كان فالباء متعلقة بأرسل، أي باسمه أرسل الراعي في الإبل بازلا يقرمه، أي يتركه عن الاستعمال بالركوب والحمل ليتقوى للفحلة، فالجملة صفة بازلا، وقد تجعل حالا من المرسل؛ لأن الوصف بصيغة الماضي أولى، فهو أي البازل يقصد بتلك الإبل طريقا يعلمه، لاعتياده بتلك الفعلة (1).
وقال الطيبي: الضمير المستتر في " أرسل " للراعي، والبارز في " فيها " للإبل.
والمقرم: البعير المكرم الذي لا يحمل عليه، ولا يذلل، ولكن يكون للفحلة (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: أي أرسل في الإبل البازل، وهو البعير الذي انشق نابه، وهو في السنة التاسعة، حال كون المرسل قرمه، أي تركه عن العمل للفحلة (3).
قوله: (أو الاسم فيه مقحم، كما في قول الشاعر:
إِلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسمُ السلام عليكما. . . . . . . . . . . . . . . . . .)
هو للبيد بن ربيعة (4) الصحابي رضي الله تعالى عنه، قاله حين بلغ مائة وثلاثين سنة، وأوله:
تَمَنُّى ابنَتَايَ أن يعيشَ أَبُوهُما. . . وَهَل أنا إلا من رَبيعة أو مُضَرْ
فَقُوْمَا وقُولا بالذي تَعلَمَانِه ولا. . . تَخمِشَا وَجْهاً ولا تَحْلِقَا شَعَرْ
وقولا:
هو المرءُ الذي لا صديقه (5) أضاعَ. . . ولا خانَ الخليلَ ولا غَدَرْ
إلى الحول ثم اسمُ السلامِ عَليكما. . . ومن يبكِ حَولاً كاملاً فَقَدِ اعتَذَرْ (6)
وما ذكره من أن الاسم في البيت مقحم، وأن معناه ثم السلام عليكما نازع فيه
__________
(1)
حاشية الشريف 1/ 34.
(2) فتوح الغيب 1/ 83.
(3) حاشية أكمل الدين ل9.
(4) هو لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي أبو عقيل الشاعر المشهور، كان فارساً شجاعاً شاعراً، قال الشعر في الجاهلية، ثم أسلم، توفي وهو ابن مائة وأربعين في أول خلافة معاوية. الاستيعاب 3/ 1335 والإصابة 5/ 675.
(5) رواية الديوان: لا خليله.
(6) شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري 213.

(1/121)


ابن جرير، فقال: لو صح ذلك لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب.
وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل البيت بذلك، وإنما هو مخرج على وجهين:
أحدهما: أن السلام من أسماء الله، والكلام إغراء. ومعنى: ثم اسم السلام عليكما: ثم الزما اسمَ الله وذكرَهُ بعد ذلك، ودَعَا ذِكري، وقدم المغرى به، على حد قوله:
يا أَيًّهَا المائحُ دَلْوِي دُونَكَا (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
والثاني: أن المراد ثم تسميتي الله عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: اسم الله عليك، يُعَوِّذه بذلك من السوء، فكأنَّه قال: ثم اسم الله عليكما من السوء (2). انتهى.
وقال ابن جني في " الخصائص ": ادعى أبو عبيدة زيادة اسم في البيت، ونحن نحمل الكلام على أن هناك محذوفا
قال أبو علي (3): وإنما هو على حذف المضاف، أي ثم اسم معنى السلام عليكما، واسم معنى السلام هو السلام، فكأنَّه قال: ثم السلام عليكما.
ثم قال: فالمعنى لعمري ما قاله أبو عبيدة، لكنه من غير الطريق التي أتاه هو منها، ألا تراه اعتقد زيادة شيء، واعتقدنا نحن نقصان شيء.
قال: ونحو من هذا اعتقادهم زيادة مثل في نحو: مثلي لا يأتي القبيح، ومثلك لا يخفى عليه الجميل، أي أنا كذا، وأنت كذاك.
وذكر مثله ابن يعيش في " شرح المفصل (4) ".
وفي " شرح الأندلسي (5) ": لبيد هذا عاش مائة وخمسا وأربعين سنة، تسعين
__________
(1)
هو لراجز جاهلي، انظر في كتاب الشعر لأبي علي الفارسي 1/ 23 وخزانة الأدب لعبد القادر البغدادي 6/ 200.
(2) جامع البيان عن تأويل القرآن 1/ 120.
(3) هو أبو علي النحوي الفارسي، سبقت ترجمته.
(4) شرح المفصل 3/ 14.
(5) هو القاسم بن أحمد بن الموفق أبو محمد الأندلسي اللورقي، إمام في العربية، عالم بالقراءات، اشتغل في صباه بالأندلس، وما من علم إلا وله فيه أوفر نصيب، شرح المفصل في أربعة=

(1/122)


في الجاهلية، والباقي في الإسلام.
ومن شعره حين بلغ السبعين:
باتت تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشةً. . . وقد حَمَلْتُكِ سبعا بعدَ سبعينا
فإن تزيدي ثلاثا تبلغي العُلا أملا. . . وفي الثلاث وفاءٌ للثمانينا
فلما بلغ التسعين قال:
كأني وقد خَلفتُ تسعين حِجَّة. . . خَلَعْتُ بها عن مَنكبي رِدائيا
فلما بلغ مائة وعشرا قال:
أليس في مِائةٍ قد عاشَهَا رَجُلْ. . . وَفي تَكَامُلِ عَشْرٍ بَعْدَهَا عُمَرْ
فلما بلغ مائة وعشرين قال:
ولقد سَئِمْتُ من الحياةِ وطولِها. . . وسؤالِ هذا الناسِ كيفَ لَبِيد؟
فلما حضرته الوفاة قال لابنتيه:
تمنى ابنتاي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الأبيات
قوله: (وإنما قال: بسم الله، ولم يقل: بالله؛ لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه)
قال الراغب: قال بعض العلماء:. إنما قال: بسم الله، ولم يقل بالله؛ لأنه لما استحبت الاستعانة بالله في كل أمر يفتتح به من قراءة وغيرها، فبعضهم يذكره بقلبه، وبعضهم يزيد ويقوله بلسانه، ويكون أبلغ، وألفاظ الاستعانة نحو أستعين بالله، واللهم أعني، ونحو ذلك، وذكر الله مستعمل في كل ذلك، فصار لفظة بسم الله مستغنى بها عن جميعها، وقائما مقامها، ولو قال: بالله لتوهم الاستعانة بهذه اللفظة فقط.
والاسم هاهنا موضوع موضع المصدر، أي التسمية، فالقائل إذا قال: بالله
أبتدئ فمعناه بهذا الاسم، وإذا قال بسم الله فإن المقصود به المسمى (1).
__________
=مجلدات، توفي سنة إحدى وستين وستمائة. إنباه الرواة 4/ 167 وبغية الوعاة 2/ 250 وشرحه اسمه "المحصل في شرح المفصل" توجد منه أجزاء متفرقة، ولا توجد منه نسخة كاملة، ومنه نسخة مصورة من المجلد الأول بمعهد البحوث العلمية برقم 552 النحو ولم أجد فيها بغيتي. وانظر شرح المفصل في صنعة الإعراب 1/ 95.
(1) مقدمة جامع التفسير 110.

(1/123)


قوله: (ولم تكتب الألف).
قال الشيخ سعد الدين: عبر عنها هنا بالألف، وفيما سبق بالهمزة؛ لأنها في الخط بصورة الألف (1).
وقال البلقيني: التحقيق التعبير بالهمزة؛ فإنها هي الموجودة هنا، دون الألف، ولكن تجوز في ذلك، فأطلق على الهمزة ألفا.
قوله: (على ما هو وضع الخط).
قال الشريف: أراد أن وضع الخط على حكم الابتداء، دون الدرج، إذ الأصل في كل كلمة أن تكتب على صورة لفظها بتقدير الابتداء بها، والوقف عليها، فكان يجب أن تكتب الهمزة هاهنا، لثبوتها في الابتداء كما كتبت في (باسم ربك) (2).
قوله: (لكثرة الاستعمال)
قال محمود بن حمزة الكرماني: هذه العلة موجودة في ألف " الله " من بسم الله، ولم تحذف، وإنما تتم إذا أَضَفْتَ إليها علة أخرى، فقلتَ: ولاتصال الباء باسم وامتزاجه، بحيث لا يمكن فصله عنه، بخلاف اتصال بسم الله، فإنه يمكن فصله عنه، والوقف علية في الإملاء والاستملاء (3).
وقال قوم: لا حذف، وإنما الباء داخلة على " سم " بكسر أوله، أو ضمه، ثم سكن السين فرارا من توالي الكسرات، أو الانتقال من الكسر إلى الضم.
وفي إعراب مكي: حذفت الألف من الخط في بسم الله؛ لكثرة الاستعمال، وقيل: حذفت لتحرك السين في الأصل؛ لأن أصل السين الحركة، وسكونها لعلة دخلتها، وقيل: حذفت للزوم الباء هذا الاسم، فإن كتبت بسم الرحمن، أو بسم الخالق حذفت الألف من الخط أيضاً عند الأخفش (4)، والكسائي.
وقال الفراء: لا تحذف إلا في بسم الله فقط، فإن دخلت على اسمٍ غيرُ الباء من حروف الخفض لم يجز حذف الألف عند أحد، نحو قولك: ليس اسم كاسم

(1/124)


الله، وقولك: لاسم الله حلاوة (1).
وفي " الكشاف " للبلقيني: يرد على جواب المصنف لفظ " الله " مع اسم، فإنه كثير الاستعمال، ولم تحذف الهمزة، فزيد في التعليل: امتزاج الحرف بالاسم فلا يمكن فصله، ولفظ " اسم " يمكن فصله بالوقف وغيره، كذا قيل، وفيه نظر؛ فإنه لو أسقطت الهمزة من الله لالتبس ذلك بقولك: " لله " مجرورا باللام، فلذلك لم يسقطوا همزته.
قال: وفي السؤال المذكور جواب آخر عن الخليل: (2) وهو أنه إنما حذفت الهمزة في بسم الله؛ لأنها إنما أدخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف، فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في قوله (اقرأ باسم ربك الذي خلق) لأنه يمكن حذف الباء مع بقاء المعنى صحيحا، فإنك لو قلت: أقرأ اسم ربك صح المعنى، أما لو حذفت الباء من بسم الله لم يصح المعنى، فكان لزوم ذكر الباء في بسم الله يقتضي أن تنوب في الخط عن الهمزة، ولم تنب الباء عن الألف في (اقرأ باسم ربك).
هذا جواب الخليل، وفيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقول: اسم الله الرحمن الرحيم ابتدائي، أو ابتدائي اسم الله الرحمن الرحيم، وحذف (3) ابتدائي، لدلالة الحال عليه.
وقضية ما قال الخليل أن لا تحذف الهمزة في كتابة (بسم الله مجريها ومرساها) ولا باسم الرحمن، ولا باسم القاهر (4)، ونحو ذلك، والمشهور خلافه. انتهى.
قوله: (وطولت الباء عوضا عنها)
قال البلقيني: هو أحد القولين في ذلك.

(1/125)


والقول الثاني: أنهم إنما طولوها لأنها مبتدأ (1) كتاب الله تعالى، فأحبوا أن يبتدئوه على صورة التفخيم تعظيماً، وجرى الحال في بقية السور على ذلك.
قال: وعلى هذا فالتي في سورة النمل ينبغي أن تكتب على الأصل، إلا أن يلاحظ فيها مكان كتابتها في أول الكتاب.
وأما قوله (بسم الله مجريها) فمقتضى هذا القول أن تكتب (2) بالألف، وعلى قول العوض فكل موضع حذفت فيه (3) الهمزة تطول فيه الباء.
قال: وفي تطويل الباء في البسملة كلام عن الليث بن سعد (4).
أسند الخطيب في جامعه في ترجمة: " كيف يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " عن عبد الله بن صالح (5) أنه قال: كتبتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ورفعت الباء، فطالت فأنكر ذلك الليث وكرهه وقال: غيرت المعنى. يعني لأنها تصير لاما.
قال الخطيب: فينبغي أن يجعل بين طول الباء وحرف السين فرق يسير للتمييز بينهما (6).
قوله: (والله أصله إلاه).
اعلم أن في الاسم الكريم نحو ثلاثين قولا، وقد رأيت أن أوردها هنا باختصار لتستفاد:
أحدها: أنه سرياني، أصله لاها، فعرب بحذف آخره، وزيادة (7) " ال " في أوله.
الثاني: أنه عربي علم غير مشتق.

(1/126)


الثالث: أنه مشتق من أصل لا يعلمه إلاّ الله.
الرابع: أنه من أَلَهَ: عبد
الخامس: من ألِهَ بالمكان: أقام به؛ لبقائه تعالى.
السادس: من ألِهَ: تحير.
السابع: من أَلَهَ: احتاج، لاحتياج الخلق إليه.
الثامن: من ألِهَ: سكن.
التاسع: من أَلِهَ الفصيل: ولِعَ (1) بأمه.
العاشر: من أَلِهَ: فزع، وَأَلَهَهُ غيره، أجاره.
وأصله على الأقوال السبعة: إلاه، حذفت الهمزة وعوض عنها " أل "، وقيل: بل أدخلت " أل " بلا حذف، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام، ثم أدغمت، فهذه سبعة أخرى على هذا العمل.
وقيل: هو من وَلِهَ: فزع، وقيل: من الوَلَهِ، وهو الطرب؛ لأن القلوب تطرب بذكره، وأصله على القولين وِلاهٌ، فقلبت الواو همزة، كإشاح، ثم يأتي فيه العملان السابقان، فهذه أربعة أقوال مع السبعة عشر.
الثاني والعشرون: أن أصله لاهٌ، مصدر لاه يليه، إذا علا.
الثالث والعشرون: مصدر لاه يلوه، إذا احتجب.
الرابع والعشرون: أصله هاء الكناية زيد عليها لام الملك، ثم مدّ بها الصوت تعظيما، ثم ألزم اللام.
وقيل: هو من الإلاه بمعنى السيد، وقيل: بمعنى الذي له الإلاهية، وقيل: القدرة على إيجاد الأعيان، وعلى القولين يأتي العملان السابقان، فهذه ثمانية وعشرون قولا.
قال الشيخ سعد الدين: كما تحيرت الأوهام في ذاته وصفاته فكذا تحيرت في اللفظ الدال عليه أنه اسم، أو صفة، مشتق، أو غير مشتق، علم، أو غير علم إلى غير ذلك. قال: ولا خلاف في أن الألف واللام حرف تعريف، لا من أصل الكلمة.
وجوّز سيبويه أن يكون أصله لاهٌ، " من لاهَ يليهُ (2): تستر واحتجب، إلا أن كثرة

(1/127)


دوران إلاه في الكلام واستعمال إلاه في المعبود، وإطلاقه على الله رجح جانب الاشتقاق من أَلَهَ قال: والحكم بأن أصله الإلاه ذهب إليه الأكثرون (1). انتهى.
وكذا نقله ابن مالك عن الأكثرين (2)، ورجحه ابن جرير، واستدل بحديث " إن عيسي عليه الصلاة والسلام قال لمعلمه: أتدرى ما الله؟ الله إلاه الآلهة " (3).
أخرجه هو، وأبو نعيم في " الحلية "، وابن مردويه في تفسيره، وابن عدي في " الكامل " من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، بسند ضعيف.
ووجهه الشيخ أكمل الدين بأن الحرف الأصلي ما يثبت في تصاريف الكلمة، والهمزة موجودة في تصاريف هذه الكلمة، يقال: أَلِهَ، وتألّه، واستأله، وغير ذلك (4).
قوله: (فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام).
قال ابن جرير: كما حذفت من قوله (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) [سورة الكهف 38] أي لكن أنا (5)، وهذا هو المسمى بالحذف الاعتباطي، أي الذي لغير موجب.

(1/128)


وقال الشريف: حذفت الهمزة من الإلاه حذفا من غير قياس، ويدلّ عليه وجوب الإدغام والتعويض، فإن المحذوف قياسا في حكم المثبت، وقولهم: لاه أبوك، واختار أبو البقاء أنه على قياس التخفيف، فلزوم الحذف والتعويض، مع وجوب الإدغام من خواص هذا الاسم التي يمتاز بها عن نظائره امتياز مسماه عن سائر الموجودات بما لا يوجد إلا فيه (1).
وقال مكي في إعرابه: الأصل في اسم الله إلاه، ثم دخلت الألف واللام، فصار الإلاه، فخففت الهمزة بأن ألقيت حركتها على اللام الأولى، ثم أدغمت اللام الأولى في الثانية، ولزم الإدغام والحذف للتعظيم والتفخيم.
وقيل: بل حذفت الهمزة حذفا، وعوض منها الألف واللام، ولزمتا للتعظيم.
وقيل: أصله لاه، ثم دخلت الألف واللام عليه فلزمتا للتعظيم، ووجب الإدغام، لسكون الأول من المثلين، وحذفت الألف من اسم الله في الخط استخفافا.
وقيل: حذفت لئلا يشبه هجاء اللات في قول من وقف عليها بالهاء.
وقيل: لكثرة الاستعمال، وكذلك العلة في حذف ألف الرحمن (2). انتهى.
وقال الطيبي: قال المالكي (3): قول من زعم: أن اللام في الله عوض عن الهمزة باطل؛ لحذفهما معا في لاه أبوك، بمعنى لله أبوك، والعوض لا يحذف.
جوابه: ما وقع في كلام أبي عليّ (4) أنهم يحذفون من نفس الكلمة في نحو لم يكن، ولا أدري إذا كان في الذي أبقي دليل على ما ألقي (5).
وفي " الصحاح ": الله أصله إلاه، على فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مألوه، أي معبود، كقولنا: إمام، فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مؤتم به، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام، ولو كانتا عوضا منها لما استعملتا مع المعوض منه في قولهم: الإلاه، وقطعت الهمزة في النداء، للزومها تفخيما لهذا الاسم.
وسمعت أبا عليّ النحوي يقول: إن الألف واللام عوض عن الهمزة.

(1/129)


قال: ويدل على ذلك استجازتهم لقطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في القسم، والنداء، وذلك قولهم: أَفَأَللُّهِ ليفعلن، ويا ألله اغفر لي، ألا ترى أنها لو كانت غير عوض لم تثبت في غير هذا الاسم.
قال: ولا يجوز أيضاً أن يكون للزوم الحرف؛ لأن ذلك يوجب أن تقطع همزة الذي والتي، ولا يجوز أيضاً أن يكون لأنها همزة مفتوحة وإن كانت موصولة، كما لم يجز في " أيم الله "، و " أيمن الله " التي هي همزة وصل، فإنها مفتوحة، ولا يجوز أيضاً أن يكون ذلك لكثرة الاستعمال؛ لأن ذلك يوجب أن تقطع الهمزة أيضا في غير هذا الاسم مما يكثر استعمالهم له، فعلمنا أن ذلك لمعنى اختصت به، ليس في غيرها، ولا شيء أولى بذلك المعنى من أن يكون المعوض من الحرف المحذوف الذي هو الفاء (1).
قوله: (ولذلك قيل: يا ألله، بالقطع)
قال الطيبي: أي ولأجل أن حرف التعريف عوض عن الهمزة استجيز قطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعويف في النداء، ويعلم منه أنه لو لم يكن عوضا وكان حذفا قياسيا كما نقله أبو البقاء (2)، أصله الإله، فألقيت حركة الهمزة على لام التعريف، ثم سكنت، وأدغمت في اللام الثانية لم يجز القطع.
وهذا الذي اختاره المصنف أحد قولي سيبويه في هذا الاسم (3)، على ما نقله عنه أبو عليّ في " الإغفال ".
قال: أصله إلاه، ففاء الكلمة همزة، وعينها لام، واللام هاء، والألف ألف فعال، فحذفت الفاء، لا على التخفيف القياسي.
قال أبو علي: فإن قيل: هلا حمله على الحذف القياسي؛ إذ تقدير ذلك سائغ فيه، غير ممتنع، والحمل عليه أولى.
قيل له: فلو كان طرح الهمزة على القياس دون الحذف لما لزم أن يكون فيها عوض؛ لأن المحذوف القياسي ملقى في اللفظ، مبقى في النية، كما تقول: في " جَيْأَل " إذا خففته " جَيَل "، ولو كانت محذوفة في التقدير كما أنها محذوفة في

(1/130)


اللفظ للزم قلب الياء ألفا، فلما كانت الياء في نية السكون لم تقلب كما قلبت في " ناب " (1).
فإن قيل: ما بال الهمزة قطعت في النداء، ووصلت في غيره؟
قلت: قال صاحب (2) " الضوء ": إنما تجردت للتعويض في النداء؛ لأن التعريف الندائي أغنى عن تعريفها، فجرت مجرى الهمزة الأصلية، فقطعت، وفي غير النداء لما لم ينخلع عنه معنى التعريف رأسا وصلوا الهمزة (3).
وقال صاحب " الكشاف " في سورة " مريم ": أخلصت الهمزة في " يا ألله " للتعويض، واضمحل عنها التعريف (4).
قال الطيبي: وكثيرا ما يجرّدون الحرف عن معناه المطابقي، مستعملين في معناه الالتزامي، أو التضميني، نحوا لهمزة في قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [سورة يس 10] عزلت عن الاستفهام، وجردت لمعنى الاستواء، والواو في قوله (وثامنهم كلبهم) [سورة الكهف 22] تجردت لمعنى الجمعية فقط، وسلب عنها معنى المغايرة (5).
وقال الشريف: إنما اختص تعريف القطع بالنداء؛ إذ هناك يتمحض الحرف للعوضية، ولا يلاحظ معها شائبة التعريف أصلا، حذرا من اجتماع أداتي التعويف.
أما في غير النداء فيجري الحرف على أصله، ويدلّ على أن قطعها في النداء لكونها عوضا، لا لمجرد لزومها وصيرورتها جزءًا = أنهم لما جمعوا بينها وبين النداء في نحو " يا التي " على الشذوذ لم يجوزوا قطعها وإن كانت جزءا من الكلمة، مضمحلا عنها معنى التعريف، وذلك لأن المحافظة على الأصل واجبة ما لم يعارضه موجب أقوى كالتعويض فيما نحن فيه (6).

(1/131)


وقال الشيخ سعد الدين: خص قطع الهمزة بحال النداء لتمحض حرف التعريف هناك للتعويض، مضمحلا عنها معنى التعريف، حذار الجمع بين أداتي التعريف.
قال: وقد يقال في قطع الهمزة: إنه ينوي به الوقف على حرف النداء تفخيما للاسم (1).
وقال الشيخ أكمل الدين: فإن قلت: هذا على تقدير كون المجموع حرف التعريف صحيح، وأما على تقدير أن اللام وحدها للتعريف فينبغي أن تجعل الهمزة باقية على الأصل، لكونها غير عوض عن الأصل.
قلت: لما كانت اللام الساكنة بدلا عن حرف، ولا يمكن التكلم بها إلا بالهمزة صار للهمزة مدخل في العوضية فقطعت كالأصلية (2).
وقال أبو الحسن ابن خروف في " شرح الجمل ": اختلف في هذا الاسم أمنقول، أم مرتجل؟ فذهب أكثرهم إلى نقله من إلاه، منهم سيبويه، وذهب طائفة إلى أنه علم، منهم المازني (4)، وأكثر الأشعرية، وليس من شأنهم.
والألف واللام زائدتان في الكلمة لا محالة، فقد صار الاسم بعد زوالها إلاهاً، أوْ لاهاً، وكلاهما قول سيبويه، فإن قدرنا نقله على طريق العلمية كانتا زائدتين لغير معنى، كزيادتهما في قوله:
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا (4). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
فأدخل الألف واللام على يزيد، وهو علم، ولا يحمل اسم الله تعالى على الشاذ المنكر مع كون الألف واللام لغير معنى، فالأولى أن يكون اسما غالبا منقولا من إلاه النكرة، كغلبة النجم للثريا، والدبران، والسماك، والعيوق، وهي أسماء غالبة، ودخلت الألف واللام للغلبة، لما كانت عامة في أجناسها، ووقعت على مخصوص دل على ذلك لزوم الألف واللام، فصارت غالبة، فالألف واللام

(1/132)


للغلبة، ولا يقدح ذلك في المعنى من جهة الشرع؛ وذلك أن هذا اللفظ عربي، ولا خلاف أن الحرف عمل لنا، فهي محدثة، فإذا حكم على المحدث بالنقل - وهو مرادهم بالاشتقاق - لم يقدح في المعنى، مع الجري على قوانين كلام العرب، والمعني الواقع عليه اللفظ - وهو المسمى به - هو القديم تعالى.
فمن قال: أصله إلاه حذفت الهمزة على غير قياس؛ لكثرة دوره، وأدخل الألف واللام كالعوض، إما للغلبة كما ذكرنا، وإما للتعريف في قول الفراء - يريد تعريف اللفظ - ليطابق اللفظ المعنى، إذ لفظ إلاه نكرة، وفخم اللفظ تعظيما لذكره، وللفصل بينه وبين اللات، ولزمت الألف واللام، ولذلك دخلت عليه ياء، فقيل: يا ألله بقطع الألف (2). انتهى.
قوله: (إلا أنه مختص بالمعبود بالحق)
قال الشيخ أكمل الدين: فيه بحث؛ لأن المراد بالاختصاص المذكور إما الاختصاص بالغلبة، أو بالوضع العلمي، والأول لا يصح، وكذلك الثاني؛ لأن العلمية إنما تتعيّن إذا لم تكن صفة، وهو ممنوع.
والجواب: أنه يوصف، ولا يوصف به، فلم يكن صفة (2).
قال الشيخ سعد الدين: قال هنا " بالحق " وفي الإلاه " بحق " إشارة إلى ما بينهما من الفرق بالعلمية، وعدمها (3).
قال أبو حيان: الله علم مرتجل، غير مشتق عند الأكثرين، وقيل: مشتق، ومادته قيل: لام وياء وهاء، من لاه يَلِيهُ: ارتفع.
وقيل: لام وواو وهاء، من لاه يَلُوْهُ لوها: احتجب، ووزنه إذ ذاك فَعَلَ أو فَعِلَ.
وقيل: الألف زائدة، ومادته همزة ولام وهاء من أله: أي فزع، قاله أبو إسحاق (4)،

(1/133)


أو أله تحير، قاله أبو عمر (1)، أو أله: عبد، قاله النضر (2)، أو أله: سكن، قاله المبرد.
وعلى هذه الأقاويل فحذف الهمزة اعتباطا كما قيل: في ناس: أصله أناس، أو حذفت. للنقل، ولزم مع الإدغام، وكلا القولين شاذ.
وقيل: مادته واو ولام وهاء، من وَلِهَ: أي طرب، وأبدلت الهمزة فيه من الواو، نحو إشاح، قاله الخليل، وهو ضعيف للزوم البدل، وقَوْلِهِمْ في الجمع: آلهة، ويكون فعالا بمعنى مفعول، كالكتاب يراد به المكتوب.
و " أل " في الله إذا قلنا: أصله الإلاه قالوا: للغلبة؛ إذ الإلاه ينطلق على المعبود بحق وباطل، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق، فصار كالنجم للثريا، ووزنه - على أن أصله فعال، فحذفت همزته - " عال ".
وزعم بعضهم أن " ال " في الله من نفس الكلمة، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال، وهو اختيار أبي بكر ابن العربي (3)، والسهيلي (4)، وهو خطأ؛ لأن وزنه إذ ذاك يكون فَعَّالاً، وامتناع تنوينه لا موجب له، فدلّ على أن " ال " حرف داخل على الكلمة، سقط لأجلها التنوين.
ومن غريب ما قيل في الله: إنه صفة، وليس اسم ذات؛ لأن اسم الذات يعرف به المسمى، والله تعالى لا يدرك حسا ولا بديهة، ولا تعرف ذاته باسمه، بل إنما تعرف بصفاته، فجعله اسما للذات لا فائدة فيه، ولأن العلم قائم مقام افي شارة، وهي ممتنعة في حق الله تعالى.

(1/134)


وحذفت الألف الأخيرة من الله تعالى؛ لأن لا يشكل بخط " اللاه " اسم فاعل من لها يلهو، وقيل: طرح تخفيفا، وقيل: هي لغة فاستعملت في الخط. انتهى.
قوله: (والإلاه في أصله لكل معبود، ثم غلب على المعبود بحق)
عبارة " الكشاف ": " والإلاه من أسماء الأجناس، كالرجل والفرس اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا (2) ".
قال البلقيني: هذا ممنوع من وجوه:
أحدها: أن اسم الجنس عبارة عما وضع للدلالة على حقيقة توجد في آحاد متفقة، كالرجل، والفرس، والماء، والعسل، والإلاه إنما وضع للمعبود بالحق (3)، وهو الله تعالى، وإطلاق الكفرة الإلاه على معبودهم غير الله من تعنتهم وإبطالهم، فلا يصح أن يقال بمجرد ما جاء من تعنتهم: إن الإلاه اسم جنس.
وقد ذكر صاحب " الكشاف " في الرحمن " أنه من الصفة (4) الغالبة، لم يستعمل في غير الله، كما أن الله من الأسماء الغالبة، وأما قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة فمن تعنتهم في كفرهم " (5).
وكان ينبغي أن يقول هاهنا: إن الإلاه وضع للمعبود بحق، وإطلاق الكفرة الإلاه على غير الله من تعنتهم وإبطالهم.
فإن قيل: قد أطلقت عليه العرب.
قلنا: قد رد الله عليهم، وأخبر أنهم أطلقوا إطلاقا باطلا بقوله (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله من سلطان) [سورة يوسف 40].
الوجه الثاني: أن اللغات عند الأشعري وجماعة توقيفية (6)، ولم يكن الله

(1/135)


تعالى ينسب إليه شيء مما افترته الكفرة، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
ونفي اسم الإلاهية عن غيره بقوله: لا إله إلا أنا، فمن أثبتها لغيره فقد كفر، وقال ما لم يأذن به الله.
الوجه الثالث: ما حكاه الثعلبي (1) وغيره عن الخليل: أن لفظتي (2) " الإلاه " و " الله " مخصوصان بالله تعالى، فقول المصنف: " اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل " ممنوع، بل لا يقع إلا على المعبود بحق، فما زال هذا الإطلاق مختصا بالله تعالى، ومن أطلقه على غيره حكم الله بكفره، وأرسل الرسل لدعائه إلى الحق، ورجوعه عن هذه الدعوى الباطلة.
فإن قيل: الكلام في إطلاق اللفظ، لا في حكم الاعتقاد.
قلنا: واللفظ لا يطلق إلا على ما قررناه، وإطلاق الكفرة لفظ الإلاه على معبوداتهم الباطلة نظير إطلاق النصارى على عيسى " الله ".
وقد اعترف صاحب " الكشاف " أن لفظ " الله " لا يطلق إلا على المعبود الحق. انتهى.
وقال الطيبي: في بعض شروح " المفصل ": الأعلام متى غلبت باللام فلابد من أن تكون مسبوقة بالجنسية، ثم الجنسية إما أن تكون بالنظر إلى الدليل والأمارة، أو إلى استعمال العرب، أما معنى الاستعمال فكما في النجم، والصعق، وأما الدليل فهو أن الدبران والعيوق والسماك وإن لم تكن أجناسا بالاستعمال لكنها بالنظر إلى أنها أوزان مخصوصة وحروف مخصوصة، ومعنى كل واحد منها معلوم كأن كل واحد منها جنس في الأصل بالنظر إلى الدليل (3)، فعلى هذا " الإلاه " من

(1/136)


القسم الثاني، وأما " الله " و " الرحمن " فمن القسم الأول.
بيان ذلك أن " الإلاه " من حيث إنه كان اسما لكل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق هو مثل النجم والكتاب.
وأما الله من حيث إن المعبود يجب أن يكون. خالقا رازقا مدبرا مقتدرا إلى ما لا نهاية له، واسم " الله " جامع لهذه المعانى، ومن لم يجتمع فيه كل ذلك لم يستحق أن يسمى به، فتكون الغلبة بحسب الدليل، وكذا " الرحمن " صفة لمن وسعت رحمته كل شيء، ومن لم يكن كذلك لا يسمى رحمانا، وليس كذلك إلا الله، فهو بهذا الاعتبار من الصفات الغالبة.
قال: والحاصل أن الإلاه من حيث الإطلاق والاستعمال من غير اعتبار المعنى من قبيل النجم، ومن حيث اعتبار المعنى والاستحقاق من قبيل العيوق والدبران، ثم فرق بين الصيغتين بالتعويض وتركه (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: فيما ذكره المصنف بحث؛ لأن المراد من اسم الجنس إما أن يكون ما يطلق على أفراد متفقة الحقيقة، كالرجل والفرس، كما يدل عليه ظاهر كلامه، وإما أن يكون ما علق على شيء، وعلى ما أشبهه، أعمّ من أن يكون مختلف الحقيقة، أو لا، ولا سبيل إلى شيء منهما.
أما الأوّل فلأن حقيقته تعالى ممتازة عن سائر الحقائق، لم يشاركه شيء فيها تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وأما الثاني فلانتفاء المشابهة؛ لقوله تعالى (ليس كمثله شيء) [سورة الشورى 11] قال: والجواب: أن المراد ما يقع على أفراد أعم من أن تكون متفقة الحقيقة، أو لا يشبه
بعضها بعضا، أو لا، وحينئذ يجوز أن يقع على المعبود بحق وبغيره بالاشتراك اللفظي (2).
وقال الشيخ سعد الدين: الإلاه اسم لمفهوم كلي، هو المعبود بحق، و " الله " علم لذات معين، هو المعبود بالحق، وبهذا الاعتبار كان قولنا: لا إله إلا الله كلمة التوحيد، أي لا معبود بحق إلا ذلك الواحد الحق (3).

(1/137)


وقال الفاضل اليمني: جعل " الله " مختصا، بخلاف الإلاه، مع أنه غالب، والغالب أيضاً مختص بناء على أن الإلاه في أصل وضعه قبل غلبته كان يستعمل في المعبود مطلقا، وأما الله فلم يستعمل إلا في المعبود بحق (1).
وقال الشريف: اختار الزمخشري في اسم الله أنه عربي، وأنه كان في الأصل اسم جنس، ثم صار علما لذات المعبود بالحق، وأن أصله الإلاه، وأنه مشتق من أله: بمعنى تحير، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب معرفا باللام على المعبود بحق، أي على الذات المخصوصة، فصار علما له بالغلبة، ينصرف إليه عند الإطلاق كسائر الأعلام الغالبة، ثم أريد تأكيد الاختصاص بالتغيير فحذفت الهمزة، وصار " الله " بحذف الهمزة مختصا بالمعبود بالحق، فالإلاه قبل حذف الهمزة وبعدها علم لتلك الذات المعينة، إلا أنه قبل الحذف أطلق على غيره إطلاق النجم على غير الثريا، وبعده لم يطلق على غيره أصلا (2).
* * *
فائدة: حكى الإمام في معنى الإلاه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه المعبود.
والثاني: أنه المستحق للعبادة.
والثالث: أنه القادر على أفعال يفعلها (3).

(1/138)


قوله: (واشتقاقه من أَلَهَ إلاهَةً وألوهة وألوهية: بمعنى عبد)
قال أبو البقاء: فإلاه مصدر في موضع المفعول، أي المألوه، وهو المعبود (1).
وفي الصحاح: أَلَهَ بالفتح إلاهة: أي عبد عبادة (2).
وقول المصنف: (إن الإلاه مشتق من أله إلاهة) أصوب من قول " الكشاف ": " إن أَلَهَ مشتق من الإلاه، كاستنوق، واستحجر، من الناقة والحجر " (3)؛ لأنه - كما قال الشيخ سعد الدين -: أوفق للقواعد (4)، وكما قال البلقيني: إنما يصار إلى الاشتقاق من اسم العين عند تعذر الاشتقاق من اسم المعنى، وهو المصدر، ولا تعذر هنا.
قوله: (ومنه تأله) أي تنسك وتعبد (واستأله) أي استعبد من مادة أله، فهو أصوب من قول " الكشاف " كما تقدم.
قوله: (وقيل: من أله: إذا تحيُّرَ).
هذا بكسر اللام. في الصحاح: أله يأله ألها: أي تحير، وفي القاموس: أله كفرح تحَيَّرَ (5).
قوله: (وقيل: أصله لاه).
قال ابن خروف: فيكون منقولا من لفظ متوهم، ودخلت الألف واللام، فيكون فَعْلاً، كباب وناب، على أنه مقلوب من وَلِهَ؛ لأن باب لَوَهَ ليس في الكلام، ولا لَيَهَ، وهو من قولهم: ولهت المرأة إذا ذهب عقلها لفقد حميمها، فالوله من العباد إليه تعالى، تعلق نفوسهم به، وذهاب عقولهم في النظر في مخلوقاته، وعظيم سلطانه (6).
قوله: (ويشهد له قول الشاعر:
كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار)
هو من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس، أولها:

(1/139)


ألمْ ترَوْا إرَماً وَعَادا. . . أفناهم (1) اللّيلُ والنهارُ
أَوْدُوْا فَلَم يَعْدُ (2) أنْ تَآدَوْا. . . قَفَّى على إثرِهِمْ قُدَارُ
وقَبْلَهمْ غَالَتِ المَنَايَا. . . طَسْماً فَلَمْ يُنْجِهَا الحِذَارُ
وحَلّ بالحَيّ منْ جَدِيسٍ. . . يَومٌ منَ الشّرِّ مُسْتَطارُ
وَأهْلُ غُمْدَانَ جَمَّعُوا. . . للدَّهرِ ما يجمعُ الخيارُ
وَأهْلُ جَوٍّ أَتَتْ عَلَيْهِمْ ... فَأَفْسَدَتْ عَيْشَهُمْ فَبَارُوا
فَصَبَّحَتْهُمْ مِنَ الدّوَاهي. . . نَائِحَة ٌ (3) عَقْبُهَا الدّمَارُ
وقد غَنُوا فِي ظِلالِ مُلْكٍ. . . مؤيَّدٍ عَقْلُهُمْ جُبَارُ ٌ (4)
وَمَرَّ دَهْرٌ (5) عَلى وَبَارٍ. . . فهلكتْ جهرةً وبارُ
بلْ لَيتَ شِعْرِي وأيْنَ ليتٌ. . . هَلْ يُسْتَفَاءَنَّ (6) مُسْتُعَارُ
أَمْ هَلْ ٌ (7) يَعُودَنّ بَعْدَ عُسْرٍ. . . عَلى أخي شِدَّة ٌ (8) يَسَارُ
أَمْ هَلْ ٌ (9) يُشَدَّنَّ مِنْ لَقُوحٍ ... بِالَّشخْبِ مِنْ ثَرَّةٍ صِرارٌ
أقْسَمْتُمُوا حَلِفًا جِهَارًا ... وَنَحْنُ مَا عندنا غِرَارُ (10)
نَحْيَى جَمِيعًا وَلَمْ يُفْدِكُمْ ... طَعْنٌ لَنَا فِي الكُلَى فَوَارُ
تالله لا نُعَطّيَنْكُمْ (11). . . إلاّ عِرَاراً فذا عرارُ
كَحَلْفَة ٍ مِنْ أَبِي رَبَاحٍ. . . يَسْمَعُهَا لاهُهُ الكُبَارُ (12)

(1/140)


الحلفة بالفاء المرة من الحلف، وهو القسم.
وأبو رباح ضبط في " ديوان الأعشى " بخط أبي الغنائم الخلال (1) بالراء المفتوحة، والباء الموحدة. ولاهه أي إلاهه، أتى به على الأصل.
والكبار بضم الكاف، وتخفيف الموحدة، بمعنى الكبير، وهو صفة لاهه.
ورأيته في " ديوان الأعشى " بخط أبي القاسم الآمدي اللغوي (2) بلفظ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يسمعها اللهم الكبار.
وكذا أورده الصغاني (3) في " العباب " ولا شاهد فيه على هذا، ولكن فيه استعمال " اللهم " فاعلا غير منادى شذوذا.
* * *
تنبيه: استشهد المصنف على هذا القول بالشعر، وأحسن منه صنع محمود بن حمزة الكرماني، فإنه استشهد عليه بقراءة وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه " وإن كانت شاذة.
قوله: (ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول لا إله إلا الله توحيداً، مثل لا إله إلا الرحمن، فإنه لا يمنع الشركة).
قال الطيبي: كتب القاضي في حاشتية: الرحمن وإن خص بالبارئ تعالى إلا أن ذلك قد حصل بدليل منفصل؛ لأنه من حيث اللغة الذي يبالغ في الرحمة (4).
قوله: (والأظهر أنه وصف في أصله).

(1/141)


الصواب نقلا ودليلا أنه علم من أصله، أما النقل فإن أكابر المعتبرين عليه كالشافعي، ومحمد بن الحسن، والخطابي، وإمام الحرمين، والغزالي، والإمام فخر الدين، ونسبه لأكثر الأصوليين، والفقهاء، ونقل عن اختيار الخليل، وسيبويه، والمازني، وابن الكيسان (3)، وأبي زيد البلخي (4)، وغيرهم.
وعزاه أبو حيان للأكثرين، وابن خروف لأكثر الأشعرية.
قال الجنزي (5): إذا لم يكن الله اسما، وكان صفة، وسائر أسمائه صفات لم يكن للبارئ تعالى اسم، ولم تبق العرب شيئا من الأشياء المعتبرة إلا سمته، ولم تسم خالق الأشياء وبارئها ومبدعها، هذا محال.
وفي " شرح الكوكب الوقاد " (6) للعلامة عز الدين ابن جماعة (7): حكي أن

(1/142)


الأشعري رئي في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل: بماذا؟ قال: بقولي: بعلمية " الله " (1).
قوله: (ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد ظاهر قوله (وهو الله في السموات) [سورة الأنعام 3] معنى صحيحا).
أي من حيث الظرفية المستحيلة على ذاته، فتعيّن أن يكون فيه معنى الوصفية، أي المعبود في السموات وفي الأرض
قال الطيبي وفيما ذكره نظر (2).
وقال الإمام في توجيه التعليل: لو كان علما لم يجز هذا التركيب، كما لا يجوز أن يقال: هو زيد في البلد، وهو بكر، ويجوز أن يقال: هو العالم الزاهد في البلد.
قال: والجواب أنه جار مجرى قولنا: هو زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد (3).
* * *
فائدة: الفرق بين الصفة وبين ما هو اسم للصفة - كما قال الشيخ سعد الدين - أن الاسم قد يوضع للشيء باعتبار بعض معانيه وأوصافه، من غير ملاحظة لخصوصية الذات، حتى إن اعتبار الذات عند ملاحظته لا يكون إلا لضرورة أن المعنى لا يقوم إلا بالذات، وذلك صفة كالمعبود، ولذلك فسروا الصفة بما يدلّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود، أو على ذات مبهم ومعنى معين، والتزموا ذكر الموصوف معه لفظا أو تقديرا لتبيين الذات، وقد يوضع للشيء بدون ملاحظة ما فيه من المعاني، كرجل وفرس، أو مع ملاحظة لبعض الأوصاف والمعاني كالكتاب للشيء المكتوب، والنباب للجسم النابت، وكجميع أسماء الزمان والمكان والآلة، ونحو ذلك مما لا يحصى، وذلك اسم غير صفة، ويستدل على أن المقصود هو المعنى، أو الذات بأن الأول لا يوصف، ويوصف به، والثاني

(1/143)


بالعكس (1).
قوله: (وقيل أصله لاها بالسريانية)
عبارة الإمام: وزعم بعضهم أنها عبرية، أو سريانية، فإنهم يقولون: لاها رحمانا مرحانا، فلما عرب جعل " الله الرحمن الرحيم ".
قال: وهذا بعيد، ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية (2).
وفي " الكشاف " للبلقيني: قال أبو زيد البلخي: هو أعجمي، فإن اليهود والنصارى يقولون: لاها، فأخذت العرب هذه اللفظة وعرّبتها.
وهذا يوافق قول من قال: إن أصله لاها بالسريانية، فإنهم يقولون ذلك ممدودا، كما يقولون في الروح: روحا، وفي القدس قدسا، ثم تلقته العرب فحذفت المدة وعرّبته، وأدخلت عليه " ال "، وجعلته بهذه الصيغة، فلا اشتقاق له على هذا؛ لأنه أعجمي معرّب.
قال البلقيني: وهذا القول لا يلتفت إليه، ولا دليل عليه، إذ لا يصار إلى إثبات العجمة بغير دليل.
قوله: (وتفخيم لامه)
قال الشيخ سعد الدين: معنى التفخيم هاهنا التغليظ، على ما هو ضد الترقيق، وقد يجيء بمعنى ترك الإمالة، وبمعنى إمالة الألف إلى مخرج الواو (3).
زاد الشريف: كما في الصلاة والزكاة.
وقال الشيخ أكمل الدين: التفخيم يطلق على ضد الترقيق، وهو التغليظ، وعلى ضد الإمالة بالاشتراك، والمراد هو الأوّل (4).
قوله: (سنة)
قال الشريف: أي طريقة مسلوكة (5).

(1/144)


قوله: (وقيل: مطلقا).
أي ولو انكسر ما قبله، وهذا ينافيه قول الشيخ سعد الدين: أطبقوا على أن لا تفخيم عند كسر ما قبله (1).
وقال الشريف: ولا تفخيم بعد الكسر اتفاقا؛ لاستثقال علوّ التفخيم بعد استفال الكسرة (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: إنما يجري فيه التفخيم إذا كان ما قبله ضمة، أو فتحة، فأما إذا كان ما قبله كسرة فقد اتفق القراء على ترقيق اللام كما في بسم الله؛ لأن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل؛ لاقتضاء الكسرة التسفل، وذاك الاستعلاء (3).
قوله: (وحذف ألفه لحن).
نازع فيه النووي، كما سنذكره.
قوله: (ولا ينعقد به صريح اليمين).
ظاهره أنه تنعقد به الكناية، بأن ينوي به اليمين، فيصح، وهو ما ذكره الجويني، والإمام، والغزالي، حملا لحذف الألف على اللحن، وسكت عليه الرافعي (4).
وقال النووي في " الروضة ": ينبغي أن لا يكون يمينا؛ لأن اليمين لا تكون إلا باسم الله، أو صفة له.
ولا نسلم أن هذا لحن؛ لأن اللحن مخالفة صواب الإعراب، بل هذه كلمة أخرى، إذ البِلَّةُ هي الرطوبة (5).
ونازعه الإسنوي في " المهمات ": فقال ليس كذلك، بل هي لغة أخرى، حكاها الزجاجي (6) فيما حكاه عنه ابن الصلاح (7).

(1/145)


قوله: (اسمان بنيا للمبالغة)
قال البلقيني: يخالفه قول جميع العلماء أن فَعَّالا، وفَاعِلاً، ونحوهما في صفات الله تعالى سواء.
قوله: (من رحم)
قال البلقيني: لا يجري ظاهره على طريقة البصريين، فإما أن يكون جرى على طريقة الكوفيين، وإما أن يكون أراد أنه من مادة رحم، لا أنه مشتق منه، ولو قيل: إنه من رَحَم المصدر لم يبعد؛ لأنه يقال: رحم يرحم رحمة ومرحمة وَرَحَماً، فهو راحم ورحيم ورحمان، وليس لنا فعل متعد جاء منه فاعل، وفعيل، وفعلان إلا رحم (1)، وهذا دليل على عظم هذه الصفة واتساعها.
وقال الشريف: فإن قلت: الرحمن صفة مشبهة، فلا تشتق إلا من فعل لازم، فكيف اشتق من رحم، وهو متعد.
وأما الرحيم فإن جعل صيغة مبالغة - كما نص عليه سيبويه في قولهم: هو رحيم (2) فلانا - فلا إشكال فيه، وإن جعل صفة مشبهة - كما يشعر به تمثيل صاحب " الكشاف " بمريض وسقيم - توجه عليه السؤال أيضاً.
قلت: الفعل المتعدي قد يجعل لازما بمنزلة الغرائز، فينقل إلى فَعُل بضم العين، ثم تشتق منه الصفة المشبهة، وهذا مطرد في باب المدح والذمّ، نص عليه في " تصريف المفتاح " وذكره الزمخشري في " الفائق " في فقير، ورفيع، ألا ترى أن قوله تعالى (رفيع الدرجات) [سورة غافر: 14] معناه رفيع درجاته، لا رافع للدرجات (3). انتهى.
ومشى عليه شيخنا العلاّمة محيي الدين الكافيجي فقال: الرحمن فعلان من فعل بالكسر صفة مشبهة، لكن بعد النقل إلى فعُل، أو بعد تنزيل المتعدي منزلة
_______
(1) يرد عليه ما حكاه ابن خالويه، فقد جاء في: كتاب نتائج المذاكرة 38: وقد حكي أن سيف الدولة قال لابن خالويه: لم يأت على تصريف: رحم فهو راحم، ورحيم، ورحمان إلا قولهم: سلم فهو سالم، وسليم، وسلمان، وندم فهو نادم، ونديم، وندمان، فقال ابن خالويه: أنا أعرف رابعا في نسب الأمير، وهو: حمد، فهو حامد، وحميد، وحمدان.

(1/146)


الفعل اللازم، كما في قولك: فلان يعطي (1).
قوله: (كالغضبان من غَضِب)
قال البلقيني: يقال عليه باب فعلان في نحو غضبان مخالف لرحمان، فإن فعل غضبان ونحوه لازم، وهو المطرد في فعلان، وأما رحمان ففعله متعد، وفعلان من المتعدي نادر، وأيضاً فإن باب فعلان في غضبان ونحوه للأمور التي تتحول وتهجم في كثير من الأحوال على صاحبها من غير اختياره، ولا كذلك رحمان، وأيضا فليس من الأدب التشبيه الذي ذكره، ولو قال: الرحمن فعلان من رحم أو رحمة، كمنَّان من المن، وحنَّان من الحنان لكان أولى.
قوله: (والرحمة في اللغة رقة القلب) إلى آخره.
حاصله أن حقيقة الرحمة يستحيل إطلاقها على الله تعالى، فتفسر بلازمها، كسائر ما ورد وصفه به مما استحالت حقيقته، كالرضا، والغضب، والضحك.
وهل تفسر الرحمة بإرادة الخير، أو بالإنعام على العباد قولان، فعلى الأوّل هي من صفات الذات، وعلى الثاني هي من صفات الأفعال.
قال بعض أصحاب الحواشي: منشأ الخلاف أن من رحم شخصا أراد به الخير، ثم فعله به، فأبو الحسن الأشعري أخذ المجاز الأقرب، وهو الإرادة، والقاضي أبو بكر أخذ المجاز المقصود، وهو الفعل (2).

(1/147)


قوله: (والرحمن أبلغ من الرحيم)
قال الراغب: لأن فعيلا لمن كثر منه الفعل، وفعلان لمن كثر منه وتكرر (1)، وذهب قطرب إلى أنهما سواء في المبالغة، وقرره الجويني بأن فعلان من تكرر منه الفعل وكثر، وفعيل من ثبت منه الفعل ودام.
وقال الشيخ سعد الدين: هذا ما ذكر في كتب اللغة أن الرحمن أرق من الرحيم. وحاصله أن معنى الرحيم ذو الرحمة، ومعنى الرحمن كثير الرحمة جدا.
قوله: (لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى).
قال صاحب " الإنصاف ": هو منقوض بحذر، فإنه أبلغ من حاذر (2).
وأجاب صاحب " الانتصاف " بأن الأغلب ما ذكره المصنف، وبأن حذرا لم تقع المبالغة فيه لنقص الحروف، بل لإلحاقه بالأمور الجبلية، كالشَرِه والنَهِم والفَطِنِ، ولا نقض مع اختلاف العلة (3).
قال الشيخ سعد الدين: وقع في الرحمن زيادة على الحروف الأصول فوق ما

(1/148)


وقع في الرحيم، وأهل العربية يقولون: إن الزيادة في البناء تفيد الزيادة في المعنى.
ونوقض بحذر فإنه أبلغ من حاذر.
وأجيب: بأن ذلك أكثري لا كلي، وبأن ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء الأنقص زيادة معنى بسبب آخر، كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم، وبأن ذلك فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى، كغَرِثٍ وغرْثَان، وصَدٍ وصديان، لا كحذر وحاذر للاختلاف (1).
وقال الشيخ أكمل الدين: ذكر صاحب " المفتاح " في تصريفه ما معناه: إن الشرط في أن الزيادة في البناء لزيادة في المعنى - بعد الرجوع إلى أصل واحد في الاشتقاق - الاتحاد في النوع، فلا ينتقض بنحو حاذر وحذر، لأنهما نوعان، وكفاك دليلا نحو غرث وغرثان وصد وصديان، فإن ذلك راجع إلى أصل واحد، وهو اسم الفاعل، كالرحمن والرحيم، بخلاف حذر وحاذر، فإن أحدهما اسم فاعل، والآخر صفة مشبهة (2).
قوله: (تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية) إلى آخره.
تقريره ما ذكره صاحب (3) " المطلع ": أن الواصل في الدنيا كثير الكمية، باعتبار كثرة من يصل إليه من مؤمن وكافر وحيوان، قليل الكيفية لقلة الدنيا وسرعة انصرامها وكثرة شوائبها، والواصل في الآخرة قليل الكمية بالإضافة إلى من يصل إليه، وهمْ المؤمنون، كثير الكيفية؛ لوجود الملك المؤبد، والنعيم المخلد.
قوله: (قيل: يا رحمان الدنيا ورحيم الآخرة) ثم قال:
(قيل: يا رحمان الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا).
تابع في ذلك " الكشاف " (4).
قال الطيبي: هذا دليل على أن الرحمان أبلغ من الرحيم (5).
وقال البلقيني: هذان الأثران لا يُعرفان، بل الوارد " رحمان الدنيا والآخرة

(1/149)


ورحيمهما " (1) أخرجه الحاكم في " المستدرك " مرفوعا.
قوله: (وإنما قدم، والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى).
قال الشيخ علم الدين العراقي: لأنك إذا ذكرت الأعلى أولا، ثم الأدنى لم يتجدد بذكر الأدنى فائدة، بخلاف عكسه (2).
قال ابن المنير: وهذا في الإثبات، وأما في النفي فعلى العكس يقدم الأعلى، وعلته واحدة، إذ يلزم من نفي الأدنى نفي الأعلى؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعمّ ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص (3).
وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام: هذا السؤال الذي سأله الزمخشري وغيره: لم قدم الرحمن مع أن عادتهم تقديم غير الأبلغ غير متجه؛ لأن هذا خارج عن كلام العرب من وجهين؛ لأنه لم يستعمل صفة، ولا مجردا من " ال "، وينبني على علميته أنه في البسملة ونحوها بدل، لا نعت، وأن الرحيم بعده نعت له، لا نعت لاسم الله سبحانه؛ إذ لا يتقدم البدل على النعت.
قال: ومما يوضح لك أنه غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [سورة الرحمن 1] (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) [سورة الإسراء 110] (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ) [سورة الفرقان 60] انتهى.

(1/150)


قوله: (ولأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره).
قال الكرماني: بالإجماع (1).
وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: " الفرق بين لفظ " الله " و " الرحمن " وإن كان كل واحد منهما لم تقع المشاركة فيه أن المنع في اسم الرحمن شرعي طرأ بعد الإسلام، بخلاف الآخر فإنه لم يتجرأ عليه أحد قبل الإسلام ولا بعده (2).
* * *
تنبيه: ظاهر كلامه أن الرحيم يوصف به غيره، وهو المعروف، لكن أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال: الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه (3).
وظهر لي أن مراده المعرّف باللام، دون المنكر والمضاف.
قوله: (فيكون كالتتمة والرديف).
قال الطيبي: حاصله أنه من باب التتميم، لا من باب الترقي، والتتميم تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغة.
قال: وظاهر كلام الإمام أنه من باب التكميل، وهو أن يؤتى بكلام في فنّ فَيُرَى أنه ناقص فيه، فيكمل بآخر، فإنه لما قال: الرحمن يوهم أن جلائل النعم منه، وأن الدقائق لا يجوز أن تنسب إليه لحقارتها، فكمل بالرحيم.
وينصره حديث " ليسأل أحدكم ربَّه حاجته كلها حتى شسع نعله (4) ".

(1/151)


قوله: (والأظهر أنه غير مصروف) إلى قوله: (إلحاقا له بالأعم الأغلب) (1).
وجه مُقَابلِهِ الإلحاقُ بالأصل في الأسماء، وهو الصرف.
وهذه المسألة مما تعارض فيها قولا الأصل والغالب في العربية، وهي نادرة فيها مشهورة في الفقه، وقد أوردتها في " الأشباه والنظائر " النحوية (2).
ومال الشيخ سعد الدين إلى جواز الصرف وعدمه عملا بالأمرين.
قال: والإعمال في الجملة أولى من الإهمال بالكلية (3).
قوله: (على فعلى أو فعلانة)
قال صاحب " البسيط ": الأوزان وضعها النحويون أعلاما على موزوناتها اختصارا وإيجازا، فإن كانت أوزانا للأفعال، خاصة بها فحكمها حكم موزوناتها، كقولك: فَعَل ماضٍ، ويَفَعَلُ مضارعٌ، وانفعل خماسي، واستفعل سداسي، أو لغيرها فإن وضعت لجنس ما يوزن بها. سواء كانت للأسماء كفعلان، وفاعلة، وفعلة، أو للأسماء والأفعال كأفعل فحكمها حكم نفسها في منع الصرف وعدمه، لأنها تصير مقصودة، إذ مسماها للجنس، كأسامة، فلا يقصد بها مسمى معين، فتقول: أفعل إذا كان اسما نكرة مصروف، فلا ينصرف أفعل للتعريف ووزن الفعل، وإن كان موزونه مصروفا كأرنب، وفعلان صفة لا ينصرف، فلا ينصرف فعلان للتعريف والألف والنون المشبهتين لألفي التأنيث، وإن كان بعض موزونه

(1/152)


مصروفا نحو ندمان، وإذا نكر انصرف؛ لزوال علميته، كقولك: كل أفعل صفة لا ينصرف فيصرف أفعل؛ لأن دخول كل عليه سلب علميته وأوجب له التنكير، وليس بصفة، فليس فيه إلا وزن الفعل، وإن لم توضع لجنس ما يوزن بها، فإن وضعت كناية في موزونها نحو مررت برجل أفعل لم ينصرف عند سيبويه؛ لأنه كناية عن الوصف بمنزلة رجل أكرم، وصرفه المازني؛ لأنه لا معنى للوصف فيه، وإن كان موزونها مذكورا معها كقولك: وزن ضاربة فاعلة، ووزن طلحة فعلة، ووزن أصبع أفعلَ ففيه مذهبان:
أحدهما: أن حكم الوزن حكم نفسه، فلا ينصرف فاعلة، وفعلة؛ للعلمية والتأنيث، ولا أفعل، للعلمية ووزن الفعل.
والثاني: حكمه حكم موزونه فإن كان مصروفا انصرف الوزن، وإلا فلا، وعلى هذا تصرف فاعلة وأفعل؛ لانصراف ضاربة وأصبع، دون فعلة لعدم انصراف طلحة.
حجة الأوّل: أن حكمه حكم علم الجنس.
وحجة الثاني: أن علم الجنس خارج عن القياس في الأعلام، ولذلك احتيج إلى تأويله للدخول في حد (1) العلم؛ لكونه نكرة في المعنى، وإنما حكم لمفرداته بالعلمية، لوجود الحقيقة في المفرد، كوجودها في الجنس.
وأما أعلام الأوزان فإذا خرج مفرد منها إلى الوجود وجب اعتباره بنفسه؛ لعدم مشاركته للجنس في حقيقته حتى تعتبر تلك الحقيقة فيه.
وزعم بعضهم أن التنوين في قولك: فاعل مفاعلة، وفعلل فعللة مع وجود العلمية والتأنيث في المصدر تنوين المماثلة، وليس بتنوين الصرف، ومعنى تنوين المماثلة أنه مماثل لموزونه في التنوين، فإن موزونه منون.
ودليل علمية هذه الأوزان معاملتها معاملة المعارف في وصفها بالمعارف، ونصب الحال عنها، كقولك: فعلان الذي مؤنثه فعلى لا ينصرف، وأفعل صفة لا ينصرف. انتهى.
وهذه فائدة مهمة يكثر. دورانها في هذا الكتاب وغيره، فقررتها هنا لتستفاد.
قوله: (فيتوجه بشراشره).

(1/153)


بتكرير المعجمة والراء.
في " الصحاح ": يقال: ألقى عليه شراشره، أي نفسه، حرصا ومحبة (1). قال الكميت (2):
وتُلْقَى عليهِ عِندَ كُلِّ عَظِيمةٍ. . . شراشرُ من حَيَّيْ نِزَارٍ وَأَلْبُبِ (3)
وفي القاموس: الشراشر النفس، والأثقال، والمحبة، وجميع الجسد (4).
وفي الأمثال للقمي (5): قال الأصمعي: من أمثالهم: " ألقى عليه شراشره (6) " أي ألقى عليه نفسه من حبه.
والشراشر البدن، وكل ما عليه من الثياب، الواحدة شرشرة، ويقال: الشراشر ما تذبذب من الثياب.
قال ذو الرمة (7):
وكَائِن تَرَى مِن رَشْدَةٍ في كَرِيْهَةٍ. . . وَمِنْ غَيَّةٍ يُلْقَى عَلَيهَا الشَّرَاشِرُ (8)
* * *
قوله: (الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري)
قال الشريف: إذا خص الحمد بالأفعال الاختيارية يلزم أن لا يحمد الله على صفاته الذاتية، كالعلم والقدرة والإرادة، سواء جعلت عين ذاته، أو زائدة عليها،

(1/154)


بل على إنعامه، اللهم إلا أن تجعل تلك الصفات - لكون ذاته كافيه فيها - بمنزلة أفعال اختيارية، يستقل بها فاعلها. قال: والثناء هو الذكر بالخير (1).
قوله: (من نعمة)
قال الشريف: أي إنعام بنعمة (2).
قوله: (والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا)
حاصل ما فرّق به الناس بين الحمد والمدح أمور:
أحدها: - وعليه اقتصر المصنف - أن الحمد على الجميل الاختياري، والمدح على ما لا اختيار فيه للعبد، كالحسن.
ثانيها، وثالثها: أن الحمد يشترط صدوره عن علم، لا ظن، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظنّ، وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص مّا.
رابعها: أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح، وهو أخص بالعقلاء والعظماء، وأكثر إطلاقا على الله.
قوله: (وقيل: هما أخوان).
قال الطيبي: أي متشابهان، لا مترادفان، فإن الأخ يستعمل في المشابهة.
قال في " الفائق " في قوله: " كأخ السرار " أي كلاما كمثل المسارة، وشبهها به لخفض صوته (3).
وقال الشريف: أي هما مترادفان، ويدل على ذلك أنه قال في " الفائق ": الحمد هو المدح، والوصف بالجميل، وأنه جعل هاهنا نقيض المدح، أعني الذمّ نقيضا للحمد.
وقيل: أراد أنهما أخوان في الاشتقاق الكبير أو الأكبر، أما الكبير فبأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب، مع اتحاد في المعنى، أو تناسب فيه كالجذب والجبذ، وكالحمد والمدح، وأما الأكبر فبأن يشتركا في أكثر تلك الحروف فقط، مع الاتحاد، أو التناسب كَألَهٍ، ووله، وكالفلق والفلج (4).

(1/155)


وقال الشيخ أكمل الدين: المراد بالأخوة تلاقيهما في الاشتقاق؛ لتناسبهما في الحروف الأصلية - وهو ظاهر - مع الاشتراك في المعنى، وهو الثناء المطلق، أي الذكر بالجميل، وليس المراد ترادفهما؛ لأن الأخوة لا تقتضي الترادف.
وقيل: المراد بالأخوة الاستلزام، وذلك لأن الحمد لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية، والمدح يستعمل في الأفعال الاختيارية وغيرها، فكان بينهما عموم وخصوص مطلقا، وإليه ذهب أكثر العلماء (1).
قوله: (والشكر مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا).
قال الطيبي: هذا عرف أهل الأصول، فإنهم يقولون: شكر المنعم واجب، ويريدون به وجوب العبادة، والعبادة لا تتم إلا بهذه الثلاثة، وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان (2).
قلت: وفيما ذكره نظر، فإن ظاهر القرآن والحديث إطلاق الشكر على غير اللساني، قال الله تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سورة سبأ 13]، وقال صلى الله عليه وسلّم: " الحمد رأس الشكر (3) " فإنه دال على إطلاق الشكر عنى غير الحمد أيضاً.
وروى الطبراني في " الأوسط " عن النواس بن السمعان أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجدعاء سرقت، فقال: " لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي " فلما ردت قال: " الحمد لله " فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي، فقالوا له، فقال: " ألم أقل: الحمد لله (4) ".
ووجه الدلالة: أن الصحابة لولا فهموا إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه.
* * *
تنبيه: أطبق الناس على جعل أقسام الشكر ثلاثة.
وزاد بعضهم رابعا، وهو شكر الله بالله، فلا يشكره حق شكره إلا هو. ذكره صاحب التحرير (5)، وأنشد:

(1/156)


وَشُكْرُ ذَوِي الإحسانِ بالقلبِ تارةً. . . وبالقولِ أخرى، ثم بالعمل لا يُنْسى
وَشُكْرِي لِرَبِّي لا بقلبي وطاعتي. . . ولا بلساني، بل به شُكْرُهُ عنا
قوله: (أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّي ثلاثةً يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبَا)
رأيت بخط الشيخ جمال الدين ابن هشام في بعض تعاليقه ما نصه: في استدلال الزمخشري وجماعة بهذا البيت نظر؛ إذ لم يسم الشاعر هذه الأشياء شكرا ولا حمدا.
وقال الشيخ سعد الدين: عبارة " الفائق ": وأما الشكر فلا يكون إلا على النعمة، وهو مقابلتها قولا وفعلا ونية، وذلك أن يثني على المنعم بلسانه، ويدئب نفسه في الطاعة له، ويعتقد أنه ولي النعمة، وقد جمعها الشاعر في قوله:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة (1). . . . . . . البيت
قال: فظهر أن المراد التمثيل لجميع شعب الشكر، لا الاستشهاد والاستدلال على أن لفظ الشكر يطلق عليها.
ومعنى البيت: أفادتكم إنعاماتكم عليّ ثلاثة أشياء مني: المكافأة باليد، ونشر المحامد باللسان، ووقف الفؤاد على المحبة والاعتقاد (2).
وقال الشريف: الشكر إما بالقلب بأن يعتقد اتصاف المنعم بصفات الكمال، وأنه وليّ النعمة، وإما باللسان بأن يثني عليه بلسانه، وإما بالجوارح بأن يدئب نفسه في طاعته وانقياده.
وقوله: أفادتكم النعماء. . . . . . . . . . . . . . . . . ..
استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة.
وبيان ذلك أنه جعلها بإزاء النعمة جزاء لها، متفرعا عليها، وكل ما هو جزاء النعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة.
ومن لم يتنبه لذلك زعم (3) أن المقصود مجرد التمثيل لجميع شعب الشكر،

(1/157)


لا الاستشهاد على أن لفظ الشكر يطلق عليها، فإنه غير مذكور.
فإن قلت: الشاعر جعل المجموع بإزاء النعمة، فالشكر يجب أن يطلق عليه، وأما على كل واحد من الثلاثة فلا.
قلت: الشكر يطلق على فعل اللسان اتفاقا، وإنما الاشتباه في إطلاقه على فعل القلب والجوارح، حتى توهم كثير من الناس أن الشكر في اللغة باللسان وحده، ولما جمعه الشاعر مع الآخَرَينِ، وجعلها ثلاثة علم أن كل واحد شكر للنعمة، وأنه أراد أن نعماءكم كثرت عندي وعظمت، فاقتضت استيفاء أنواع الشكر، وبالغ في ذلك حتى جعل موارده واقعة في مقابلة النعماء ملكا لأصحابها، مستفادا منها، كأنه قال: يدي ولساني وقلبي لكم، فليس في القلب إلا نصيحتكم ومحبتكم، ولا في اللسان إلا ثناؤكم ومحمدتكم، ولا في اليد والجوارح إلا مكافأتكم وخدمتكم.
وفي وصف الضمير بالمحجب إشارة إلى أنهم ملكوا ظاهره وباطنه (1). انتهى.
وقال الشيخ أكمل الدين: معنى قوله:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت
النعم التي أنعمتم بها عليّ أفادتكم يدي، أعينكم بها، ولساني أثني عليكم به، وقلبي أشغله في محبتكم.
وهذا كما ترى ليس فيه سوى أن النعم المنعم بها على المثني أورثت اشتغال هذه الأعضاء بما ينفع المنعم، وأما أن الشكر شيء تكون هذه الأشياء شعبا له فليس فيه دلالة على ذلك (2)، وهو واضح، فما ذكره العلماء قاطبة في معرض

(1/158)


بيان أن الشكر هذه الأشياء، وأن الحمد بعضه مستشهدين به ليس بمستند إلى أصل.
ويمكن أن يقال: إن ثبت عند العلماء أن مقابلة النعمة باللسان وحده هو الحمد فمقابلتها بالأعضاء الثلاثة لا تكون الحمد، وإلا كان الشيء مع غيره كالشيء، لا مع غيره، وهو محال، فلا بد وأن يكون شيئا آخر، وليس في هذا الباب بالاستقراء ما يدل على هذا المعنى إلا المدح والشكر، وقد تقدم أن المدح يؤاخي الحمد في المساواة في المفهوم، فلم يبق إلا الشكر.
ويمكن أن يقال: الجزاء من جنس العمل، فإذا كانت النعمة الواصلة إلى المثني صادرة عن لسان المنعم تقابل باللسان، وهو الحمد، وإذا كانت صادرة عن يده بكف شره أو شر غيره تقابل بمثلها، وإذا كانت صادرة عن قلبه كذلك، وتسمى مكافأة، لا حمدا ولا شكراً.
وأما إذا كانت صادرة عن الأعضاء الثلاثة فتقابل بمثلها، وتسمى شكرا، من شكرت الناقة إذا غزر درها، فظهر أن في كل شكر حمدا، ولا ينعكس (1). انتهى.
قوله: (ولما كان الحمد من شعب الشكر).
قال الشريف: أي باعتبار المورد وإن كان أعمّ منه باعتبار المُتَعَلَّقِ، فيكون الشكر باعتباره أحد شعب الحمد، وعبر عن الأقسام بالشعب؛ لأنها متشعبة عن مَقْسِمِهَا (2).
قوله: (كان أشيع): أي أكثر إشاعة.
وقال الشيخ أكمل الدين: هو أفعل من الإشاعة، وهو شاذ.
قال: والأولى أن يكون من الشيوع، من شاع الخبر (3).
قوله: (في إِدْآبِ الجوارح) أي إتعابها.
قال في " النهاية ": دأب في العمل: إذا جدّ وتعب، إلا أن العرب حولت معناه

(1/159)


إلى العادة والشأن (1).
قوله: والعمدة فيه قوله صلى الله عليه وسلّم: " الحمد رأس الشكر، ما شكر الله من لم يحمده ".
قال الطيبي: لم أجده في الأصول، لكن ذكره ابن الأثير في " النهاية (2) ".
قلت: أخرجه. عبد الرزاق في " المصنف " عن معمر (3)، عن قتادة قال: تحدث به عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: " الحمد لله رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده (4) " ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع بين قتادة وعبد الله بن عمرو.
وقد أخرجه من طريق عبد الرزاق الحكيم الترمذي (5) في " نوادر الأصول " والبيهقي في " شعب الإيمان " والخطابي في " غريب الحديث " والواحدي في " البسيط " والديلمي (6) في " مسند الفردوس ".
قال في " النهاية ": إنما كان رأس الشكر لأن فيه إظهار النعمة والإشادة بها (7).

(1/160)


وقال الشيخ سعد الدين: في قوله: " ما شكر الله عبد لا يحمده " يعني أن من لم يعترف بالمنعم ولم يجهر بالثناء عليه لم يعد شاكرا، ولم يظهر منه ذلك وإن أتى بالعمل والاعتقاد، وذلك لأن المنبئ عن ما في الضمير وضعا، والمظهر له حقا هو النطق.
وحقيقة معنى الشكر إشاعة النعمة والإبانة عنها، ونقيضه - وهو الكفران - ينبئ عن الستر والتغطية (1).
وبسطه الشريف فقال: لأنه إذا لم يعترف العبد بالنعم وإنعام المولى ولم يثن عليه بما يدلّ على تعظيمه وإكرامه لم يظهر منه شكر ظهورا كاملا وإن اعتقد وعمل فلم يعد شاكراً؛ لأن حقيقة الشكر إشاعة النعمة والكشف عنها، كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها، والاعتقاد أمر خفي في نفسه، وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به، فإنك إذا قمت تعظيما لأحد احتمل القيام أمرا آخر إذا لم يعتبر للتعظيم (2).
وأما النطق فهو الذي يفصح عن كل خفي، فلا خفاء فيه، ويجلي كل مشتبه، فلا احتمال له، بل هو ظاهر في نفسه، وتفسير لما أريد به وضعا، فكما أن الرأس أظهر الأعضاء وأعلاها، وهو أصل لها وعمدة لبقائها كذلك الحمد، أظهر أنواع الشكر وأشهرها وأشملها على حقيقة الشكر والإبانة عن النعمة، حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم (3).
قوله: (والذم نقيض الحمد).
قال الطيبي: أي مقابله، لاختصاصه باللسان أيضاً (4).
قوله: (والكفران نقيض الشكر).
قال الطيبي: لحصوله بالقلب واللسان والجوارح (5).
قال الراغب: الكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين

(1/161)


أكثر، والكُفُور فيهما جميعا، قال الله تعالى (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (1)) [سورة الإسراء 99]
* * *
تتمة (2): زاد الطيبي: والهجو يقابل المدح؛ لما فيه من الثلب الذي هو نقيض التحسين (3).
قوله: (ورفعه بالابتداء).
قال الشيخ سعد الدين: تعرّض لذلك مع ظهوره ليفرع عليه قوله: " وأصله النصب (4) ".
وقال الشريف: ربما يتوهم أن المجرور معمول للمصدر، واللام لتقويته، كما في قولك: أعجبني الحمد لله، فذكر ارتفاعه بالابتداء مع ظهوره، ليبين أن الظرف هاهنا مستقر، وقع خبرا له، وليربط به بيان أصله، أعني النصب (5).
قوله: (وأصله النصب وقرئ به).
قال الشريف: المصادر أحداث متعلقة بمحالها، فكأنها تقتضي أن تدل على نسبتها إليها، والأصل في بيان النسب والتعلقات هو الأفعال، فهذه مناسبة تستدعي أن يلاحظ مع المصادر أفعالها الناصبة لها، وقد تأيدت هذه المناسبة في مصادر مخصوصة بكثرة استعمالها منصوبة بافعال مضمرة، فلذلك حكم بأن أصله النصب، وأيده بأنه قراءة بعضهم (6).
قال الطيبي: وهذه القراءة ما ذكرها ابن جني في " المحتسب (7) " - يعني مع أن موضوعه ذكر القراءات الشاذة وتوجيهها -.
قوله: (وإنما عدل به إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له، دون تجدده وحدوثه).
قال في " الإنصاف ": يدل على ذلك أن سيبويه اختار في قول القائل: " فإذا له

(1/162)


علم علم الفقهاء " الرفع، وفي قوله: " فإذا له صوت صوت حمار (1) " النصب؛ لإشعار النصب بالتجدد (2) المناسب للأصوات (3)، وإشعار الرفع بالثبوت الذي هو في العلم أمدح (4).
وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي: فإن قلت: ما معنى كون حمد العباد لله مع أن حمدهم حادث، ولا يجوز قيام الحادث بالله تعالى.
قلت: المراد منه تعلق الحمد به، ولا يلزم من التعلق القيام به، كتعلق العلم بالمعلومات، فلا يتوجه الإشكال أصلا.
قال: وقد أجاب عنه بعض الفضلاء بأن الحمد مصدر بناء المجهول، فيكون الثابت له هو المحمودية.
وقيل: إن اللام هنا للتعليل، بمعنى أن الحمد ثابت لأجل الله (5). انتهى.
قوله: (وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة).
زاد في " الكشاف ": " والمعنى نحمد الله حمدا (6) ".
وقال أبو البقاء: تقديره هنا أحمد الحمد (7).
وقال أبو حيان: تقديره أحمد الله، أو حمدت الله، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه.
قال: وقدر بعضهم العامل للنصب فعلا غير مشتق من الحمد، أي اقرءوا الحمد لله، أو الزموا الحمد لله، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعا وذئبا.
قال: والأوّل هو الصحيح، لدلالة اللفظ عليه.
قال: وفي قراءة النصب اللام للتبيين، كأنه قال: أعني لله، فلا تكون مقوية للتعدية، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر؛ لامتناع عمله فيه، قالوا: سقيا لزيد، ولم يقولوا: سقيا زيدا، فيعملونه فيه، فدل على أنه ليس من معمول

(1/163)


المصدر، بل صار على عامل آخر (1).
قوله: (والتعريف فيه للجنس، ومعناه الإشارة إلى ما يعرف (2) كل أحد أن الحمد ما هو، وقيل: للاستغراق؛ إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط، أو بغير وسط)
حاصله أنه ردد بين كون اللام للجنس والاستغراق، منكرا بالمعنى على الزمخشري، حيث قصرها على الأول، وَوَهَّمَ من ذهب إلى الثاني.
وقد قيل: إن ذلك منه نزعة اعتزالية (3)، بناء على أن العبد موجد لأفعاله بالاستقلال، فيستحق بذلك بعض الحمد، فلا يكون كل الحمد لله.
وقد أشار المصنف إلى رده بأن كل خير فهو تعالى موليه بواسطة أو بغيرها، فالحمد في الحقيقة كله له، ثم إن المحققين ذهبوا إلى الاستغراق، فكان ينبغي للمصنف تقديمه.
قال الإمام فصيح الدين (4) في " الفرائد ": كَأَنَّ الزمخشري أراد بما قاله أن بعض الحمد لله، بناء على مذهبه، وليس كذلك؛ فإنه لا حمد إلا لله تعالى.
نعم تعريف الجنس ليس مما يقتضي الاستغراق، ولكنه يحتمله، فإن لم يمنع مانع وافتضاه المقام كان مرادا منه، والحمد لما كان هو الوصف بالجميل على

(1/164)


جهة (1) التعظيم، والله تعالى خالق كل جمال وكمال، وخالق كل من له الجمال والكمال، وخالق كل ما يستحق به الحمد من الأفعال فله الحمد في الحقيقة وإن أضيف في الظاهر إلى غيره.
وقال صاحب (2) " اللباب " في تفسير الفاتحة (3): توجيه ما قاله الزمخشري أن اللام لا تفيد شيئا سوى التعريف، والاسم لا يدل إلا على نفس الماهية المعبر عنها بالجنسية، فإذن لا يكون ثم استغراق.
قال الطيبي: وهذا ذهول عن قول صاحب " المفتاح ": إن الحقيقة من حيث هي هي صالحة للتوحد والتكثر؛ لاجتماعها مع كل واحد منهما، فإذا اجتمعت مع المفرد والجمع في المقام الخطابي حملت على الاستغراق (4).
قال الطيبي: والحق أن الحمل على الجنس أو على الاستغراق إنما يظهر بحسب المقام.
وبيانه هنا أن في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعارا بأن الحمد إنما استحقه لما أنه متصف بها، كما صرّح به في قوله: " وهذه الأوصاف دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء (5) ".
وقد تقرر في الأصول أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية، وهاهنا الصفات بأسرها تضمنت العموم، فينبغي أن يكون العموم في الحمد ثابتاً.
وبيانه أن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة، والمنعم هو الله، وخص اسمه المقدس لكونه جامعا لمعاني الأسماء الحسنى، ما عُلم وما لم يُعلم، والمنعم عليهم العالمون، وقد اشتمل على كل جنس مما سمي به، وموجب النعم الرحمن الرحيم، وهو قد استوعب (6) جميع النعم، فإذن ما الذي يستدعي تخصيص الحمد بالبعض سوى التحكم والتوهّم (7).

(1/165)


وفي " اللطائف القشيرية ": واللام في الحمد للجنس، ومقتضاها الاستغراق لجميع المحامد لله تعالى إما وصفا، وإما خلقا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه (1).
الإمام: لو قال: أحمد الله كان قد ذكر حمد نفسه فقط، وإذا قال: الحمد لله فقد دخل فيه حمده، وحمد غيره جميعا من لدن خلق العالم إلى انتهاء دخول أهل الجنة الجنة (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (2)) [سورة يونس 11].
" الإنصاف ": تعريف النكرة باللام إما للعهد، وإما للجنس، والذي للعهد إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معيّن من أفراد الجنس نحو (فعصى فرعون الرسول) [سورة المزمل 11] وإما أن ينصرف إلى الماهية باعتبار تميزها عن غيرها، كقولك: أكلت الخبز.
والجنس هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد، كقولك: الرجل خير من المرأة.
وكلا نوعي العهد لا يوجب استغراقاً، إنما يوجبه الجنس، والزمخشري جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوعي العهد، وعبر عنه بتعريف الجنس، لعدم اعتنائه باصطلاح أصول الفقه، وغير الزمخشري جعله للاستغراق، وليس ببعيد (3).
الطيبي: ليس المراد من تعريف الجنس في الحمد الماهية من حيث هي هي، نحو الرجل خير من المرأة، بل المراد منه فرد غير معيّن بحسب الخارج، نحو دخلت السوق في بلد كذا (4).
الشيخ أكمل الدين: تعريف الجنس هو الذي يقال فيه: العهد الذهني عند المحققين، فإنهم قالوا: لام التعريف هو الدال على الحاضر في ذهن السامع، وهو إما أن يكون كليا أو جزئيا، والأول يسمى عهدا ذهنيا، ويعبر عنه أيضا بتعريف الجنس، والثاني يسمى عهدا خارجياً، والتعرض للأفراد المعني بقولهم: الاستغراق ليس للام دلالة عليه، وإنما هو بحسب المقام، فإذا كان خطابيا مثل

(1/166)


" المؤمن غر كريم (1) " حمل المعرف باللام مفردا كان أو جمعا على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد، دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما يعود إلى ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح.
قال: وفسر المصنف تعريف الجنس بقوله: ". ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو (2) " أي إلى حقيقة من الحقائق، والمراد بها الإشارة العقلية؛ لأن الكليات لا تدرك إلا بالعقل.
قال: ونسب من ذهب إلى أنها للاستغراق إلى الوهم، فاختلف الناس في بيان ذلك.
فمنهم من قال: إنما فعل ذلك بناء على مذهبه، وليس في كلامه ما يشعر بذلك، على أن هذا لا يصح إلا إذا كان نفيه الاستغراق في هذه المادة خاصة، وأما إذا كان مراده أن الاستغراق لا يستفاد من اللام أينما كانت فليس بصحيح، لعدم وجوده في غير هذه المادة.
ومنهم من قال: إنما نسبه إلى الوهم؛ لأنه قدم أن أصل الكلام نحمد الله حمدا، فيكون الحمد منزلا منزلة حمدا، ومفهومه ماهية الحمد؛ لأنه مفعول مطلق للتأكيد، فيكون المراد بالحمد ماهيته.
وفيه نظر؛ لأنه يفيد الاختصاص بالمادة، وتشبيهه ب " أرسلها العراك " ينافيه، ولأنه منزل منزلة حمدا في تقدير الناصب، لا في كونه نكرة.
ومنهم من قال: إنما فعل ذلك بناء على ما ذكرنا أن اللام للعهد، والاستغراق ناشئ عن المقام، وهذا المقام آبٍ عن الاستغراق؛ لأن اختصاص حقيقة الحمد به

(1/167)


تعالى أبلغ من اختصاص أفراده جمعا وفرادى، وفيه إشعار بأن حمد كل حامد، لكل محمود، حمد لله تعالى على الحقيقة؛ لأن الحمد إنما يكون على الفعل الاختياري بالجميل، وكل ما يصدر من الفعل من كل محمود فإنه فعل خلقه الله تعالى، فيكون الحمد المقابل الله خالقه.
وردّ بأن إباء المقام عن الاستغراق ممنوع؛ لأنه مقام خطابي يستدعي الحمل على الاستغراق، وبأن كون اختصاص حقيقة الحمد أبلغ ممنوع، فظهر من ذلك كله أن جعل اللام للحقيقة ليس أولى من الاستغراق إلا إذا كان مراده بكلامه ذلك أن جعل اللام موضوعة للاستغراق وهم، فإنها موضوعة للعهد (1). انتهى.
وقال الشريف: قوله: " ومعناه الإشارة " إلى آخره تصريح بأن معنى تعريف الجنس الإشارة إلى حضور الماهية في الذهن، وتميزها هناك من سائر الماهيات، فإن المُنَكَّرَ وإن دلّ على ماهية معقولة متميزة في الذهن حاضرة عنده إلا أنه لا إشارة فيه إلى تعينها وحضورها، فإذا عرف بلام الجنس فقد أشير إلى ذلك، والفرق بين حضورها وتعينها في الذهن، وبين الإشارة إلى حضورها وتعينها هناك مما لا خفاء فيه.
وتوهّم كثير من الناس أن معنى تعريف الجنس هو الاستغراق، ويبطله أن الاستغراق قد يتحقق في النفي والإثبات كما في لا رجل في الدار، وتمرة خير من جرادة، وليس معه تعريف أصلاً.
فإن قيل: قد حمل صاحب " الكشاف " المعرّف بلام الجنس في مواضع على الشمول والإحاطة، وهو معنى الاستغراق بعينه، فكيف جعله هنا وهما؟.
قلنا: الوهم كون الاستغراق معنى تعريف الجنس، لا كونه مستفادا من المعرّف باللام بمعونة المقام، وما نُقِلَ عنه من أن اللام لا تفيد سوى التعريف والإشارة، والاسم لا يدلّ إلا على مسماه، فإذن لا يكون ثَمَّة استغراق، أراد به أن ليس ثَمُّ استغراق هو مدلول الاسم، أو اللام، لا أنه لا يستفاد من القرائن الخارجية.
وتحقيق الكلام أن معنى التعريف مطلقا هو الإشارة إلى أن مدلول اللفظ معهود، أي معلوم متعين حاضر في ذهن السامع، يرشدك إلى ذلك ما فسر به

(1/168)


المصنف تعريف الجنس هاهنا، وما صرّح به ابن الحاجب في " إيضاح المفصل " من أن زيدا موضوع لمعهود بين المتكلم والمخاطب، ومن أن غلام زيد لمعهود معين بينهما بحسب تلك النسبة المخصوصة (1).
وما ذكره بعض الأدباء من أن المعرفة ما يعرفه مخاطبك، والنكرة ما لا يعرفه، وما أجمعوا عليه من أن الصلة يجب أن تكون معلومة الانتساب للسامع.
وإذا استقريت كلامهم وتحققت محصوله استوثقت بما ذكرنا.
وقد صرّح به بعض الأفاضل فقال: التعريف يقصد به معهود معين عند السامع من حيث هو معين، كأنه أشار إليه بذلك الاعتبار.
وأما النكرة فيقصد بها التفات النفس إلى المعين من حيث ذاته، ولا يلاحظ فيها تعينه وإن كان معينا في نفسه.
وحينئذ نقول: اللام إذا دخلت على اسم فإما أن يشار بها إلى حقيقة معينة من مسماه فردا كانت أو أفراداً، مذكورة تحقيقا أو تقديراً، وتسمى لام العهد، ونظيره العلم الشخصي، وإما أن يشار بها إلى مسماه، وتسمى لام الجنس، فإن قُصد المسمى من حيث هو كما في التعريفات، ونحو قولنا: الرجل خير من المرأة تسمى اللام حينئذ لام الحقيقة والطبيعة، ونظيره العلم الجنسي، وإن قصد المسمى من حيث هو في ضمن الأفراد بقرينة الأحكام الجارية عليه الثابتة له في ضمنها، فإما أن يقصد إليه من حيث هو في ضمن جميع أفرادها، كما في المقام الخِطابي بعلة إيهام أن القصد إلى بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح، وتسمى لامَ الاستغراق، ونظيره كلمة كل مضافة إلى النكرة، أو في ضمن بعضها كما في المقام الاستدلالي، وتسمى لام العهد الذهني كقولك: ادخل السوق، حيث لا عهد، ومؤداه مؤدى النكرة، ولذلك تجري عليه أحكامها، فظهر أن اللام إما لتعريف العهد، أو لتعريف الجنس، كما ذكر في " المفصل (2) " وأن الاستغراق والعهد الذهني راجعان إلى التعريف الجنسي، ومستفادان من الأمور الخارجة عن مدلول اللام والمعرّف بها، وهو مراد الزمخشري.
وقد قيل: اختياره الجنس على الاستغراق مبني على مسألة خلق الأفعال،

(1/169)


فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم، فلا يصح تخصيص المحامد كلها لله تعالى.
وفساده ظاهر؛ لأن اختصاص الجنس به تعالى يستلزم اختصاص جميع أفراده أيضاً؛ إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه.
وقيل: مبني على أن هذه المصادر نائبة مناب أفعالها، سادة مسادها، والأفعال لا تعدو دلالتها على الحقيقة إلى الاستغراق.
وَرُدَّ بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة قرائن الأحوال.
وقيل: إنما اختاره بناء على أن الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال، لا سيما في المصادر، وعند خفاء قرائن الاستغراق.
وهو أيضاً مردود بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخِطابية يتبادر منه الاستغراق، وهو الشائع في الاستعمال هناك مصدرا كان أو غيره، وأيّ مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد بالله تعالى تعظيما له، فقرينة الاستغراق فيما نحن فيه كنارٍ على علم.
والحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود - الذي هو ثبوت الحمد له تعالى، وانتفاؤه عن غيره - إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة، ويستعان فيه بالأمور الخارجة، بل نقول - على ما اختاره -: يكون اختصاص جميع الأفراد ثابتا بطريق برهاني، فيكون أقوى من إثباته ابتداء (1).
وقال الشيخ بهاء الدين السبكي (2) في " عروس الأفراح ": العهد قد يكون شخصيا كقوله (فعصى فرعون الرسول) وقد يكون جنسياً، بمعنى إرادة جنس، هو نوع لما فوقه، كقولك: الرجل، تريد به فردا من أفراد الرجال الحجازيين دون غيرهم، وهذا يقع كثيرا في الكلام.
ولعل منه قوله تعالى (أولئك الذين آتيناهم الكتاب) [سورة الأنعام 89] فإن

(1/170)


المراد جنس كتب الله تعالى، ليكون صالحا للتوراة والإنجيل والزبور التي أوتيها من تقدّم ذكره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فاللام فيه عهدية جنسية.
وكذلك قوله تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [سورة البقرة 177].
قال الزمخشري: " أي جنس كتب الله (1) " المنزلة، وتصير هذه الألف واللام عهدية جنسية استغراقية
قال: " واللام على أقسام:
أحدها: جنسية فقط، كقولك: الرجل خير من المرأة، أي حقيقة الرجولية خير من حقيقة الأنوثة (2).
الثان ي: عهدية عهدا خارجيا كالرجل لمعين.
الثالث: عهدية ذهنا.
ونعني بالخارجي ما كان السامع يعرفه، وبالذهني ما انفرد المتكلم بمعرفته، وإلا فالعهد لا يكون إلا في الذهن.
الرابع: عهدية جنسية، كقولك: أكرم الرجل، تريد جنس الحجازي في جواب من قال: حضر حجازي.
الخامس: كذلك وهو معهود ذهني، لا خارجي كالمثال المذكور، حيث لم يكن في جواب.
السادس: استغراقية جنسية مثل الرجل الجاهل خير من المرأة.
السابع: استغراقية جنسية عهدية كالمثال المذكور مريدا به الحجازي.
الثامن: كذلك، والمعهود ذهني.
التاسع: جنسية، ولكن يريد جملة ذلك الجنس، لا باعتبار العموم، ليفيد علم الأفراد والمجموع معاً، فإن المجموع في الإثبات يستلزم الأفراد، بل يكون المدلول الحقيقة كلها، وهو بمعنى العموم المجموعي.
وينبغي أن يجعل منه قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة (3)) [سورة الرعد 9].

(1/171)


فوائد:
الأولى: قال الشريف: إنما قال: " والتعريف فيه للجنس " ولم يقل: واللام تنبيها على أن اللام للتعريف اتفاقا وإن وقع اشتباه في معنى التعريف (1).
الثانية: حكى الكرماني في غرائبه، ثم السمين في إعرابه قولا ثالثا: أنها للعهد (2). وعندي أنه عين القول " بأنها للجنس، كما تقدم تقريره في كلام صاحب " الانتصاف " وغيره.
ثم رأيت أبا حيان قال في كتابه إعراب القرآن الذي لخصه من بحره: الحمد مصدر معرّف ب " أل " إما للعهد، أي الحمد المعروف بينكم لله، أوْ لتعريف الماهية كالدينار خير من الدرهم، أي أَيُّ دينار كان فهو خير من أي درهم كان، فيستلزم إذ ذاك الأَحْمُدَ كلها، أو لتعريف الجنس فتدلّ على استغراق الأحمد كلها بالمطابقة (3).
ثم رأيت في " شرح الرسالة " للفاكهي (4): قال: سمعت شيخنا أبا العباس المرسي (5) يقول: قلت لابن النحاس النحوي (6) - يعني الشيخ بهاء الدين شيخ أبي حيان -: ما تقول في الألف واللام في الحمد لله، أجنسية هي أم عهدية؟ فقال: يا سيدي قالوا: إنها جنسية، فقلت له: الذي أقول: إنها عهدية، وذلك أن

(1/172)


الله لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله، نيابة عن خلقه قبل أن يحمدوه، فقال: أشهدك أنها للعهد.
الثالثة: حكى الكرماني قولا آخر أنها للتفخيم والتعظيم (1)، فإن أراد الاستغراق فعبارة غريبة فيه، وإلا فلا يعرف ذلك في أقسام اللام.
الرابعة: ألَّف الشيخ علاء الدين البخاري (2) من شيوخ شيوخنا رسالة في تقرير أن الحمد لله جملة خبرية، لا إنشائية قال فيها: أجمعت الأمة على إمكان كون اللام فيه للاستغراق لأن أهل السنة حملوها على الاستغراق، والحكم بثبوت الشيء فرع إمكانه، وغيرهم من المعتزلة ومن يجري مجراهم افتقروا في حملها على الجنس إلى ما يرجحه على الاستغراق، وذلك دليل على الاعتراف (3) بإمكانه؛ إذ ترك الممتنع والأخذ بالممكن لا يفتقر إلى المرجح، فثبت (4) بالإجماع المركب إمكان استغراقه.
الخامسة قال بعض أرباب الحواشي: اختلف الناس في الحمد لله، فاختار الزمخشري أنه خبر عدل به عن الأمر، واختار آخرون أنه خبر على حقيقته، وأن المراد به الإخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد، كما قال تعالى (له الحمد في الأولى والآخرة) [سورة القصص 70].
وبنى الزمخشري على مذهبه أن الألف واللام في الحمد لتعريف الحقيقة، فإنه يستحيل الاستغراق، فإنه لا يؤمر العبد بأن يحمد كل حمد في العالم، وأصحاب القول الثاني جعلوها للاستغراق؛ لأنه إخبار بما يستحقه الله تعالى من جميع المحامد.
قوله: (وقرئ الحمدِ للهِ باتباع الدال اللام، وبالعكس تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة).
قال ابن جني في كتابه " المحتسب في توجيه شواذ القراءات ": قراءة أهل

(1/173)


الباديةِ الحمدُ لُلَّه مضمومة الدال واللام، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة إبراهيم ابن أبي عبلة الحمد لله مكسورتان، ورواها أيضاً لي قراءة لزيد بن علي، وللحسن البصري.
وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال، إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك، وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لما كثر في استعمالهم أشد تغييرا، كما جاء عنهم لذلك لم يَكُ، وَلا أَدْرِ، وَلَمْ أبَلِ، وأيشٍ تقول، وجا يجِي، وسا يَسُوْ، بحذف همزتيهما.
فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدإ وخبر، فصارت الحمدُ لُله، كَعُنُق وَطُنُبٍ، والحمدِ لِلّهِ كَإِبِل وِإطِل إلا أن الحمد لله بضم الحرفين أسهل من الحمد لله بكسرهما من موضعين:
أحدهما: أنه إذاكان إتباعا فاقيس الإتباع أن يكون الثاني تابعا للأول، وذلك أنه جار مجرى السبب والمسبب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، فتكون ضمة اللام تابعة لضمة الدال كما تقول: مُدُّ وشُدُّ، فتتبع الثاني الأول، فهذا أقيس من إتباعك الأول الثاني في نحو اُقْتُلْ واُدْخُلْ، فكذلك الحَمْدُ لُله أسهل مأخذا من الحمدِ لِلَّه.
والآخر: أن ضمة الدال في الحمد إعراب، وكسرة اللام في لله بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فإذا قلت: الحمد لله فقريب أن تغلب الأقوى الأضعف، وإذا قلت: الحمد لله غلبت البناء الأضعف على الإعراب الأقوى، مضافا ذلك إلى حكم تغيير الآخر للأول، وإلى كثرة باب عنق وطنب في قلة باب إبل وإطل، ومثلُ هذا في إتباع الإعرابِ البناء قوله:
وقال: اضْرِبِ السَاقَينِ إِمِّكَ هابِلُ.
كسر الميم لكسرة الهمزة.
ثم من بعد ذلك إنك تفيد من هذا الموضع ما تنتفع به في موضع آخر، وهو أن قولك: " الحمد لله " جملة، وقد شبه جزءاها معا بالجزء الواحد، وهو مُدٌّ، أو عُنُقٌ فيمن أسكن ثم أتبع، أو السُّلُطَان دلَّ ذلك على شدة اتصال المبتدإ بخبره؛ لأنه لو لم يكن الأمر عندهم كذلك لما أجروا هذين الجزئين مجرى الجزء الواحد.
وقد نحوا هذا الموضع في قولهم في تأبط شرا: تأبطي، وفي رجل اسم زيد أخوك: زيدي، فحذفوا الجزء الثاني، كما يحذفونه من المركب في قولهم في

(1/174)


حضرموت: حضرمي، وفي رامهرمز: رامي، وكما يقولون في طلحة: طلحي، فدل ذلك على شدة اتصال المبتدإ بخبره.
ومثله في الدلالة على هذا المعنى قراءة ابن كثير (فإذا هِيَ تُّلَقَّفُ) [سورة الأعراف 118] بتسكين حرف المضارعة من (تلقف) فلولا شدة اتصاله بما قبله للزم منه تصور الابتداء بالساكن، بل صار في اللفظ (هِيَ تَّ) كالجزء الواحد الذي هو خِدَبٌّ، وهِجَفٌّ، وهذا أقوى دلالة على قوة اتصال المبتدإ بخبره مما تقدم؛ لما فيه من وجوب تصور الابتداء بالساكن.
ومن ورائه أيضاً ما هو ألطف مأخذا، وهو أن (تلقف) جملة، ومشفوعة أيضاً بالمفعول الموصول الذي هو (ما يأفكون).
وأصل تصور الجمل في هذا المعنى أن تكون منفصلة قائمة برؤوسها، وقد ترى هاهنا كيف تصورت شديدة الحاجة إلى المبتدإ قبلها، فإذا جاز هذا الخلطُ له وَوِكَادَةُ الصلة بينه وبين ما قبله فما ظنك بخبر المبتدإ إذا كان مفردا، لا يشك أنه به أشد اتصالا، وإليه أقوى تساندا وانحيازا، فاضمم ذلك إلى ما قبله.
ونحو منه حكاية الفراء عن بعضهم - وجرى ذكر رجل، فقيل: هاهو ذا، فقال مجيباً: نِعْمَ الهَا هُوَ ذَا هُوَ، فإلحاقه لام المعرفة بالجملة المركبة من المبتدإ والخبر من أقوى دليل على تنزلها عندهم منزلة الجزء الواحد.
نعم، وفي صدر هذه الجملة حرف التنبيه، وهو يكاد يفصلها عن لام التعريف بعض الانفصال، وهما مع ذلك كالمتلاقيين (1) المتعاقبين مع حجزه بينهما، واعتراضه على كل واحد منهما (2). انتهى كلام ابن جنى.
قوله: (الرب في الأصل بمعنى التربية) إلى آخره.
لم يصرح بما هو المراد به هنا، إلا أن كلامه في حكاية القول الأول يشعر باختيار أن المراد به هنا المربي، وفي حكاية الثاني يشعر بأن المراد به المالك، وهو لغة يطلق عليهما، وعلى الخالق، والسيد، والثابت، والمعبود، والمصلح، وكل ذلك تحتمله الآية.
قال الماوردي وغيره: فإن فسر بمعنى المالك، أو السيد، أو الثابت فمن

(1/175)


صفات الذات أو بالباقي فمن صفات الفعل (1).
وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل في تفسيره: إن فسر بالمعبود على معنى مستحق العبادة فصفة ذات، أو على معنى الذي يعبده الخلق فصفة فعل.
وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: الأولى أن يحمل هنا على المصلح لعمومه (2).
وساق الطيبي كلام القاضي فاهما منه أنه فسره بالمربي، ثم قال: وهذا التفسير أولى؛ لأنه أعم وأنسب للحمد، فإن من شأن المالك إصلاح ما تحت سياسته، وإتمام أمر معاشه.
ثم ذكر قول الجوهري: رب كل شيء مالكه، وربيت القوم: سستهم، ورب الضيعةَ: أي أصلحها وأتمها، وَرَبَّ فلانٌ وَلَدَهُ يَرُثهُ رَبًّا.
وقال: فالواجب حمل الرب على كلا مفهوميه، بأن يفسر الرب بالقدر المشترك المتصرف التام، وسبيل إعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا اتفقا في أمرٍ سبيلُ الكناية في أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه، وإذا اختلفا سبيلُ الحقيقةِ والمجاز (3).
وقال الأصبهاني (4): يصح أن يراد به هنا جميع معانيه، ولهذا أتى به هنا دون المالك ونحوه.
قوله: (وقيل: هو نعت من ربه يربه، فهو رب، كقولك: نم ينم فهو نم).
قال الشريف: قوله " فهو رب " يدل على أنه صفة مشبهة من فعل متعد، لكن بعد جعله لازما بالنقل إلى فعل بالضم، كما سلف تحقيقه.
ولما كان مجيء الصفة على فعل من باب فعل بالفتح، يفعل بالضم عزيزا استشهد له بمثال، يقال: نم الحديث ينمه وينمه بالضم والكسر فهو نم، ولابد فيه

(1/176)


من النقل أيضاً، وكان في ترك المفعول نوع إشارة إليه (1).
وقال أبو حيان: " رب " على هذا القول اسم فاعل حذفت ألفه، فأصله راب، كما قالوا: رجل بار وبر (2).
قوله: (ولا يطلق على غيره تعالى).
قال الشريف وغيره: يعنى به " غالباً، وإلا فقد جاء في شعر الحارث بن حلزة (3) يمدح ملكا:
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَيَّ يو. . . مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاْءُ بَلاءُ (4).
قلت: الظاهر أن مراد المصنف نفي إطلاقه شرعا، والحارث من شعراء الجاهلية.
وقال الشيخ سعد الدين: المراد أن لفظ الرب بدون الإضافة لا يذكر إلا في حق الله تعالى، بخلاف الجمع كـ " الأرباب " كما يقال: رب الأرباب، وفي التنزيل (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ) [سورة يوسف 39].
قوله: (إلا مقيدا كقوله (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) [سورة يوسف 50].
قال الطيبي: هذا يرده ما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً " لا يقل أحدكم أطعم ربك، ولا وضئ ربك، ولا اسق ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ".
قال: وأما قول يوسف عليه السلام (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) و (إِنَّهُ رَبِّي) * ونحوه فهو ملحق بقوله تعالى (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) [سورة يوسف 100] في الاختصاص بزمانه.
قلت: جوابه أن النهي في الحديث للتنزيه.
قوله: (والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم).
قال الشريف: يريد كما أن الخاتم - مع كونه مشتقا من الختم - اسم لما يختم
__________
* الراجح عند المحققين أن الضمير في قول يوسف - عليه السلام (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) يعود على الله تبارك وتعالى وليس على العزيز. والله أعلم.

(1/177)


به كذلك العالم - مع اشتقاقه من العلم - اسم لكل ما علم به الخالق.
قوله: (غلب فيما يعلم به الصانع).
قلت: اشتهر عند المتكلمين إطلاق الصانع عليه تعالى، وقد اعترض بأنه لم يرد، وأسماؤه تعالى توقيفية.
وأجاب الشيخ تقي الدين السبكي بأنه قرئ شاذا (صَنَعه الله) بلفظ الماضي، فمن اكتفى في الإطلاق بورود الفعل اكتفى بذلك.
وأجاب غيره بأنه مأخوذ من قوله (صُنْعَ اللَّهِ) وهو أيضاً جار على طريقة من يكتفي في لإطلاق بورود المصدر.
أقول: وقد ظفرت بحديث صحيح ورد فيه إطلاقه عليه تعالى، وهو ما أخرجه الحاكم في " المستدرك " وصححه، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إن الله صانع كل صانع وصنعته " (1)

(1/178)


ثم ظفرت بحديث ثان صحيح، وهو ما أخرجه الطبراني في " الكبير " والحاكم في " المستدرك " عن خباب قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يصرفونا عن ديننا، فصرف وجهه عني، ثلاث مرات، في كل ذلك أقول له، فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة، ثم قال: " أيها الناس اتقوا الله، فوالله إن كان " الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين، وما يرتد عن دينه، اتقوا الله فإن الله فاتح لكم وصانع " (1).
قوله: (وإنما جمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة).
قال في " الانتصاف ": تعليله الجمع بإفادة الاستغراوا فيه نظر، فإن العالم - كما ذكر - اسم جنس، وعرف بلام الجنس، فصار مفردا أدل على الاستغراق منه جمعا.
قال إمام الحرمين: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور؛ فإن اسم التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور ترده (2) إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب.
قال صاحب " الانتصاف ": والتحقيق فيه وفي كل ما يجمع من أسماء الأجناس (3)، ثم يعرف تعريف الجنس أنه يفيد أمرين:

(1/179)


أحدهما: أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة.
والآخر: أنه مستغرق لجميع ما تحته منها، فالمفيد لاختلاف الأنواع الجمع، والمفيد للاستغراق التعريف؛ إذ لو جمع مجردا (1) عن تعريف أفاد اختلاف الأنواع، ولو عرف مجردا عن الجمع أفاد الاستغراق، فظهر ضعف قوله: (جمع ليشمل) إذ الشمول من التعريف، لا من الجمع، وضعف قول الإمام: إن الجمع يوهي الإشعار بالاستغراق، فإن اختلاف الأنواع الذي قصد به الجمع لا ينافيه.
وقال صاحب " الانتصاف ": بنى كلامه على أن المفرد المعرف باللام يفيد الاستغراق، وهو مذهب المبرد، والمختار أنه لا يفيده، وأن الجمع المعرف يفيده.
وقال الطيبي: فإن قلت: أليس هذا مخالفا لقولهم: الاستغراق في المفرد أشمل.
قلت: لا، لأنهم يريدون أن الجمع قد يحتمل غير الشمول في بعض المقامات، والمفرد وإن دل على الشمول والاستغراق لكن الغرض استغراق الأجناس المختلفة، فلو أفرد وقيل: رب العالم لاحتمل الاستغراق شمول أفراد كل ما يصح عليه إطلاق اسم العالم، فلا تعلم نصوصية تعدد الأجناس وكثرتها كالجن والإنس والملائكة وغيرها كما تعلم من الجمعية، فجمع ليشمل ذلك المعنى.
قال: وأما ما ذكره صاحب " الانتصاف " فمندفع؛ لأن السؤال وارد على الجمع المحلى باللام، وتقريره ما سبق (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: ليس المراد بالجنس في قوله: (ليشمل كل جنس) ما هو المصطلح؛ لأنه إن أراد الأجناس العالية التي حصرها المقولات العشرة لا يكون العالمين شاملا للأجناس المتوسطة، وهي الأنواع الإضافية، ولا للأنواع السافلة؛ لعدم دلالة الأعم على الأخص، وإن أراد الأجناس المتوسطة لم يشمل الأنواع السافلة، والأصناف، والأفراد، فلا بد من شيء يصح به الكلام، فقال بعضهم: لما فسر العالم بمجموع الموجودات العالمة، أو بمجموع الموجودات

(1/180)


المعلومة، وذلك لا يتعدد توجه أن يقال: فلم جمع؟ فقال: ليشمل كل جنس من أجناس الموجودات المسماة بالعالم، نحو عالم الأجسام، عالم الأعراض، عالم الحيوان، إلى غير ذلك، وهذا غير مفيد ما هو المراد من الجنس على ما ذكرنا على أن العالم إن كان أحد المجموعين لم يحتمل الجمع؛ إذ ليس ما وراء المجموع شيء، على أنه اعترض عليه بأمور:
منها أن الجمع يقتضي اتفاق الأفراد في الحقيقة، وهاهنا ليس كذلك.
ومنها: أنه لا حاجة إلى الجمع؛ لأن استغراق المفرد أشمل.
ومنها: أن الشمول مقتضى اللام، لا الجمعية، فإن اسم الجنس إذا جمع دل على إرادة الأنواع كزيوت، أو الأفراد كرجال، لا على الشمول.
وقال بعضهم: أراد بقوله: (كل ما علم به الصانع) أن العالم يطلق على كل واحد واحد من أنواع ما يعلم به الخالق، وعلى للمجموع؛ إذ لو كان المجموع فقط لاستحال جمعه، وإذا صح إطلاقه على كل واحد واحد من الأنواع، فلو أفرد لأوهم أن المراد استغراق أفراد نوع مما يطلق عليه، لا الأنواع كلها مع أفرادها.
وأما إذا جمع واستغرق الأنواع بالتعريف فقد ارتفع ذلك الوهم.
هذا حاصل كلامه، وهو ليس شرحا لكلام المصنف، أما
أولاً: فلأنه فسر الجنس بالنوع، ولا دلالة للأعم على الأخص، وأما
ثانيا: فلأنه جعل اللام مفيدة لاستغراق الأنواع، والجمع لاستغراق الأفراد، واللام لا تفيد الاستغراق عند الزمخشري، والجمع لا يفيد استغراق الأفراد بالاتفاق.
ولعل الصواب أن يقال: المراد بالجنس الحقيقة، ومعناه رب هذه الحقيقةِ، أي حقيقة ما يعلم به الخالق، ولما كانت ذات أفراد جمع ليشمل كل واحد واحد بالمطابقة.
ووما قيل: لو قيل: إن العالم والعالمين كعرفة وعرفات لم يبعد، ليس بشيء؛ لأنه قياس فيما يعرف بالسماع (1). انتهى كلام الشيخ أكمل الدين.
وقال الشيخ سعد الدين: معنى الكلام أن العالم اسم لكل جنس يعلم به الخالق، يقال: عالم الملك، وعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الأفلاك، وعالم

(1/181)


النبات، وعالم الحيوان، وليس اسما لمجموع ما سوى الله تعالى بحيث لا يكون له أفراد، بل أجزاء فيمتنع جمعه (1).
وقال أبو حيان: جمع العالم شاذ، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع (2).
قوله: (وغلب العقلاء منهم فجمع بالياء والنون).
أحسن من قول " الكشاف ": " وجمع بالواو والنون إشعارا بالصفة؛ لما قيل من أن الجماد يعلم به أيضاً (3) ".
قال صاحب " الفرائد ": لا يلزم من الوصفية جواز الجمع بالواو والنون؛ لما عرف من اختصاصه بصفات أولي العلم، فالوجه التغليب بعد اعتبار الوصفية؛ لأن كل عالم يعلم من حيث إنه دل على الخالق تعالى وتقدس.
وقال الطيبي: إنما جمع بالواو والنون جمع قلة، والظاهر مستدع للإتيان بجمع الكثرة تنبيها على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه (4).
قوله: (كسائر أوصافهم).
تقرير لكونه وصفا بعد جعله اسما، وذلك بتأويل كونه دالا على صانعه.
قوله: (وقيل: اسم وضع لذوي العلم).
هو على هذا مشتق من العِلْمِ، وعلى الأول من العلامة.
قوله: (والثقلين) أي الجن والإنس، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.
قال الطيبي: فيستدل به على أن الجن أجسام (5).
قوله: (وقيل: عني به الناس هاهنا، فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض) إلى آخره.
قال الغزالي في كتابه " الانتصار لما في الإحياء من الأسرار ": اعلم أن آدم مخلوق على مضاهاة صورة العالم الأكبر، لكنه مختصر صغير، فإن العالم إذا فصلت أجزاؤه وفصلت أجزاء آدم بمثله وجدت أجزاء آدم مشابهة للعالم الأكبر.

(1/182)


فمن ذلك أن العالم ينقسم قسمين:
أحدهما: ظاهر محسوس كعالم الملك.
والثاني: باطن معقول كعالم الملكوت، والإنسان كذلك انقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم وسائر أنواع الجواهر المحسوسة، وإلى باطن كالروح والعقل والعلم والإرادة والقدرة، وأشباه ذلك.
وقسمة أخرى: وذلك أن العالم قد انقسم بالعوالم إلى عالم الملك، وهو الظاهر للحواس، وإلى عالم الملكوت، وهو الباطن في العقول، وإلى عالم الجبروت، وهو المتوسط الذي أخذ بطرف من كل عالم منها، والإنسان كذلك انقسم إلى ما يشابه هذه القسمة، فالمشابه لعالم الملك الأجزاء المحسوسة، وقد علمتها، والمشابه لعالم الملكوت مثل الروح والعقل والقدرة والإرادة وأشباه ذلك، والمشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس، والقوى الموجودة بأجزاء البدن (1).
وقسمة أخرى: وذلك أن العالم إن حلل إلى ما علم به من أجزائه بالاستقراء فرأس الإنسان يشبه سماء العالم من حيث إن كل ما علاك فهو سماؤك، وحواسه تشبه الكواكب والنجوم من حيث إن الكواكب أجسام مشعة تستمد من نور الشمس، فتضيء بها، والحواس أجسام لطيفة مشفهّ تستمد من الروح فتضيء بذلك المدركات وروح الإنسان مشابهة للشمس، فضياء العالم، ونمو نباته، وحركة حيوانه وحياته فيما يظهر بتلك الشمس، وكذلك روح الإنسان به حصل في الظاهر نمو أجزاء بدنه ونبات شعره، وخلق حيوانه، وجعلت الشمس وسط العالم، وهي تطلع بالنهار، وتغرب بالليل، وجعلت الروح وسط جسم الإنسان، وهي تغرب بالنوم، وتطلع باليقظة، ونفس الإنسان تشابه القمر من حيث إن القمر يستمد من الشمس، ونفسه تستمد من الروح، والقمر خالف الشمس، والروح خالف النفس، والقمر آية ممحوة، والنفس مثلها، ومحو القمر في أن لا يكون ضياؤه منه، ومحو النفس في أن ليس عقلها منها، ويعتري الشمس والقمر وسائر الكواكب كسوف، ويعتري النفس والروح وسائر الحواس غيب وذهول.
وفي العالم نبات ومياه ورياح وجبال وحيوان ما وفي الإنسان نبات، وهو

(1/183)


الشعر، ومياه، وهو العرق والدموع والريق والدم، وفيه جبال وهي العظام، وحيوان، وهي هوام الجسم فحصلت المشابهة على كل حال.
ولما كانت أجزاء العالم كثيرة، ومنها ما هي لنا غير معروفة، ولا معلومة كان في استقصاء مقابلة جميعها تطويل، وفيما ذكرناه يحصل به لذوي العقول تشبيه وتمثيل.
ثم قال: ولا يناقض ما ذكرناه هنا من التفرقة بين الروح والنفس قولنا في " الإحياء (1) ": إنهما شيء واحد؛ لأن لها معنى يسمى بالروح تارة، وبالنفس أخرى، وبغير ذلك (2). انتهى.
وقال بعضهم: سمي الإنسان بالعالم الصغير؛ لأن الله تعالى أوجد المخلوقات خمسة ضروب: الجماد، والنبات، والحيوان، والشيطان، والملك، وكلها مجموعة في الإنسان، فهو جماد حيث يكون نطفة لا حركة فيه ولاحس، وهو نبات حيث ينمي ويغتذي، وهو حيوان حيث يلذ ويتألم، وهو شيطان حيث يغوي ويضل،

(1/184)


وهو ملك حيث يعرف الله تعالى ويعبده.
ومنها أنه يصور كل شيء بيده، ويحكي كل صوت بفيه، وينهش اللحم كما تنهشه السباع، ويأكل البقول كما تأكله البهائم، ويقضم الحبّ كما يقضمه الطير (1)، ولهذا قالوا: لا متفرق لو جمع كان منه إنسان إلا العالم، ولا مجتمع لو فرق كان منه العالم إلا الإنسان، فهو إنسان بالفعل، عالم أكبر بالقوة، والعالم الأكبر عالم أكبر بالفعل، إنسان بالقوة.
ومنها أن الله خلق المخلوقات في عالم الأجسام على أربعة أصناف: قائم كالأشجار، وراكع كالبهائم، وساجد كالحيات والحيتان، وقاعد كالجبال، والإنسان له الصفات الأربع.
ويقال: إنما لقب بالعالم الصغير؛ لأنهم مثلوا رأسه بالفلك، وروحه بالشمس - إذ لا قوام للعالم إلا بها كما لا قوام للجسد إلا بالروح - وعقله بالقمر؛ لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود، وحواسه ببقية الكواكب السيارة، وآراءه بالنجوم الثابتة (2)، ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد، وضحكه بالبرق، وظهوه بالبر، وبطنه بالبحر ولحمه بالأرض، وعظامه بالجبال، وشعره بالنبات، وأعضاءه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، وصغار عروقه بالعيون (3).

(1/185)


قوله: (وقرئ رب العالمين بالنصب على المدح).
قال أبو حيان: وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها، فضعفت إذ ذاك، على أن الأهوازي (1) حكى في قراءة زيد بن علي (2) (رب العالمين الرحمن الرحيم) بنصب الثلاث، فلا ضعف، وإنما الضعف في قراءة نصب رب، وخفض الصفات بعدها؛ لأنهم تصّوا على أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلا، ولا سيما على مذهب الأعلم (3)؛ إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة، وحَسَّنَ ذلك (4) - على مذهب غيره - كونه وصفا خاصا، وكون البدل على نية تكرار العامل، فكأنَّه مستأنف من جملة أخرى، فحسن النصب (5).
قوله: (أو النداء).
قال أبو حيان: هذا ضعيف للفصل بقوله (الرحمن الرحيم (6)).

(1/186)


قوله: (أو بالفعل الذي دلَّ عليه الحمد)
قال أبو حيان: كأنه قيل: نحمد الله رب العالمين، قال: وهذا ضعيف؛ لأنه من مراعات التوهم، وهو من خصائص العطف، ولا ينقاس فيه.
قوله: (وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها، فهي مفتقرة إلى المبقي خال بقائها)
هذا مأخوذ من كلام الإمام، فإنه قال: إنما قال: رب العالمين، ولم يقل: خالق العالمين؛ لأن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد حال حدوثها، واختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي، أم لا؟
والمربي هو القائم بإبقاء الشيء، وإصلاح حاله حال بقائه فقوله (رب العالمين) تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، فخصه بالذكر؛ لأنه الذي وقع الخلاف فيه، بخلاف افتقارها إليه حال حدوثها، فإنه أمر متفق عليه (1).
* * *
قوله: (وقرأ الباقون ملك، وهو المختار).
عبارة غير حسنة؛ لأن كلتا القراءتين متواترة (2)، فلا يحسن أن يقال في إحداهما: إنها المختارة؛ لما يشعر به من أن الأخرى بخلاف ذلك.
وقد أنكر جماعة من الأئمة على من رجح قراءة على قراءة.
قال السمين: ما ذكر في ترجيح مالك على ملك، وبالعكس غير مرضي؛ لأن كلتا القراءتين متواترة، وقد روى أبو عمر الزاهد (3) عن ثعلب أنه قال: إذا اختلف

(1/187)


الإعراب في القرآن عن السبعة لم أفضل إعرابا على إعراب في القرآن، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى (1).
وقال أبو شامة: أكثر المصنفون من الترجيح بين هاتين القراءتين حتى إن بعضهم يبالغ (2) في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليس هذا (3) بمحمود بعد ثبوت القراءتين، وصحة اتصاف الرب تعالى بهما. والأولى أن يعبر بدل الاختيار بالأمدح والأبلغ (4).
قوله: (ولقوله تعالى (لمن الملك اليوم) [سوة غافر: 15].
قال الشيخ أكمل الدين: وجهه أن المراد باليوم يوم الدين، وقد ذكر فيه الملك والملك يؤخذ منه.
قوله: (والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من المِلْكِ، والمَلِكُ هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من المُلْك).
حاصله أن بين المِلْكِ بالكسر والمُلكِ بالضم عموما وخصوصا مطلقاً، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، وهو ما جنح إليه الراغب والزمخشري، وقيل: إن بينهما عموما وخصوصا من وجه، فالمضموم التسلط على من يتأتى منه الطاعة، ويكون باستحقاق وغيره، والمكسور التسلط على من يتأتى منه الطاعة وغيره، ولا يكون إلا باستحقاق، وفي ثالث: هما بمعنى، كحاذر وحذر، وفاره وفره.
قوله: (وقرئ ملك بالتخفيف) أي بسكون اللام.
قوله: (وملك بلفظ الفعل) أي الماضي.
قال أبو حيان: وهي على هذه القراءة جملة خبرية، لا موضع لها من الإعراب (5).
قوله: (ومالك بالنصب على المدح أو الحال).
قال أبو حيان: أو على النداء، قال: والقطع أعرب؛ لتناسق الصفات.

(1/188)


قوله: (ومليك مضافا)
زاد أبو حيان: وملاّك، قال: وهو محول من مالك للمبالغة، قال: وكذا مليك، أو يكون بمعنى ملك، فعلى الأوّل يأتي في إضافته ما في مالك، وعلى الثاني لا إشكال؛ لأنه وصف معرفة.
قال: وإضافة، الملك إلى يوم الدين على معنى اللام، لا على معنى " في "، خلافا لمن أثبت الإضافة بمعنى " في "
قوله: (ويوم الدين يوم الجزاء)
قال الخويي (1) في تفسيره: بين الدين والجزاء فرق لطيف، فإن الدين اسم للجزاء المحسوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به، فلا يقال لمن جازى (2) عن غيره، أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل: دين، ويقال: جزاء.
قوله: (ومنه كما تدين تدان)
قلت: هو مثل مشهور، وحديث مرفوع، أخرجه ابن عدي في الكامل بسند ضعيف من حديث ابن عمر مرفوعاً (3)، وله شاهد مرسل.
قال عبد الرزاق في المصنف: أنبأنا معمر (4)، عن أيوب (5)، عن أبي قلابة (6) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " البر لا يبلى، والإثم لا ينسى،

(1/189)


والديان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تدان (1) ".
أخرجه البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من طريقه، وشاهد موقوف، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب " الزهد " عن مالك بن دينار (2) قال: مكتوب في التوراة، كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد (3).
وأخرج الديلمي في " مسند الفردوس " عن فضالة ابن عبيد (4) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " مكتوب في الإنجيل كما تدين تدان، وبالكيل الذي تكيل تكتال (5) ".
قال الميداني في " الأمثال ": معناه كما تعمل تجازى، فسمى العمل المبتدأ دينا وجزاء، للمطابقة، على حد (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة 194]. قال: ويجوز أن يجري على ظاهره، أي كما تجازي أنت الناس على صنيعهم

(1/190)


كذلك تجازى أنت على صنيعك، والكاف في " كما " في محل نصب نعتا للمصدر، أي تدان دينا مثل دينك (1).
وأخرج الخرائطي (2) في كتاب " اعتلال القلوب " من طريق ابن الأعرابي (3)، عن بعض شيوخه قال: كان الحارث بن أبي شمر الغساني (4) إذا أعجبته امرأة بعث إليها، فاغتصبها نفسها، فبعث إلى الزاهرية بنت خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب فاغتصبها، فأتاه أبوها، فقال في ذلك:
يَاْ أيّها الملكُ المخوفُ أما ترى. . . ليلا وصبحا كيف يختلفانِ
هل تستطيع الشمسَ أن تأتي بها. . . ليلا وهل لك بالمليك يدانِ
فاعلم وأيقن أن ملكك زائل. . . واعلم بأنَّ كما تدين تدانُ
فتذمم وخاف العقوبة، فردها وأعطاه ثلاثمائة بعير (6).
قوله: (وبيت " الحماسة ":
ولم يَبقَ سِوَى العُدْوا. . . ن دِنُّاهم كما دانوا
" الحماسة " كتاب لأبي تمام الطائي (7) جمع فيه أشعارا انتقاها من كلام

(1/191)


العرب، وصدره بما يتعلق بالحرب، ثم أتى بالنسيب، والمدح، والهجو، والأدب، وغلبت التسمية بالمصَدَّرِ بِه، والحماسة هي الشدة والشجاعة، يقال: حَمِسَ الرجل يحمس حماسة إذا تشدد.
قال بعض شراح " الحماسة ": لما قفل أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من نيسابور متوجها نحو (1) العراق دخل همذان والزمان شتاء (2)، فحال الثلج بينه وبين المصير، فأضافه أبو الوفاء محمد بن عبد العزيز بن سهل (3)، وكان أديبا من أولاد الرؤساء، وله شعر ترتضيه الشعراء، فلما طال مقام أبي تمام عنده أحضره كتبه، فاختار أبو تمام منها هذا الاختيار، وشخص أبو تمام، وبقية الكتب عند أبي الوفاء لا يمكن أحدا منها إلى أن مات، ووقعت (4) كبته إلى رجل من أهل الدينور يعرف بأبي العواذل، فنسخ هذه الكتب الثلاثة، وحملها إلى أصبهان فانتشرت النسخ بها، وعني أهل أصبهان بتصحيحها، وصار هذا الكتاب في الآفاق، فلهذا لا تجد أحدا يرويه مسندا إلى أبي تمام.
قلت: قد وقع لنا مرويا بالإسناد من طريق أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل الواسطي المعروف بابن بشران (5)، عن أبي عبد الله الحسين بن علي النمري (6)، عن أبي رياش أحمد
ابن أبي هاشم بن شبيل (7)، عن أبي المطرف الحسن بن يوسف الأنطاكي (8)،

(1/192)


عن أبي تمام.
وقد رواها من وجه آخر عن أبي رياش أبو بكر محمد بن علي ابن الفخار الجذامي (1) في فهرسته المسمى " صوان النخب في أسماء الشيوخ والكتب "
والبيت المذكور لِلْفِنْدِ، واسمه شهل - بالشين المعجمة - بن شيبان بن ربيعة بن زمان الزماني. قالها في حرب البسوس.
قال الخطيب التبريزي: وإنما سمي فندا لأن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة في حرب البسوس يستنصرونهم، فأمدوهم به، فلما أتى بَكْراً وهو مسن جدا قالوا: وما يغني هذه العَشَبَةُ (2) عنا؟ قال: أو ما ترضون أن أكون لكم فندا تأوون إليه.
قال الخطيب: والفند القطعة من الجبل (3).
وقال غيره من شراح " الحماسة ": الفند شمراخ من الجبل، وقد لقب به لعظم خلقه تشبيها بالجبل، وأول القصيدة:
صَفَحْنَا عن بَني ذُهْلِ. . . وقلنا القوم إخوانُ
عسى الأيّامُ أن يرجعـ. . . ن قوما كالذي كانوا
فلما صرح الشر. . . فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا. . . ن دِنَّاهم كما دانوا
مشينا مشية الليث غداً. . . والليث غضبان
بضرب فيه تفجيع. . . وتخضيع وإقران
وطعن كفم الزّقّ. . . غذا والزق ملآن
وبعض الحلم عند الجـ. . . هل للذلة إذعان
وفي الشر نجاة حيـ. . . ن لا ينجيك إحسان (4)

(1/193)


قوله: صرح الشر، أي ظهر كل الظهور، وأكل ذلك بقوله: فأمسى وهو عريان، أي مكشوف. ودناهم كما دانوا، أي جازيناهم مثل ما ابتدءونا به.
قوله: (أضاف اسم الفاعل إلى الظرف) أي على قراءة مالك.
قال الشريف: وأما إضافة ملك فلا إشكال فيها؛ لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها، كما في رب العالمين، فتكون حقيقية، لا لفظية، فإنها إضافتها إلى الفاعل.
قال: فإن قيل: المضاف إليه فيهما مفعول به في المعنى، فتكون إضافتهما غير محضة.
قلنا: الصفة المشبهة لا تعمل النصب أصلاً (1).
وقال أبو حيان: من قرأ بلفظ ملك، على فعل مكسور العين أو ساكنها، أو مليك بمعناه فظاهر؛ لأنه وصف معرفة، ومن قرأ مالك، أو ملاك، أو مليك محولين من مالك للمبالغة فإن كان بمعنى الماضي كانت إضافته محضة، فيكون إذ ذاك من وصف المعرفة بالمعرفة، ويدل عليه قراءة. من قرأ (مَلَكَ يوم الدين) فعلا ماضيا، وإن كان بمعنى الاستقبال - وهو ظاهر، لأن اليوم لم يوجد - فهو مشكل؛ لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة، وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة؛ لأن المعرفة لا توصف بالنكرة، ولا بدل نكرة من معرفة؛ لأن البدل بالصفات ضعيف.
قال: وحل هذا الإشكال أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال جاز فيه وجهان:
أحدهما: ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه إذ يكون منويا فيه الانفصال من الإضافة، وكأنه عمل النصب لفظا.
الثاني: أن يتعرف به إذا كان معرفة، فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفا بهذا الوصف، وكان تقييده بالزمان غير معتبر.
قال: وهذا الوجه غريب النقل لا يعوفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه.

(1/194)


قال سيبويه: وزعم (1) يونس (2) والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة (3). انتهى.
قوله: (إجراء له مجرى المفعول به)
قال الطيبي: روي بضم الميم من المزيد، والرواية الصحيحة بالفتح، بمعنى الإجراء، كقوله (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) [سورة نوح 17] أو بمعنى المكان (4).
وقال الشريف: يروى بالضم والفتح إما مصدرا، وإما مكانا (5).
وما ذكره المصنف من أنه على إجرائه مجرى المفعول هو المشهور في الآية،
وقد قيل: إنه مضاف إلى المفعول به حقيقة، والمعنى أنه تعالى يملك يوم الدين،
أن (6) يأتي به، ويؤيده قراءة مالك - منونا - يوم بالنصب، وعلى هذا مشى ابن
السراج (7)، فقال: هي إضافة حقيقية، والمراد مالك نفس اليوم، لا يقدر على
الإتيان به إلا الله تعالى، كقوله تعالى: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) [سورة الأعراف 187].
قال: وحمله على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
قوله: (على الاتساع).
قال الطيبي: أي جعل المفعول فيه بمنزلة المفعول به (8).

(1/195)


وقال الشريف: الاتساع في الظرف أن لا يقدر معه " في " توسعا، فينصب نصب المفعول به، كقوله:
ويوم شهدناه سليما وعامراً (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
قوله: (يا سارق الليلة أهل الدار).
وجه الاستشهاد أنه جعل الليلة مسروقة، وإنما هي مسروق فيها.
قال الشريف: وأهل الدار منصوب بسارق، لاعتماده على حرف النداء، كقولك: يا ضاربا زيدا، ويا طالعا جبلاً (2).
قوله: (ومعناه مالك الأمور يوم الدين)
قال الشريف: يعني أن الظرف وإن قطع في الصورة عن تقدير " في " وأوقع موقع المفعول به إلا أن المقصود الذي سيق الكلام لأجله على الظرفية؛ لأن كونه مالكا ليوم الدين كناية عن كونه مالكا فيه للأمر كله، فإنَّ تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه (3).
قوله: (أوله الملك في هذا اليوم على جهة الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية بعده، لوقوعه صفة للمعرفة).
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: قد ذكر في " الكشاف " في قوله (وجعل الليل سكنا) [سورة الأنعام 96] أنه إذا قصد باسم الفاعل زمان مستمر كانت الإضافة لفظية.
قلنا: الاستمرار يحتوي على الأزمنة الماضية والآتية والحال، فتارة يعتبر جانب الماضي فتجعل الإضافة حقيقية، وتارة جانب الآتي والحال فتجعل لفظية، والتعويل على القرائن والمقامات.
فإن قيل: التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحا في الاستقبال.
قلنا: معناه الثبوت والاستقرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة، ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين، كأنه قيل: هو ثابت المالكية في يوم الدين، أو المراد أنه يجعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع،

(1/196)


فتستمر مالكيته في جميع الأزمنة.
فإن قيل: ما ذكر من الاتساع وجعل الظرف يجري مجرى المفعول به صريح في أن هذه إضافة الصفة إلى معمولها، فتكون لفظية قطعاً.
قلنا: المراد أنه إضافة إلى ما هو مفعول من جهة المعنى، كما يقال: في مالك عبيده أمس: إنه إضافة إلى المفعول، أي إلى ما يتعلق به تعلق المملوكية بحيث لو كانت الصفة على شرائط العمل كانت عاملة فيه (1). انتهى.
قوله: (وتخصيص اليوم بالإضافة إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه).
قال الطيبي: في اختصاص يوم الدين دون يوم القيامة وغيره من أساميه فائدتان:
إحداهما: مراعاة الفاصلة.
وثانيتهما: العموم المطلوب في الألفاظ، فإن الجزاء يشتمل على جميع أحوال، القيامة، من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم، بل يكاد يتناول أحوال النشأة الأولى بأسرها، فظهر من هذا الاختصاص ومن مآل معنى القراءتين في الصورتين إفادة التعميم المطلوب من ألفاظ هذه السورة الكريمة، والدلالة على التسلط والغلبة والتصرف والملكة، فسبيل ملك يوم الدين ومالك يوم الدين، سبيل رب العالمين في الحمل على المفهومين، فانظر إلى حسن هذا الترتيب السري، وهذا النظم الأنيق تدهش منه.
وذلك أن رب العالمين آذن بالتصرف العام في الدنيا ملكا وتربية، ومالك يوم الدين دل على ذلك في العقبى تسلطا وقهراً، وتوسيط الرحمن الرحيم بينهما مناد بترجيح جانب الرحمة، وأنه تعالى رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة (2).
قوله: (وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه ربا للعالمين) إلى آخره.
قال الشريف: أي لما دل بلامي التعريف والاختصاص على أن جنس الحمد مختص به تعالى، وحق له أجري عليه تلك الأوصاف العظام ليكون حجة واضحة،

(1/197)


ودلالة قاطعة على انحصار الحمد فيه واستحقاقه إياه، فذكر أولا ما يتعلق بالابتداء من كونه ربا مالكا للأشياء كلها لا يخرج شيء منها من ملكوته، أي سلطنته الشاملة، ومن ربوبيته الكاملة، يتصرف فيها على وفق مشيئته ويربيها، أي يرقيها في مدارج الكمال على مقتضى عنايته بإفاضة الجود، وإعداد أسباب الكمالات.
وثانيا: ما يتعلق بالبقاء من إسباغه علينا نعما ظاهرة وباطنة جليلة ودقيقة.
وثالثا: ما يتعلق بالإعادة من كونه مالكا للأمر كله يوم الجزاء، كأنه قيل: الحمد لله الذي منه الابتداء والانتهاء، فهو الحقيق بالثناء (1).
قوله: (لا يستأهل لأن يحمد)
قلت: وقد عد الحريري (2) في " درة الغواص " هذه الكلمة من جملة أوهام الخواص فقال: يقولون: فلان يستأهل الإكرام، وهو مستأهل للإنعام، ولم تسمع هاتان اللفظتان في كلام العرب، ولا صوّب التلفظ بهما أحد من أعلام الأدب، ووجه الكلام أن يقال: فلان يستحق المكرمة، وهو أهل لإسداء المكرمة.
وأما قول الشاعر:
لا، بل كلي يا أم واستأهلي. . . إن الذي أنفقت من ماليه (3).
فإنه عنى بلفظ استأهلي اتخذي الإهالة، وهي ما يؤتدم به من السمن (4).
وقال الجوهري في " الصحاح ": تقول: فلان أهل لكذا، ولا تقل: مستأهل،

(1/198)


والعامة تقوله (1).
لكن في " القاموس " استأهل كذا استوجبه، لغة جيدة، وإنكار الجوهري باطل (2).
وفى " الأساس " فلان أهل لكذا، واستأهل لذلك، وهو مستأهل له، وقد سمعت أهل الحجاز يستعملونه استعمالا واسعاً (3).
قوله: (فضلا عن أن يعبد).
قال أبو حيان: سئلت عن قولهم: إن زيدا لا يملك درهما، فضلا عن دينار، بم انتصب " فضلا "، وما المعنى في ذلك؟
فقلت: الذي نقول في ذلك - بعد تسليم أن هذا الكلام من لسان العرب -: إن (4) بعض الناس قد نسب (5) ذلك إلى العرب، فأمَّا أبو علي الفارسي فقال في تعليق جمع فيه مسائل من المشكلات: إن قول القائل: إن زيدا لا يملك درهما فضلا عن دينار، ثم وجه النصب بما سنذكره، فقوله: إن قول القائل كذا ليس بنص أنه من كلام العرب.
وقد طالعت من دواوين العرب جاهليتها وإسلاميتها الجملة الكثيرة فلم أر مثل هذا وقع في كلامها، وقد جرت بيني وبين بعض فضلاء أصحابنا هذه المسألة فقال: كان الأستاذ أبو الرضي مساعد بن محمد بن عبد الواحد الأنصاري المرسي (6) قد جرت عنده هذه المسألة، فأنشدنا عن بعض النحاة، فيها ما يدل على أنها مسموعة، وهو قول الشاعر:
قَلَّمَا يَبْقَى عَلَى هَذَا القَلَقِ. . . صَخْرَةٌ صَمّاءُ فَضْلاً عَنْ رَمَقِ (7)

(1/199)


فظاهر هذا البيت يقتضي أن ذلك من لسان العرب.
وينبغي في إثبات مثل هذا إلى صحة نقل، ولا تغتر بكلام من قدمنا ذكره أن ذلك من لسان العرب، فليس بقول من هو ضابط في هذه الصناعة.
ونتكلم عليها - على تقدير أنها من كلام العرب - فنقول: القول على الإعراب مترتب على فهم المعنى، ومعنى هذا الكلام الإخبار أنه لا يملك درهما ولا ديناراً، وأن عدم ملكه للدينار (1) أولى، وكأنه قال: لا يملك درهما، فكيف يملك دينارا، أي إذا انتفى ملكه لدرهم كان أحق أن ينتفي ملكه لدينار؛ لأن من قدر على دينار كان في العادة قادرا على درهم؛ لأن القليل مندرج في الكثير، وكذلك إذا انتفى بقاء الصخرة الصماء على هذا القلق فكيف يبقى الرمق الذي عادته أن يفنى بأدنى شيء.
هذا شرح المعنى الذي يريده من يتكلم بهذا الكلام.
وأما الإعراب فنقل عن الفارسي أن " فضلا " يجوز نصبه على المصدر، أو الحال. انتهى ما نقل عنه. ونحن نقرر ذلك فنقول: " فضلا " ظاهره أنه من الفضلة، التي هي البقية، ومنه الفضالة، وهي الباقي من الشيء، يقال: فضل منه شيء، أي بقي، أو من فضل على زيد، أي زاد عليه في الخير.
قال الشاعر:
فكفى بنا فضلا على مَنْ غَيْرُنا. . . حب النبي محمد إيَّانا (2)
أي زيادة على ناس غيرنا، ويقال منه لمن صار ذلك سجية له: فضل الرجل، بضم الضاد.
ويحتمل أن يخرج (3) على هذين الاشتقاقين، وهما معنى البقية، ومعنى الزيادة، فإذا جعلناه مصدرا فلابد له من عامل، ولم يتقدمه ما يصلح أن يكون عاملا فيه، فيحتاج إلى إضماره، وتقديره: يفضل فضلا عن دينار، ففي " يفضل " ضمير يعود إلى الدرهم، ويفضل في موضع الصفة، ويصير المعنى أنه لا يملك

(1/200)


درهما فاضلا عن دينار، أي باقيا عن دينار، أو زائدا عن دينار، بل يملك الدرهم، ولا يكون فاضلا عن دينار، وإنما كان كذلك لأن النفي إذا دخل على شيء مقيد إنما يتسلط على ذلك القيد، فإذا قلت: ما قام رجل عاقل، فمنطوقه انتفاء القيام عن رجل عاقل، ومفهومه أنه قام رجل غير عاقل، وكذلك ما جاء زيد ضاحكاً، منطوقه انتفاء مجيء زيد في حال ضحك (1)، ومفهومه أنه جاء غير ضاحك.
وقد تقدم شرح المعنى في هذا الكلام، وأن المقصود به نفي ملكه الدرهم والدينار، وأن عدم ملكه للدينار أولى، لكن يتخرج ذلك على قاعدة للعرب، وهي أنه متى نفي شيء مقيد (2) فقد قدمنا أن النفي يتسلط على ذلك القيد، هذا هو الأكثر في كلامهم.
ولهم طريقة أخرى، وهي أنهم يقصدون نفي المحكوم عليه بانتفاء صفته، فيقولون: ما قام رجل عاقل، أي لا رجل عاقل فيقوم، وهي طريقة معروفة لهم، قال امرؤ القيس:
على لاحبٍ لا يهتدى بمناره (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
لا يريد أن يثبت لهذا الطريق مناراً، وينفي عنه الاهتداء، إنما يريد نفي المنار، أي فتنتفي الهداية به، أي لا منار لهذا الطريق فيهتدى به.
وقال الأَفْوَهُ الأَوْدِيُّ (4):
بِمَهْمَهٍ مَاِ لأنيِسٍ بِهِ. . . حِسٌّ فَمَا فِيْهِ لَهُ مِنْ رَسِيْسِ (5)
لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حس له، إنما يريد لا أنيس به، فيكون له حس، وعلى هذه الطريقة يخرج قوله تعالى (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [سورة المدثر 49] أي لا شافع فتنفعهم شفاعته، وكذلك قوله تعالى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [سورة البقرة 274] أي لا سؤال فيكون إلحافاً.

(1/201)


وإذا تقررت هذه الطريقة فيتخرج قولك: هذا لا يملك درهما عن دينار، على هذه الطريقة، أي لا درهم له، فيفضل عن دينار له، وإذا انتفى ملكه للدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى.
وإنما جعله أبو عليّ منصوبا على المصدر، فاحتيج في ذلك إلى إضمار فعل، وذلك الفعل في موضع الصفة، ولم يجعل " فضلا " صفة للدرهم؛ لأنه لا يكون المصدر صفة إلا إذا كان فيه معنى المبالغة، فلكثرة وقوع المصدر من الموصوف جعل كأنه وصف له، نحو قولهم: رجل صوم، أي كثير الصوم، ورجل زور، أي كثير الزيارة، وهذا المعنى مفقود هاهنا.
وأما من تأوّل المصدر بمعنى مطلق اسم الفاعل، أو على حذف ذي، أي صائم، وزائر، أو ذو صوم، وذو زور فإنه يجوّز في هذه المسألة أن يكون التقدير في " فضلا " فاضلاً، أو ذا فضل، وليس ذلك قول من تحقق في العربية، بل الصحيح أن المصدر لا يوصف به إلا إذا أريد به المبالغة.
وإذا جعلنا " فضلا " منصوبا على الحال فلا يكون حالا من زيد؛ لأن فضلا عن دينار ليس من أحوال (1) زيد، ولا من صفاته، إنما يكون من أوصاف الدرهم، ويحتمل تخريجه على الحال وجهين:
أحدهما: أن يكون حالا من درهم وإن كان نكرة؛ لأن الحال قد تأتي من النكرة، وخصوصا إذا قبح الوصف بها، وقد قبح بما قدمناه من أن المصدر في أجود الأقوال لا يوصف به حتى يراد به المبالغة، وقد جاءت الحال من النكرة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل، وقوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) [سورة البقرة 265] وقد قاس سيبويه ذلك في كتابه (2).
والوجه الثاني: أن يكون حالا من المصدر المضمر في الفعل، على ما قرره سيبويه في قولهم: ساروا سريعا، لم يجعل سريعا نعتا لمصدر محذوف، أي سيرا سريعا، إنما جعله حالا من الضمير الذي للمصدر، كأنهم قالوا: ساروه، أي ساروا السير سريعا، أي في حال سرعته، فكذلك لا يملك درهما، أي لا يملكه، أي الملك في حال كونه فاضلا عن دينار، أي عن ملك دينار.

(1/202)


وهذا التخريج الثاني قلَّ من يعرفه، وإنما يذهب معربوا النحاة في قولهم: ساروا سريعا إلى أن سريعا نعت لمصدر محذوف، أي سيرا سريعا، وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه كثير في لسان العرب قال الله تعالى (اعدلوا هو أقرب للتقوى) [سورة المائدة 9] أي العدل، وقالت العرب: من كذب كان شرًّا له، أي كان هو، أي الكذب (1).
وتقرير اختيار سيبويه هذا التخريج على تخريج النحاة له مكان غير هذا، والمعنى الذي قررناه حالة إعرابه مصدرا يجري فيه حالة إعرابه حالا، وهو أن المقصود بذلك انتفاء الحال، وذي الحال، كما كان المعنى انتفاء الصفة والموصوف.
وقد صنف بعض معاصرينا في هذه المسألة جزءا وهو شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي المعروف بالقرافي (2)، وجوز في إعراب " فضلا " نيفا وأربعين وجهاً، يوقف عليها من كتابة، وفيها (3) غاية التمحل، والفضلاء لا يذكرون من الأعاريب إلا ما سهل مأخذه في (4) لسان العرب. انتهى كلام أبي حيان.
وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام في رسالة ألفها في إعراب ألفاظ، منها هذا اللفظ:
أما قوله: فلان لا يملك درهما فضلا عن دينار، فمعناه أنه لا يملك درهما ولا ديناراً، وأن عدم ملكه الدينار أولى من عدم ملكه الدرهم، وكأنه قال: لا يملك درهما، فكيف يملك ديناراً.
وهذا التركيب زعم بعضهم أنه مسموع، وأنشد عليه:
قَلَّمَا يَبْقَى عَلَى هَذَا القلَقِ. . . صَخْرَةٌ صَمَاءُ فَضْلاً عَنْ رَمَقِ

(1/203)


الرمق بقية الحياة، ولا تستعمل " فضلا " هذه (1) إلا في النفي، وهو مستفاد في البيت من " قلما ".
قال بعضهم: حدث لـ " قلّ " حين كفت ب " ما " إفادة الاختصاص.
قال ابن هشام: وهذا خطأ: فإن قلّ تستعمل للنفي قبل الكفّ، يقال: قلّ أحد يعرف هذا إلا زيد، يعني لا يعرف هذا إلا زيد، ولهذا استعمل أحد، وصح إبدال المستثنى، وهو بدل إما من أحد، أو من ضميره، و " على " في البيت للمعية، مثلها في قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) [سورة الرعد 7] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) [سورة إبراهيم 40].
وانتصاب " فضلا " على وجهين محكيين عن الفارسي:
أحدهما: أن يكون مصدرا لفعل محذوف، وذلك الفعل نعت للنكرة.
الثاني: أن يكون حالا من معمول الفعل المذكور.
هذا خلاصة ما نقل عنه، ويحتاج إلى بسط يوضحه.
اعلم أنه يقال: فضل عنه، وعليه، بمعنى زاد، فإن قدرته مصدرا بتقدير لا يملك درهما يفضل فضلا عن دينار، فذلك الفعل المحذوف صفة لدرهما. كذا حكي عن الفارسي.
ولا يتعيّن كون الفعل صفة، بل يجوز أن يكون حالا، كما جاز في " فضلا " أن يكون حالا، على ما سيأتي تقريره.
نعم، وجه الصفة (2) أقوى؛ لأن نعت النكرة كيف كانت أقيس من مجيء الحال منها.
وإن قدرته حالا فصاحبها يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ضمير المصدر محذوفاً، أي لا يملكه، أي لا يملك الملك، على حد قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
أي يدرس الدرس؛ إذ ليس الضمير للقرآن، لأن اللام متعلقة ب " يدرس "

(1/204)


ولا يتعدى الفعل إلى ضمير اسم، وإلى ظاهره جميعا، ولهذا وجب في " زيدا ضربته " تقدير عامل على الأصح، وعلى هذا خرّج سيبويه والمحققون نحو قوله: " ساروا سريعا " أي ساروه، أي ساروا السير سريعاً، وليس سريعا عندهم نعتا لمصدر محذوف، لالتزام العرب تنكيره ولأن الموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة (1) مختصة بجنسه، كما في " رأيت كاتبا، أو حاسبا، أو مهندسا " فإنها مختصة بجنس الإنسان، ولا يجوز رأيت طويلا، ورأيت أحمر، وفي هذا الموضع بحث ليس هذا موضعه.
الثاني: أن يكون قوله: " درهما (2) "
فإن قلت: كيف جاز مجيء الحال من النكرة؟
قلت: أما على قول سيبويه فلا إشكال؛ لأنه يجوز عنده مجيء الحال من النكرة وإن لم يمكن الابتداء بها (3)، ومن أمثلته: فيها رجل فائما، ومن كلامهم: عليه مائة بيضا، وفي الحديث: " وصلى وراءه قوم قياما (4) ".
وأما على المشهور من أن الحال. لا تأتي من النكرة إلا بمسوغ فلها هنا مسوغان:
أحدهما: كونها في سياق النفي، والنفي يخرج النكرة من حيز الإبهام إلى حيز العموم فيجوز حييئذ الإخبار عنها، ومجيء الحال منها.
الثاني: ضعف الوصف، ومتى امتنع الوصف بالحال، أو ضعف ساغ مجيئها من النكرة، فالأول كقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) وقول الشاعر:
مضى زمن والناس يستشفعون بي (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
فإن الجملة المقرونة بالواو لا تكون صفة، خلافا للزمخشري، وكقولك: هذا خاتم حديدا عند من أعربه حالا؛ لأن الجامد المحض لا يوصف به.

(1/205)


والثاني: كقولهم: مررت بماء قعدة رجل، فإن الوصف بالمصدر خارج عن القياس.
فإن قلت: هلا أجاز الفارسي في " فضلا " كونه صفة لـ " درهما "؟
قلت: زعم أبو حيان أن ذلك لأنه لا يوصف بالمصدر، إلا إذا (1) أريدت المبالغة؛ لكثرة وقوع ذلك الحدث من صاحبه، وليس ذلك بمراد هنا.
قال: وأما القول بأنه يوصف بالمصدر على تأويله بالمشتق، أو على تقدير المضاف فليس قول المحققين.
قال ابن هشام: هذا كلام عجيب، فإن القائل بالتأويل الكوفيون، ويؤولون عدلا بعادل، ورضى بمرضي، وكذا يقولون في نظائرهما، والقائل بالتقدير البصريون، يقولون: التقدير ذو عدل، وذو رضى، وإذا كان كذلك فمن المحققون؟
ثم اختلف النقل عن الفريقين، والمشهور أن الخلاف مطلق.
وقال ابن عصفور (2): وهو الظاهر، إنما الخلاف حيث لا تقصد المبالغة، فإن قصدت فالاتفاق على أنه لا تأويل ولا تقدير (3).
وهذا الذي قاله ابن عصفور هو الذي في ذهن أبي حيان، ولكنه نسي فتوهم أن ابن عصفور قال: إنه لا تأويل مطلقا، فمن هنا - والله أعلم - فى خل عليه الوهم.
والذي ظهر لي أن الفارسي إنما لم يجز في " فضلا " الصفة؛ لأنه رآه منصوبا أبدا سواء كان ما قبله منصوبا، كما في المثال، أم مرفوعا، كما في البيت، أم مخفوضاً، كما في قولك: فلانٌ لا يهتدي إلى ظاهر النحو فضلا عن دقائق البيان.

(1/206)


فهذا منتهى القول في توجيه إعراب الفارسي.
وأما تنزيله على المعنى المراد فعسير (1)، وقد خرّج على أنه من باب قوله:
على لاحبٍ لا يهتدى بمناره. . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
ولم يذكر أبو حيان سوى ذلك، وقال: وقد يسلطون النفي على المحكوم عليه بانتفاء صفته، فيقولون: ما قام رجل عاقل، أي لا رجل عاقل فيقوم، ثم أنشد بيت امرئ القيس المذكور، وقال: ألا ترى أنه لا يريد إثبات منار للطريق، ونفي الاهتداء به، إنما يريد نفي المنار، فتنتفي الهداية به، أي لا منار لهذا الطريق فيهتدى به، وقال الأفوه:
بمهمهٍ ما لأنيس به حس. . . فما فيه له من رسيس
لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حس له، إنما يريد لا أنيس به، فيكون له حس، وعلى هذا خرّج (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته و (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) أي لا سؤال فيكون إلحافا، قال: وعلى هذا يتخرّج المثال المذكور أي لا يملك درهما فيفضل عن دينار، وإذا انتفى ملكه للدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى.
قال ابن هشام: وهذا الكلام الذي ذكره لا تحرير فيه، فإن الأمثلة المذكورة من بابين مختلفين، وقاعدتين متباينتين، أميز كلا منهما عن الأخرى، ثم أذكر أن التخريج المذكور لا يتأتى على شيء منهما.
القاعدة الأولى: أن القضية السالبة لا تستلزم وجود الموضوع، بل كما تصدق مع وجوده تصدق مع عدمه، فإذا قيل: ما جاءني قاضي مكة، ولا ابن الخليفة صدقت القضية وإن لم يكن بمكة قاض، ولا للخليفة ابن، وهذه القاعدة هي التي تتخرج عليها (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وبيت امرئ القيس، فإن شفاعة الشافعين بالنسبة إلى الكافرين غير موجودة يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يأذن لأحد في أن يشفع لهم؛ لأنه لا يأذن فيما لا ينفع؛ لتعاليه عن العبث، ولا يشفع أحد عند الله إذا لم يأذن الله له (من ذا الذي يشقع عنده إلا بإذنه) [سورة البقرة 256] وكذلك المنار غير موجود في اللاحب المذكور؛ لأن المراد التمدح بأنه يقطع الأرض المجهولة من غير هاد يهتدي به، فغرضه إنما تعلق بنفي وجود

(1/207)


ما يهتدي به في تلك الطريق التي سلكها، لا بنفي وجود الهداية عن شيء نصب فيها للاهتداء به.
وأما قول أبي حيان وغيره: المراد لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته، ولا منار فيهتدى يه فليس بشيء؛ لأن النفي إنما يتسلط على المسند لا على المسند إليه، ولكئهم لما رأوا الشفاعة، والمنار غير موجودين توهموا أن ذلك من اللفظ، فزعموا ما زعموا.
وفرق بين قولنا: الكلام صادق مع عدم المسند إليه، وقولنا: إن الكلام اقتضى عدمه.
القاعدة الثانية: إن القضية السالبة المشتملة على مقيد نحو ما جاءني رجل شاعر تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون نفي المسند باعتبار القيد، فيقتضي المفهوم في المثال المذكور وجود مجيء رجل ما غير شاعر، وهذا هو الاحتمال الراجح المتبادر، ْألا ترى أنه لو كان المراد نفيه عن الرجل مطلقا لكان ذكر الوصف ضائعا، ولكان زيادة في اللفظ، ونقصا في المعنى المراد.
الثاني: أن يكون نفيه باعتبار المقيد، وهو الرجل، وهذا (1) احتمال مرجوح، لا يصار إليه إلا بدليل (2)، فلا مفهوم حينئذ للقيد؛ لأنه لم يذكر للتقييد، بل ذكر لغرض آخر، كأن يكون المراد مناقضة من أثبت ذلك الوصف، فقال: جاءك رجل شاعر، فأردت التنصيص على نفي ما أثبته، وكان يراد التعريض، كما إذا أردت في المثال المذكور أن تعرّض بمن قال: جاء رجل شاعر، وهذه هي القاعدة التي يتخرّج عليها (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) فإن الإلحاف قيد في السؤال المنفي.
والمراد من الآية - والله أعلم - نفي السؤال البتة، بدليل (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) والتعفف لا يجامع المسألة، ولكن أريد بذكر الإلحاف - والله أعلم - التعريض بقوم ملحفين، توبيخا لهم على صنيعهم، أو التعريض بجنس الملحفين، وذمهم على الإلحاف؛ لأن النقيض للوصف الممدوح مذموم.

(1/208)


والمثال المبحوث فيه يتخرّج على هذه القاعدة - فيما زعموا - فإن " فضلا " مقيد للدرهم، فلو قدر النفي مسلطا على القيد اقتضى مفهومه خلاف المراد، وهو أنه يملك الدرهم، ولكنه لا يملك الدينار، ولما امتنع هذا تعيّن الحمل على الوجه المرجوح، وهو تسليط النفي على المقيد، وهو الدرهم، فينتفي الدينار؛ لأن الذي لا يملك الأقلّ لا يملك الأكثر، فإن المراد بالدرهم ليس الدرهم العرفي، لأنه يجوز أن يملك الدينار من لا يملكه، بل المراد ما يساوي من النقود درهما، فهذا توجيه التخريج.
وأما الاعتراض عليه فمن جهة أن القيد ليس نفس الدينار، حتى يصير المعنى لا يملك درهما فكيف ديناراً، وإنما القيد قولة " فضلا عن دينار " والكلام لم يسق لنفي ملك الزائد على الدينار، بل لنفي ملك الدينار نفسه، ثم يلزم عن ذلك انتفاء ملك ما زاد عليه.
والذي يظهر لي في توجيه هذا الكلام أن يقال: إنه في الأصل جملتان مستقلتان، ولكن الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيير، حصل الإشكال بسببه.
وتوجيه ذلك: أن يكون هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جوابا لمستخبر قال: أيملك فلان ديناراً؟ أو ردًّا علي مخبر قال: فلان يملك دينارا، فقيل في الجواب: فلان لا يملك درهماً، ثم استأنف كلاما آخر، ولك في تقديره وجهان: أحدهما: أن يقال: أخبرتك بهذا زيادة عن الإخبار عن دينار استفهمت عنه، أو زيادة عن دينار أخبرتَ بملكه له، ثم حذفت جملة أخبرتك بهذا، وبقي معمولها، وهو " فضلا " كما قالوا: حينئذٍ، الآن، بتقدير: كان ذلك حينئذٍ، واسمع الآن، فحذفوا الجملتين، وأبقوا من كل منهما معمولها، ثم حذف مجرور " عن " وجار " دينار " وأدخلت " عن " الأولى على الدينار، كما قالوا: ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل من زيد، والأصل منه في عين زيد، ثم حذف مجرور " من " وهو الضمير، وجار العين، وهو " في " ودخلت " من " على العين.
الثاني: أن يقدر فضل انتفاء الدرهم عن فلان عن (1) انتفاء الدينار عنه. ومعنى ذلك أن يكون حال هذا المذكور في الفقر معروفة عند الناس، والفقير إنما ينفى عنه في العادة ملك الأشياء الحقيرة، لا ملك الأموال الكثيرة، فوقوع

(1/209)


نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي الدينار عنه، أي أكثر منه، و " فضلا " على التقدير الأول حال، وعلى الثاني مصدر، وهما الوجهان اللذان ذكرهما الفارسي، لكن توجيه الإعرابين مخالف لما ذكر، وتوجيه المعنى مخالف لما ذكروا؛ لأنه إنما يتضح تطابق اللفظ والمعنى على ما وجهت، لا على ما وجهوا.
ولعل من لم يَقْوَ أُنسه بتجوزات العرب في كلامها يقدح فيما ذكرت؛ بكثرة الحذف وهو كما قيل:
إِذا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ الأَسِنَّةُ مرْكَبٌ. . . فَلا رَأْى لِلْمُحْتَاجِ إِلا رُكُوبُهَا (1)
وقد بينت في التوجيه الأول أن مثل هذا الحذف والتجوز واقع في كلامهم.
قال أبو الفتح: قال لي أبو علي: من عرف ألف، ومن جهل استوحش (2). انتهى كلام ابن هشام (3).
وقال الشيخ سعد الدين: " فضلا " مصدر فعل محذوف، يقع متوسطا بين نفي وإثبات لفظا، نحو فلانٌ لا ينظر إلى الفقير فضلا عن إعطائه، أو معنى نحو تقاصرت الهمم عن أدنى العدد فضلا عن أن تترقاه، أي لم تبلغه فضلا عن الترقي، والقصد فيه إلى استبعاد الأدنى، أعنى ما دخله النفي، بمعنى عده بعيدا عن الوقوع، كالنظر إلى الفقير، وبلوغ الهمم، واستحالة ما فوقه، أعني ما دخلته " عن " بمعنى عده بمنزلة المحال الذي لا يمكن وقوعه، كالإعطاء والترقي، وهو من قولك: أنفقت الدرهم، والذي فضل منه كذا، أي بقي، وفاعل الفعل ضمير النفي، أي انتفى العطاء بالكلية، والذي بقي منه عدم النظر، وهكذا انتفى الترقي، وبقي التقاصر.
والأحسن أنه لا محل لهذه الجملة وإن جعلها بعضهم حالا.
ومن الخطأ في حل هذا التركيب ما يقال: إن " فضلا " بمعنى تجاوزا، وأن المستبعد هو عدم النظر وقصور الهمم (4). انتهى.
* * *
قوله: (نخصك بالعبادة والاستعانة)

(1/210)


قال الشيخ أكمل الدين: اعترض عليه بأن المعنى نخص العبادة، ونخص طلب المعونة بك.
وكأن هذا المعترض إنما نظر إلى سياق الكلام بأن المعنى أنهم علموا أن العبادة لابد منها، وأنها ينبغي أن تكون لغير الله، أو له ولغيره، فقال: نخص العبادة بك، قصر قلب على الأول، وإفراد على الثاني، فوجب أن يحمل كلام المصنف على القلب.
وفيه نظر؛ لأن رد الخطأ * في باب القصر إنما يكون على المخاطب، وذلك فيما نحن فيه محال.
وأجيب بأنه على سبيل التعريض.
ورد بأنه ليس بصحيح على ما سيظهر.
وقيل: معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) نخصك بالعبادة، كما عبر عنه المصنف، لأن تقديره نعبدك، وتقديم المفعول أفاد أن يجعل المعنى نخصك بالعبادة، لا بغيرها من أفعالنا؛ لأن غيرها منها ما لا يصلح لك.
وليس بصحيح؛ لأنه من باب قصر الفعل على المفعول، دون عكسه، فليس لكلامه محمل صحيح سوى القلب، لكن النظر في دفع الخطأ لم يندفع (1). انتهى.
وقال الشيخ سعد الدين: قوله: " نخصك بالعبادة " أي نجعلك منفردا بها، لا نعبد غيرك، وهذا هو الاستعمال العربي، ولو قيل: نخص العبادة بك لكان استعمالا عرفيا (2).
قوله: (ليكون أدلّ على الاختصاص).
قال الشريف: تصريح بأنه الغيبة لها دلالة ما على ذلك، لتقدم ذكر الصفات المشعرة بذلك (3).
الشيخ أكمل الدين: لم يفرق بين التخصيص والاختصاص، ولا نزاع في الاصطلاح (4).
__________
* في الأصل " الخطأ ".

(1/211)


قوله: (ومن عادة العرب التفنن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر).
لم يصرح باسم هذا، وسماه في " الكشاف " بالالتفات (1)، فأفاد وأجاد؛ لأن هنا ثلاثة أنواع متقاربة، ينبغي التمييز بينها؛ لئلا تلتبس.
قال الشيخ بهاء الدين السبكي: في " عروس الأفراح ": اعلم أني لم أر من أوضح العبارة عن حقيقة الالتفات، وربما توهم قوم أنه لفظي، وربما أشكل التمييز بين حقيقته وحقيقة التجريد، وحقيقة وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه، ثم كونه حقيقة أو مجازا، فالكلام في أربعة أمور:
الأول: في كشف الغطاء عن حقيقته.
اعلم أن الالتفات نقل الكلام من أسلوب لغيره، وهو نقل معنوي، لا لفظي فقط، وشرطه أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتف عنه، يحتوز عن مثل أكوم زيدا، وأحسن إليه، فضمير " أنت " الذي هو فاعل أكرم غير الضمير في " إليه " وليس التفاتا.
وإنما قلت: " في نفس الأمر " لأنه بطريق الادعاء، يعود لغيره، فحينئذ إذا كان الضمير الأول في محله باعتبار الواقع في نفس الأمر، فقلت: إني أخاطبك، فأجب المخاطب، كنتَ أعدت الضمير في المخاطب، وهو ضمير غيبة على نفسك، وليس ذلك وضعا لضمير الغائب موضع ضمير المتكلم، بل جردت منك مثل نفسك، وأمرته بأن يجيبه، فضمير الغيبة واقع موقعه (2)، وكذلك (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة يس 22] جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، وفي قوله:
طحا بِكَ قَلْبٌ في الحِسَاد طَرُوْبُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
على رأي السكاكي جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، فالضمير واقع في محله، فهو التفات وتجريد، وعلى رأي غيره هو تجريد فقط.
وفي قوله بعده:
تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
التفات على القولين، ولا نقول: إنه أعاد الضمير على غير الأول، فيلزم أن

(1/212)


ْيكون الضميران، وهما الكاف والياء لشيئين، بل أعاده على الأول مدعيا أنه غير الثاني، فإن الحقيقة المجردة هي باعتبار الحقيقة عين المجرد عنها، وباعتبار التجريد غيرها، فذلك الذي جرده في قوله: " بك " هو في نفس الأمر نفسه، فالتفت له بهذا الاعتبار.
وبهذا علمنا أن الالتفات في " بك " على رأي السكاكي أوضح من الالتفات الذي في " تكلفني " لأن في " بك " خروجا عن ضمير المتكلم إلى شيء لا وجود له بالكلية، وفي " تكلفني " خروج عن الحقيقة المجردة إلى الحقيقة المجرد عنها، فهو عدول إلى الأصل، و " بك " عدول إلى الفرع.
وفي قوله تعالى (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [سورة يونس 22] جرد من المخاطبين مثلهم، وعاد (1) الضمير عليهم، فهو تجريد والتفات، فالضميران في نفس الأمر لشيء واحد، وبالادعاء لشيئين.
وقوله تعالى (والله الذي أرسل الرياح) [سوة فاطر 9] في لفظ الجلالة - على رأي السكاكي - التفات، وتجريد، وعلى رأي غيره تجريد فقط.
وقوله تعالى (فسقناه) التفات عنى رأيهما؛ لأنه عائد على الله تعالى حقيقة، والكلام فيه كالكلام في:
تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وقوله تعالى (الحمد لله) التفات على رأي السكاكي وتجريد، و (إياك) التفات لا تجريد.
الثاني: في الفرق بين التجريد والالتفات.
وقد علم مما سبق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، فيوجد التجريد دون الالتفات كقولك: رأيت منه أسدا، ومثل:
تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
على رأي الجمهور، والتفات دون تجريد نحو:
تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
ونحوه (فسقناه) والتفات وتجريد نحو (فصل لربك) ولا واحد منهما كغالب القرآن.

(1/213)


الثالث: وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه بالنسبة إلى الالتفات.
فعند السكاكي قد يجتمع وضع الظاهر موضع المضمر مع الالتفات في نحو (والله الذي أرسل الرياح) وأمير المؤمنين يأمرك بكذا، وقد ينفرد الالتفات نحو:
تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وليس فيه وضع الظاهر موضع المضمر، بل وضع مضمر موضع مضمر، وقد ينفرد وضع الظاهر عن الالتفات كقوله تعالى (إن أبانا لفي ضلال مبين) [سورة يوسف 8] فإن أصله " إنه " لتقدمه في قوله (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا)
وأما وضع المضمر موضع الظاهر فينفرد عن الالتفات في نحو: نعم رجلا زيد " و " ربه رجلا " لأن الضمير والظاهر كلاهما على أسلوب الغيبة، وينفرد الالتفات عنه كثيرا، نحو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ونحو: وبات وباتت له ليلة. . . . . ..
ويجتمعان في نحو قول الخليفة: نعم الرجل أمير المؤمنين.
وأما على رأي السكاكي فوضع الظاهر موضع المضمر والالتفات قد يجتمعان، مثل (فصل لربك وانحر) وقد ينفرد الالتفات، وهو الغالب، مثل (إياك نعبد) وقد ينفرد وضع الظاهر، مثل (الحمد لله) ونحو (والله الذي أرسل الرياح) ووضع المضمر (1) موضع الظاهر لا يجتمع مع الالتفات؛ لأن الالتفات لابد فيه من ضمير سابق يلتفت عنه، ومع ذلك فلا موقع للظاهر، ولكن ينفرد وضع المضمر في نحو: نعم رجلا زيد " وينفرد الالتفات في غير ذلك.
الرابع: في أن الالتفات حقيقة أو مجاز.
إذا تأملت ما سبق علمت أنه حقيقة حيث كان معه تجريد وحيث لم يكن، وقد صرح
الخطيبي (2) بأن الالتفات تجريد، والتحقيق ما تقدم من التفصيل (3). انتهى.
* * *
تنبيه: قال الشيخ بهاء الدين: قوله تعالى: (الحمد لله) وقوله (إياك نعبد) اتفقوا على أنه التفات واحد.

(1/214)


وفيه نظر؛ لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا، يلزمهم أنه إن كان التقدير قولوا: (الحمد لله) ففيه التفاتان - أعني في الكلام المأمور بقوله -
أحدهما: في لفظ الجلالة، فإن الله تعالى حاضر، فأصله الحمد لك.
والثاني: (إياك) لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق، وإن لم يقدر قولوا كان في (الحمد لله) التفات عن التكلم إلى الغيبة، فإن الله كأنه حمد (1) نفسه، ولا يكون في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) التفات؛ لأن قولوا مقدرة معها قطعا، فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي، إما أن يكون في الآية التفاتان، أو لا يكون فيها التفات بالكلية.
هذا إن فرعنا على رأي السكاكي، وهو مقتضى كلام الزمخشري؛ لأنه جعل في أبيات امرئ القيس ثلاثا، وإن فرعنا على رأي الجمهور، ولم نقدر قولوا: (الحمد لله) فلا التفات؛ لأنا نقدر قولوا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وإن قدرنا قولوا قبل (الحمد لله) كان فيه التفات واحل في (إياك) وبطل قول الزمخشري أن في أبيات امرئ القيس ثلاث التفاتات (2) انتهى.
قوله: (تطرية له)
قال الشيخ بهاء الدين: أي إنه أشهى للقلب؛ لأن لذات النفوس في التنقلات؛ لما جبلت عليه من الضجر (3).
قؤله: (وتنشيطا للسامع)
أي فيكون أكثر إصغاء.
وقال في " المثل السائر ": قول الزمخشري: إن الالتفات يحصل به الفرار من الملل لا يصح؛ لأن الكلام الحسن لا يملّ (4).
ورده صاحب (5) " الفلك الدائر " بأن المستلذ قد يملّ. . . . . . . . . . . .

(1/215)


لكثرته (1).
قوله: (فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، وبالعكس)
قال الشيخ بهاء الدين السبكي: قد قسموا الالتفات إلى ستة أقسام:
الأوّل: الالتفات من التكلم إلى الخطاب، ومثلوه بقوله تعالى (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) والأصل وإليه أرجع.
الثاني: التفات من التكلم إلى الغيبة، كقوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك) [سورة الكوثر 1، 2].
الثالث: التفات من الخطاب إلى التكلم كقوله:
طحا بِكَ قَلْبٌ فِي الحِسَانِ طَرُوبُ. . . بُعَيدَ الشَّبابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ
تُكَلِّفُنِيْ لَيْلَى وَقَد شَطّ وَلْيُهَا. . . وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَحُرُوبُ (2)
فالتفت في قوله: " تكلفني " عن قوله: " بك " من الخطاب إلى التكلم.
الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم)
الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، كقوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ)
السادس من الغيبة إلى التكلم نحو (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ)
وقول امرئ القيس:
تَطَاوَلَ لَيلُكَ بِالأَثْمُدِ. . . وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ. . . كَلَيْلَةِ ذِيْ العَائِرِ الأَرْمَدِ
وَذَلِكَ مِن نبَإٍ جَاءَنِيْ. . . وَخُبّرْتُهُ عَن أَبِيْ الأَسْوَدِ (3)
هذه الأبيات مطلع قصيدة رواها الأصمعي، وأبو عمرو الشيباني (4)

(1/216)


وأبو عبيدة، وابن الأعرابي لامرئ القيس بن حجر الكندي.
وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام في " شرح الشواهد ": وهو الثابت في كتاب " أشعار الشعراء الستة (1).
ورواها ابن الكلبي لعمرو بن معديكرب (2) في قتله بني مازن بأخيه عبد الله، وإخراجهم من بلادهم، ورواها ابن دريد (3) لامرئ القيس بن عانس - بالنون - الصحابي (4)، وبعد هذه الأبيات:
وَلَوْ عن نَثَا غَيْرِهِ جَاءَنِيْ. . . وَجُرحُ اللِّسَانُ كَجُرْحِ اليَدِ
لَقُلْتُ مِنَ القَوْلِ مَالا يَزَا. . . لُ يُؤْثَرُ عَنِّيْ يَدَ المُسْنَد
بِأيِّ عَلاقَتِنَا تَرْغُبُوْ. . . ن عَنْ دَمِ عَمْروٍ عَلَي مَرْثَدِ
فَإِن تَدْفِنُوْا الدَاءَ لا نَخْفِهِ. . . وَإن تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ
وَإنْ تَقْتُلُوْنَا نُقَتِّلْكُمْ. . . وَإنْ تَقصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ (5)
قوله:
تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
كناية عن السهر
قال ابن هشام: وهو خطاب لنفسه، والأصل ليلي. والأثمد بفتح الهمزة، وسكون المثلثة، وضم الميم، ودال مهملة، اسم موضع. والخلي: الخالي (6) من الهموم. والعائر بمهملة وهمزة.

(1/217)


قال ابن هشام: هو قذى العين، وقيل: العائر الرمد، قال: والأوّل أولى ليكون أشق للجمع بينهما، ويحصل الترقي أيضاً ما فإن الرمد أبلغ من قذى العين، ولعدم تكرره.
قال: واشتقاق العائر من العُوَّار بضم العين وتشديد الواو: قذى العين.
قال: والضمير في " بات " وفي " له " ملتفت بهما عن الخطاب إلى الغيبة، والواو في " وبات " للعطف، وفي " وباتت له ليلة " للعطف، أو للحال، وهو أولى، أي وبت والحال أن بيتوتتي كانت شديدة، ودلّ على شدتها بالتشبيه المذكور، وإسناد البيتوتة إليها مجازي و " بات ". فيهما تامة، فالجار والمجرور يتعلق بالثانية، لا باستقرار محذوف، هو خبر، فإن ذلك لا يحسن لزوال التطابق، ولأنه لو قيل: باتت ليلته كان كافيا " وذلك " إشارة إلى المذكور كله، و " من " لابتداء الغاية.
و " النبأ " قال الراغب: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر: نبأ حتى يتضمن ما ذكر (1)، فهو أخص من مطلق الخبر.
وأبو الأسود كنيته، واسمه ظالم بن عمرو، من بني الجون، آكل المرار، وهو ابن عم امرئ القيس، رثاه بهذه القصيدة، وقيل: بل " أبي " مضاف ومضاف إليه، و " الأسود " صفة للأب، وهو أفعل من السؤدد، أو من السواد (2).
والنثا ما نثي عن الرجل من قبيح فعله، و " يؤثر عني " يُحَدَّثُ به، و " يد المسند " آخر الدهر.
قال القالي: (3) لم يعرف الأصمعي، وأبو عمرو معنى " بأيّ علاقتنا ترغبون ".
وقال أبو عمرو: ولم يعرفه (4) أحد ممن سألته (5).
وقد اختلف في عدد الالتفات الذي وقع في هذه الأبيات، فذكر الزمخشري

(1/218)


أن فيها ثلاث التفاتات (1)، في " ليلك " لأن حقه أن يقول " ليلي، وفي " بات " لعدوله إلى الغيبة بعد الخطاب، وفى " جاءني " لعدوله بعدها إلى التكلم.
والمحققون على أن فيها التفاتينّ فقط، ما وأن الأول ليس بالتفات، بل هو تجريد، وقيل: إن الثاني والثالث " ذلك " و " جاءني "، ورجحه صاحب (2) " الإيضاح (3) "، أو " ذلك ".
" وخبرته "، ورجحه الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح (4) "، وقيل: فيها أربع التفاتات " ليلك " و " ذلك " و " وجاءني " و " خبرته ".
وقد بالغ قوم فقالوا: إن فيها سبع التفاتات " ليلك " و " ترقد " و " بات " و " له " و " ذلك " و " جاءني " و " خبرته ".
قوله: (وإيَّا ضمير) إلى آخره.
قال صاحب " البسيط ": اختلف العلماء في " إياك " على سبعة أقوال: فذهب سيبويه، والأخفش، وجمهور البصريين، وأبو علي من المتأخرين إلى أن الاسم المضمر هو " إيا " وما يتصل بها حروف تدل على أحوال المرجوع إليه من التكلم، والخطاب، والغيبة.
وذهب الخليل إلى أن " إيا " اسم مضمر، وما بعدها مضمر مضاف إليه.
وذهب المبرد، وابن درستويه (5)، والسيرافي (6)، إلى أنه اسم مبهم أضيف

(1/219)


للتخصيص.
وذهب الزجاج إلى أنه اسم ظاهر خص بالإضافة إلى المضمرات.
وذهب قوم من الكوفيين، وأبو الحسن ابن كيسان، من البصريين إلى أن الضمير ما بعد " إيا "، و " إيا " دعامة لها تعتمد عليها.
وذهب آخرون من الكوفيين إلى أن الكلمة بكمالها اسم مضمر.
وذهب الخليل - في قول آخر - إلى أنه اسم مظهر ناب مناب الضمير (1).
حجة القول الأول من وجهين:
أحدهما: أنها بمنزلة الضمير المنصوب المتصل في الدلالة على المفعول به (2)، في قولك: ما أكرمني إلا أنت، وما أكرمتَ إلا إياي، فإذا ثبتت اسميتها لم يجز إضافتها؛ لأن الضمائر لا تضاف، وإذا امتنعت إضافتها تعين حرفية ما بعدها.
الثاني أنها لازمة للنصب، وليست ظرفا غير متمكن، ولا مصدرا غير متصرف، ولو كانت اسما ظاهرا لما لزمت النصب.
وحجة القول الثاني: أنه جاءت إضافته إلى الظاهر في قول العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإيَّاهُ وَإيَّا الشَّوَابِّ " ماذا ثبتت إضافته إلى الظاهر الذي يظهر فيه الإعراب وجب الحكم بإضافته إلى الضمير الذي لا يظهر فيه الإعراب.
وأما كون الضمائر لا تضاف فغير مانع من إضافة هذا النوع؛ لأن الأحكام العامة قد تتخلف في بعض الصور، بدليل تخلف " لدن " عن جر " غدوة "، وتخلف " لولا " عن وقوع ضمير المرفوع بعدها، وتخلف " عسى " عن اتصال ضمير المرفوع بها، فكذلك هذا النوع من المضمرات، تخلف عن حكم المضمرات في منع الإضافة.
وحجة القول الثالث: أنه مع إبهامه الغالب عليه الإظهار، فلا تمتنع إضافته، ولذلك تكلم في اشتقاقه.
وحجة القول الرابع: أنه ظاهر بدليل تحقق اشتقاقه، والظاهر لا تمتنع إضافته.
وأما لزومه للنصب فغير مستنكر، بدليل أن من الأسماء ما يلزم النصب، وهذا منها. وحجة القول الخامس: أن الياء والكاف والهاء في " إياي " و " إياك "،

(1/220)


و " إياه " هي الضمائر المتصلة بالفعل في " أكرمني " و " وأكرمك " و " وأكرمه " فوجب أن تكون هي الضمائر؛ لتحققها بالاسمية عند الاتصال بالفعل، إلا أنه لما لم يمكن قيامها بنفسها جعل قبلها ما تعتمد عليه، وتتصل به.
وأما كون " إيا " هي الضمير دون ما بعدها فضعيف؛ لأنه لم يعهد لها حالة يمكن حملها عليها، وقد عهد لهذه الضمائر الدلالة على الإضمار، فوجب الحمل على ما عهد، دون ما لم يعهد.
وأما كون ما تتصل به أكثر منها فغير مانع بدليل اتصالها بالفعل، وهو أكثر منها؛ لأن الغرض التوصل إلى جعلها منفصلة من الفعل، وهذا القول ليس ببعيد عن الصواب.
وحجة القول السادس: أن الحكم على بعض الكلمة بالاسمية، وعلى بعضها بالحرفية محض التحكم، لأنه لم يعهد كلمة واحدة بعضها اسم، وبعضها حرف، فوجب الحكم على جميع الكلمة بالاسمية.
وأما اختلافها فبحسب اختلاف الإضمار إلى التكلم والخطاب والغيبة، لأنه جعل ما يدل على كل نوع من المضمرين في آخر الكلمة.
وأما القول السابع فهو يناسب قول من قال بالإظهار. انتهى.
قوله: (واحتج بما حكاه عن بعض العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشوابّ ").
قال سيبويه: حدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول: فذكره (1).
قال الطيبي: الشوابّ جمع شابة، كدواب جمع دابة، أي فليحذر نفسه أن يتعرض للشواب، وليحذر الشواب أن يَفْتِنَّهُ (2).
قال صاحب " البسيط " في النحو: وروي: " فإياه وإيا السوآت " قال: وهذا أبلغ في التحذير من الجماع عند الكبر.
قال الزركشي (3) في حاشية كتبها على هذا الموضع: هذا يرد على من ادعى

(1/221)


أن هذا تصحيف.
قوله: (وهو شاذ لا يعتمد عليه)
قال الشيخ سعد الدين: هو وإن كان شاذا من حيث الإضافة إلى المظهر، لكن فيه دلالة على أن بين " إيا " واللواحق إضافة (1).
قوله: (والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل)
هو كلام الراغب، وزاد أنها ضربان:
عبادة بالتسخير، كما في قوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)
[سورة الإسراء 44] وعبادة بالاختيار، وهي لذي النطق، وهو المأمور به في نحو قوله تعالى (اعبدوا ربَّكم) (2) [سورة البقرة 21].
قوله: (والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات)
الأول هو الصواب، فإنه الوارد عن ابن عباس (3)، والأوفق للعموم المراد في ألفاظ الفاتحة.
قوله: (في عبادتهم) أي أثنائها
قوله: (وقدم المفعول للتعظيم، والاهتمام به والدلالة على الحصر)
نازع أبو حيان في دلالة التقديم على الحصر (4) مستندا إلى قول سيبويه: إذا

(1/222)


قلت: ضربت زيدا، وزيدا ضربمّا فالتقديم والتأخير فيه سواء (1).
وتعقبه الشيخ ولي الدين العراقي في " حاشيته على الكشاف " بأنه ليس في كلام سيبويه ما يرد ذلك، بل هو أمر مسكوت عنه، زاده البيانيون، وكم في كلام أهل البيان في دقائق العربية مما لم يصرح بذكره النحاة.
وعبر الزمخشري بدل الحصر بالاختصاص.
قال الشيخ ولي الدين: والمتبادر إلى الفهم من الاختصاص هو الحصر (2).
وقال الإمام تقي الدين السبكي: إنه غيره، فإن صح لم يكن بين كلام الزمخشري وأبي حيان تعارض.
وقال الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح ": سلك الوالد في الاختصاص حيث وقع، إما بتقديم الفاعل المعنوي، أو بتقديم المعمول مسلكا غير ما هو ظاهر كلام البيانيين، وألف في ذلك تصنيفا لطيفا سماه " الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص (3) ".
قال فيه: قد اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، ومن الناس من ينكر ذلك، ويقول: إنما يفيد الاهتمام.
وقد قال سيبويه في كتابه: " وهم يقدمون ما هُم به أعنى (4) ".
والبيانيون على إفادته الاختصاص.
ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر، فإذا قلت: زيدا ضربت، يقول: معناه ما ضربت إلا زيدا، وليس كذلك، وإنما الاختصاص شيء والحصر شيء آخر، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر، وإنما قالوا: الاختصاص.
قال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) -: " وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ)

(1/223)


[سورة الزمر 46] (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) [سورة الأنعام 164] والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة (1) ".
وقال في قوله تعالى (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ): " معناه أفغير الله أعبد بأمركم " (2) وقال في قوله تعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا): " الهمزة للإنكار، أي منكرا أن أبغي ربا غيره (3) ".
وقال في قوله تعالى (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) [سورة الزمر 14] "
إنه أمر بالإخبار بأنه يختص الله تعالى وحده دون غيره بعبادته، مخلصا له دينه " (4).
وقال في قوله تعالى (أفغير دين الله يبغون) [سورة آل عمران 83] " قدم المفعول الذي هو (غير دين الله) على فعله؛ لأنه أهمّ من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل " (5).
وقال في قوله تعالى (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) [سورة الصافات 86]: " إنما قدم المفعول على الفعل للعناية به، وقدم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم؛ لأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به، يعني أتريدون إفكا، ثم فسر الأوّل بقوله (آلِهَةً دُونَ اللَّهِ) على أنها إفك في أنفسها، ويجوز أن يكون حالا " (6).
فهذه الآيات كلها لم يذكر الزمخشري لفظ الحصر في شيء منها، ولا يصح إلا في الآية الأولى فقط، والقدر المشترك في الآيات الاهتمام، ويأتي الاختصاص في أكثرها.
ومثل قوله تعالى (أَئِفْكًا آلِهَةً) قوله تعالى (أهؤلاء إيَّاكم كانوا يعبدون) [سورة سبأ 40] وما أشبههما لا يأتي فيه إلا الاهتمام؛ لأن ذلك منكر من غير اختصاص، وقد يتكلف لمعنى الاختصاص في ذلك كما في بقية الآيات، وأما الحصر فلا.

(1/224)


فإن قلت: ما الفرق بين الاختصاص والحصر؟
قلت: الاختصاص افتعال من الخصوص، والخصوص مركب من شيئين:
أحدهما: عام مشترك بين شيئين، أو أشياء.
والثاني: معنى منضم إليه، يفصله عن غيره، كضرب زيد، فإنه أخص من مطلق الضرب، فإذا قلت: ضربت زيدا، أخبرت بضرب عام وقع منك، على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصا لما انضم إليه منك، ومن زيد، وهذه المعاني الثلاثة: أعني مطلق الضرب، وكونه واقعا منك، وكونه واقعا على زيد، قد يكون قصد المتكلم بها ثلاثتها على السواء، وقد يترجح قصده لبعضها على بعض، ويعرف ذلك بما. ابتدأ به كلامه، فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به، وأنه هو الأرجح لغرض المتكلم.
فإذا قلت: زيدا ضربت، علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود، ولاشك أن كل مركّب من خاص وعام له جهتان، فقد يقصد من جهة عمومه، وقد يقصد من جهة خصوصه، فقصده من جهة خصوصه هو الاختصاص، وأنه هو الأهم عند المتكلم، وهو الذي قصد إفادته للسامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفي.
وأما الحصر فمعناه نفي غير المذكور، وإثبات المذكور، ويعبر عنه ب " ما "، و " إلا "، أو ب " إنما ".
فإذا قلت: ما ضربت إلا زيدا كنت نفيت الضرب عن غير زيد، وأثبته لزيد، وهذا المعنى زائد على الاختصاص.
وإنما جاء هذا في (إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين) للعلم بأنه لا يعبد غير الله، ولا يستعان بغيره، ألا ترى أن بقية الآيات لم يطرد فيها ذلك، " فإن قوله تعالى (أفغير دين الله يبغون) لو جعل غير دين الله يبغون في معنى ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه، لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، ولاشك أن مجرّد بغيهم غير دين الله منكر، وكذلك بقية الآيات إذا تأملتها، ألا ترى أن (أفغير الله تأمرونّي أعبد) وقع الإنكار فيه على عبادة غير الله من غير حصر، وأن (أبغي رَبًّا) غيره منكر من غير حصر، ولكن الخصوص، وهو غير الله هو المنكر وحده، ومع غيره.
وكذلك (إياكم كانوا يعبدون) عبادتهم إياهم منكرة من غير حصر، وكذلك قوله تعالى (آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر.

(1/225)


فمن هذا كله يعلم أن الحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) من خصوص المادة، لا من موضوع اللفظ. بل أقول: إن المصلي قد يكون مقبلا على الله وحده، لا يعرض له استحضار غيره بوجه من الوجوه، وغيره أحقر في عينه من أن يشتغل ذلك الوقت بنفي عبادته، وإنما قصد الإخبار بعبادة الله.
وأول ما حضر في ذهنه عظمة من هو واقف بين يديه فقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ليطابق اللفظ المعنى، ويتقدم ما تقدم حضوره في القلب، وهو الرب سبحانه وتعالى، ثم بنى على ما أخبر به من عبادته.
فمعنى اختصاصه بالعبادة اختصاصه بالإخبار بعبادته، وغيره من الأكوان لم يخبر عنه بشيء، بل هو معرض عنها.
وإذا تأملت مواقع ذلك في الكتاب والسنة، وأشعار العرب تجده كذلك، ألا ترى قول الشاعر (1):
أَكُلَّ امرِئٍ تَحَسَبِيْنَ امرءًا. . . ونَارٍ تَوَقَّدُ بِالليلِ نَارًا
لو قدرت فيه الحصر ب " ما " و " إلا " لم يصح المعنى الذي أراده.
وقد قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى (وبالآخرة هم يوقنون): " وفي تقديم الآخرة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بأهل الكتاب، وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك (2) ".
وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن.
وقد اعترض عليه بعض الناس فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة، لا بغيرها.
وهذا الذي قاله هذا القائل بناه على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك، لما بيناه.
ثم قال هذا القائل: وتقديم (هم) أفاد أن هذا القصر مختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانا بغيرها، حيث (قالوا لن يدخل) [سورة البقرة 111] و (لن تمسنا) [سورة البقرة 80].

(1/226)


وهذا من هذا القائل استمرار على ما في ذهنه من الحصر، أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها، وهذا فهم عجيب.
ثم قال هذا القائل: ثم إن التعريض في قوله: " بأهل الكتاب " " وبما كانوا " " وأن قولهم " ظاهر معني قول الزمخشري.
قال هذا القائل: وأما في قوله: " وأن اليقين " فمشكل؛ لأنه ليس فيه تعريض بأن اليقين ما عليه من آمن، بل تصريح.
قلت: مراد الزمخشري أن التصريح بأن من آمن يوقنون تعريض بأن أهل الكتاب لا يوقنون، فكيف يرد عليه هذا؟
ثم قال هذا القائل: فالوجه أن يقال: " وأن اليقين " عطف على قوله: " تعريض " لا على معمولاته من " بأهل الكتاب " إلى آخره، فكأنَّه قال: وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على (هم) تعريض، وأن اليقين. . ..
قلت: مراد الزمخشري أنه تعريض بنفي اليقين عن أهل الكتاب، وكأنه قال: دون غير من آمن، فلا يرد عليه، ولا يحتاج إلى تقدير العطف على ما ذكره هذا القائل، وهو إما أن يقدر: " دون غيرهم " أولا، فإن قدر فهو تعريض، لا تصريح، وإن لم يقدر فلا يحتاج إلى بناء (يوقئون) على (هم).
فحمل كلام الزمخشري على ما زعمه هذا القائل لا يصح بوجه من الوجوه، وهذا القائل فاضل، وإنما ألجأه إلى ذلك فهمه الحصر، وهو ممنوع، وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام:
أحدها: ب " ما " و " إلا " كقولك: ما قام إلا زيد، صريح في نفي القيام عن غير زيد، ويقتضي إثبات القيام لزيد، قيل: بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم، وهو الصحيح، لكنه أقوى المفاهيم؛ لأن " إلاّ " موضوعة للاستثناء، وهو الإخراج، فدلالتها على الإخراج بالمنطوق، لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هو عين القيام، بل قد يستلزمه، فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك، فقال: إنه بالمنطوق.
والثاني: الحصر ب " إنما " وهو قريب من الأول فيما نحن فيه وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر، فكأنَّه يفيد إثبات قيام زيد - إذا قلت: إنما قام زيد - بالمنطوق، ونفيه عن غيره بالمفهوم.
والقسم الثالث: الحصر الذي قد يفيده التقديم، وليس هو على تقدير تسليمه مثل الحصرين الأولين، بل هو في قوة جملتين:

(1/227)


إحداهما: ما صدر به الحكم نفيا كان أو إثباتا، وهو المنطوق
والأخرى: ما فهم من التقديم، والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط، دون ما دل عليه من المفهوم؛ لأن المفهوم لا مفهوم له، فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك، أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه.
وقد قال سبحانه وتعالى (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) [سورة النور 3] أفاد أن العفيف.
قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية فقال سبحانه وتعالى بعده (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) بيانا لما سكت عنه في الأولى.
فلو قال (وبالآخرة هم يوقنون) أفاد منطوقُهُ إيقانهم بها، ومفهومُهُ عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصودا بالذات، والمقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة، حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حصر مجازي، وهو دون قولنا: يوقنون بالآخرة، لا بغيرها، فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره: لا يوقنون إلا بالآخرة.
إذا عرفت هذا فتقديم (هم) أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا التقدير لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي، فيتسلط المفهوم عليه، فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم هذا القائل، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة.
ولا شك أن هذا ليس بمراد (1)، بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة، ليتسلط المفهوم عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر؛ لأن الحصر لم يدل عليه بجملة (2) واحدة، مثل " ما " و " إلا " ومثل " إنما " وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيداً بالآخر حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور، بل أفاد نفي الإيقان مطلقا عن غيرهم.
وهذا كله إنما احتجنا إليه على تقدير تسليم ما ادعاه هذا القائل من الحصر، وقد سبق إلى فهم كثير من الناس، ونحن قد منعنا ذلك أولا، وبينا أنه لا حصر

(1/228)


في ذلك، وإنما هو اختصاص، وفرقنا بين الاختصاص والحصر. وقول هذا القائل: تقديم (هم). من أين له أن هذا تقديم، فإنك إذا قلت: هو يفعل، احتمل أن يكون مبتدأ خبره يفعل، واحتمل أن يكون أصله يفعل هو، ثم قدمت وأخرت، والزمخشري لم يصرح بالتقديم، وإنما قال: " بناء (يوقنون) على (هم) " ولكنا مشينا مع هذا الفاضل على كلامه، وكل ذلك أوجبه (1) الوهم والتباس الاختصاص بالحصر (2). انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
وقال الشيخ بهاء الدين السبكي: قال ابن الحاجب في " شرح المفصل ": الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم.
واستدل على دْلك بقوله تعالى (فاعبد الله مخلصا له الدين) ثم قال تعالى (بل الله فاعبد)
قال: وهو استدلال ضعيف؛ لأن (مخلصا له الدين) أغنى عن إرادة الحصر في الآية الأولى، ولو لم يكن فما الذي يمنع من ذكر المحصور في محل بغير صيغة الحصر، كما تقول: عبدت الله، وتقول: ما عبدت إلا الله، كل سائغ.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) [سورة الحج 77]، وقال تعالى (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة يوسف 40] بل قوله تعالى (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) من أقوى أدلة الاختصاص؛ فإن قبلها (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) فلو لم تكن للاختصاص، وكان معناها: أعبد الله لما حصل الإضراب الذي هو معنى (بل).
قال: وقد رد الشيخ أبو حيان على مدعي الاختصاص، ونقل عن سيبويه أنه قال: " يقدمون ما هو الأهم من كلامهم، وهم به أعنى "
قال: وربما يعترض على مدعي الاختصاص بنحو قوله تعالى (أفغير الله تأمروني أعبد).
وجوابه: أنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله، كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة.

(1/229)


قال: ورد صاحب الفلك الدائر " بقوله (1) تعالى (كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) (2).
وجوابه: أنا لا ندعي اللزوم، بل الغلبة، وقد يخرج الشيء عن الحقيقة، وعن الغالب (3). انتهى.
قوله: (ولذلك قال ابن عباس: معناه نعبدك، ولا نعبد غيرك)
أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (4) من طريق الضحاك عنه.
قوله: (ولا يستتب له)
في الصحاح: استتب له الأمر: تهيأ واستقام.
الشيخ سعد الدين: يستتب، أي يتم، من التبات، وهو الهلاك (5).
قال في " الأساس ": والتبات يتبع التمام (6).
قوله: (وأصله أن يعدى باللام) إلى آخره
قال الزمخشري في غير " الكشاف ": " يقال: هداه لكذا، أو إلى كذا، إذا لم يكن في ذلك، فيصل إليه بالاهتداء، وهداه كذا بغير حرف محتمل للحالين، بين أن يكون فيه، وبين أن لا يكون، حتى لا يجوز أن يقال في قوله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) [سورة العنكبوت 69] لسبلنا، أو إلى سبلنا " انتهى (7).

(1/230)


وللخويِّي فرق آخر ذكرته في " أسرار التنزيل (1) "
قوله: (وهداية الله تتنوع أنواعا) إلى آخره
نوعها الراغب إلى أربعة غير هذه:
الأولى: الهداية التي عم بها كل شيء، بحسب حاله، كما قال (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [سورة طه 50].
الثاني: الهداية التي جعلها للناس، بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن، وهو المقصود بقوله (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) [سورة الأنبياء 73].
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعني بقوله (والذين اهتدوا زادهم هدى) [سورة محمد 17] (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) [سورة التغابن 11].
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة، وهو المعني بقوله (الحمد لله الذي هدانا لهذا) [سورة الأعراف 43] سيهديهم ويصلح بالهم (2)) [سورة محمد 5].
قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
قال الطيبي: تقرير الاستشهاد به أنه تعالى أثبت لهم الجهاد على لفظ الماضي، وأوقع ضمير التعظيم ظرفا له، على المبالغة، أي في سبيلنا ووجهنا مخلصين لنا، ولا يكون مثل هذا الجهاد إلا هداية، لا غاية بعدها، ثم قال (لنهدينهم سبلنا) على الاستقبال.
وصرّح بلفظ (سبلنا) ولا يستقيم تأويله إلا بما ذكر من طلب الزيادة بمنح الألطاف (3).
قوله: (ويميط) بضم أوله، أي تبعد وتنحي.

(1/231)


قوله: (غواشي) جمع غاشية.
قوله: (والأمر والدعاء يتشاركان لفظا)
أي صيغة ومعنى، أي فإن كلا منهما دال على الطلب
قوله: (ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، وقيل: بالرتبة)
في مغايرة القول الثاني للأول نظر لا يخفى
قوله: (السابلة) هم المختلفون (1) في الطرقات لحوائجهم
قوله: (وهو كالطريق في التذكير والتأنيث)
أما في المعنى فيينهما فرق لطيف، أشار إليه الخُوَيِّي قال: الطريق كل ما يطرقه طاروا معتادا كان أم (2) غيره، والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، والصراط من السبيل ما لا التواء فيه ولا اعوجاج، فلا يذهب يمنة ولا يسرة، بل يكون على سمت القصد (3)، فهو أخص الثلاثة.
قال: فإن قيل: فما فائدة وصفه بالمستقيم حينئذٍ؟
أجيب بأن الصراط يطلق على ما فيه صعود أو هبوط، والمستقيم ما لا ميل فيه إلى شيء من الجوانب الأربعة، وأصل الاستقامة في قيام الشخص أن لا يكون منحنيا ولا مُقْعَنْسِساً، ولا مائلا إلى يمين أو يسار.
قوله: (والمراد به طريق الحق، وقيل: ملة الإسلام)
القولان مرويان عن ابن عباس، أخرجهما ابن جرير (4)، وليسا متغايرين (5) كما يفهمه إيراد المصنف، بل مؤداهما واحد.
قال ابن تيمية: الخلاف بين السلف في التفسير قليل جدا، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، وذلك كأن يعبر أحدهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى، غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، مثال ذلك تفسير هم (الصراط المستقيم) فقال بعضهم: هو القرآن، أي اتباعه،

(1/232)


وقال بعضهم: هو الإسلام، فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله، كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها (1). انتهى.
ولاشك أن ملة الإسلام هي طريق الحق.
قوله: (وفائدته التوكيد) إلى آخره.
قال الطيبي: يعني أن البدل فيه معنى التكرير، ومعنى التوضيح، فالتوضيح يرفع الإبهام عن نفس المتبوع، والتوكيد يرفع إبهام ما عسى أن يتوهم في النسبة، فهو في توضيح المتبوع كالبيان، وفي تأكيد أمر المتبوع في النسبة كالتأكيد، ويزيد بأنه توكيد لنفس النسبة (2).
قوله: (طريق المؤمنين) إلى آخره.
حكي في تفسير (الذين أنعمت عليهم) ثلاثة أقوال، كلها قاصرة.
والذي أخرجه ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بـ (الذين أنعمت عليهم) الأنبياء والملائكة والصديقون والشهداء ومن أطاعه وعبده (3).
هذا لفظ ابن عباس، وهو يشمل الأقوال الثلاثة، ويزيد عليها، وهو الموافق لقوله تعالى (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) الآية
قال الطيبي: وهو الأنسب للعموم المقصود في ألفاظ السورة (4).
قوله: (وقرئ (صراط من أنعمت عليهم)
أخرجه أبو عبيد في " فضائله " عن ابن الزبير (5).
قوله: (والإنعام إيصال النعمة)
هو كلام الراغب، وزاد: ولا يقال: إلا إذا كان الواصل إليه من العقلاء، لا يقال: أنعم على فرسه (6).

(1/233)


وقال الخويي: الإنعام نفع العالي من دونه بأمر عظيم، خاليا عن العوض والتبعة.
قوله: (والمراد هنا القسم الأخير)
قال الطيبي: الأشبه الحمل على الإطلاق، كما قال في " الكشاف: " أطلق ليشمل كل إنعام، فإن من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته، واشتملت عليه (1).
قوله: (بدل من (الذين)
قال أبو حيان: هو ضعيف؛ لأن " غير " أصل وضعه الوصف، والبدل بالوصف ضعيف (2).
قوله: (على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلالة).
قال الطيبي: يعني إنما يصح إبدال هذا من ذاك إذا اعتبر مفهوم أحدهما مع منطوق الآخر ليتفقا.
قو له: (أو صفة)
قال أبو حيان: هو قول سيبويه (3)
قوله: (وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِمِ يَسُبُّنِيْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .)
هو لرجل من بني سلول، وتمامه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَأَعِفُّ ثُمُّ أقُوْلُ: لا يَعْنِينِيْ
وأورده طائفة بلفظ فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِيِنيْ (4)
وبعده قوله:
غَضْبانَ مُمْتَلِئاً عَليَّ إِهَابُهُ. . . إِنَيْ وحَقِّكَ سَخْطُهُ يُرْضِيْنِيْ
قال الطيبي: لم يرد باللئيم لئيما بعينه، ولا كل اللئام لاستحالته، ولا الحقيقة لاستحالة أن يمر على مجرد الحقيقة لعدمها في الخارج، بل لئيما من اللئام، واللام للعهد الذهني المعبر عنه بتعريف الجنس (5).

(1/234)


قال ابن الحاجب: الحقيقة الذهنية معرفة في الذهن، نكرة في الخارج (1).
وفي " الخصائص " لابن جني قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني. . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
أي: ولقد مررت (2)، أوقع المستقبل موقع (3) الماضي.
وقال في موضع آخر: إنما حكى فيه الحال الماضية، والحال لفظها أبدا بالمضارع (4).
وفي بعض حواشي. " الكشاف ": فإن قيل: فهلا جعلت جملة " يسبني " حالا، لكونها جملة بعد معرفة، والتقدير: ولقد أمر عليه في حال سبه لي.
قيل: ما ذكرته محتمل، لكن الأحسن أن يكون المراد: ولقد أمر على اللئيم السابّ لي، سواء كان في حال المرور سابا، أم لا، فيكون أعم وأشمل.
وقال الطيبي: أجيب أنه لا يحتمل الحال؛ لأن (5) القائل يمدح نفسه، ويصف أناته وتُؤَدَتَهُ وأن الحلم دأبه وعادته، لا أنه مر على لئيم مُعُيَّن مرة، وأنه احتمل مساءته ومسبته، ودل عطف " فمضيت " و " قلت " وهما ماضيان على " أمر " وهو مضارع على إرادة استمرار المورث للعادة، وعلى أن المسبة والتغافل إنما يحدثان منه عند مروره عليه (6).
ومما يشبه هذا البيت ما أنشده الأصمعي لبعض الأعراب:
لا يَغْضَبُ الحُرُ على سِفْلَةٍ. . . والحُرُ لا يُغْضِبُهُ النَذْلُ
إذا لَئِيْمٌ سَبَنِيْ جَهْدَهُ. . . أَقولُ: زِدْنِيْ فَلِيَ الفَضْلُ (7)
قوله: (وقولهم: إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني)
قال الطيبي: وهذا المثال أظهر من البيت؛ لأن البيت يحتمل الحال وإن كان الوصف فيه ظاهراً (8).

(1/235)


وقال ابن جني في " الخصائص: وكان أبو علي يقول قول أبي الحسن في قولهم: إني لأمر بالرجل مثلك: إن اللام زائدة، حتى كأنه قال: إني لأمر برجل مثلك، لما لم يكن الرجل هنا مقصودا معينا على قول الخليل: إنه تراد اللام في المثل، جتى كأنه قال: إني لأمر بالرجل المثل لك.
قال: لأن الدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية، أي أن اللام (1) ملفوظ بها، وهي في قول الخليل مرادة مقدرة.
قال: وهذا القول من أبي عليِّ غير مرضي عندي، وذلك أنه جعل لفظ اللام دلالة على زيادتها، وكيف يكون لفظ اللام دليلا على زيادتها؟ وإنما جعلت الألفاظ أدلة على إثبات معانيها، لا على سلبها.
وإنما الذي يدل على زيادة اللام هنا هو كونه مبهما، لا مخصوصا، ألا ترى أنك لا تفصل بين معنيي قولك: إني لأمر برجل مثلك، وإني لأمر بالرجل مثلك في كون كل واحد منهما منكورا غير معروف، ولا مُومَأً به إلى شيء بعينه، فالدلالة أيضاً من هذا الوجه - كما ترى - معنوية، كما أن إرادة الخليل اللام (2) في مثلك إنما دعا إليها جريه صفة على شيء، هو في اللفظ معرفة، فالدلالة (3) إذن كلتاهما معنويتان (4) انتهى.
وقد جعل صاحب " الكشاف " هذا المثال لغزاً فقال في " أحاجيه ": أخبرني عن مُعَرَّفٍ في حكم التنكير.
وقال في شرحه: تقول ما دخلت على الرجل مثلك إلا أكرمني، كأنك قلت: على رجل مثلك.
والذي سوغ ذلك ما فيه من الإبهام؛ لوقوعه على غير معين، ألا ترى أن النكرة والمعرفة في نحو هذا الموقع لا يكاد يبين الفرق بينهما، ولا يتفاوت المعنيان تفاوتا ظاهرا، وذلك أن معنى على رجل مثلك: على واحد غير معين من جنس الرجال، ومعنى على الرجل مثلك: على الواحد من آحاد هذا الجنس، مشارا

(1/236)


باللام إلى معلوم المخاطب الثابت عنده، أن (1) الواحد من الرجال ما هو، ولا إشارة في الأول.
ومنه (غير المغضوب عليهم) لما كان المنعم عليهم مبهمين جرى عليهم (غير) الذي توصف به النكرات، وقال:
ولقد أمر على اللئيم يسبني. . . فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وقال:
لَعَمرِي لأنتَ البَيْتُ أكْرِمُ أَهْلُه. . . وَأَقْعُدُ في أَفْنَائِهِ بِالأَصَائِلِ (2)
كأنه قال: لأنت بيت (3). انتهى.
قوله: (أو جعل غير معرفة بالإضافة؛ لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد) إلى آخره.
وفي " شرح المفصل " للأندلسي: قال صدر الأفاضل (4): اعلم أن " غيراً " لها ثلاثة مواضع:
أحدها: أن تقع موقعا لا تكون فيه إلا نكرة، وذلك إذا أريد به النفي الساذج في نحو مررت برجل غير زيد، تريد أن الممرور به ليس بهذا.
الثاني: أن تقع موقعا لا تكون فيه إلا معرفة، وذلك إذا أريد به شيء قد عرف بمضادة المضاف إليه في معنى لا يضاده فيه إلا هو، كما إذا قلت: مررت بغيرك، أي المعروف بمضادتك، إلا أنه في هذا لا يجري صفة، فيذكر غير جار على الموصوف.
وأما قولهم: الحركة غير السكون فمستكره؛ لأن غيراً هاهنا يجري مجرى الكناية، فلذلك يتعرّف، والمثال الجيد قول أبي الطيب (5):

(1/237)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الصفحة ساقطة من النسخة المصورة

(1/238)


قوله: (على الحال من الضمير المجرور) زاد غيره: أومن (الذين)
قال أبو حيان: وهو خطأ؛ لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز (1).
قوله: (والعامل (أنعمت)
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن مثل هذا ليس من اختلاف العامل في الحال، وذي الحال؛ إذ العمل في مجموع الجار والمجرور عمل في المجرور، بمعنى أنه غير خارج عن المعمولية، على أن التحقيق أن المنصوب المحل، والمرفوع المحل هو المجرور فقط؛ لأن أثر الجار إنما هو في تعدية الفعل وإفضائه إلى الاسم، وبهذا يندفع ما يقال: إن الإسناد إليه من خواص الاسم، والجار مع المجرور ليس باسم (2).
قوله: (أو بإضمار أعني)
قال أبو حيان: عزي إلى خليل، وهو تقدير سهل (3).
قوله: (أو بالاستثناء)
قال الطيبي: منعه الفراء؛ لأنه حينئذٍ بمعنى سوى، فلا يجوز أن يعطف عليه بـ " لا "؛ لأنها نفي، فلا يعطف بها إلا على نفي (4)، فلا يجوز جاءني القوم إلا زيدا، ولا عمراً، وأجازه الأخفش، وقال: معناه لا زيداً (5)، فجاز العطف عليه بـ " لا " حملا على المعنى (6).
وقال أبو حيان: النصب على الاستثناء، قاله الأخفش، والزجاج وغيرهما، وهو استثناء منقطع؛ إذ لم يتناوله اللفظ السابق، و " لا " على هذا القول صلة، أي زائدة، مثلها في قوله تعالى (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [سورة الأعراف 12] انتهى.

(1/239)


قوله: (والغضب ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد المنتهى والغاية)
قال الطيبي: الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام، وهو على الله تعالى محال، فيحمل على إرادة الانتقام
والقانون في أمثاله هو أن جميع الأعراض النفسانية مثل الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والمكر، والخداع، والاستهزاء، لها أوائل، وغايات، فإذا وصف الله تعالى بشيء منها يكون محمولا على الغايات، لا على البدايات.
مثاله الغضب ابتداؤه غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى يحمل على إرادة الانتقام - كما قاله - لا على غليان دم القلب (1).
وقال الشيخ أكمل الدين لهم: في الجواب عن مثل هذا وجهان:
أحدهما: أنه من باب إطلاق لفظ موضوع لأمر مع غايته على غايته فقط؛ فإن لفظ الغضب موضوع لغليان الدم لإرادة الانتقام، فاستعمل لإرادة الانتقام خاصة، وهو مطرد في أكثر الكيفيات النفسانية.
والثاني: أنه من باب التمثيل البياني.
قال: وأقول: يجوز أن يكون من باب الاشتراك اللفظي، بأن يكون الغضب موضوعا للأمرين جميعا، وللثاني خاصة، واستعماله فيمن يستحيل عليه غليان الدم قرينة لإرادة أحد المعنيين، كما يقال: الحي مشترك بين الله تعالى وبين غيره اشتراكا لفظيا، فيكون موضوعا لمن قامت به قوة يفيض عنها سائر القوى الحيوانية، ولباق لا سبيل للفناء عليه.
قال: ولقائل أن يقول: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك فالمجاز أولى؛ لأن الاشتراك يخل بالمقصود، والمرجوح عند الراجح كالمعدوم، فلا معنى لهذا الوجه.
والجواب - بعد إبطال دلائل ترجيح المجاز -: أن الترجيح موقوف على

(1/240)


وقوع التعارض بين كون اللفظ مجازا أو مشتركا، وذلك فاسد لا تحقق له، والبناء على الفاسد فاسد، ودْلك لأن ذلك لا يتحقق إلا إذا تعذر المدلول ولا قرينة ثمت، وحينئذ إن تردد الذهن كان مشتركا ليس إلا، وإن سبق إلى خلاف ما وضع له كان مجازا ليس إلا، وإن سبق إلى خلاف ما وضع له لا يكون مشتركا، لانتفاء لازمه، وهو تردد الذهن، ولا مجازا؛ لأنه إذ ذاك حقيقة.
نعم أطبق علماء البيان على أن المجاز لكونه دعوى الشيء ببينة أبلغ من الحقيقة، لكن لا يمنع أن يكون غيره بليغا، على أن كلامنا في المشترك، وقد يكون الفهم الإجمالي مرادا، فيكون استعمال المجاز خطأ، لكونه على خلاف مقتضى الحال (1).
قوله: (على ما مر) أي في الرحمن الرحيم
قوله: (و (عليهم) في محل رفع؛ لأنه نائب مناب الفاعل، بخلاف الأولى)
أي فإنها في محل نصب على المفعولية، كما أفصح به في " الكشاف " (2) قال الشيخ أكمل الدين: اعترض عليه بأن الذي في محل الرفع والنصب هو المجرور، وأما الجار فهو آلة التعدية، كالتضعيف والهمزة، وليس لها في إعراب ما بعدها مدخل.
وأجيب بأن المصنف لعله اختار ما ذكره أبو عليّ في " الحجة " من تعلقه بالجانبين، حيث قال: كثيرا ما يجتمع في الشيء الواحد الشبه من وجهين، ومن أصلين، فمن ذلك حروف الجر في مررت بزيد ونحوه، هو من جهة بمنزلة جزء من الفعل، ومن أخرى بمنزلة جزء من الاسم.
أما الجهة الأولى فلأنه قد أنفذ الفعل إلى المفعول وأوصله، كما أن الهمزة في نحو أذهبت قد فعلت ذلك، وكما أن تضعيف العين في خَرَّجْتُهُ قد فعل ذلك.
وأما الثانية فلأنه قد عطف عليه بالنصب في مررت بزيد وعمرا لما كان موضع الجار والمجرور نصبا، ومن ثم قدم الاسم (3) في بمن تمرر أمرر به (4).
واعترض عليه بأن العطف بالنصب لا دلالة له على أن الجار والمجرور

(1/241)


معطوف عليه؛ لجواز أن يكون العطف على محل المجرور خاصة.
وأقول: لعلة غير صحيح؛ لأن الإعراب المحلي إنما يستعمل فيما لم يكن له إعراب لفظي، والمجرور ليس كذلك، والجار والمجرور كذلك (1). انتهى.
قوله: (و (لا) مزيدة لتأكيد ما في (غير) من معنى النفي، فكأنه قال: لا المغضوب عليهم، ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب، كما جاز أنا زيدا لا ضارب وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب)
قال أبو حيان في إعرابه: و (لا) في قوله (ولا الضالين) لتأكيد معنى النفي؛ لأن غيرا فيه معنى النفي، كأنه قيل: لا المغضوب عليهم، ولا الضالين، وعين دخولها العطف على قوله (المغضوب عليهم) لمناسبة " غيرٍ " ولئلا يتوهم بتركها عطف (الضالين) على (الذين)
ولتقارب معنى " غير " من معنى " لا " أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال: " وتقول: أنا زيدا غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيدا مثل ضارب؛ لأنه بمنزلة قولك: أنا زيدا لا ضارب "
يريد أن العامل إذا كان مجرورا بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه، ولا على المضاف، لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه " غير " وأجازوا تقديم معموله على " غير " إجراء لـ " غير " مجرى " لا " فكما لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها فكذلك " غير ".
وأورد الزمخشري هذه المسألة على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ليقوي بها التناسب بين " غير " و " لا " إذ لم يذكر فيها خلافا.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جدا، وبناه على جواز أنا زيدا لا ضارب، وفي تقديم معمول ما بعد " لا " عليها ثلاث مذاهب، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضي له بأن تجري أحكامه عليه، ولا نثبت تركيبا إلا بسماع من العرب، ولم نسمع أنا زيدا غير ضارب، وذكر الأصحاب قول من جوزه، وردوه (2). انتهى كلام أبي حيان.
وفي حاشية الطيبي: قال الزجاج: النحويون يجوزون أنت زيدا غير ضارب،

(1/242)


ولا يجوزون أنت زيدا مثل ضارب؛ لأن زيدا من صلة ضارب، فلا يتقدم عليه (1).
قال الطيبي: وذلك أن وقوع المعمول فيما لا يقع فيه عامله ممتنع، فامتنع قولك: أنا زيدا مثل ضارب؛ لأن " مثل " مضاف إلى ضارب، و " زيدا " معموله، فكما لا يجوز تقديم " ضارب " على المثل؛ لأنه مضاف إليه للمثل لا يجوز تقديم " زيدا " عليه، وقولك: أنا زيدا عْيز ضارب إنما يجوز لأن غير لما كان متضمنا معنى النفي كان بمنزلة أنا زيدا لا ضارب، والإضافة في " غير " كلا إضافة.
وقال الشيخ أكمل الدين: قالوا إن من الأصول المقررة عند النحاة أن وقوع المعمول في موضع لا يقع فيه عامله ممتنع، ففي قولك أنا زيدا مثل ضارب لا يجوز تقديم " ضارب " على " مثل "؛ لئلا يلزم تقديم المضاف إليه على المضاف، وفي قولك: أنا زيدا غير ضارب جاز؛ لأن " غيرا " بمعنى " لا "، وجاز أنا زيدا لا ضارب.
واعترض عليه بأنه مخالف للأصل المذكور؛ لوقوع المعمول في موضع لا يقع فيه عامله، حيث لا يجوز أنا زيدا ضارب لا، وهو غلط؛ لأن " لا " ليس بعامل في ضارب.
ومعنى قولهم: لا يقع فيه عامله، عامله الذي هو معمول (2).
وقال الشيخ سعد الدين: قدم في المثال مفعول اسم الفاعل المنفي عليه، وامتناع تقديم ما في حيز النفي عليه إنما هو في " ما " و " إن " ما دون " لا " و " لم " و " لن " وذلك لأن " ما " تدخل على القبيلتين، فتشبه الاستفهام، و " لم " و " لن " يختصان بالفعل، ويكونان كالجزء منه، وأما " لا " وإن دخلت على القبيلتين إلا أنها حرف متصرف فيها جاز عمل ما قبلها فيما بعدها، مثل جئت بلا شيء، وأريد أن لا تخرج، فجاز العكس أيضاً (3).
وقال بعض أرباب الحواشي: قول الزمخشري: " لما في غير من معنى النفي (4) " إشارة إلى قاعدة، وهي أن الكلام إذا كان فيه نفي (5) وفسر بمثبت جاز أن

(1/243)


تأتي في المثبت بالنفي " وأن تحذفه. أنشد ابن عطية " (1):
ما كان يَرْضَي رَسولُ اللهِ فِعْلَهُمُ. . . والطُّيِّبَانِ أَبُو بَكْر وَلا عُمَرُ (2)
وقياسه: والطيبان أبو بكر وعمر، لكن لما صدر الكلام بقوله: " ما كان " جاز أن يقول: ولا عمر أيضا يرضى، وتقول: زيد ليس بظالم، يسبي الحريم، ويأخذ الأموال، فقولك: يسبي الحرام، ويأخذ الأموال جملتان صورتهما صورة المثبت، وهما منفيان بنفي ما فسرته بهما، فلك ثلاثة أوجه:
لك أن تدخل " لا " على كليهما فتقول زيد ليس بظالم، لا يسبي الحريم، ولا يأخذ الأموال، ولك أن تنفيهما عنهما كما مثلت أولا، ولك أن تحذفها عن الأول وتثبتها في الثاني، ولم أرَ القسم الرابع في كلامهم، والثالث أفصح الثلاثة، كما في قوله تعالى (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) [سورة البقرة 71] وقوله تعالى (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) [سورة الأحقاف 9] وكما في البيت الذي أنشده ابن عطية انتهى.
قوله: (وقرئ وغير الضالين)
أخرجه سعيد بن منصور، وأبو عبيد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3)
قوله: (وقيل (غير المغضوب عليهم) اليهود) إلى آخره
هذا من العجب العجاب (4)، تضعيفه التفسير الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وجميع الصحابة والتابعين، واختراعه تفسيرا برأيه، وجعله أنه المتجه.

(1/244)


أخرج أحمد في " مسنده " والترمذي - وحسنه - وابن حبان في " صحيحه " وغيرهم، عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى (1) ".
وأخرجه ابن مردويه عن أبي ذر بلفظ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قول الله (غير المغضوب عليهم) قال: " هم اليهود " (ولا الضالين) قال: " النصارى (2) ".
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم التفسير بذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، والربيع بن أنس (3)، وزيد بن أسلم (4)، وابنه (5) عبد الرحمن (6).
قال ابن أبي حاتم: ولا أعلم في ذلك خلافا بين المفسرين (7).
فهذه منه حكاية إجماع، فكيف يجوز العدول عنه، وعن النص المرفوع إلى قول بالرأي؟.
وأعجب من ذلك من حكى في تفسير الآية عدة أقوال، كالإمام (8)، والماوردي (9)،

(1/245)


وسليم (1)، وكل ذلك (2) ساقط، لا يعول عليه.
قال الراغب: فإن قيل: كيف فسر على ذلك، وكلا الفريقين ضال، ومغضوب عليه؟
قيل: خص كل فريق منهم بصفة كانت أغلب عليهم وإن شاركوا غيرهم في صفات ذم (3).
قوله: (وقرئ ولا الضألين بالهمزة)
قال ابن جني: قرأها أيوب السختياني، فسئل عن الهمزة فقال: هي بدل من المدة؛ لالتقاء الساكنين، ونظيره قراءة عمرو بن عبيد: إنس ولا جأنٌّ، وسمع شأبَّة، ومأدَّة (4).
قوله: (على لغة من جدّ في الهرب)
قال الطيبي: لأن التقاء الساكنين فيما إذا كان أولهما حرف لين، والثاني مدغما فيه مغتفر، وإذا هرب عن هذا الجائز فقد جدّ في الهرب (5).
وقال السمين: قد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان، قال الشاعر:
وخِنْدِفٌ هَامة هذا العَأْلمَِ (6)
بهمز العالم، والظاهر أنها لغة مطردة، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان (7) (منسأْته) بهمزة ساكنة (8): إن أصلها ألف، فقلبت بهمزة ساكنة (9). انتهى.

(1/246)


قوله: (آمين، اسم فعل الذي هو استجب)
الشيخ سعد الدين: هذا تحقيق لكونه اسما، مع أن مدلوله طلب الاستجابة، كاستجب، بمعنى أن دلالته على معنى استجب ليس من حيث إنه موضوع لذلك المعنى؛ ليكون فعلا، بل من حيث إنه موضوع لفعل دالٍّ على طلب الاستجابة، وهو استجب، كوضع سائر الأسماء لمدلولاتها.
وتحقيق ذلك أن كل لفظ وضع بإزاء معنى اسما كان، أو فعلا، أو حرفا، فله اسم علم، هو نفس ذلك اللفظ من حيث دلالته على ذلك الاسم، أو الفعل، أو الحرف، كما تقول في قولنا: خرج زيد من البصرة: " خرج " فعل، و " زيد " اسم، و" من " حرف جر، فتجعل كلا من الثلاثة محكوما عليه، لكن هذا وضع غير قصدي، لا يصير به اللفظ مشتركا، ولا يفهم منه معنى مسماه.
وقد اتفق لبعض الأفعال أن وضعت لها أسماء أخر غير ألفاظها، تطلق ويراد بها الأفعال من حيث دلالتها على معانيها، وسموها أسماء الأفعال، فآمين اسم موضوع بإزاء لفظ " استجب " أو ما يرادفه من صيغ طلب الاستجابة، لكن لا يطلق ويقصد به نفس اللفظ، كما في الأعلام المذكورة، بل ليقصد به " استجب " الدال على طلب الاستجابة، حتى يكون " آمين " مع أنه اسم لا ستجب كلاما تاما، بخلاف استجب الذي هو أمر.
ولما كانت اسمية أسماء الأفعال مبنية على هذا التدقيق ذهب بعض النحاة إلى أنها أسماء المصادر السادة مسد الأفعال، وإن جعلها أسماء الأفعال، ومفيدة لمعانيها قصرا للمسافة، ولهذا قال الزجاج: إن " آمين " حرف موضوع موضع الاستجابة، كما أن " صه " موضوع موضع السكوت، إلا أنهم احتاجوا إلى الفرق بينها وبين المصادر المنصوبة السادة مسد الأفعال، سيما التي لا أفعال لها، ولا تصرف فيها، حيث بنيت هذه، وأعربت تلك (1).
وقال ابن جني في " الخصائص: فإن قيل: ما الفائدة في وضع أسماء الأفعال؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: السعة في اللغة للاحتياج في قافية، أو وزن

(1/247)


والثاني: المبالغة، وذلك أنك في المبالغة لابد أن تترك موضعا إلى موضع، إما لفظا إلى لفظ، وإما جنسا إلى جنس، كلما تعدل عن عويض إلى عراض، وعن حسن ووضيء وكريم إلى حسان، ووضاء، وكرام؛ لأنها أبلغ.
والثالث: ما في ذلك من الإيجاز والاختصار، وذلك أنك تقول صه للواحد والاثنين والجمع والمؤنث، بخلاف اسكت، فلما اجتمعت هذه الفوائد وضعت، ومع ذلك فإنهم أبعدوا أحوالها من أحوال الفعل المسمى بها، وتناسوا تصريفه لتناسيهم حروفه.
ويدل على ذلك أنه لا ينصب المضارع بعدها مقرونا بالفاء، لا تقول: صه فتسلم؛ لأنه إنما نصب في جواب الفعل لتصور معنى المصدر فيه؛ لأن معنى " زرني فأكرمك " لتكن زيارة منك، فإكرام مني، فزرني دل على الزيارة؛ لأنه من لفظه، وليس كذلك صه؛ لأنه ليس من الفعل في قبيل ولا دبير، وإنما هو صوت أوقع موقع حروف الفعل، فلما لم يكن فعلا، ولا من لفظه قبح أن يستنبط منها معنى المصدر؛ لبعدها عنه. انتهى (1).
قوله: (وعن ابن عباس سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن معناه فقال: افعل)
أخرجه الثعلبي من طريق الكلبي (2)، عن أبي صالح (3)، عنه (4)
قوله: (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ آمِينَا
صدره:
يَا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّيْ حُبَّهَا أَبَداً (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/248)


وقبله:
بَاتَتْ رَقُوْداً، وسَارَ الرَّكْبُ مُدَّلِجًا. . . وَمَا الأَوَاْنِسُ فِي فِكْرٍ لِسَارِيْنَا
كَأنَّ رِيْقَتَها مِسْكٌ عَلى ضَرَبٍ. . . شِيْبَتْ بِأصْهُبَ مِنْ بيع الشّأمِيْنَا
كذا. أورده صاحب (1) الحماسة البصرية (2)، ولم يسم قائله
قوله: (. . . . . . . . . . . . . . . آمِيْنَ فَزادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدا)
قال البطليوسي في " شرح الفصيح (3) ": هو لجبير بن الأضبط، وكان سأل الأسدي حمالة فَحَرَمَهُ، فقال:
تَبَاعَدَ مِنِّيْ فُطْحُلٌ أنْ (4) سَألْتُهُ. . . أَمِيْنَ فَزادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْداً
" قال: وفطحل اسم الأسدي، وفيه روايتان: روية الكوفيين بضم الفاء، ورواية البصريين بفتحها، وكان يجب أن يقع " أمين " بعد قوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فزاد الله ما بيننا بعدا
لأن التأمين يقع بعد الدعاء.
وذكر ابن درستويه أن القصر ليس بمعروف، وإنما قصره الشاعر في هذا البيت للضرورة، وروي البيت:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فآمين زاد الله ما بيننا بعدا
بالمد وتقديم الفاء، فلا يكون فيه احتجاج (5). انتهى.
وقال التبريزي في " شرح أبيات إصلاح المنطق ": الوجه أن يقال:
" فزاد الله ما بيننا بعدا آمين " فقدم وأخر للضرورة (6).
وقال غيره: الرواية:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فآمين زاد الله. . . . . . ..
وعلى هذا فلا شاهد فيه على القصر قوله (لقوله عليه الصلاة والسلام:

(1/249)


" علمني جبريل عند الفراغ (1) من قراءة الفاتحة، وقال: إنه كالختم على الكتاب ")
روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " والبيهقي في " الدلائل ": عن أبي ميسرة أن جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلّم فاتحة الكتاب، فلما قال: (ولا الضالين) قال له: قل: آمين، فقال: آمين (2).
وروى أبو داود في " سننه " عن أبي زهير النميري (3) أحد الصحابة أنه قال: آمين مثل الطابع على الصحيفة، أخبركم عن ذلك: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة فاتينا على رجل قد ألح في المسألة، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: " أوجب إن ختم " فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ فقال: " بآمين (4) "
وقد عرف بهذا أن المصنف أورد حديثين، لا حديثا واحدا، وأن الضمير في قوله وقال، للنبي صلى الله عليه وسلّم، لا لجبريل.
قال الشيخ أكمل الدين، والشيخ سعد الدين في قوله: " كالختم على الكتاب ".
يعني أنه يمنع الدعاء من فساد الخيبة، كما أن الطابع على الكتاب يمنع فساد ظهور ما فيه على الغير.
زاد الشيخ أكمل الدين: ومعنى قوله: " أوجب " إجابة الدعاء (5)
قوله: (وفي معناه قول علي رضي الله تعالى عنه عند آمين: خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده)
لم أقف عليه عن علي، وإنما أخرجه الطبراني في " الدعاء " وابن عدي في " الكامل " وابن مردويه في " التفسير " بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " آمين خاتم رب العالمين على عباده
_______
(1) كذا في النسخ، وفي طبعات أنوار التنزيل: جبريل آمين عند فراغي.

(1/250)


المؤمنين (1) "
قوله: (لما روي عن وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ (ولا الضالين) قال: " آمين " ورفع بها صوته).
أخرجه أبو داود، والترمذي، والدارقطني - وصححه - وابن حبان (2).
قوله: (والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عنه عبد الله بن مغفل، وأنس قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه (3).
وأخرج الطبراني في " الكبير " عن أبي وائل (4) قال: كان علي، وعبد الله - يعني ابن مسعود - لا يجهران بالتأمين (5)
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا قال الإمام: (ولا الضالين) فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (6) ")
أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، ووقع في " أمالي الجرجاني (7) " في آخر هذا الحديث زيادة (8): " وما تأخر (9) " وعليها اعتمد الغزالي في

(1/251)


" الوسيط (1) ".
وأحسن ما فسر به هذا الحديث ما رواه عبد الرزاق، عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد (2).
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: مثل هذا لا يقال بالرأي، فالمصير إليه أولى (3).
قوله: (وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأبيّ: " ألا أخبرك بسورة. . .) (الحديث)
أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، والحاكم، وصححه على شرط مسلم (4).
قوله: (وعن ابن عباس بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس إذ أتاه ملك. . . الحديث) أخرجه مسلم (5).
قوله: (وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا، فيقرأ صبي من صبيانهم في الكُتّاب (الحمد لله رب العالمين) فيسمعه الله تعالى، فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ")
أخرجه الثعلبي في " تفسيره (6) "، وهو موضوع.
قال الشيخ ولي الدين العراقي: في سنده أحمد بن عبد الله الجويباري (7)،

(1/252)


ومأمون بن أحمد الهروي (1)، كذّابان، وهو من وضع أحدهما (2).
وقال الطيبي: المكتب، والكُتُّاب مكان التعليم، وقيل: الكتاب الصبيان (3).
الجوهري: الكُتَّاب الكتبة، والكُتُّاب أيضاً والمكتب واحد (4).
وعن المبرد من قال للموضع: الكتاب فقد أخطأ (5).
وتعقبه الشيخ أكمل الدين بأن الأزهري نقل (6) عن الليث (7) - تلميذ الخليل - إطلاقه على المكان أيضاً، موافقا لما ذكره الجوهري في " صحاحه (8) ".
وفي معنى الحديث ما أخرجه الدارمي في مسنده عن ثابت بن عجلان الأنصاري (9) قال: كان يقال: إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض، فإذا سمع تعليم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم (10).
يعني بالحكمة القرآن، ولفظ " كان يقال " حكمه الرفع، فإن صدر من صحابي كان مرفوعا متصلا، أو من تابعي فمرفوع مرسل.
وقال الإمام أحمد في " الزهد ": حدثنا سيار (11)،. . . . . . . . . . . . .

(1/253)


حدثنا جعفر (1) قال: سمعت مالك بن دينار (2) يقول: إن الله عز وجل يقول:
" إني أريد أن أعذِّبَ عبادي، فإذا نظرت إلى جلساء القرآن، وعمّار المساجد، وولدان الإسلام سكن غضبي (3) ".
يقول: صرفت عذابي.
* * *
تنبيه: عادة المفسرين ذكر ما ورد في فضل السور في أولها؛ لما فيه من الترغيب والحث على حفظها، وذكره الزمخشري - وتبعه المصنف - في آخرها.
وقد سئل الزمخشري عن وجه ذلك، فأجاب بأن الفضائل صفات لها، والصفة تستدعي تقديم الموصوف.

(1/254)


سورة البقرة
قوله: (وسائر الألفاظ التي يتهجا بها)
في " الأساس ": هو يهجو الحروف ويتهجاها، يعددها، ومن المجاز فلان يهجو فلانا هجاء، يعدد معايبه (1).
الشريف: التهجي تعديد الحروف بأسمائها (2).
الشيخ أكمل الدين: قالوا: التهجي تعديد الحروف، فإنك إذا قلت: " ضرب " مركب من ض رب فقد عددت الحروف البسيطة التي هي مادة الكلمة قبل أن تجعل له صيغة (3).
قوله: (لدخولها في حد الاسم)
قال الإمام فخر الدين: لأن الضاد مثلا لفظة مفردة دالة بالتواطئ على معنى مستقل بنفسه، من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى، وذلك المعنى هو الحرف الأول من " ضرب (4) ".
قوله: (واعتوار ما يختص به) أي تداوله
قوله: (من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك)
قال في " الكشاف ": " كالإمالة والتفخييم والوصف والإسناد والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة (5) "
قال الشيخ سعد الدين: كالتثنية والنسبة والنداء (6)
قوله: (وبه صرح الخليل وأبو عليًّ)
في " الكشاف ": " قال سيبويه: قال الخليل يوما - وسأل أصحابه -: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في " ذلك " والباء التي في " ضرب "، فقيل: نقول: با، كافْ، فقال: إنما جئتم بالاسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: " كه "، " به "

(1/255)


وذكر أبو علي في كتاب " الحجة " في " يس " وإمالة " يا ": أنهم قالوا: يا زيد
في النداء، فأمالوا وإن كان حرفا، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف
من أجل الياء فلأن يميلوا الاسم الذي هو " يس " أجدر، ألا ترى أن هذه الحروف
أسماء لما يلفظ بها (1).
قوله: (وما روي عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف (2) ").

(1/256)


أخرجه الترمذي، وقال: صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة غيره، ولا هو في مسند الإمام أحمد على كبره.
نعم أخرجه البخاري في " تاريخه "، وابن الضريس (1) في " فضائل القرآن " وأبو بكر ابن الأنباري في " كتاب المصاحف " والحاكم في " المستدرك "، وصححه، وأبو ذر الهروي (2) في " فضائل القرآن "، والبيهقي في " شعب الإيمان ".
وأخرجه سعيد بن منصور في " سننه "، وابن أبي شيبة، والدارمي عن ابن مسعود موقوفا.
قوله: (فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدد، بل المعنى اللغوي، ولعله سماه باسم مدلوله)
عبارة الإمام: سماه حرفا مجازا لكونه اسم الحرف، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور (3).
قوله: (وحدانا) جمع واحد، كركبان جمع راكب
قوله: (واستعيرت الهمزة مكان الألف)
قال الطيبي: ذكر ابن جني في " سر الصناعة " إن الألف في الأصل اسم الهمزة، واستعمالهم إياها في غيرها توسع، وذلك أن الهمزة تصير هذه المدة إذا أتى في آخر الاسم، ثم لما غلب استعمال الألف في هذه المدة أهمل ما وضع عليها (4).
قوله: (وهي ما لم تلها العوامل)
قال الشريف: أي تقترن بها وتتعلق بها، سواء تقدمت عليها أو تأخرت عنها (5).
قوله: (موقوفة خالية عن الإعراب)

(1/257)


قال الطيبي: يعني أن سكونها ليس للبناء؛ لأن الأسماء المبنية إما مبنية على الحركة كأين، وكيف، وهؤلاء، أو على السكون على وجه لا يلزم منه التقاء الساكنين كمتى، وحتى، وهذه ليست كذلك؛ لأنها لو بنيت لقيل صادَ، وقافَ بالفتح كالمبنيات، ولم يقل: صاد وقاف، بهزيد وعمرو جمعا بين الساكنين.
قال: والوقف قطع الكلمة عما بعدها، وهذه الفواتح وإن وصلت بما بعدها لفظا لكنها موقوفة نية (1).
قوله: (لفقد موجبه ومقتضيه)
قال الطيبي: وهو التركيب (2)
الشيخ أكمل الدين: قد اختلف النحويون في أن هذه الألفاظ قبل التركيب معربة أو مبنية، فمنهم من ذهب إلى أنها مبنية، وعَرَّفَ المبني بما ناسب مبني الأصل، أو وقع غير مركب، وعرّف المعرب بالمركب الذي لم يشبه مبني الأصل، واختار المصنف أنها معربة، وقال: المعرب هو ما لو اختلف العوامل في أوله لاختلف آخره، وهذه الأسماء بهذه المثابة، فإنك تقول: هذه ألف، وكتبت ألفا، ونظرت إلى ألف (3).
وعلى هذا لا فرق بين هذه الأسماء، وبين زيد وعمرو قبل التركيب، فمن جعلها مبنية جعلها كذلك، ومن جعلها معربة جعلها كذلك.
لكن اعترض على المصنف بأن كلامه متناقض، فإن القول بأنها معربة ينافي القول بأن لا يمسها الإعراب، لفقد موجبه، وإذا فقد مقتضى الإعراب وجب البناء؛ إذ لا متوسط.
قال: وأقول: لا تناقض في كلامه؛ لأن المعرب يطلق على الاسم الذي هو معروض الإعراب، مع عارضه، وعلى المعروض فقط بالاشتراك اللفظي، فالمراد بالمعرب في قوله: " أسماء معربة " المعروض فقط، وبقوله: " لا يمسها إعراب (4) " نفي المعرب بالمعنى الأول (5). انتهى.

(1/258)


وكذا قال الشيخ سعد الدين، فرق بين المعرب بالمعنى المقابل للمبني، والمعرب بالمعنى الذي مسه وأدركه الإعراب، والقصد هاهنا إلى بيان الأول (1).
قلت: هذا التناقض إنما يأتي على كلام " الكشاف "؛ لأنه صرح بأنها معربة، وبأنها خالية عن الإعراب، لفقد مقتضيه وموجبه (3).
والمصنف لم يصرح بأنها معربة، بل اقتصر على كونها خالية من الإعراب، ثم قال: (لكنها قابلة إياه، معرضة له؛ إذ لم تناسب مبني الأصل) فكأنَّه أراد بذلك بيان معنى قول " الكشاف ": " إنها معربة " () 3 أي أنها قابلة للإعراب، معرضة له، غير مبنية؛ لفقد سبب البناء.
وهذا حوم حول المذهب الثالث فيها: أنها واسطة بين المعرب والمبني، وقول المعترض السابق: إذ لا متوسط، ناشئ عن عدم الإطلاع؛ إذ القول بذلك هنا ثابت مشهور.
قال أبو حيان: في " إعرابه ": (ألم) أسماء، مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، ؤهي موقوفة الآخر لا يقال: إنها معربة؛ لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب، ولا يقال: إنها مبنية، لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول: هذه ألف حسنة، ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة أسماء العدد إذا عدوا، يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة (4).
وقال ابن فاسم في (5) " شرح الألفية ": وذهب قوم إلى أن الأسماء قبل التركيب موقوفة، لا معربة ولا مبنية، واختاره ابن عصفور (6).

(1/259)


ومما يناسب التقرير (1) الأول قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": المراد بالمعرب ما كان فيه إعراب، أو كان قابلا للإعراب، وليس المراد منه أن يكون فيه إعراب لا محالة، ألا ترى أنك تقول في زيد ورجل: إنهما معربان وإن لم يكن فيهما في الحال إعراب؛ لأن الاسم إذا كان وحده مفردا من غير ضميمة إليه لم يستحق الإعراب؛ لأن الإعراب إنفا يؤتى به للفرق بين المعاني، فإذا كان وحده كان كصوت تصوت به، فإن ركبته مع غيره تركيبا تحصل به الفائدة، فحينئذٍ يستحق الإعراب (2).
قوله: (عنصر الكلام وبسائطه)
في " الصحاح ": العُنْصُرُ والعُنْصَرُ الأصل (3). والبسائط جمع بسيطة، بمعنى مبسوطة، وهي المنشورة.
قوله: (افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظا لمن تحدي بالقرآن، وتنبيها على أن المتلوَّ عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم)
اختار المصنف هذا القول تبعا لصاحب " الكشاف " (4)، وهو رأي لبعضهم، ولم يثبت عن أحد من الصحابة والتابعين ولا أتباعهم.
قوله: (لما عجزوا عن آخرهم)
قال الطيبي: أي عجزا صادرا عن آخرهم، فإذا صدر العجز عن آخرهم فيكون قد صدر عن جميعهم متجاوزا عن آخرهم (5).
وقال الشيخ أكمل الدين: تقديره: عن أولهم إلى آخرهم، فحذف متعلق " عن "، ومتعلق " آخرهم " (6).
قوله: (حروف المعجم)

(1/260)


قال في " الصحاح ": العجم النقط بالسواد وغيره، مثل: على التاء نقطتان، يقال: أعجمت الحروف، ومثله التعجيم، ولا تقل: عجمت، ومنه حروف المعجم، وهي الحروف المقطعة التي يختص أكثرها بالنقط من بين سائر حروف الأمم، ومعناه حروف الخط المعجم، كمسجد الجامع، أي مسجد اليوم الجامع، وناس يجعلون المعجم بمعنى الإعجام مصدراً، مثل المدخل والمخرج، أي من شأن هذه الحروف أن تعجم (1). انتهى.
قال الشيخ سعد الدين: وقد يقال: معناه حروف الإعجام، أي إزالة العجمة، وذلك بالنقط (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: روى الأزهري عن الليث قال: المعجم الحروف المقطعة، سميت معجمة لأنها أعجمية، أي لا بيان لها، وإن كانت أصلا للكلام كله (3).
قوله: (المجهورة) هي ما ينحصر جري النفس مع تحركه، وحروفها: ظل قو ربض إذا غزا جند مطيع.
ْقوله: (ومن الشديدة) هي ما ينحصر جري الضوت عند إسكانه في مخرجه، فلا يجري، والرخوة ضدها
قوله: (ومن المطبقة) هي ما ينطبق ما يحاذي اللسان من الحنك عليه عند خروجها، والمنفتحة ضدها.
قوله: (ومن القلقة) هي ما ينضم إلى الشدة فيها ضغط في الوقف.
قوله: (اللام في " أصيلال ") أي فإنها بدل من النون.
قال في " الصحاح ": الأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أُصُلٌ، وآصال، وأصائل، ويجمع أيضاً على أُصْلان مثل بعير وبُعران، ثم صغروا الجمع، فقالوا: أُصَيْلان، ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا: أصيلال (4).
وفي " تذكرة " أبي عليّ الفارسي: إن قيل في " أصيلال ": كيف زعمتم أن اللام بدل من النون في " أصيلان "، وهلا قلتم: إن اللام لام كررت، والنون في "

(1/261)


أصيلان " بدل منها؟
قيل: هذا لا يجوز؛ لأن اللام لو كانت أصلا لم تثبت في التحقير الألف قبل اللام، ولانقلبت ياء، ألا ترى أنه لا يجوز في " شُمْلال " إلا شُمَيْلِيْل، فلو كانت اللام الأصل لكانت مثل شميليل في التحقير، ولا يكون أُصَيْلال جمعًا؛ لأن هذا الضرب من الجمع لا يحقر، ولكنه اسم اختص به التحقير، كسائر الأسماء التي لم تستعمل في غير التحقير.
قوله: (والفاء في " جدف " والثاء في " ثروغ " الدلو)
يريد بذلك إبدال الثاء فاء، وإبدال الفاء ثاء.
قال ابن السكيت في كتاب " الإبدال ": باب الفاء والثاء، يقال: جدف، وجدث للقبر. . . إلى أن قال: ويقال: هو فروغ الدلو، وثروغها (1). والفرغ مخرج الماء من الدلو من بين العراقي.
قوله: (والعين في " أعن ")
يشير إلى إبدال الهمزة عينا في لغة تميم، يقولون في نحو: أعجبني أن تفعل: عن تفعل، قال ذو الرمة:
أَعَنْ تَوَسَّمْتَ (2) مِنْ خَرْقَاءَ مَنْزِلَةً. . . مَاءُ الصَّبَابَةِ مِنْ عَيْنَيْكَ مَسْجُوْمُ (3)
أي أَأَنْ، وكذا يفعلون في " أَنَّ " المشددة، فيقولون: أشهد عنَّ محمدا رسول الله، وتسمى عنعنة تميم.
قوله: (والباء في با اسمك) يشير إلى إبدال الميم باء في لغة مازن.
قال المازني: فى خلت على الخليفة الواثق (4) فقال لي: ممن الرجل؟ فقلت: من بني مازن، فقال: با اسمك؟ يريد ما اسمك، وهي لغة قومي، يبدلون الميم باء، ثم قال لي: اجلس فاطبئن، يريد فاطمئن، وذلك لما أحضره ليسأله عن قول

(1/262)


الشاعر:
أَظَلُوْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً (1). . . . . . البيت
وقال ابن جني في " سر الصناعة ": أخبرنا أبو علي بإسناده إلى الأصمعي قال: كان أبو سوار الغنوي: يقول: با اسمك؟. يريد ما اسمك؟ فهذه الباء بدل من الميم.
وقالوا: بُعْكُوْكَةٌ، وأصلها مُعْكُوْكَةٌ، فالباء بدل من الميم (3). انتهى.
قوله: (بذلق اللسان) أي طرفه
قوله: (مكثورة بالمذكورة) أي مغلوبة بالكثرة، أي المذكورة (4) غالبة على غير المذكورة، ومنه كاثره، أي غالبه بالكثرة.
قوله: (وذكر ثلاث مفردات) هي ص، ق، ن (وأربع ثنائيات) هي طه، طس، يس، حم.
قوله: (في تسع سور) أي بإسقاط سورة الشووى
قوله: (وثلاث ثلاثيات) هي الم، الر، طسم (ورباعيتين) هما المص، المر، (وخماسيتين) هما كهيعص، حم عسق
قوله: (وقيل: هي أسماء السور، وعليه إطباق الأكثر)
عبارة الإمام: وهو قول أكثر المتكلمين، واختيار الخليل، وسيبويه (5). ونعما هي، فإن الأكثر مطلقا لم يذهبوا إليه.
وقد نقض هذا القول بأمور ذكرها المصنف بعد ذلك مع الجواب عنها.
وأحسن ما ينقض به - ولم يذكره - أن أسماء السور توقيفية، ولم يرو مرفوعا ولا موقوفا عن أحد من الصحابة ولا التابعين أن هذه أسماء للسور، فوجب إلغاء القول بذلك.
ونقضه الإمام بأنها لو كانت أسماء لها لوجب اشتهارها بها، وقد اشتهرت

(1/263)


بغيرها، كسورة البقرة، وآل عمران (1).
قوله: (مقدرتهم) بالضم، أي قدرتهم
قوله: (قلت لها: قفي فقالت: قَافْ لا تَحْسَبِنْ أَنَّا نَسِيْنَا الإيْجَافْ) (2)
كذا. في النسخ، وصدره محرف، وغير موزون كما ترى، والصواب كما أورده ابن جني في " الخصائص "
قلنا لها: قفي لنا قالت: قاف (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وأخرج أبو الفرج الأصبهاني في " الأغاني " عن أبي بكر الباهلي (5)، عن بعض من حدثه قال: لما شُهِدَ على الوليد (6) عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره بالشخوص، فخرج وخرج معه قوم، فيهم عدي بن حاتم (7)، فنزل الوليد يوما يسوق بهم، فقال يرتجز:
لا تَحْسَبِنُّا قد نَسِيْنَا الإِيْجَافَ. . . والنُّشَوَاتِ مِنْ مُعَتَّقٍ صافْ (8)
وعَزْفَ قَيْنَاتٍ عَلَيْنَا عُزَّافْ
فقال عدي: فأين تذهب بنا؟ إذن أقيم (9).
قوله: (روي عن ابن عباس أنه قال: الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه)

(1/264)


قلت: هذا إنما روي عن أبي العالية (1).
كذا أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (2).
قوله: (وعنه أن الر، وحم، ونون مجموعها الرحمن) أخرجه ابن أبي حاتم (3)
قوله: (وعنه أن الم معناه: أنا الله أعلم)
أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر (4)، وابن أبي حاتم من طرق عنه (5)
قوله: (وعنه أن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد)
هذا لا يعرف عن ابن عباس، ولا غيره من السلف
قوله: (أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجُمَّلِ، كما قاله أبو العالية)
أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (6).
قوله: (متمسكا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود) الحديث.
أخرجه البخاري في تاريخه، وابن جرير، من طريق ابن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب (7). وسنده ضعيف.

(1/265)


وجابر (1) المذكور صحابي آخر غير جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري المشهور.
قال ابن عبد البر في " الاستيعاب ": شهد بدرا وسائر المشاهد، وهو أول من أسلم من الأنصار قبل العقبة الأولى.
وذكر الحافظ ابن حجر في " الإصابة " أن روايته قليلة جدا (2).
قوله: (هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه)
جوابه ما قاله الخويي: إن القرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد؛ لتكون أبلغ في قرع الأسماع.
قوله: (وناهيك)
قال في " الصحاح ": يقال: هذا رجل ناهيك من رجل، وتأويله أنه بجده وغنائه ينهاك عن تطلب غيره، وهذه امرأة ناهيتك من امرأة، تذكر وتؤنث، وتثنى وتجمع؛ لأنه اسم فاعل، فإذا قلت: نَهْيُكَ من رجل، كما تقول: حسبك من رجل لم تثن ولم تجمع؛ لأنه مصدر (3).
وقال أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " الزاهر ": قولهم: ناهيك بفلان معناه كافيك به، من قولهم: فد نَهِيَ الرجلُ من اللحم، وأنهى إذا اكتفى منه وشبع (4).
وقال في " القاموس ": نهيك من رجل، وناهيك منه، ونهاك بمعنى حسب (5).
قوله: (بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر (6)).
قال الطيبي: ومنه قوله في باب الترخيم: ولو رخمت تأبط شرا من الأسماء لرخمت رجلا مسمى (7) بقول عنترة:

(1/266)


يا دارَ عَبْلَةَ بالجِوَاءِ تَكَلَّمِيْ (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
قوله: (والوجه الأول أقرب) إلى آخره.
ما ذكره من ترجيحه ممنوع؛ لأنه قول لا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل هو رأي محض في كتاب الله لم يعضده مستند، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتمحل.
قوله: (وقيل: إنها أسماء القرآن)
أخرجه ابن جرير، عن مجاهد، وأخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة (3).
قوله: (وقيل: إنها أسماء الله)
أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في " الأسماء والصفات " عن ابن عباس، وسنده صحيح (4).
قوله: (ويدل عليه أن عليا رضي الله عنه كان يقول: يا كهيعص، يا حم عسق)
أخرج ابن ماجه في تفسيره من طريق نافع بن أبي نعيم القارئ، عن فاطمة بنت علي ابن أبي طالب (5) أنها سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا كهيعص اغفرلي (6).
قوله: (ولعله أراد يا منزلهما)
يرده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله (كهيعص): إن معناه: يا من يجير ولا يجار عليه.
ومثله ما أخرجه عن أشهب (7) قال سألت مالكا أينبغي لأحد أن يتسمى

(1/267)


بـ " يس " قال: لا، يقول الله (يس والقرآن الحكيم) يقول: هذا اسمي، تسميت (1) به.
وكذا حديث " إن بيتم الليلة فقولوا: حم لا ينصرون " (2)
قوله: (وقيل: إنها سر استأثر الله بعلمه)
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان في التفسير عن داود بن أبي هند (3) قال: كنت أسال الشعبي (4) عن فواتح السور، فقال: يا داود إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فواتح السور، فدعها، وسل عما بدا لك.
وحكاه الثعلبي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكثير.
وحكاه السمرقندي (5) عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله تعالى

(1/268)


عنهم (1).
وحكاه القرطبي عن سفيان الثوري، والربيع بن خثيم (2)، وأبي بكر ابن الأنباري، وأبي حاتم (3)، وجماعة من المحدثين، واختاره (4).
وحكاه الإمام فخر الدين عن ابن عباس، والحسين بن الفضل (5)، ومال إليه (6).
وقال السجاوندي (7): المروي عن الصدر الأول في التهجي أنها أسرار بين الله تعالى
وبين نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وقد تجري بين المحرمين (8) كلمات مُعَمَّاة تشير إلى سِرّ بينهما، وتفيد تحريض الحاضرين على استماع ما بعد ذلك،

(1/269)


وهذا معنى قول السلف: حروف التهجي ابتلاء لتصديق المؤمن، وتكذيب الكافر.
هذا وهي أعلام توقظ من رقدة (1) الغفلة بنصح التعليم، وتنشط في إلقاء السمع على شهود القلب للتعظيم، كمن أراد الإخبار بمهم حرّك الحاضر بيديه، أو صاح به غيره؛ ليقبل بكله عليه.
ومصداق ذلك أن معظمها معقبة بذكر الكتاب.
وقد قلبت الرأي ظهرا لبطن في تأويل معاني هذه الحروف سنين، ونَيَّفَتِ الأقاويلُ المختارة على ستين، ولم أتحصل على ثلج اليقين، ولا ظفر الجهد على المراد قادر اليمين حتى استروحت إلى هذا الوجه من التحري. انتهى.
قوله: (فإن جعلتها أسماء الله تعالى، أو القرآن، أو السور كان لها حظ من الإعراب، إما الرفع) إلى آخره.
اعلم أن للرفع وجهين، وللنصب وجهين، وللجر وجها واحدا، فوجها الرفع إما أن يكون مبتدأ، و (ذلك الكتاب) خبره، وإما أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أي هذه (الم).
وأما وجها النصب فإما المفعولية، تقديره أقرأ، أو أتلو (الم) وإما بحذف حرف القسم على رأي من ينصب به.
وأما الجرّ فبتقدير حذف حرف القسم، والجر به.
قوله: (والجر على إضمار حرف القسم)
قال ابن هشام في " المغني ": من الوهم قول كثير من المعربين والمفسرين في فواتح السور: إنه يجوز كونها في موضع جر بإسقاط حرف القسم، وهذا مردود بأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه، وبأنه لا أجوبة للقسم في سورة البقرة، وآل عمران، ويونس، وهود، ونحوهن.
ولا يصح أن يقال: قدر (ذلك الكتاب) في البقرة، و (الله لا إله إلا هو) في آل عمران جوابا، وحذفت اللام من الجملة الاسمية كحذفها في قوله:
وَرَبِّ السَّموات العُلا وبُرُوْجِهَا. . . والأرضِ وما فيها: المُقَدَّرُ كَائِنُ (2)
لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم (2). انتهى.

(1/270)


قوله: (ويتأتى الإعراب لفظا والحكاية فيما كانت مفردة، أو موازنة لمفرد كـ (حم)
الشيخ سعد الدين: قيل ينبغي أن يتعين الإعراب، ولا تسوغ الحكاية كسائر الأعلام المنقولة من المفردات، أو المركبات من كلمتين ليست بينهما نسبة، وإنما الحكاية فيما وقع علما لنفس ذلك اللفظ مثل " ضرب " فعل ماض، و " من " حرف جر، إشعاراً بأنه لم ينقل عن الأصل بالكلية، أو كانت جملة.
وأما إذا جعل مثل " ضرب " بدون اعتبار الضمير اسم رجل فلا وجه للحكاية.
وأجيب بأن ذلك في هذه الألفاظ خاصة إذا جعلت أعلاما للسور خاصة، أما إذا جعل صاد مثلا علما لرجل، والفاتحة علما للسورة، فلا حكاية، وذلك لأنها قد اشتهرت ساكنة الأعجاز وكثر استعمالها كذلك، فكأنها نقلت على تلك الهيئة، سيما وفيها شمة من ملاحظة الأصل، من جهة أن مسمياتها مركبة من الحروف المبسوطة، فعليها مسحة من قولك: " ضرب " فعل ماض، و " من " حرف جر (1).
قوله: (وإن جعلتها مقسما بها)
قال الإمام: أقسم الله بها لشرفها؛ لأنها مباني كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم (2).
* * *
فائدة: قال أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " الوقف والابتداء " إن قال قائل: كيف كتب فى المصحف (الم) و (الر) و (المر) موصولا، والهجاء مقطع، لا ينبغي أن يتصّل بعضه ببعض؛ لأنك لو قال قائل: ما هجاء زيد؟ كنت تقول: زاي، يا، دال، وتكتبه مقطعا؛ لتفرق بين الهجاء والحروف (3)، وبين قراءته؟
فيقال له: إنما كتبوا (الم) وما أشبهها موصولا؛ لأنه ليس بهجاء لاسم معروف، إنما هو حروف اجتمعت، يراد بكل حرف منها معنى، ولو قطعت إذ (4) جزمت لكان صوابا. انتهى (5).
قوله: (" ذلك " إشارة إلى (الم) إلى آخره

(1/271)


حاصله أنه ردد بين كونه إشارة إلى (الم) أو إلى الكتاب الموعود به، فتكون اللام في الكتاب للعهد الذهني.
والتحقيق أنه إشارة إلى الكتاب الحاضر، واللام للعهد الحضوري (1) قال ابن عصفور: كل لام واقعة بعد اسم الإشارة، أو أيِّ في النداء، أو إذا الفجائية فهي للعهد الحضوري.
* * *
تنبيه: عبارة " الكشاف ": " وقعت الإشارة إلى (الم) (2) "
قال الشيخ أكمل الدين: وفيه بحث؛ لأن المراد بالكتاب هو القرآن، وحينئذ، على كل حال لا تصح الإشارة إلى (الم) وإن فسر بالسورة؛ لأنه جزء من القرآن، والجزء لا يكون الكل، ولا مجازا عنه؛ لأنه ليس ملزوما للكل، والمجاز ذكر الملزوم وإرادة اللازم، واذا كان المشار إليه هو الموعود في الكتب المتقدمة لا يجوز أن يقع (ذلك الكتاب) خبرا عن (الم) لأن الموعود هو القرآن كله، لا (الم)
وأما إذا كان الموعود هو النبي صلّى الله عليه وسلّم فيجوز أن يكون المراد بقوله (قَوْلًا ثَقِيلًا) ويكون الكتاب عبارة عن هذه السورة. كذا قيل.
قال: ويمكن أن يقال: الكتاب مفهوم بسيط يشترك جزؤه وكله في الاسم والرسم كالماء، والدليل على ذلك إجماع العلماء على إطلاق الكتاب على آية يثبت بها حكم شرعي، كقولهم: فرض الوضوء ثابت بالكتاب، وهو قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) [سورة المائدة 7] وإنما هي آية، وحينئذٍ يكون (ذلك) إشارة إلى (الم) على أنه الكتاب، لا على أنه جزؤه (3). انتهى.
قوله: (فإنه لما تكلم به وانقضى، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه أشير إليه بما يشار به إلى البعيد)
عبارة " الكشاف ": " وقعت الإشارة إلى (الم) بعد ما سبق التكلم به وانقضى (4)، والمنقضي في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام، يحدث الرجل بحديث، ثم يقول: ذلك مما لاشك فيه، ويحسب الحاسب، ثم يقول: فذلك كذا وكذا، قال

(1/272)


الله تعالى (لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) [سورة البقرة 69] وقال (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [سورة يوسف 38] ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك - وقد أعطيته شيئا -: احتفظ بذلك، وقيل: معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به " (1).
قال الطيبي: وأحسن ما قيل في توجيه الإشارة إليه بصيغة البعد = ما ذكره صاحب " المفتاح " قال: (ذلك الكتاب) ذهابا إلى بعده درجة (2).
وقال الإمام: إن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة، وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها، فهو - وإن كان حاضرا نظرا إلى صورته - غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه، فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.
قوله: (وتذكيره متى أريد بـ (الم) السورة، لتذكير (الكتاب) فإنه خبره)
جواب سؤال مقدر، تقديره كما أفصح به في " الكشاف ": " لم ذَكَّرَ اسم الإشارة، والمشار إليه مؤنث، وهو السورة " (3)؟
وحاصل الجواب تخريجه على القاعدة المعروفة إذا توسط الضمير، أو الإشارة بين مبتدإ وخبر، أحدهما مذكر، والآخر مؤنث جاز في الضمير، والإشارة التذكير والتأنيث مراعاة لهذا ولهذا.
وفي هذا تسليم السؤال، والإمام منعه من أصله، فقال: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث إما المسمى، أو الاسم، والأول باطل؛ لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن، وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو (الم) وليس بمؤنث (4).
نعم ذلك المسمى له اسم آخر، وهو السورة، وهو مؤنث، وليست الإشارة إليه، بل إلى الاسم الآخر، وهو (الم) الذي ليس بمؤنث.
وقال الشيخ أكمل الدين: قوله: " إن المشار إليه مؤنث " فيه نظر؛ لأن المشار إليه (الم) وهو اسم للسورة، أو هو الموعود للأمم السالفة، ولا شيء منهما بمؤنث (5) قوله: (ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب)

(1/273)


قال الراغب: الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض في اللفظ، ولهذا سمي كتاب الله - وإن لم يكتب - كتابا (1)
* * *
قوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ) معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل) إلى آخره.
قال الطيبي: يعني ما نفى الريب بحيث ينتفي به المرتابون، وإنما نفى بطريق يرشد إلى أنه لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، فإذن الكلام مع المرتابين، ويدل عليه أيضاً تصدير الكلام بأسامي حروف التهجي؛ لأنها كالتنبيه وقرع العصا لهم، كأنه قيل: أيها المرتابون تنبهوا من رقدة الجهالة، واعلموا أن القرآن من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه، فينطبق على هذا استشهاده بقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [سورة البقرة 22]
وتفسيره حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة (2)
قوله: (فإنه ما أبعد عنهم الريب) إلى آخره
قال الطيبي: أي خاطب المصرين على الريب الجازمين فيه بما يدل على خلوهم عنه، ولم يقصد به أنهم غير مرتابين، وإنما قصد به إرشادهم وتعريفهم الطريق إلى مزيل الريب على سبيل الاستدراج، يعني أن الارتياب من العاقل في مثل هذا المقام واجب الانتفاء، فلا يفرض إلا كما يفرض المحالات، وأنتم عقلاء ألباء تفكروا فيه، وجربوا نفوسكم، وانظروا هل تجدون فيه مجالا للريب (3).
قوله: (و (هدى) حال من الضمير المجرور، والعامل فيه الظرف)
قال أبو حيان: هذا مشكل؛ لأن الحال تقييد، فيكون انتفاء الريب مقيدا بالحال، أي لا ريب يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة (4).
قوله: (سمي به الشك).
ظاهره ترادفهما، وليس كذلك، بل الريب أخص.

(1/274)


قال بعضهم: الريب شك مع تهمة.
وقال الإمام: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة كأنه ظن سوء (1).
وقال الراغب: الفرق بين الشك والمرية والريب أن الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة، مأخوذ من مَرَى الضَّرْعَ، أي مسحه للدر، فكأنَّه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي غلبة الظن، والريب أن يتوهم في الشيء أمرٌ ما، ثم ينكشف عما توهم فيه (2).
وقال الخويي: الشك لما استوى فيه الاعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما درجة الظهور الذي يبني عليه العاقل الأمور المعتبرة، والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور، ولهذا حسن (لَا رَيْبَ فِيهِ) هنا، فإنه بيان لكون الأمر ظاهرا بالغا درجة اليقين بحيث لا يحصل فيه ريب فضلا عن شك.
قوله: (وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة، والصدق طمأنينة ")
أخرجه الترمذي من حديث الحسن بن علي، وصححه بلفظ " فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة " (3).
قال الطيبي: دع ما اعترض لك الشك فيه منقلبا إلى ما لا شك فيه، فإذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه، فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق، وترتاب من الكذب، فارتيابك في الشيء منبئ عن كونه باطلا، فاحذره، واطمئنانك إلى الشيء مشعر بكون حقا، فاستمسك به، وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة

(1/275)


القدسية الطاهرة من أوضار الذنوب، وأوساخ الآثام.
قال: وظهر أن قوله: " فإن الشك ريبة " لا يستقيم رواية، ولا دراية (1). انتهى.
وقد أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن أبي الدرداء موقوفا بلفظ: " فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة "
قوله: (والهدى في الأصل مصدر)
قال الطيبي: اضطرب كلام سيبويه في الهدى، فمرة يقول: هو عوض من المصدر؛ لأن فُعَلاً لا يكون مصدرا، وأخرى يقول: هو مصدر هدى (2)
قوله: (ومعناه الدلالة) إلى آخره
مأخوذ من كلام الإمام حيث قال: الهدى عبارة عن الدلالة.
وقال صاحب " الكشاف ": " هي الدلالة الموصلة إلى البغية " والذي يدل على صحة الأول، وفساد الثاني أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبرة في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محال، لكن الله تعالى أثبت الهدى مع عدم الاهتداء في قوله (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [سورة فصلت 18]
واحتج صاحب " الكشاف " بثلاثة أمور:
أحدها: وقوع الضلالة في مقابل الهدى في قوله تعالى (لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ 25] (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)
ثانيها: أنه يقال: مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلولا أن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهديا مدحا؛ لاحتمال أنه هدي، فلم يهتد.
ثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى، يقال: هديته فاهتدى كما يقال: كسرته فانكسر وقطعته فانقطع، فكما أن الانكسار والانقطاع لازمان للكسر والقطع وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى.

(1/276)


والجواب عن الأوّل: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال، ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع.
وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى يسمى مهديا، وغير المنتفع به لا يسمى مهديا؛ لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة العدم.
وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمرا حصول الائتمار، فكذا هذا (1). انتهى كلام الإمام.
قال الطيبي: والجواب عن إثبات الهدى مع عدم الاهتداء في آية (وأما ثمود) أن يقال: لا نسلم حصول الهدى الحقيقي؛ لأن المراد بإثبات الهدى تمكينهم عليه، بسبب إزاحة العلل من بعثة الرسول، وبيان الحق.
وعن قوله: " فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع " أن لو كان ممتنعا لم يقع في الآيتين، ولأن المراد بالمقابلة في الصناعة: الجمع بين اللفظين الدالين على المعنيين المتضادين حقيقة، أو تقديرا، سواء كانا متعديين، أم لازمين، أم أحدهما متعديا والآخر لازما، وهذا المعنى موجود في الآيتين، لا سيما في الأولى، فإنه صريح فيها لتوسيط كلمة التقابل.
وعن قوله: " إن المنتفع بالهدى يسمى مهديا، بخلاف غيره تنزيلا له منزلة العدم " أن هذا مجاز، والمهدي من الأوصاف التي تستعمل في المدح مطلقا، وذلك علامة الحقيقة.
وعن قوله: " أمرته فائتمر " ما قاله البزدوي (2) في أصوله أن قضية الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال؛ لأن أمر فعل متعد، لازمه ائتمر، ولا وجود للمتعدي إلا أن يثبت لازمه، كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار، إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه لسقط الاختيار من المأمور أصلا، وللمأمور ضرب عندنا من الاختيار (3).
ومعنى هذا الكلام أن أصحاب اللغة ما أثبتوا لكل فعل متعد لازما إلا إذا اتفقا

(1/277)


في الوجود.
وقال ابن الحاجب: معنى المطاوعة حصول فعل عن فعل، فالثاني مطاوِعٌ؛ لأنه طاوع الأول، والأول مطاوَعٌ؛ لأنه طاوعه الثاني، فإذا وجد المطاوَعُ وجب أن لا يتخلف عنه المطاوِعُ (1).
فإذن معنى أمرته فائتمر جعلته مؤتمرا فائتمر، لكن منع الائتمار معنى سقوط الاختيار، ولزوم الجبر، فعرض له عارض، فوجب العدول عن الحقيقة (2). هذا

(1/278)


كلام الطيبي.
ثم قال: والواجب تحرير معنى الهدى، أهو حقيقة في الدلالة المطلقة، مجاز في الدلالة المخصوصة، أم عكسه، أم مشترك بينهما، أم موضوع للقدر المشترك، وهو البيان، فكلام الإمام يميل إلى الأول، وصاحب " الكشاف " إلى الثاني، والزجاج والواحدي إلى الأخير (1).
قوله: (واختصاصه بالمتقين) إلى آخره.
هذا السؤال مع ما أجاب به على ما اختاره من تفسير الهدى بمطلق الدلالة، أما على التفسير الثاني فلا يتوجه السؤال ألبتة، كما نبه عليه الإمام (2)؛ لأن كون القرآن موصلا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين.
نعم يقال عليه: كيف يستقيم (هدى للمتقين) والمتقون هم المهتدون؟ فهو من تحصيل الحاصل (3).
ويجاب بجوابين:
أحدهما: أنه باعتبار الثبات والزيادة.
والثاني: أنه باعتبار ما يؤول، أي هدى للضالين المشارفين للتقوى، الصائرين إليها.

(1/279)


قوله: (وهو في عرف الشرع) إلى آخره
هذا حد المتقي، ويؤخذ منه حد التقوى.
الراغب: التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، وفي التعارف حفظ النفس عن كل ما يؤثم (1).
قوله: (حتى الصغائر عند قوم)
اعلم أنه اختلف في التقوى هل يدخل فيها اجتناب الصغائر، وأنه إذا لم يتوقها هل يستحق هذا الاسم؟ على قولين، وظاهر كلام المصنف، والإمام - وهو المجزوم به في " الكشاف " (2) - أنه لا يشترط في التقوى، واستحقاق الوصف بالمتقي اجتنابها، وإلا لم يكد يستحق هذا الوصف أحد.
وقد شق على الصحابة لما نزل قوله تعالى (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [سورة آل عمران 103] المفسر بأن يطاع فلا يعصى، فنسخ بقوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (3) [سورة التغابن 17] وقال تعالى (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [سورة النجم 33] فاستثنى اللمم، فلم يقدح في الإحسان، وهو كالتقوى، بل أخص منها.
وأصرح منه في الاستدلال قوله تعالى (أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء) إلى أن قال (والذين إذا فعلوا فاحشة) [سورة آل عمران 134 - 136] الآية.
وأما حديث الترمذي " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس " (4) فمحمول على الكمال، أي أعلى درجات المتقين.

(1/280)


ثم الكلام فيما لا ينتهي إلى حد الإصرار السالب للعدالة، بحيث تغلب صغائره على حسناته، على ما حرر في باب الشهادات من كتب الفقه.
قوله: (واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب) إلى آخره
قال أبو حيان: قد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله (ذلك الكتاب لا ريب فيه) والذي نختاره. منها أن قوله (" ذلك الكتاب) جملة مستقلة من مبتدإ وخبر؛ لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، ولا افتقار كان أولى من أن يسلك به مسلك الإضمار والافتقار.
وقالوا: يجوز أن يكون (ذلك) خبرا لمبتدإ محذوف، تقديره هو (ذلك الكتاب) و (الكتاب) صفة، أو بدل، أو عطف بيان
ويحتمل أن يكون مبتدأ، وما بعده خبر، وفي موضع خبر (الم) و (لا ريب فيه) جملة تحتمل الاستئناف فلا يكون لها موضع من الإعراب، وأن تكون في موضع رفع خبرا لـ (ذلك)، و (الكتاب) صفة، أو بدل، أو عطف، أو خبر بعد خبر إذا كان (الكتاب) خبرا، وقلنا بتعدد الأخبار، وأن تكون في موضع نصب على الحال، أي مبرأ من الريب.
وجوزوا في قوله (فيه) أن يكون خبرا لـ (لا) على مذهب الأخفش، وخبرا لها مع اسمها على مذهب سيبويه، وأن يكون صفة، والخبر محذوف، وأن يكون من صلة (ريب) يعني أنه يضمر عامل من لفظ ريب، فيتعلق به، لا أنه يكون متعلقا بنفس (لا ريب) إذ يلزم إذ ذاك إعرابه؛ لأنه يصير اسم " لا " مطولا بمعموله، نحو لا ضاربا زيدا عندنا.
والذي نختاره أن الخبر محذوف؛ لأن الخبر في باب " لا " إذا علم لم يلفظ به بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم.
وجوزوا في قوله تعالى: (هدى للمتقين) أن يكون (هدى) في موضع رفع على أنه مبتدأ، و (فيه) في موضع الخبر، أو خبر مبتدإ محذوف، أي هو (هدى)، أو على فيه مضمرة إن جعلنا (فيه) من تمام (لا ريب) أو خبر بعد خبر، فتكون قد

(1/281)


أخبرت بالكتاب عن (ذلك) وبقوله (لَا رَيْبَ فِيهِ) ثم جاء (هدى) خبرا ثالثا، أو كان (الكتاب) تابعا، و (هدى) خبر ثان، أوفي موضع نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالا، وصاحب الحال اسم الإشارة، أو (الكتاب) والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة، أو الضمير في (فيه) والعامل ما في الظرف من الاستقرار.
والأولى جعل كل جملة مستقلة، فـ (ذلك الكتاب) جملة، و (لا ريب) جملة، و (فيه هدى للمتقين) جملة.
ولم يحتج إلى حرف عطف؛ لأن بعضها آخذ بعنق بعض (1). انتهى كلام أبي حيان.
قوله: (و (لا ريب) في المشهورة مبني، لتضمنه معنى " من " منصوب المحل) إلى آخره.
قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": اعلم أن " لا " النافية على ضربين: عاملة، وغير عاملة، فالعاملة التي تنفي على جهة (2) استغراق الجنس؛ لأنها جواب ما كان على طريقة هل من رجل في الدار، فدخول " من " في هذا لاستغراق الجنس، ولذلك تختض بالنكرات لشمولها، ألا ترى أنه لا يجوز هل من زيد في الدار؟ كما يجوز في هل زيد في الدار، فهذه التي لاستغراق الجنس عاملة النصب فيما بعدها من النكرات المفردة، ومبنية معها بناء خمسة عشر.
وإنما استحقت أن تكون عاملة لشبهها بـ " إن " الناصبة للأسماء.
ووجه المشابهة بينهما أنها داخلة على المبتدإ والخبر، كما أنَّ " إنَّ " كذلك، وأنها نقيضة من الإعراب، نحو ضربت زيدا، وما ضربت زيدا، فقولك: ضربت زيدا فعل وفاعل ومفعول، وقولك: ما ضربت زيدا نفي لذلك، ومع ذلك فقد أعربته بإعرابه من حيث كان نقيضه، ليشعر بمعنى الرفع له، فلما أشبهت " لا " " إن " وكانت " إن " عاملة في المبتدإ والخبر كانت " لا " كذلك عاملة في المبتدإ والخبر؛ لأنها تقتضيهما جميعا، كما تقتضيهما " إن " ولما نصبوا بها لم تعمل إلا في نكرة على سبيل حرف الخفض الدي في المسألة؛ لأنها كالنائبة عنه إلا أن " لا " بنيت مع

(1/282)


النكرة؛ لأنها وقعت في جواب هل من رجل عندك، على سبيل الاستغراق، فوجب أن يكون الجواب أيضاً بحرف الاستغراق الذي هو " من " ليكون الجواب مطابقا للسؤال، فكان قياسه لا من رجل في الدار، ليكون النفي عاما، كما كان السؤال عاما، ثم حذفت " من " من اللفظ تخفيفا، وتضمن الكلام معناها، فوجب أن يبنى لتضمنه معنى الحرف، كما بني خمسة عشر حين تضمن حرف العطف (1).
* * *
لطيفة: قال ابن جني في " الخصائص ": باب في اقتضاء الموضع لك لفظا، وهو معك إلا أنه ليس بصاحبك، من ذلك قولهم: لا رجل عندك، ولا غلام لك، فـ " لا " هذه ناصبة لاسمها، وهو مفتوح إلا أن الفتحة فيه ليست فتحة النصب التي تتقضاها " لا " إنما هذه فتحة بناء وقعت موقع فتحة الإعراب الذي هو عمل " لا " في المضاف، نحو لا غلام رجل عندك.
قال: ونظير ذلك قولك: مررت بغلامي، فالميم تستحق جرة الإعراب بالباء، والكسرة فيها ليست الموجبة بحرف الجر، إنما هي التي تصحب ياء المتكلم في الصحيح؛ لأنها تثبت في الرفع وفي النصب، وذلك دليل على أنها ليست كسرة الإعراب وإن كانت بلفظها (3).
قوله: (وفي قراءة أبي الشعثاء)
هو بفتح الشين وسكون العين، اسمه سليم بن الأسود المحاربي، تابعي مشهور (4)
قوله: (مرفوع ب " لا ")
زاد في " الكشاف ": " والفرق بينها وبين المشهورة أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه " (5).
وقال الإمام: والذي يدل على إيجاب المشهورة للاستغراق أن نفي الجنس نفي الماهية، وهو يقتضي نفي كل فرد من أفرادها، فلو ثبت فرد من أفرادها ثبتت الماهية.

(1/283)


وأما قراءة (لَا رَيْبَ فِيهِ) بالرفع فهو وإن كان نكرة في سياق النفي لكنه نقيض قولنا: ريب فيه، وهو يحتمل أن يكون إثباتا لفرد واحد منها، ونفيه يفيد انتفاءه (1).
وقال الزجاج: إذا قلت: لا رجلٌ في الدار جاز أن يكون فيها رجلان، وإذا قلت: لا رجلَ في الدار فهو نفي عام (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: قد رد ما ذكره صاحب " الكشاف " من الفرق بأن (ريب) في (لَا رَيْبَ فِيهِ) نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم، فينتفي جميع آحاد الريب، فلا فرق في ذلك بين نفي الجنس وغيره.
قال: والجواب أنه غلط؛ لأن الذي ذكره من كون النكرة تعم دليل جواز الاستغراق؛ إذ لولا ذلك لكان نكرة في سياق الإثبات، ولم تكن عامة، ولأن المبني في تقدير " من " الاستغراقية؛ لكونها مؤكدة للنفي، والنفي المؤكد ليس كغيره، وإلا كان الشيء مع غيره كالشيء لا مع غيره، ولأن " من " المقدرة زائدة، لعدم اختلال أصل المعنى بتركه، وأَقَلُّ مراتبها التأكيد، وتأكيد العام ينفي احتمال الخصوص، فكان محكما في الاستغراق، لا يفارقه، وليس كذلك الذي مع " لا " المشبهة بليس، فإن احتمال الخصوص فيه باق؛ لعدم ما يقطعه، فكانت دلالته على الاستغراق جائزة الافتراق، وهو ظاهر لا محالة (3).
وقال أبو حيان: قرئ بالرفع، والمراد أيضاً الاستغراق؛ بأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه، فيكون مبتدءا، و (فيه) الخبر، وهذا ضعيف، لعدم تكرار " لا "، أو يكون أعملها إعمال ليس، وهو ضعيف، فيكون (فيه) في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا أعملت عمل ليس رفعت الاسم، ونصبت الخبر (4).
قوله: (ولم يقدم كما قدم في قوله (لَا فِيهَا غَوْلٌ) لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب، كما قصد ثمة).
قال أبو حيان: انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحدا يفرق بين: ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار (5).

(1/284)


قوله: (فلذلك وقف على (ريب)
عزي هذا الوقف لنافع وعاصم (1).
قال الإمام: والأولى الوقف على (فيه) لأن الوقف عليه يكون الكتاب نفسه هدى، وقد تكرر في التزيل أنه هدى، وأنه نور، وعلى الأول لا يكون نفسه هدى، بل فيه هدى (2).
قوله: (والتقدير (لَا رَيْبَ فِيهِ) فيه (هدى)
قال في " المرشد ": إن جعلت (لا ريب) بمعنى حقا فالوقف عليه تام، ولا حاجة إلى تقدير فيه، وكأنه قال: الم ذلك الكتاب حقا (3).
قوله: (تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله).
قال الطيبي: أي قوله (هدى) تأكيد لقوله (لَا رَيْبَ فِيهِ) لأنه لا يكون هاديا إذا كان فيه مجال للشبهة، ففي قوله: (لا يحوم الشك حوله) كناية، كقوله (4):
فَمَا جَازَهُ جُوْدٌ وَلا حَلَّ دُوْنَهُ. . . وَلَكِنْ يَصِيْرُ الجُوْدُ حَيثُ يَصِيْرُ
وهذه المبالغة مستفادة من إيقاع المصدر خبراً لـ هو، كما أن المبالغة في الجملة الثانية حصلت من تعريف الخبر، وفي الثالثة من الاستغراق (5)
قوله: (ذات جزالة) هي خلاف الركاكة
قوله: (ففي الأولى الحذف)
قال الطيبي: أي حذف المبتدإ، أي هذه (الم) إذا جعلت اسما للسورة (6)
قوله: (والرمز إلى المقصود)
قال الطيبي: أي التحدي (7)
قوله: (مع التعليل)
أي الإشارة إليه بألطف وجه، وهو أنها مشيرة إلى أن المتحدى به من جنس

(1/285)


ما تنظمون منه كلامكم.
قوله: (وفي الثانية فخامة التعريف)
قال الطيبي: أي الدلالة على كونه كاملا في بابه (1)
قوله: (وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا من إيهامه الباطل) أي إثباته في غيره
قوله: (وفي الرابعة الحذف)
قال الطيبي: أي هو (هدى) (2)
قوله: (والوصف (3) بالمصدر للمبالغة) لأن (هدى) مصدر وضع موضع هاد
قوله: (وإيراده منكرا للتعظيم)
قال الطيبي: أي هاد لا يكتنه كنهه (4)
قوله: (وتخصيص الهدى بالمتقين) إلى آخره
قال الطيبي: أي حيث لم يقل: للضالين الصائرين إلى التقوى؛ رعاية لحسن المطلع (5).
* * *
قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إما موصول بالمتقين على أنه صفة) إلى آخره في بعض حواشي " الكشاف ": الصفات المفردة على ثلاثة أنواع:
أحدها: أن تكون الثانية شرحا للأولى، كقولك: فلانٌ عدل، يفعل الواجبات، ويجتنب الكبائر، فقولك: يفعل الواجبات، ويجتنب الكبائر، صفة شارحة للأولى، وهي عدل.
الثاني: أن تكون أجنبية عن الأولى كقولك: فلانٌ عالم شجاع.
الثالث: أن تكون تمثيلا لبعض ما تضمنته الصفة الأولى، كقولك: فلان كريم، سأله سائل فأعطاه ما سال، فقوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يحتمل الأمور الثلاثة،
فإنا إن قلنا: إن التقوى هي اجتناب المعاصي خاصة كان قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وما بعده وصفا بفعل الطاعات، وهو غير الأول.

(1/286)


وإن قلنا: إن التقوى فعل الطاعات واجتناب المعاصي احتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون شرحا وبيانا (1) على اندراج بقية العبادات، واجتناب المعاصي أيضاً تحت ذكر الإيمان، والصلاة، والزكاة.
والثاني: أن يكون تمثيلا لما تضمنته التقوى بذكر بعض الأوصاف التي اشتملت عليها التقوى.
قوله: (وقوله صلى الله عليه وسلّم: " الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام ").
يوهم أن ذلك حديث واحد، وليس كذلك، بل هما حديثان:
فأمَّا الأول فقد قال النووي في " شرح الوسيط ": هو حديث منكر باطل (2).
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير: وليس كذلك، فقد أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين (3) شيخ البخاري في " كتاب الصلاة " عن بلال بن يحيى (4) مرفوعا " الصلاة عمود الدين (5) " وهو مرسل، ورجاله ثقات (6)
قلت: وأخرجه بلفظ " الصلاة عماد الدين " البيهقي في " شعب الإيمان " من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا بسند فيه انقطاع (7).
ونبَّه عليه الشيخ ولي الدين العراقي في حاشيته على " الكشاف " (8).

(1/287)


وأخرجه أيضاً الديلمي في " مسند الفردوس " من حديث علي بن أبي طالب (1) وفي معناه حديث الترمذي من رواية معاذ بن جبل " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة " (2).
وأما حديث " الزكاة فنطرة الإسلام " فأخرجه الطبراني في " الكبير " والبيهقي في " شعب الإيمان " (3) من حديث أبي الدرداء مرفوعا وسنده ضعيف
قوله: (أو مسوقة للمدح) إلى أن قال: (. . . . أو على أنه مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير أعني أو هُم).
قال أبو حيان: النصب على المدح، على القطع بإضمار أمدح، أو بإضمار أعني على التفسير.
الشيخ أكمل الدين: قيل: الفرق بين المدح صفة والمدح اختصاصا - يعني أن

(1/288)


يكون بمعنى أعني، أو مرفوعا بتقدير المبتدإ - أن الغرض الأصلي من الأول إظهار كمالات الممدوح، والالتذاذ بذكرها، وقد يتضمن تخصيص بعض الصفات بالذكر الإشارة إلى إنافتها (1) على سائر الصفات المسكوت عنها، ومن الثاني إظهار أن تلك الصفة أحق باستقلال المدح من بين سائر الصفات الكمالية، إما مطلقا، وإما بحسب ذلك المقام، سواء كان قي نفس الأمر، أو ادعاء، وأن الوصف أصلي في الأول، والمدح تابع، وفي الثاني بالعكس (2).
قوله: (وإما مفصول عنه، مرفوع بالابتداء، وخبره (أولئك)
قال أبو حيان: لا نختار هذا الوجه لانفلاته مما قبله، والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله، وتعلقه به (3).
قوله: (والإيمان في اللغة التصديق، مأخوذ من الأمن) إلى آخره
قال الطيبي: أي الإيمان إفعال من الأمن لغة، ثم نقل إلى المفهوم الشرعي، وهو التصديق لعلاقة الأمن من التكذيب، والمخالفة (4).
الراغب: الإيمان التصديق الذي معه أمن.
قال: وأما قوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ) فهو على سبيل الذم لهم بأنه قد حصل لهم الأمن بما لا يقع به الأمن (5).
قوله: (وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف)
قال الطيبي: هذا على تقدير السؤال والجواب، يعني إذا كانت حقيقة الإيمان منقولة من أمن فما باله عدي بالباء، ولم يعد بنفسه؟ فأجاب أن تعديته بالباء من باب التضمين (6).
قال ابن جني: لو جمعت تضمينات العرب لاجتمعت مجلدات (7).
قال صاحب " الكشاف ": " من " شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر،

(1/289)


فيجرونه مجراه، ويستعملونه استعماله ".
قال الطيبي: ولو زيد مع إرادة معنى المضمن كان أحسن، كما تقول: أحمد إليك فلانا، أي أنهي إليك حمد فلان.
قال في سورة الكهف " الغرض في (1) التضمين إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى " (2).
الشيخ سعد الدين: فإن قيل: الفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي، وإن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
قلنا: هو في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، فقولنا: أحمد إليك فلانا، معناه: أحمده منهيا إليك حمده، ويقلب كفيه على كذا، معناه: نادما على كذا، ولابد من اعتبار الحال وإلا لكان مجازا محضا، لا تضمينا، وتقديره هنا (يؤمنون) معترفين بالغيب (3). انتهى
قوله: (ومنه ما آمنت أن أجد صحابة)
هو من قول العرب، حكاه أبو زيد بقوله: ناوي السفر، أي ما أثق أن أظفر بمن أرافقه (4).
قوله: (وكلا الوجهين حسن في (يؤمنون بالغيب)
قال الشيخ أكمل الدين: يعني نظرا إلى أصل المعنى اللغوي، وأما بالنظر إلى العرف الشرعي فالحمل على التصديق ظاهر الرجحان، للإجماع على أن الإيمان المعتبر نفس التصديق، أوهو داخل فيه وأعظم أركانه (5).
قوله: (وأما في الشرع)

(1/290)


الإمام: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع، ويجمعهم أربع فرق:
الفرقة الأولى: قالوا: هو أسم لأعمال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان، وهم المحدثون، والمعتزلة، والخوارج.
فالمحدثون قالوا: المعرفة إيمان كامل (1)، وهو الأصل، ثم كل طاعة إيمان على حدة، وهي فروع، فلا يكون شيء منها إيمانا ما لم تكن مرتبة على الأصل، والجحود وإنكار القلب كفر، وهو الأصل، ثم كل معصية (2) كفر على حدة، وهي فروع، فلا يكون شيء منها كفرا ما لم تكن مرتبة على الأصل؛ لأن الفرع لا يحصل بدون أصله.
والمعتزلة قال بعضهم: الإيمان فعل كل الطاعات فرضا ونفلا، وقال بعضهم: الفرض فقط، وقال بعضهم: اجتناب الكبائر
الفرقة الثانية: قالوا: الإيمان التصديق بالقلب واللسان معا، وعليه أبو حنيفة، وعامة الفقهاء (3).
الفرقة الثالثة: قالوا: الإيمان التصديق بالقلب فقط (4).
الرابعة: قالوا: الإقرار باللسان فقط، ثم منهم من شرط معه حصول المعرفة بالقلب، فهي عنده شرط لكون الإقرار إيمانا، لا داخلة في مسمى الإيمان (5)،
ومنهم من لم يشترط ذلك، وعليه الكرامية (6). انتهى ملخصا (7).
ومن ذلك يجتمع في مسمى الإيمان عشرة أقوال.

(1/291)


قوله: (فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلّم) قال الإمام: لابد من شرح ماهية هذا التصديق، فنقول: من قال: العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا، فالحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم، ومغاير للعلم به أيضاً؛ لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فهذا الحكم الذهني هو المراد من التصديق بالقلب. (1)
قوله: (ومجموع ثلاثة أمور) إلى آخره
هذا أخذه المصنف من الراغب، وكان من أئمة السنة (2)، وعبارته:

(1/292)


لما كان من لوازم الإيمان التصديق قالوا: الإيمان هو التصديق.
قال: ولا يكون التصديق إلا عن علم، ولذلك قال تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف 87].
فالإيمان اسم لثلاثة أشياء، علم بالشيء، وإقرار به، وعمل بمقتضاه إن كان لذلك المعلوم عمل كالصلاة، والزكاة، هذا هو الأصل، ثم قد يستعمل في كل واحد من هذه الثلاثة، فيقال: فلان مؤمن، أي أنه مقر بما يحقن دمه وماله، ولذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الجارية حين سألها ما سألها، ثم قال: " أعتقها فإنها مؤمنة " (1)
ويقال: مؤمن ويراد به أنه يعرف الأدلة الإقناعية التي يحصل معها سكون النفس، وإياه عنى صلى الله عليه وسلّم بقوله: (من قال لا إله إلا الله موقناً دخل الجنة " (2)
ويقال: مؤمن، ويعنى به أنه يسكن قلبه إلى الله من غير أن يلتفت إلى شيء من العوارض الدنيوية، وإياه عنى بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (3) [سورة الأنفال 3].
قوله: (ومن أخلّ بالإقرار فهو كافر)
قال الشريف: أي مجاهر بكفره، بخلاف المنافق فإنه كافر يخفي كفره (4).
وقال الطيبي: فيه نظر (5)
قال الإمام: من عرف الله بالدليل ولم يجد من الوقت ما يتلفظ بكلمة الشهادة هل يحكم بإيمانه؟ وكذا لو وجد من الوقت ما أمكنه التلفظ به (6).

(1/293)


روي عن الغزالي نعم، والامتناع من النطق يجري مجرى المعاصي التي تؤتى مع الإيمان، ويعضده حديث البخاري " أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة " (1)
قال: والذي يعتذر له (2) أن المراد بالإخلال هو أن يقصد به على سبيل الجحود والعناد كما فعل أبو طالب (3).
قوله: (والذي يدل على أنه التصديق وحده) إلى آخره
تبع في هذا الترجيح الإمام فخر الدين (4)، وهو خلاف مذهب إمامهما الإمام الشافعي رضي الله عنه، والسلف قاطبة.
أخرج الحاكم في " مناقبه " وأبو نعيم في " الحلية " عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص (5).
وأخرج اللالكائي في " السنة " عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.
وأخرجه ابن أبي حاتم، واللالكائي (6) عن جمع كثير من الصحابة والتابعين (7).

(1/294)


وورد هذا اللفظ في حديث مرفوع أخرجه الديلمي من حديث أبي هريرة (1)، وأخرج ابن ماجه من حديث علي مرفوعا " الإيمان عقد بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان " (2).
فإن قلت: فما تحرير الفرق بين مذهب السلف والمعتزلة؟
قلت: السلف جعلوا العمل شرطا في كمال الإيمان (3)، والمعتزلة في صحته.
قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [سورة الأنعام 83].
لا يصح إيراد هذه الآية في الأمثلة؛ لأن المراد بالظلم فيها الشرك، كما سيأتي، لا المعاصي.
قوله: (والغيب مصدر وصف به للمبالغة)
زاد في " الكشاف ": " بمعنى الغائب " (4)
أبو حيان: إن كانت الباء مقوية لوصول الفعل إلى الاسم كمررت بزيد فتتعلق بالفعل، أو للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب، عن المؤمَنِ به، فيتعين في هذا الوجه المصدر.
وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب، أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل.

(1/295)


قالوا: وعلى معنى المغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول، نحو هذا خلق الله، ودرهم ضرب الأمير، وفيه نظر؛ لأن الغيب مصدر غاب اللازم (1). انتهى
قوله: (والعرب تسمي المطمئن من الأرض)
قال الطيبي: يروى بكسر الهمزة، وفتحها، فبالكسر الصفة، وبالفتح الموضع (2)
قوله: (والخمصة التي تلي الكلية)
قال الطيبي: هي النقرة والحفرة (3)
قوله: (أو فيعل، خفف كقيل)
زاد في " الكشاف ": " فإن أصله قَيِّل " (4)
قال أبو حيان - وتبعه السمين في " إعرابه " -: هذا الذي أجازه الزمخشري في الغيب فيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلا كنظائره، فإنها سمعت مثقلة ومخففة، ويبعد أن يقال: التزم التخفيف في هذا خاصة (5).
قال أبو حيان: والفارسي لا يرى هذا التخفيف قياسا في بنات الياء، فلا يجيز في بَيِّنٍ التخفيف، ويجيزه في ذوات الواو، نحو سيد وميت، وغيره قاسه فيهما، وابن مالك وافق الفارسي في ذوات الياء، وخالف الناس في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ، لا مقيس (6).
قوله: (وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته، واليوم الآخر وأحواله، وهو المراد في الآية)
قال الإمام: ما لا يمكن إثبات النقل به إلا بعد ثبوته فإنه لا يمكن إثباته بالنقل، وما كان إخباراً عن وقوع ما جاز وقوعه، وجاز عدمه لا يمكن معرفته إلا بالحس أو النقل، فالصانع والنبوات من قبيل الأول، والحشر والنشر، وما يتعلق بهما من الثاني.

(1/296)


قوله: (هذا إذا جعلته صلة للإيمان، وأوقعته موقع المفعول به)
قال الشيخ أكمل الدين: الصلة في عرف النحاة هي المفعول به بواسطة حرف الجر (1).
قوله: (على تقدير ملتبسين بالغيب)
قال الطيبي: وحينئذٍ يرجع معنى الغيب إليهم (2)
قوله: (لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب " ثم قرأ هذه الآية)
أخرجه سعيد بن منصور في " سننه "، وأحمد بن منيع (3) في " مسنده "، والحاكم في " مستدركه " وصححه (4).
* * *
قوله: (ويقيمون الصلاة) أي يعدلون أركانها، ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها)
قال الطيبي: وعلى هذا فهو استعارة تبعية، شبه تعديل المصلي أركان الصلاة، وحفظها من أن يقع فيها زيغ بتقويم الوجل العود المُعَوَّجِ، فقيل: يقيمون، وأريد: يعدلون (5).
قوله: (من أقام العود إذا قَوَّمَهُ)
قال الشريف: القيام في أصل اللغة هو الانتصاب، والإقامة إفعال منه، والهمزة للتعدية، فمعنى أقام الشيء جعله قائما، أي منتصبا، ثم قيل: أقام العود إذا قوّمه، أي سَوَّاهُ وأزال اعوجاجه، فصار قويما شبه القائم، ثم استعيرت الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني؛ كتعديل أركان الصلاة على

(1/297)


ما هو حقها، وإنما لم تجعل استعارتها من تحصيل القيام في الأجسام، بل من تسويتها رعاية لزيادة المناسبة بين المعاني (1).
هذا، وقد قيل: الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني، فلا حاجة حيئئذ إلى الاستعارة
قوله: (أو يواظبون عليها، من قامت السوق إذا نفقت، وأقمتها إذا جعلتها نافقة)
قال الطيبي: فعلى هذا هو كناية تلويحية (2): عبر عن المواظبة والدوام بالإقامة، فإن إقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها مشعرة بكونها مرغوبا فيها، وإضاعتها وتعطيلها يدل على ابتذالها، كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها، ونفاقها يدل على توجه الرغبات إليها، وتوجه الرغبات يستدعي الاستدامة، بخلافها إذا لم تكن قائمة، فعلى هذا المراد من قوله: " من قامت السوق " أي من باب قامت السوق، لا أنه منقول من قامت السوق (3).
وقال الشريف: نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن الحال والظهور التام، فاستعمل القيام فيه، والإقامة في إنفاقها، أي جعلها نافقة، ثم استعيرت منه للمداومة على الشيء، فإن كلا من الإنفاق والمداومة يجعل مُتَعَلَّقَهُ مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه.
قال: وقد أورد عليه أن هذه المشابهة خفية جدا، وأيضاً الأصل أعني: أقام السوق مجاز، فالتجوز عنه ضعيف.
ودفع الأول بالحمل على المجاز المرسل بعلاقة اللزوم، فإن الانفاق يستلزم المداومة عادة.
والثاني: بأنه صار بمنزلة الحقيقة (4).

(1/298)


وقال الشيخ أكمل الدين: قد اعترض على هذا الوجه بأنه مجاز والعلاقة غير مطردة؛ لأن الدوام لا يستلزم النفاق، ولا العكس.
والجواب أن في تعليل المصنف فدفعا لذلك، وهو أنه استعارة، وهي تستدعي التشبيه، وقد بين وجهه بأنه الرغبة، فإن الدوام على الشيء بدون الرغبة فيه لا يتحقق، كما أن النفاق في الأسواق لا يتحقق إلا بالرغبات (1).
قوله: (قال:
أَقَامَتْ غَزَاْلَةُ سُوْقَ الضِّرَابِ. . . لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ حَوْلاً قَمِيْطا)
غزالة (2) امرأة شبيب الخارجي (3)، لما قتله الحجاج خرجت عليه، وحاربته سنة كاملة. والضراب المضاربة بالسيوف. والعراقان البصرة والكوفة. والقميط التام.
أي هذه المرأة دامت على الحرب حولا كاملا تاما.
والبيت من قصيدة طويلة لأيمن بن خُرَيم الصحابي (4) رضي الله تعالى عنه، أولها:
أَبَى الجُبَنَاءُ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ. . . عَلَى اللهِ وَالنَّاسِ إِلا قُسُوْطَا
أَيَهْزِمُهُم مِائَتَا فَارِسٍ. . . مِنَ السَّافِكِيْنَ الحَرَامَ العَبِيْطَا
وَخَمْسُوْنَ مِنْ مَارِقَاتِ النِّسَاءِ. . . يَجُزوْنَ بِالمُنْدَبَاتِ (5) المُرُوْطَا
وَهُمْ مِائَتَا أَلْفِ ذِيْ قَوْنَسٍ. . . يَئِطُّ العِرَاْقَانِ مِنْهُمْ أَطِيْطَا
رَأَيْتُ غَزَالَةَ إِذْطَرحَتْ. . . بِمَكُّةَ هَوْدَجَهَا وَالغَبِيْطَا

(1/299)


سَمَتْ لَلْعِرَاْقَيْنِ مِنْ شُؤْمِهَا. . . فَلاقَى العِرَاقَانِ مِنْهَا البَطِيْطَا
أَلا يَتَّقِيْ اللهَ أَهْلُ العِرَا. . . قِ إِذْ قَلُّدُوْا الغَاْنِيَاتِ السُمُوْطَا
وَخَيْلُ غَزَالَةَ تَعْتَامُهُمْ. . . فَتَقْتُلُ كَهْلَ الوَفَاءِ الوَسِيْطَا
وَخَيْلُ غَزَالَةَ تَحْوِيْ (1) النِّهَابْ. . . وَتَسْبِيْ السَّبَايَا وَتُحْيِيْ (2) النَّبِيْطَا
وهي طويلة جداً (3)
قوله: (أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم: قام بالأمر) إلى آخره
قال الطيبي: (يقيمون) على الوجوه مسند إلى المصلي مطلقا، وعلى هذا الوجه مسند إلى الصلاة باعتبار أن المصلي إذا أقام الصلاة كانت هي قائمة (4)، على نحو نهاره صائم، وليله قائم، ألا ترى إلى قوله: " من غير فتور " فإنه لا يقال: نهاره صائم إلا لمن صام الدهر كله، ولا ليله قائم إلا لمن لا ينام فيه (5).
وقال الشيخ أكمل الدين: اعترض على هذا الوجه بأنه مجاز، والعلاقة غير مطردة، وبأنه ليس على ظاهره؛ لأن القائم بالأمر هو المتشمر له، لا مقيمه، وهنا ليس كذلك، اللهم إلا أن تجعل الصلاة متشمرة لكون فاعلها كذلك، من باب جَدَّ جِدُّهُ، ولا يخفى بعده عن الفهم.
قال: والجواب أن باب جد جده مفتوح في الكلام (6).
وقال الشريف: قام بالأمر، أي اجتهد في تحصيله، وتجلد فيه بلا توانٍ، وحقيقته قام ملتبسا بالأمر، والقيام به يدل على الاعتناء بشأنه، ويلزمه التجلد والتشمر، فأطلق القيام على لازمه، ومنه قامت الحرب على ساقها إذا التحمت واشتدت، كأنها قامت وتشمرت لسلب الأرواح، وتخريب الأبدان.
واعترض عليه بأن الإقامة إذا كانت مأخوذة مما ذكر كان معناها - على قياس التعدية - جعل الصلاة متجلدة متشمرة، لا كون المصلي متشمرا في أدائها بلا فتور

(1/300)


عنها، كما ذكره.
وأيضاً وصف الصلاة بالتجلد والتشمر إنما يصح إذا وصفتَ بما هو لفاعلها، على قياس جد جده، ولا يخفى بعده
قال: وليس لك أن تقول: الباء في قام بالأمر للتعدية، فالمستعمل بمعنى التجلد والاجتهاد هو الإقامة في الحقيقة؛ لأن قولهم في ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه يبطله.
وأيضاً القيام يناسب التشمر، لا الإقامة، كما أن القعود يلائم الكسل، لا الإقعاد (1).
قوله: (أو يؤدونها، عبر عن أدائها بالإقامة، لاشتمالها على القيام، كما عبر عنها بالقنوت، والركوع، والسجود، والتسبيح) (2).
قال بعض أرباب الحواشي: هذا بعيد؛ لأنه قال هنا (ويقيمون الصلاة) فذكر اسم الصلاة مع إقامتها، وأما في تلك الأماكن فلم يذكر معها اسم الصلاة.
وقال الشيخ أكمل الدين: قيل: إنه على هذا مجاز، من باب ذكر الجزء وإرادة الكل؛ لأن القيام في الصلاة جزء من الصلاة، وفيه نظر؛ لأن الجزء لا يستلزم الكل، فلا يكون مجازا.
والجواب أن المراد القيام في الصلاة، وهو يستلزمها قطعا (3).
وقال الشريف: إن أراد أن القيام يطلق على الصلاة لكونه بعض أركانها، ثم يؤخذ منه الإقامة، ورد عليه أن الهمزة إن جعلت للتعدية كان معنى الإقامة جعل الصلاة مصلية، وإن جعلت للصيرورة كان معنى أقام صار ذا صلاة، فلا يصح ذكر الصلاة معه إلا بجعلها مفعولا مطلقا، والكل ما لا يرتضيه طبع سليم، وإن أراد أن القيام لما كان ركنا منها كان فعله وإيجاده - أعني الإقامة - ركناً لها أيضاً توجه عليه أن ركنها فعل القيام، بمعنى تحصيل هيئة القيام في المصلي حال الصلاة، لا بمعنى تحصيلها في الصلاة، وجعلها قائمة.
فإن قيل: لعله أراد أن القيام جزء منها، فيكون إيجاده - أي الإقامة - جزءًا من إيجاد جميع أجزائها الذي هو أداؤها، فعبر عن أدائها بجزئه.

(1/301)


قلت: المعنى (يقيمون) حينئذٍ يؤدون الصلاة، فيحتاج في ذكر الصلاة معه إلى ارتكاب كونها مفعولا مطلقا.
ولا إشكال في استعمال " قنت " أو " ركع، أو " سجد "، أو " سبح " بمعنى صلى، إذ لا يذكر معها الصلاة (1). انتهى.
* * *
تنبيه: قال الشيخ أكمل الدين: في هذه الوجوه الأربعة - يعني أن الإقامة تجيء لمعان، وأن المذكورة هاهنا يجوز أن تكون واردة على جميع ما ورد فيه الإقامة على سبيل البدل، عند من لا يجوز عموم المشترك، وعلى سبيل الشمول عند من يجوزه.
قال: وهذا الذي ذكرته من أنه مستعمل في الجميع سالم عن جميع ما تقدم إيراده.
قال: ولو جعل المصنف إقامة الصلاة عبارة عن جعلها قائمة - أي حاصلة في الخارج، فإن القيام بهذا المعنى أيضاً شائع في الاستعمال (2)، كما في قولهم: الشيء إما قائم بنفسه، أو بغيره - كان أسلم (3).
وقال الشريف: ذكر بعضهم أن الإقامة تستعمل بمعنى جعل الشيء قائما في الخارج، أي حاصلاً فيه، فإن القيام بمعنى الحصول في الخارج شائع في الاستعمال.
ومنه القيوم، وهو الحاصل بنفسه، المحصل لغيره، ومنه القَوَّام لما يقام به الشيء، أي يحصل، فنحو " أقيموا الصلاة " من الإقامة بهذا المعنى، أي حصلوها وأتوا بها على الوجه المجزئ شرعا، وهو معنى الأداء (4).
* * *
فذلكة: قال الطيبي: تحرير هذا المقام أن قوله (يقيمون الصلاة) ليس على ظاهره فهو إما استعارة تبعية، أو كناية عن الدوام، من قامت السوق: إذا راجت ونفقت؛ لأن نفاقها مشعر بتوجه الرغبات إليها، وهو يدل على المحافظة، وهي على الدوام، أو مجاز في الإسناد، وهو إما بمعنى يجعلون الصلاة قائمة، فيفيد التجلد والتشمر، وأنها مؤادة مع وفور رغبة ومزيد نشاط، كقولهم: قامت الحرب على

(1/302)


ساقها، أو بمعنى يوجدون القيام فيها، أي يقومون فيها، فأسند القيام إليها على المجاز، فيفيد أنهم يؤدونها، من باب إطلاق معظم الشيء على كله (1).
قوله: (والأول أظهر)
هو الوارد (2) عن ابن عباس، أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق عنه (3).
قال الشريف: لما كان (يقيمون الصلاة) في معرض المدح، بلا دلالة على إيجاب كان حمله على تعديل أركانها كما قرره أَوَّلاً أولى، فإنه المناسب لترتيب الهدى الكامل، والفلاح التام الشامل (4).
وقال الراغب: إقامة الصلاة توفية حدودها وإدامتها، وتخصيص الإقامة فيه تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط، ولهذا لم يؤمر بالصلاة، ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة، نحو (المقيمين الصلاة) [سورة النساء 162] ولم يقل المصلين إلا في المنافقين حيث قال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [سورة الماعون 4 - 5].
ومن ثم قيل: المصلون كثير، والمقيمون لها قليل، كما قال عمر رضي الله عنه: " الحاج قليل، والركب (5) كثير (6) ".
وكثير من الأفعال التي حث الله على توفية حقه ذكره بلفظ الإقامة، نحو (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) [سورة الرحمن 10] (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) انتهى.
واختار الإمام الوجه الثاني، وقال: الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل

(1/303)


في أركانها وشرائطها (1).
قال الطيبي: وهذا أولى من قول القاضي، لما مر في تقرير الكناية، فإنها جامعة لجميع المعاني المطلوبة فيها (2).
قوله: (والصلاة فَعَلَةٌ)
قال الشيخ أكمل الدين: يعني مفتوح العين، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها (3).
قوله: (كتبت بالواو على لفظ المفخم).
الطيبي: قيل: التفخيم على ثلاثة أوجه: ترك الإمالة، وإخراج اللام من أسفل اللسان، كما في اسم الله، والإمالة إلى الواو، كما في اسم الصلاة (4).
قال الشيخ سعد الدين: وهو المراد هنا.
قال: وقوله: " المفخم " بكسر الخاء (5)
وقال الشريف: أراد بالتفخيم هنا إمالة الألف نحو مخرج الواو، لا ما هو ضد الإمالة، أو ضد (6) الترقيق (7).
وقال الشيخ أكمل الدين: التفخيم هنا ضد الترقيق (8).
قوله: (وقيل: أصل صلّى حرك الصلا) (9)
هو واحد الصلوين، وهما العظمان الناتئان في أعالي الفخذين، يقال: ضرب الفرس صلويه بذنبه، أي عن يمينه وشماله.
قال الفارسي: الصلاة من الصلوين؛ لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصلوين للركوع، فأمَّا القيام فلا يختص بالصلاة فى دون غيرها.
قال ابن جني: هو حسن (10).

(1/304)


وهذا القول هو الذي اختاره صاحب " الكشاف " لأن غالب اعتماده في الأعاريب والاشتقاقات على كتب الفارسي وابن جني، ولهذا وجب النظر فيها على الناظر في " الكشاف " وهذا التفسير المختصر منه.
والمصنف ضعفه، واختار أن الصلاة منقولة من صلَّى بمعنى دعا، ووافقه المحققون قبله وبعده.
قال الإمام فخر الدين: هذا الاشتقاق - يعني الذي قاله الفارسي - يفضي إلى الطعن في كون القرآن حجة؛ لأن الصلاة من أشهر الألفاظ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء معرفة، ولو جوزنا ذلك - ثم إنه خفي واندرس بحيث لا يعرفه إلا الآحاد - لجاز مثله في سائر الألفاظ، ولو جاز لما قطعنا بأن مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر أفهامنا إليه، بل لعل المراد تلك المعاني المندرسة (1).
قال الطيبي: وأجاب القاضي أن اشتهار اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله (2).
وقال الشريف: في هذا الاشتقاق ضعف من وجهين:
الأول: أن الاشتقاق مما ليس بحدث قليل.
الثاني: أن الصلاة بمعنى الدعاء شائعة في أشعار الجاهلية، ولم يرد عنهم إطلاقها على ذات الأركان، بل ما كانوا يعرفونها، فأنى يتصور لهم التجوز عنها، فالصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن لفظ الصلاة حقيقة في الدعاء، مجاز لغوي في الهيئات المخصوصة المشتملة عليه (3).
قوله: (وإنما سمي الداعي مصليا) إلى آخره هو من تتمة القول الثاني.
قال الطيبي: كأنه جواب عن سؤال سائل أن الداعي يسمى مصليا، وهو لا يحرك الصلوين (4).
قوله: (الرزق في اللغة الحظ)
الشيخ أكمل الدين: الرزق في الأصل مصدر بمعنى الإخراج، وشاع في اللغة أولاً على إخراج حظ إلى آخر ينتفع به، ثم شاع استعمالا وشرعا على إعطاء الله

(1/305)


الحيوان ما ينتفع به، ويستعمل بمعنى المرزوق، وحينئذ يطلق على ما أعطى الله عبده ومَكَّنَهُ من التصرف فيه، وهو معنى الملك، وهو بهذا المعنى يمكن أن ينفق بعضه، أو كله، وعلى ما به قوامه وبقاؤه منه خاصة، وهو معنى الغذاء، والمراد بالآية معنى الملك (1).
قوله: (الطِّلق) بكسر الطاء الحلال الصرف الطيب.
قوله: (وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم)
قال الطيبي: معناه أن الرزق وإن كان كله من الله لكن من شرط ما يضاف إليه من الأفعال أن يكون الأفضل، فالأفضل، كما قال إبراهيم عليه السلام (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [سورة الشعراء 80] وقوله (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (2)
قوله: (وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلّم في حديث عمرو بن قُرَّةَ (3): " لقد رزقك الله طيبا، فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ")
أخرجه ابن ماجه، وأبو نعيم في " المعرفة " والديلمي في " مسند الفردوس " من حديث صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاءه عمر بن قرة فقال: يا رسول الله إن الله تعالى قَدَّر (4) عليَّ الشقوة، فلا أراني أُرزق إلا من دَفِّيْ بَكَفَّيَّ، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال: " لا آذن لك ولا كرامة، كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيبا، فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله " (5)
قوله: (وأنفق الشيء وأنفده أخوان).
قال القطب في " الحاشية ": أي بينهما الاشتقاق الأكبر، فإن بينهما تناسبا في التركيب، وفي المعنى؛ لاشتمال كل منهما على معنى الخروج (6).

(1/306)


قوله: (ولو استقريت الألفاظ وجدت ما يوافقه في الفاء والعين (1) دالا على (2) معنى الذهاب والخروج)
قال القطب: كنفر، ونفز، ونفس، ونفع، ونفى (3).
زاد الشريف: ونفض، ونفث، وأمثالها (4)
قوله: (ومن فسر بالزكاة)
هو تفسير ابن عباس، أخرجه ابن جرير (5)، وأخرج أيضاً عن ابن مسعود أنها نفقة الرجل على أهله (6).
ولا منافاة بينهما؛ لأن كلا ذكر بعض أفراد النفقة
قوله: (لاقترانه بما هو شقيقها)
أي الصلاة من حيث إنهما أُمَّانِ لسائر العبادات، ومن حيث إنهما يذكران معا في القرآن.
قوله: (وتقديم المفعول به)
قال الشريف: سمي الجار والمجرور مفعولا به تنبيها على أنه بحسب المعنى مفعول به، أي بعض ما رزقناهم ينفقون (7)
قوله: (وإدخال " مِن " التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه)
تبع في ذلك صاحب " الكشاف " (8).
وقد ذكر بعض أرباب الحواشي: أن هذا اعتزال، وأنهم يقولون: إن " من " في الآية للإشعار بأنه لا ينبغي أن يتصدق بجميع ماله، بل يبقي منه شيئا خشية الإضاقة، وعدم الصبر عليها.
ونحن نقول: إن " من " يراد بها أن تكون النفقة من الرزق الذي هو حلال،

(1/307)


دون الرزق الذي هو حرام.
وأما كراهية إخراج المال كله للصدقة فليس ممنوعا منه على الإطلاق، فقد تصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجميع ماله (1)، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما يكره ذلك لمن لا يصبر على الإضاقة. انتهى
قوله: (ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعارف) إلى آخره
قال الراغب: الرزق لفظ مشترك للحظ الجاري تارة، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به (ومما رزقناهم ينفقون) محمول على المباح؛ لأنه حث على الإنفاق، ومدح لفاعله، ولأنه مضاف إلى الله تعالى.
والإنفاق كما يكون من المال والنعم الظاهرة يكون من النعم الباطنة، كالعلم، والقوة، والجاه، والجود التام بذل العلم، ومتاع الدنيا عرض زائل.
وقال بعض المحققين في الآية: ومما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون (2). انتهى.
قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: " إن علماً لا يقال به ككنز لا ينفق منه ").
أخرجه بهذا اللفظ ابن عساكر (3) في " تاريخه " من حديث ابن عمر مرفوعا (4)، وأخرجه الطبراني في الأوسط " من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "
مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه (5) "

(1/308)


وأخرج ابن أبي شيبة في " المصنف " عن سلمان قال: " علم لا يقال به ككنز لاينفق منه (1) "
وأخرج أبو نصر السجزي (2) في " الإبانة " وابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعا " إن علما لا ينتفع به ككنز لا ينفق (3) في سبيل الله ".
وأخرج أحمد في " الزهد " عن قتادة قال: " متكوب في الحكمة علم لا يقال به ككنز لا ينفق منه (4)
قوله: (هم مؤمنو أهل الكتاب) أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود (5).
قوله: (كعبد الله بن سلام)
هو بتخفيف اللام، من بني قينقاع الإسرائيلي، من ولد يوسف الصديق، كان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلّم عبد الله (6)، كما رواه ابن ماجه (7).

(1/309)


وقد ألفت جزءاً فيمن غير النبي صلى الله عليه وسلّم أسماءهم (1).
قوله: (وأضرابه)
قال الزمخشري: " أكثر الناس على أن الأضراب جمع ضرب، بالفتح، وعندي بكسرها، فعل بمعنى مفعول، كالطحن، وهو الذي يضرب به المثل، ولابد في المضروب به مثلا، والمضروب فيه من المماثلة (2).
وقال غيره: الضرباء، والأضراب الأمثال، تقول العرب: هو ضربه بالكسر، أي مثله، وضرب وضريب كمثل ومثيل، وشبه وشبيه.
قوله: (وهو قول ابن عباس) أخرجه ابن جرير (3)
قوله: (ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم)
قال الشريف: أورد عليه أَوَّلاً أن الإيمان بالكتب المنزلة مندرج في الإيمان بالغيب، فلم أفرد بالذكر؟
وأجيب بأنه للاعتناء بشأنه، كأنه العمدة.
وثانيا: أنه لم أعيد الموصول، وهلاَّ اكتفي بعطف الصلاة؟
ودفع بأنه للدلالة على استقلال هذه الصفات، واستدعائها أن يذكر معها موصوفها، كأن الموصوف بها مغاير للموصوف بما تقدم.
وفائدة العطف بين الموصولين مع اتحاد الذات ما أشار إليه من معنى الجمع بين تلك الصفات وهذه، كما في العطف بالواو في سائر الصفات.

(1/310)


ورجح هذا الاحتمال على الأول بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة، فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب، ولا دلالة للإفراد بالذكر في الآية.
على أن الإيمان بكل منهما بطريق الاستقلال، ألا ترى إلى قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) [سورة البقرة 136] فقد أفرد فيه الكتب المنزلة من قبل، ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد، وبان ما ذكره في تقديم (بالآخرة) وبناء (يوقنون) على (هم) إنما يقع موقعه إذا عم المؤمنين، وإلا أوهم نفيه عن الطائفة الأولى، وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبله، فإن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل.
وما يقال من أن اشتمال إيمانهم على كل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم، فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن، والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على القرآن، والإنجيل مردود؛ لأن المفهوم المتبادر من أمثال ما نحن فيه ثبوت الحكم لكل واحد، وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب، فتخصيصها بمن عداهم تحكم.
وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام.
وقد يرجح الاحتمال الأول بأن الأصل في العطف التغاير بالذات.
ويجاب بأن هناك تفصيلا: هو أن أدات العطف إن توسطت بين الذوات اقتضت تغايرها بالذات، وإن توسطت بين الصفات اقتضت تغايرها بحسب المفهومات، وكذا الحكم في التأكيد، والبدل، ونحوهما، وإن وقعت فيما يحتملهما على سواء كان الحمل على التغاير بالذات أولى، فلا يحكم في مثل زيد عالم وعاقل بأن الحمل على تغايرهما بالذات (1) أظهر.
وقد يرجح في الآية الكريمة الحمل على عطف الصفة بأن وضع (الذي) على أن يكون صفة، فالظاهر عطفه على الموصول الأول على أنه صفة أخرى (للمتقين) بلا تقسيم، مع أن ما تقدم من وجوه الترجيح شاهد له.
ثم العطف على (الذين يؤمنون بالغيب) صحيح سواء جعل المعطوف عليه موصولا بما قبله، أو منقطعا عنه.

(1/311)


وأما العطف على (المتقين) فإنما يصح على تقدير الوصل فقط، والأول أرجح؛ إذ لا معنى لإخراجهم عن (المتقين) مع اتصافهم بالتقوى إلا أن يحمل على المشارفين، فيتعين العطف عليه؛ لبعد الحمل على المشارفة في المعطوف، وإذا اتحد الموصولان بحسب الذات فإن جعل الموصول الأول استئنافا وجب عطف الثاني عليه، وإن جعل صفة أو مدحا كان العطف أولى؛ لأن الكشف قد تم بالمعطوف (1) عليه، فتأمل (2). انتهى.
قوله: (ووسط العاطف) إلى آخره
قال الشيخ سعد الدين: أورد أمثلة للإشارة إلى أن ذلك يجري في الصفات والأسماء باعتبار تغاير المفهومات، ويكون بالواو والفاء باعتبار تعاقب الانتقال (3)
قوله: (كما وسط في قوله:
إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابنِ الهُمَامِ. . . وَلَيْثِ الكَتِيْبَةِ فِي المُزْدَحِمِ) (4).
القرم الفحل المكرم الذي لا يحمل عليه، ثم سمي به السيد. والهمام من أسماء الملوك؛ لعظم همتهم، أو لأنهم إذا هموا بأمر فعلوه. والكتيبة الجيش.
والمزدحم مكان الازدحام، وهو وقوع القوم بعضهم على بعض.
وقوله: (يا لَهْفَ زَيابة لِلحَارِثِ الـ. . . صَّابَحِ فالغانِمِ فالآيِب)
قال الخطيب التبريزي في " شرح الحماسة ":
قال الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان:
أيا ابنَ زَيَّابَةَ إِنْ تَلْقَنِيْ. . . لا تَلْقَنِيْ فِي النَّعَمِ العَازِبِ
وتَلْقَنِيْ يَشْتَدُّ بِي أَجْرَدٌ. . . مُسْتَقْدِمُ البِرْكَةِ (5) كالرَّاكِبِ
فأجابه ابن زيابة - واسمه سلمة بن ذهل، وزيابة اسم أمه -:
يا لَهْفَ زَيابة لِلحَارِثِ الـ. . . صَّابَحِ فالغانِمِ فالآيِب
واللهِ لو لاقَيْتُهُ خالياً. . . لآبَ سَيْفَانَا مَعَ الغالِبِ
أنا ابنُ زيابة إِنْ تَدْعُنِيْ. . . آتِكَ والظنُّ على الكاذِبِ

(1/312)


قال التبريزي: ومعناه أنه لهف أمه أن لا يلحقه في بعض غاراته فيقتله، أو يأسره (1).
وقال النمري: وصفه بالفتك والظفر وحسن العاقبة، وكيف يذكره بذلك وهو عدوه، وإنما يتأسف على الفائت من قتله وأسره.
ولما كانت هذه الصفة متراخية حسن إدخال الفاء؛ لأن الصابح قبل الغانم، والغانم أمام الآيب.
ويقبح أن تدخل الفاء إذا كانت الصفات مجتمعة في الموصوف، فلا يحسن (2) أن تقول: عجبت من فلان الأزرق العين، فالأشم الأنف، فالشديد الساعد إلا على وجه يبعد؛ لأن زرقة العين، وشمم الأنف، وشدة الساعد قد اجتمعن في الموصوف (3).
ووقع في حاشية الطيبي أن زيابة اسم أبي الشاعر (4). وهو وهْمٌ.
قوله: (إشادة بذكرهم) بالدال المهملة.
في الصحاح: الإشادة رفع الصوت بالشيء، وأشاد بذكره، أي رفع من قدره (5).
قوله: (ولعل نزول الكتب الإلاهية) إلى آخره
مأخوذ من كلام الإمام حيث قال: المراد من إنزال القرآن أن جبريل في السماء سمع كلام الله، فنزل على الرسول به، كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل، ولكن المستمع سمع الرسالة في علو، فنزل وأدى في سفل، وقول الأمير لا يفارق ذاته (6).

(1/313)


فإن قيل: كيف يسمع جبريل كلام الله، وكلامه ليس من الحروف والأصوات؟
قلنا: يحتمل أن يخلق الله له سماعا لكلامه، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم.
ويجوز أن يكون الله تعالى خلق في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل فحفظة. ويجوز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص، في جسم مخصوص، فتلقفه جبريل، ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم (1) انتهى.

(1/314)


قوله: (وإنما عبر عنه بلفظ المضي) إلى آخره
قال الشيخ سعد الدين: فعلى الأول هو مجاز باعتبار تسمية الكل باسم الجزء، وعلى الثاني استعارة باعتبار تشبيه غير المتحقق بالمتحقق.
قال: ويرد على كلا الوجهين:
أَولاً: أنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يتصور معنى مجازي يعم المعنى الحقيقي والمجازي، ليكون من عموم المجاز.
والجواب أن الجمع هو أن يراد باللفظ معناه الحقيقي والمجازي، على أن كلا منهما مراد باللفظ، وهاهنا أريد المعنى الذي بعض أجزائه من أفراد الحقيقة دون البعض.
وثانيا: أن وجوب اشتمال الإيمان على السالف والمترقب لا ينافي الإخبار عنهم في ذلك الوقت بأنهم يؤمنون بالفعل السالف؛ إذ الإيمان بالمترقب إنما يكون عند تحققه، وإن أريد الإيمان بأن كل ما ينزل فهو حق، فهذا حاصل الآن من غير حاجة إلى اعتبار تحقق نزوله.
والجواب أنه لما وجب ذلك وجب في مقام الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به أن يتعرض لذلك، سيما وقد أورد (يؤمنون) بلفظ المضارع المنبئ عن الاستمرار، وعدم الاقتصار على الماضي.

(1/315)


قال: والإشكال في آية (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) [سورة الأحقاف 30] أقوى؛ فإن السماع لم يتعلق إلا بما تحقق إنزاله بالحقيقة، فكيف يكون سبيله سبيل ما ذكر من جعل غير المتحقق بمنزلة المتحقق.
غاية الأمر أن الكتاب اسم للمجموع فيجب أن يراد به البعض، أو يحمل على المفهوم الكلي الصادق على الكل وعلى البعض.
ويجاب بالتأويل أيضاً، يعني أن الكتاب كأنه قد نزل كله وسمعوه، فالتجوز في إيقاع السماع على الكتاب المراد به الكل، مع أنه لم يسمع إلا بعضه (1). انتهى.
وقال الشريف: ذكر للتعبير عن الماضي والمترقب بصيغة الماضي وجهين:
أحدهما: تغليب ما وجد نزوله على ما لم يوجد.
وتحقيقه أن إنزال جميع القرآن معنى واحد، يشتمل على ما حقه صيغة الماضي، وعلى ما حقه صيغة المستقبل، فعبر عنهما معا بصيغة الماضي، ولم يعكس، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، فذلك من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل.
والثاني: تشبيه مجموع المنزل بشيء نزل في تحقق النزول؛ لأنه بعضه نازل، وبعضه مستقبل سينزل قطعا، فيصير إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل، فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع.
قال: وقد اضمحل بما فصلناه ما يتوهم من لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز في كل واحد من الوجهين.
قال: وأما قوله: (إنا سمعنا كتابا) فإنما كان نظير ذلك؛ لأن المراد بقوله (كتابا) هو المجموع؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق خصوصا إذا قيد بكونه منزلا من بعد موسى، لا بعضه، ولا القدر المشترك بينه وبين كله، وقد عبر عن إنزاله بلفظ الماضي (2) مع أن بعضه كان حينئذٍ مترقبا، فوجب أن يؤول بأحد تأويلين.
وأما (سمعنا) فالظاهر فيه تغليب المسموع على ما لم يسمع في إيقاع السماع عليه (3). انتهى.

(1/316)


قوله: (أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه) إلى آخره.
إشارة إلى ما قاله الإمام في تفسير اليقين: إنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه (1).
قوله: (وفي تقديم الصلة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بمن عداهم) إلى آخره
قال الشيخ تقي الدين السبكي في " الاقتناص ": إنما قال: وبناء (يوقنون) على (هم) دون وتقديم (هم) لأن التقديم إنما يكون عن تأخير، وليس بلازم هنا؛ لاحتمال أنه جعل مبتدأ من أصله خبره الفعل، لا أنه فعل وفاعل قدم وأخر. انتهى.
وقد حذف المصنف من الكشاف تقدير إفادته الاختصاص هنا، فأغنى عن الكلام عليه.
نعم قال الشريف: هنا تقديمان:
الأول: تقديم الظرف الذي هو (بالآخرة) ويفيد تخصيص إيقانهم بالآخرة، أي أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة، لا يتعداها إلى ما هو على خلاف حقيقتها، وفي ذلك تعريض بأن ما عليه مقابلوهم ليس من حقيقة الآخرة في شيء، كأنه قيل: يوقنون بالآخرة، لا بخلافها، كأهل الكتاب.
الثاني: تقديم المسند إليه الذي بني عليه (يوقنون) ويفيد أيضاً تخصيص (2) أن الإيقان بالآخرة منحصر فيهم، لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب، وفيه تعريض بأن اعتقادهم الذي يزعمون أنه إيقان بالآخرة ليس بإيقان، بل هو جهل محض، كما أن معتقدهم خيال فاسد (3).
وكذا قرره الشيخ أكمل الدين وقال: فبَانَ بهذا أن هنا تخصيصين وتعريضين.
قال: ثم إن كلا من التعريضين إنما هو على سبيل الكناية؛ لأنه (4) لما لم يكن لأهل الكتاب إيقان كان الإيقان مخصوصا بالمؤمنين، فالانتقال من اختصاص الإيقان بالمؤمنين إلى سلب الإيقان عن أهل الكتاب انتقال من اللازم إلى الملزوم،

(1/317)


فكان كناية، وكذا في التعريض الثاني.
قال: ومن الناس من قال: ليس هنا إلا تعريض واحد، وذلك لأن ظاهر كلامه أن في تقديم الآخرة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريضا، أي في هذين الأمرين تعريض بأهل الكتاب، وبما كانوا عليه، وهو من باب أعجبني زيد وكرمه، وذكر أهل الكتاب. توطئة، والمقصود ما كانوا عليه، كما أن ذكر زيد في المثال توطئة، والمقصود كرمه فمآل الكلام إلى أن التقديمين أفاد التعريض بأن ما كانوا عليه من أمر الآخرة ليس بشيء؛
لكونه على خلاف حقيقته، وأن إيقانهم ليس بإيقان (1). انتهى.
يشير بهذا القائل إلى الطيبي (2).
قوله: (واليقين إتقان العلم بنفي الشبهة) إلى آخره
قال الشيخ أكمل الدين، والشريف: يريد أن العلم الذي من شانه أن يتطرق إليه الشك والشبهة إذا انتفيا عنه كان إيقانا، ولذلك لا يوصف به العلم القديم، ولا الضروري، فلا يقال: تيقنت أن الكل أعظم من الجزء (3).
وقال الإمام: لا يقال: تيقنت أن السماء فوقي، ويقال: تيقنت ما أردته بكلامك (4).
قال الشيخ أكمل الدين: والعلم الذي من شأنه ذلك هو الذي يكون بمعنى الظن.
قال: ولو قال: هو العلم وهو الإدراك الذي لا يحتمل النقيض كان أجرى على الأصول (5).
الراغب: اليقين من صفة العلم، فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون النفس مع ثبات الحكم (6).
قوله: (والآخرة تأنيث الآخِر صفة الدار)

(1/318)


قال بعض أرباب الحواشي: أجاز الماوردي أن تكون الآخرة صفة للنشأة الآخرة (1)، لقوله تعالى (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [سورة العنكبوت 20]
قوله: (فغلبت كالدنيا)
الشيخ أكمل الدين: قال الزمخشري: " الغلبة تكون في الأسماء، كالبيت على الكعبة، وقد تكون في الصفات كالرحمن غير مضاف، وقد تكون في المعاني كالخوض على الشروع في الباطل خاصة، وهاهنا في الصفات، وكذا الدنيا، ثم إنهما مع الغلبة المذكورة جرتا مجرى الأسماء لما غلب حذف موصوفهما معهما.
وقد فرق بين ما غلب من الصفات فاستعمل في موصوف معين كالرحمن، وبين ما جرى مجرى الأسماء بحذف الموصوف، كالذي نحن فيه بأن استعمال الأول في موصوف معين سبب صيرورته من الصفات الغالبة، واستعمال الثاني بدون الموصوف سبب جريانه مجرى الأسماء (2). انتهى.
قوله: (ونظيره:
لَحُبَّ المُؤْقِدانِ إلَيُّ مُؤْسَى. . . وجَعْدةُ إذ أضاءهما الوُقُوْدُ)
قال الطيبي: هو لجرير (3)، و " مؤسى " و " جعدة " ابناه، وهما عطفا بيان لقوله: " المؤقدان " كانا يوقدان نار القرى، و " إذ أضاءهما " بدل اشتمال منهما، يحمد أفعالهما ويشكر صنيعهما، واللام في " لحب " للقسم، و " حب " فعل ماض، بضم الحاء وفتحها من " أحبَّ " و " حبَّ " والمعنى: وحبب الله إليّ وقت إضاءة وقودهما
إياهما.
هكذا روى سيبويه بقلب الواو في " المؤقدان "، و " مؤسى " همزة (4). انتهى.
وقال الشيخ أكمل الدين: المعنى ما أحبهما إليّ حيث اشتهرا بالكرم، وكنُّى عن الاشتهار بالكرم بإضاءة الوقود، والمراد بالوقود وقود نار القرى، فإنه المراد عند الإطلاق من استعمال العرب، واللام جواب القسم المحذوف، ولم يؤت

(1/319)


بـ " قد " مع أنه ماض مثبت، لإجرائه مجرى فعل المدح، نحو والله لنعم الرجل زيد (1).
وقال الشريف: الشعر لجرير، أو لأبي حَيَّة النميري (2)، وصف ابنيه بالكرم والاشتهار به، فكنى عن الأول بإيقاد نار القرى، وعن الثاني بإضاءة الوقود إياهما، و " لحب " أصله حَبُبَ على وزن شرف، فأدغم بالإسكان، أو بنقل الضمة، يقال: حُبَّ إليَّ فلان، أي ما أحبه إليَّ، وقد صح الوقود هنا بضم الواو، وهو مصدر (3). انتهى.
وقال ابن جني في " الخصائص " - وقد أورد البيت في باب الجوار -: ومن الجوار في المتصل قول جرير:
لحب المؤقدان إليَّ مؤسى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وذلك أنه تصور الضمة - لمجاورتها الواو - كأنها فيها، فهمز كما يهمز (4) في " أدؤر ونحوه " (5).
وقال في باب " شواذ الهمزة ": وأنشدوا لجرير:
لحب المؤقدان إليّ مؤسى. . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
بالهمز في " المؤقدان " وفي مؤسى (6)
والبيت من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك (7)، أولها:
عَفَا النَّسْرَانِ بَعْدَكَ فَالوَحِيْدُ. . . ولا يَبْقَى لِجِدَّتِهِ جَدِيْدُ

(1/320)


نَظَرْنَا نَارَ جَعْدَةَ هَلْ نَرَاها. . . أَبُعْدٌ غَالَ ضَوْءَكِ أَمْ هُمُوْدُ
لحب المؤقدان إلي مؤسى. . . وجعدة إذ (1) أضاءهما الوقود
تَعَرَّضَتِ الهُمُوْمُ لنا فَقَالَتْ:. . . جُعَادَةُ أيَّ مُرْتَحَلٍ تُرِيْدُ
فقلت لها: الخليفةَ غَيرَ شَكٍّ. . . هُو المَهْدِيُّ والحَكَمُ الرُّشِيْدُ
ومنها:
هِشامُ المُلْكِ والحَكَم المُصَفَّىْ. . . يَطِيْبُ إِذَاْ نَزلتَ بِهِ الصَّعِيْدُ
يَعُمُّ على البَرِيَّةِ منك فَضْلٌ. . . وتُطْرِقُ مِن مَخَافَتِكَ الأسُودُ
وَإنْ أهْلُ الضُّلالةِ خَالَفوكم. . . أَصَابَهُمْ كَمَا لَقِيَتْ ثَمُوْدُ
وأمَّا من أطاعكُمُ فَيَرْضَى. . . وذو الأضغانِ يَخْضَعُ مُسْتَقِيْدُ (2)
قوله: (الجملة في محل رفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له)
قال الشريف: هو مذكور فيما تقدم، وإنما كرره ليرتبط به قوله: " وإلا " (3)
وقال أبو حيان، إن جعلنا (4) (الذين) مبتدأً فـ (أولئك) مع ما بعده يكون مبتدأً وخبرا في موضع خبر (الذين).
ويجوز أن يكون بدلا، وعطف بيان.
ويمتنع الوصف لكونه أعرف، ويكون خبر (الذين) إذ ذاك قوله (على هدى) (5) انتهى.
وقد أحسن المصنف حيث قال: (إن جعل أحد الموصولين) مصلحا به عبارة الكشاف حيث اقتصر على الموصول الأول، فأورد عليه الثاني.
قال الشيخ أكمل الدين: ويجوز أن يكون من باب:
نحنُ بما عندنا، وأنتَ بما ... عندك راضٍ (6). . . . . . . . . . . .

(1/321)


أي الذين يؤمنون بالغيب أولئك على هدى، والذين يؤمنون بما أنزل إليك كذلك (1).
قوله: (وكأنه لما قيل: (هدى للمتقين) قيل: ما بالهم خصوا بذلك؟) إلى آخره
قال الشريف: أي ما حالهم مختصين بذلك، وهل هم أحقّاء به، فمآل السؤال إلى أنهم هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص؟
والجواب يشتمل على هذا الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه، وقد ضم فيه إلى الهدى نتيجته تقوية للمبالغة التي تضمنها تنكيره، كأنه قيل: هم مستحقون للاختصاص، والسبب فيه تلك الأوصاف التي رتب عليها الحكم، فاستغنى عن تأكيد النسبة ببيان علتها.
وقد يقال: المقصود من السؤال هو السبب فقط، أي ما سبب اختصاصهم واستحقافهم إلا أنه بين في الجواب مرتبا عليه مُسَبَّبه، فإن ذلك أوصل إلى معرفة السبب، فلا حاجة أصلا إلى تأكيد الجملة.
وربما قيل: قصد به مجموع الأمرين، أي هل هم أحقّاء بذلك، وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟
وإنما قال: " كأنه قيل " إذ ليس هناك سؤال، بل اتجاه سؤال، فجعل لذلك كأنه مقدر (2). انتهى.
وكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة.
قال الطيبي: فوزان قوله (هدى للمتقين) إلى قوله (ينفقون) وزان قوله (الحمد لله رب العالمين) إلى قوله (مالك يوم الدين) ووزان قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين) وزان قوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
قال: وهاهنا سر دقيق: وهو أنه تعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لبارئه بسبب إحسانه إليه، وترقى فيه، ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد (3).

(1/322)


قوله: (ومعنى الاستعلاء في (على هدى) تمثيل تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه).
قال الطيبي: أي هو استعارة تمثيلية، واقعة على سبيل التبعية، وتقريره أن يقال: شبهت حالهم - وهي تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسكهم به - بحال من اعتلى الشيء وركبه، ثم استعير للحالة التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به.
قال: ويدلك على أن الاستعارة التبعية تمثيلية الاستقراء، وبه يشعر قول صاحب " المفتاح " في استعارة " لعلّ " فتشبه حالُ المكلف - وكيت، وكيت - بحال المرتجي المخير. إلى آخره (1).
وقال الشيخ أكمل الدين: يعني أنه استعارة تمثيلية، فإن الاستعارة من فروع التشبيه، والتشبيه إما أن يكون وجهه منزعا من عدة أمور، أولا، والأوّل هو التمثيل، والثاني غيره.
ووجه ذلك ما ذكره بقوله: " شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه " فكما أن حال الراكب هي تمكنه من المركوب، واستقراره عليه، كذلك حال أولئك مع الهدى، فاستعير للمشبه كلمة " على " المستعملة للمشبه به، فليس معنى " على " هاهنا الاستعلاء، بل حالهم يشابه الاستعلاء.
وإنما قال: " معنى الاستعلاء "؛ لأنه من الاستعارة التبعية، فلا بد من تقدير الاستعارة في معنى الاستعلاء؛ ليسري إلى الحرف (2).
وقال الشريف: يريد أن كلمة " على " هذه استعارة تبعية، شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء، كما شبه استعلاء المصلوب على الجذع باستقرار المظروف في الظرف بجامع الثبات، فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية.
وإنما قال: " معنى الاستعلاء " دون معنى " على "؛ لأن الاستعارة في الحرف تقع أولاً في متعلق معناه كالاستعلاء والظرفية والابتداء مثلا، ثم تسري إليه بتبعية.

(1/323)


وقوله: " تمثيل " (1) أي تصوير فإن المقصود من الاستعارة تصوير المشبه بصورة المشبه به إبرازا لوجه الشبه فيه بصورته في المشبه به، فإذا قلت: رأيت أسدا يرمي فقد صورته في
شجاعته بصورة الأسد وجراءته.
ومن الناس من زعم أن الاستعارة في " على " تبعية تمثيلية.
قال: أما كونها تبعية فلجريانها أولا في متعلق معنى الحرف، وتبعيتها في الحرف.
وأما كونها تمثيلية فلكون كل من طرفي التشبيه حالة منتزعة من عدة أمور.
فورد عليه أن انتزاع كل من طرفيه من أمور عدة يستلزم تركبه من معان متعدة، ومن البيّن أن متعلق معنى كلمة " على " وهو الاستعلاء معنى مفرد، كالضرب ونظائره، فلا يكون مشبها به في تشبيه تزكب طرفاه، وإن ضم إليه معنى آخر، وجعل المجموع مشبها به لم يكن معنى الاستعلاء مشبها به في هذا التشبيه، فكيف يسري التشبيه والاستعارة منه إلى معنى الحرف!
والحاصل أن كون " على " استعارة تبعية يستلزم كون الاستعلاء مشبها به، وأن تركب الطرفين يستلزم أن لا يكون مشبها به، فلا يجتمعان.
وأجيب عنه بأن انتزاع كل من طرفيه من عدة أمور لا يوجب تركبه، بل يقتضي تعددا في مأخذه، وهو مردود بأن المشبه مثلا إذا كان منتزعا من أشياء متعددة فإما أن ينتزع بتمامه من كل واحد منها، وهو باطل، فإذا أخذ كذلك من واحد منها كان أخذه مرة ثانية من واحد آخر لغوا، بل تحصيلا للحاصل.
وإما أن ينتزع من كل واحد منها بعض منه، فيكون مركبا بالضرورة.
وإما أن لا يكون هناك لا هذا ولا ذاك، وهو أيضاً باطل، إذ لا معنى لانتزاعه حينئذ من تلك الأمور المتعددة.
على أن هذا الزاعم قد صرّح في تفسير قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) بأنه لا معنى لتشبيه المركب بالمركب إلا أن تنتزع كيفية من أمور عدة، فتشبه بكيفية أخرى مثلها، فيقع في كل واحد من الطرفين أمور متعددة، وأنت خبير بأن أمثال ذلك مما لا يشتبه على ذي مسكة، إلا أن جماعة قد غفلوا في هذا المقام

(1/324)


عن رعاية القواعد، فزلت بهم أقدامهم.
وإن شئت مزيد تحقيق فاعلم أن قوله (على هدى) يحتمل وجوها ثلاثة:
الأول: ما مر من تشبيه تمسكهم بالهدى باعتلاء الراكب.
الثاني: أن تشبيه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية، تركب كل من طرفيها، لكنه لم يصرح من الألفاظ التي هي بإزاء المشبه به إلا بكلمة " على " فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تبع له، يلاحظ معه في ضمن ألفاظ منوية، وإن لم تكن مقدرة في نظم الكلام، وستعرف الفرق بينهما، فلا يكون في " على " استعارة أصلا، بل هي على حالها قبل الاستعارة، كما إذا صرّح بتلك الألفاظ كلها.
الثالث: أن يشبه الهدى بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتجعل كلمة " على " قرينة لها، على عكس الوجه الأول، فمن اعتبر هنا تلك الهيئة، وحكم بأن الاستعارة تبعية فقد اشتبه عليه الفرق بين الوجه الأول والثاني.
وما يتوهم من أن عبارة " المفتاح " في استعارة " لعلّ " بينة في اجتماع التبعية والتمثيلية، فهو مضمحل بما لخصناه في شرحه عليه، على وجه لا مزيد عليه (1). انتهى
قوله: (وقل صرحوا به)
قال الطيبي: أي بإرادتهم معنى الاستعلاء والركوب فيما يشبه الآية (2).
قوله: (في قولهم: امتطى الجهل)
قال الطيبي: أي اتخذ الجهل مطية، وهو تشبيه (3).
قال الشيخ أكمل الدين: يعني كالمطية (4)
وقال الشريف: إن جعل بمنزلة قولك: ركب مَطَى الجهل كان استعارة بالكناية، وإن جعل في قوة قولك: اتخذ الجهل مطية كان تشبيها، وأيّاً ما كان فتشبيه الجهل بالمطية مقصود منه، وهو المراد بكونه مصرحا به.

(1/325)


وقيل: امتطى استعارة تبعية، شبه اتصافه بالجهل واستقراره عليه بامتطاء المطية، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، وسرت الاستعارة إلى الفعل، وذكر المفعول قرينة لها.
وفيه بحث؛ إذ لا فرق حنيئذ بينه وبين قوله (على هدى) في أن تشبيه الهدى والجهل
بالمركب ليس مقصودا فيهما، فكيف يجعل مصرحا به في أحدهما دون الآخر (1). انتهى.
قوله: (واقتعد غارب الهوى).
قال الطيبي: هو استعارة، إما تحقيقية، أو تخييلية، " واقتعد " ترشيح لها، نحو قوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وعُرِّيَ أَفْرَاسُ الصّبَا وَرَوَاحِلُهْ (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: في " الهوى " استعارة مكنية، وفي " غارب " استعارة تخييلية (3).
وقال الشريف: شبه الهوى بالمطية على طريقة الاستعارة المكنية، وخيل بإثبات الغارب، ورشح بذكر الاقتعاد (4).
قوله: (ونكر (هدى) للتعظيم).
قال أبو حيان: وقد يكون ثم صفة محذوفة، أي على هدى، أيّ هدى.
قال: وحذف الصفة لفهم المعنى جائز (5).
قوله: (لا يبلغ كنهه)
قال: الشريف: أي نهايته.
وفي الأساس: سله عن كنه الأمر، أي حقيقته وكيفيته، واكتنه الأمر بلغ كنهه

(1/326)


وغايته (1).
قوله: (ولا يقادر قدره).
الأساس: قدرت الشيء أقدره، وهذا شيء لا يقادر قدره، وفلان يقادرني، أي يطلب مساواتي، وتقادر الرجلان طلب كل واحد مساواة الآخر (2).
قوله: (ومثله (3) قول الهذلي:
فلا وَأَبِي الطَّيرِ المُرِبَّةِ بِالضُّحَى. . . على خَالدٍ لقد وقعتَ على لَحْمٍ).
هو لأبي خراش خويلد بن مرة الهذلي، يرثي خالد بن زهير.
وقال الطيبي: كان الزمخشري يقول: ما أفصحك يا بيت!
والمربة اللازمة، من أَرَبَّ بالمكان إذا أقام به.
ولقد كان خالد هذا رفيع الشأن، علِيَّ القدر، فاستعظم لحمه حيث نكره، وبسبب تعظيمه اللحم استعظم الطير الواقعة عليه، حيث أقسم بأبيها، والإقسام بالشيء دليل تعظيمه، وكذلك الكنى تدل على التعظيم.
ثم إن جعلت " لا " زائدة كان جواب القسم " لقد وقعت " وفيه إشعار من حيث الالتفات بالتعظيم، ومن حيث أن سبب الإقسام بها كونها واقعة على ذلك اللحم فيه تعظيم الشيء بنفسه، وإن لم تجعل " لا " زائدة، بل ردا لكلام سابق، أي ليس الأمر كما زعمت وحق أبي الطير، يكون جواب القسم ما دلت عليه " لا " ثم ابتدأ بإنشاء قسم آخر، أي والله لقد وقعت على لحم، كقوله تعالى (لا أقسم بيوم القيامة) فيكون صفة للطير على تأويل الطير المقول في حقه ذلك (4).
وقال الشيخ أكمل الدين: الاستشهاد بقوله " على لحم " أي أَيِّ لحم، وأبو الطير إما أن يريد به خالدا، وهو الأظهر، لوقوعها عليه، كما يقال: أبو التراب، وإما أن يريد أبا ذلك النوع من الطير؛ لأنه لما استعظمها بوقوعها عليه استعظم أباها؛ لأنه أصلها وأقسم به، أو الطير نفسها، والأب مقحم، وصدر القسم ب " لا " كما في (لا أقسم) ويجوز أن يكون بأبي الشاعر، ومعناه وحق أبي، وحق الطير، فيكون الطير

(1/327)


مجروراً بحذف حرف القسم، كما في قولهم: اللهِ لأفعلنّ (1).
وقال الشيخ سعد الدين الشعر في " ديوان الهذليين " هكذا:
لَعَمْرُ أبي الطير المربّة غدوة. . . على خالد لقد علقنَ على لحم
فلا وأبي لا تأكلُ الطيرُ مثلَهُ. . . عَشِيَّةَ أمسى لا يَبِيْنُ مِن السِّلْمِ
برفع " الطير المربة " على أنه فاعل فعل يفسره " لقد علقن " أي لقد علقت الطير (2). انتهى.
قلت: والذي رأيته أنا في " ديوان هذيل " ثلاثة أبيات لا رابع لها، وهي:
لعمر أبي الطير الموبة غدوة (3). . . على خالد لقد وقعت على لحم
وإئكِ (4) لو أبصرتِ مَصْرَعَ خالدٍ. . . بِجَنْبِ السِّتَارِ بَيْنَ أَبرقَ فالحَزْمِ
لأَيْقَنْتَ أَنَّ البكرَ غيرُ رَزِيَّةٍ. . . ولا النَّابَ، لا ضَمَّتْ () 5 يداكِ على غُنْمِ (6)
قال ابن عبد البر في " الاستيعاب ": أبو خراس كان من فرسان العرب، وكان يعدو على قدميه فيسبق الخيل، فحسن إسلامه، ومات في زمن عمر بن الخطاب من نهش حية (7).
قوله: (وقد أدغمت النون في الراء بغنة، وبغير غنة)
قال الشيخ سعد الدين: هذا بحسب العربية، وأما بحسب الرواية عن القراء فالأكثر أنه لا غنة مع الراء واللام (8).
وقال الشريف: المشهور عند القراء أن لا غنة مع الراء واللام، وقد وردت عنهم في بعض الراويات الغنة معهما، ولا نزاع في جوازها بحسب العربية (9).
قوله: (كرر فيه اسم الإشارة) إلى آخره

(1/328)


قال الشريف: محصول ما ذكره أن تكرير (أولئك) أفاد اختصاصهم بكل واحد منهما على حدة، فيكون كل منهما مميزا لهم عمن عداهم، ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع، فيكون هو المميز، لا كل واحد (1).
قوله: (من الأثرتين) بفتح الهمزة والمثلثة، أي الاختصاصين.
قوله: (ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين) إلى آخره.
قال الشريف: يعني أن (على هدى) و (المفلحون) مع كونهما متناسبتين معنيان مختلفان مفهوما ووجودا؛ فإن الهدى في الدنيا، والفلاح في العقبى، وإثبات كل منهما أمر مقصود في نفسه، والجملتان المشتملتان عليهما المتحدتان في المخبر عنه واقعتان بين كمالي الاتصال، والانفصال، فلذلك أدخل العاطف بينهما.
وأما (كالأنعام) و (الغافلون) فهما وإن اختلفا مفهوما فقد اتحدا مقصودا؛ إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة، فالجملة الثانية هاهنا (2) المشاركة للأولى في المحكوم عليه مؤكدة لها، فلا مجال للعاطف بينهما (3).
قوله: (و (هم) فصل يفصل الخبر عن الصفة، ويؤكد النسبة)
قال بعض أرباب الحواشي: الأول: مذهب البصريين، وهو تفصيل لكونه فصلا؛ لأنه فصل بين كونه خبرا أو صفة.
والثاني: مذهب الكوفيين، وعبروا عنه بكونه عمادا؛ لأن الخبر اعتمد على المبتدإ،
وعلى كل واحد من المذهبين إشكال.
أما الأول فقد جاء الفصل حيث استحالت الصفة في نحو (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) [سورة المائدة 117] و (كانوا هم الظالمين) [سورة الزخرف 76] (تجدوه عند الله هو خيرا) [سورة المزمل 20] والضمير لا يوصف.
وأما الثاني: فلأنه مبني على أنه لا يجوز أن يقال: زيد هو العالم أبوه، وهو ممنوع لا يثبت بمجرد الدعوى. انتهى.
وقال الشيخ علم الدين السخاوي في " شرح الأحاجي ": إن كان الفصل إنما

(1/329)


سمي فصلا لأنه يفصل بين الخبر والصفة فليس هو في نحو: كان زيد هو خيرا منك فصلا؛ لأنه لا ريبة في أن ما بعده لا يكون صفة.
والذي يقال في هذا: أن هذا الضمير المتوسط بين المبتدإ والخبر دخل لأمرين:
أحدهما: الفصل بين ما يكون صفة أو خبرا.
والثاني: التأكيد
قال الشيخ أبو العلاء (1): ولو قيل: دخل ليعلم أن الذي بعده يصلح أن يكون نعتا لكان وجها حسنا (2).
قوله: (أو مبتدأ)
قال الشريف: قسيم لقوله: " فصل " (3)
قو له: (و (المفلحون) خبره)
قال الطيبي: فعلى هذا تكون الجملة من باب تقوي الحكم، أو من التخصيص على نحو هو عارف (4).
قوله: (و (المفلحون) بالحاء والجيم الفائزون (5) بالمطلوب)
مراده تفسير اللفظ من حيث اللغة، وإلا فالقراءة بالحاء، لا غير، ولم ترد قراءة شاذة بالجيم.
قال في " الصحاح " في باب الجيم: الفلج الظفر والفوز، وقد فلج الرجل على خصمه يفلج فلجاً (6).
وقال في باب الحاء: الفلاح الفوز والبقاء والنجاة (7).

(1/330)


قوله: (نحو فلق) أي شق (وفلذ) أي. قطع (وفلا) يقال: فلوته بالسيف، أي ضربته به.
قوله (وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة. المفلحين وخصوصياتهم)
قال الطيبي: فالتعريف على الأول للعهد، وعلى الثاني للجنس، فعلى الأول هو قصر المسند على المسند إليه، فالفلاح لا يتعدى إلى غيرهم، وعلى الثاني عكسه، فلا يتعدون من الفلاح إلى صفة أخرى (1).
وقال الشريف: اللام على الأول لتعريف العهد الخارجي، ولا حاجة إلى اعتبار قصر، كما إذا قلت: الزيدون هم المنطلقون، إشارة إلى المعهودين بالانطلاق، ولك أن تعتبر كلمة (هم) فصلا، وتقصد قصر المسند على المسند إليه إفرادا، نفيا لما عسى أن يتوهم من أن المعهودين بالفلاح في الآخرة يندرج فيهم غير المتقين أيضاً.
وعلى الثاني: لتعريف الجنس المسمى بتعيين (2) الحقيقة.
ثم إن المعرّف بلام الجنس قد يقصد به تارة حصره في المبتدإ إما حقيقة، أو ادعاء، نحو زيد الأمير، إذا انحصرت الإمارة فيه، أو كان كاملا فيها، كأنه قيل: زيد كل الأمير، وقد يقصد به أخرى أن المبتدأ هو عين ذلك الجنس ومتحد به، لا أن ذلك الجنس مفهوم مغاير للمبتدإ منحصر فيه على أحد الوجهين، فهذا معنى آخر للخبر المعرّف بلام الجنس غير الحصر (3).
قوله: (ورد بأن المراد بالمفلحين) إلى آخره
قال الطيبي: الأحسن في الجواب أن المراد بالمتقين المجتنبون للشرك، فيدخل العاصي في هذا الحكم العام.
قال: فإن قلت: كيف جاز أن يكون العاصي مفلحا؟
قلت: كما جاز أن يكون مصطفى في قوله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا

(1/331)


مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) [سورة فاطر 32]
* * *
قوله: (ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين، كما عطف في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) [سورة الانفطار 13، 14] لتباينهما في الغرض) إلى آخره.
نوزع فيه بأن المقصود من الأولى بيان انتفاع المتقين بالكتاب، واهتدائهم به اللازم عنه أنهم يؤمنون (1)، ومن الثانية بيان عدم انتفاعهم به، وعدم اهتدائهم المعبر عنه باستواء الإنذار وعدمه اللازم عنه أنهم لا يؤمنون، فاتحد الغرض منهما، وهو بيان الحال، كما اتحد في آيتي (إن الأبرار. . . وإن الفجار) غرض بيان المآل.
وأجاب الشيخ سعد الدين بأن الحكم على الكفار بذلك لا يقتضي كون الكتاب بهذه المثابة غرضا مسوقا له الكلام (2).
قوله: (وإنَّ من الحروف التي شابهت الفعل) إلى آخره
قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": إنما عملت " إنَّ وأخواتها " لشبهها بالأفعال، وذلك من وجوه:
منها: اختصاصها بالأسماء، كاختصاص الأفعال بالأسماء.
ومنها: أنها على لفظ الأفعال؛ إذ كانت على أكثر من حرفين، كالأفعال.
ومنها: أنها مبنية على الفتح، كالأفعال الماضية.
ومنها: أنها يتصل بها المضمر المنصوب، ويتعلق بها كتعلقه بالفعل في نحو " ضربك " و " ضربه " و " ضربني " فلما كان بينها وبين الأفعال ما ذكرنا من المشابهة كانت داخلة على المبتدإ والخبر، وهي مقتضية لهما جميعا.
ألا ترى أَنَّ " إنَّ " لتأكيد الجملة، و " لكن " لاستدراك الخبر، فلا بد من الخبر لأنه المستدرك، ولابد من المبتدإ ليعلم خبر من قد أستدرك، و " ليت " في قولك: ليت زيدا قادم تمنّ لقدوم زيد، و " لعلّ " ترج، و " كأنَّ " تقتضي مشبها ومشبها به.
فلما اقتضتهما جميعا جرت مجرى الفعل المتعدي، فلذلك نصبت الاسم، ورفعت الخبر، وشبهت من الأفعال بما قدم مفعوله على فاعله، فقولك: إن زيدا قائم، بمنزلة ضرب زيدا رجل، وإنما قدم المنصوب فيها على المرفوع فرقا بينها

(1/332)


وبين الفعل، فالفعل من حيث كان الأصل في العمل جرى على سنن قياسه في تقدم المرفوع على المنصوب؛ إذ كانت رتبة الفاعل متقدمة على المفعول، وهذه الحروف لما كانت في العمل فروعا على الأفعال، ومحمولة عليها جعلت دونها بأن قدم المنصوب فيها على المرفوع حَطًّا لها عن درجة الأفعال؛ إذ تقديم المفعول على الفاعل فرع، وتقديم الفاعل أصل.
وذهب الكوفيون إلى أن هذه الحروف لم تعمل في الخبر الرفع، وإنما تعمل في الاسم النصب، لا غير، والخبر مرفوع على حاله، كما كان مع المبتدإ.
وهو فاسد؛ لأن الابتداء قد زال، وبه وبالمبتدإ كان يرتفع الخبر، فلما زال العامل بطل أن يكون هذا معمولا فيه، ومع ذلك فإنا وجدنا كل ما عمل في المبتدإ عمل في خبره، نحو كان وأخواتها، وظننت وأخواتها، لما عملت في المبتدإ عملت في الخبر، وليس فيه تسوية بين الأصل والفرع؛ لأنه قد حصلت المخالفة بتقديم المنصوب على المرفوع. انتهى (1)
قوله: (وتذكر في معرض الشك)
وهو معنى قول الشيخ عبد القاهر إنما تذكر في الخبر حيث كان للمخاطب ظن بخلاقه (2).
قوله: (وتعريف الموصول إما للعهد) إلى آخره
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن تعريف " الذي " كتعريف ذي اللام، قد يكون للعهد، وقد يكون للجنس (3).
قوله: (والمراد به ناس بأعيانهم) إلى آخره
قلت: أخرج ابن جرير وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أن المراد به الكفار من اليهود خاصة (4).
وهو الظاهر بقرينة إيلائه المؤمنين من أهل الكتاب، ولأن السورة مدنية، وأكثر الخطاب فيها لليهود، وقد خوطب كفار قريش بمثل ذلك في سورة يس في قوله

(1/333)


(وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [سورة يس 10].
أخرج أبو نعيم في " دلائل النبوة " عن ابن عباس أنها في كفار قريش (1).
وقد جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن أنه حيث ذكر في السور المكية أمرا ذكر في المدنية مثله، لأجل أهل الكتاب، كما ذكرت ولادة يحيى وعيسى في سورة مريم، وهي مكية، ثم دكرت في سورة آل عمران لأنها مدنية لأجل أهل الكتاب.
قوله: (صمم) في الصحاح: صمم في السير، أي مضى (2)
قوله: (وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به)
هو حد الإمام فخر الدين ذكره بعد قوله: إن المتكلمين صعب عليهم حد الكفر (3).
وخرج بالضرورة ما علم بالاستدلال، أو بخبر الواحد، ولهذا لم يكفر أحد بذنب (4)، ولا ببدعة.
وقال تلميذه الزنجاني (5): هذا الحد غير واف بالمقصود إذ الإنكار يختص

(1/334)


بالقول، والكفر يحصل بالفعل، وإنكار ما ثبت بالإجماع قد يخرج عن الضروريات.
وأيضاً فإنا قد نكفر المجسم والخارجي، وبطلان قولهما ليس من الضروريات، وكذا الطاعن في عائشة رضي الله عنها، وبراءتها ثبتت بالقرآن (1)، والأدلة اللفظية غير موجبة للعلم (2)، فيخرج عن الضروريات.
وأقول: الجواب عن الفعل قد تولاه الإمام بنفسه (3)، وأشار إليه المصنف بقوله: (وإنما عُدَّ لُبْسُ الغيار) إلى آخره.
وخروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع، وكذا بطلان قول المجسم.
وأما الخارجي فإنا لا نكفره ما لم يخالف قاطعا، والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن، وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها.
قوله: (وسواء بمعنى (4) الاستواء، نعت به كما نعت بالمصادر)

(1/335)


قال الشريف: أي كما تجري المصادر على ما اتصف بها كذلك سواء يجري على ما يتصف بالاستواء، أي يجعل وصفا له معنويا، إما نعتا نحويا، كما في (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) [سورة آل عمران 64] وإما غيره، كما في الآية (1).
الطيبي: روي عن صاحب " الكشاف ": " الوصف بالمصدر، نحو رجل صوم، وعدل على وجهين:
أن يقدر مضاف محذوف، أي ذو صوم، وذو عدل، وأن يجعل أنه تجسم من الصوم والعدل مبالغة، والمبالغة هاهنا أن الإنذار وعدم الإنذار نفس السواء " (2).
قوله: (رفع بأنه خبر إنَّ، وما بعده مرتفع به على الفاعلية)
هذا أحد الأوجه في إعراب مثل هذا التركيب، وحاصل الأوجه فيه عشرة، ذكرتها في " أسرار التنزيل " (3).
وقد قدح أبو حيان في هذا الوجه بأنَّ في وقوع الجملة فاعلاً خلافا، ومذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسما مفردا، أو ما هو في تقديره (4).
قوله: (أو بأنه خبر لما بعده، بمعنى إنذارك وعدمه سيان عليهم)
هذا الوجه رجحه الإمام ووجهه. بأن المراد وصف الإنذار وعدمه بالاستواء، وما كان وصفا فهو بالخبرية أليق (5).
ووجهه غيره بأن سواء اسم غير صفة، فالأصل فيه أن لا يعمل، وأيضا المقصود من الوصف بالمصادر المبالغة في شأن مَحَالِّها، كأنها صارت عين ما قام بها، فمعنى قولنا: زيد عدل أنه عين العدل، كأنه تجسم منه، وإذا أولت بمعنى اسم الفاعل كمستو مثلا فات ذلك المقصود، وكذا (6) إن حملت على حذف المضاف. أورده الشريف (7).

(1/336)


وقال ابن يعيش في " شرح المفصل ": الفعل هنا في تأويل المصدر، والمعنى سواء عليهم الإنذار، وعدم الإنذار، والإنذار وما عطف عليه مبتدأ في المعنى، وسواء الخبر، وقد تقدم، وسواء مصدر في معنى اسم الفاعل، والتقدير مستو، ألا ترى أن موضع الفائدة الخبر، والشك إنما وقع في استواء الإنذار وعدمه، لا في نفس الإنذار، ولفظ الاستفهام لا يمنع من ذلك؛ إذ المعنى على اليقين والتحقيق، لا على الاستفهام، وإنما الهمزة هنا مستعارة للتسوية، وليس المراد منها الاستفهام، وإنما جاز استعارتها للتسوية لاشتراكهما في معنى التسوية ألا ترى أنك تقول في الاستفهام: أزيد عندك أم عمرو، وأزيد أفضل أم خالد، والشيآن اللذان يسأل عنهما قد استوى علمك فيهما.
ثم تقول في التسوية: ما أبالي أفعل أم لم يفعل، فأنت غير مستفهم وإن كان اللفظ للاستفهام، وذلك لمشاركته الاستفهام في التسوية؛ لأن ما أبالي أفعل أم لم يفعل، أي هما مستويان عندي في علمي، كما كان في الاستفهام، هذا هو التحقيق من جهة المعنى (1).
وقال أبو حيان: إنما أخبر هنا عن الجملة إن جعلت فاعلاً بسواء، أو مبتدأ وإن لم تكن مصدرة بحرف مصدري حملا على المعنى.
قال: وكلام العرب منه ما طابق اللفظ المعنى، قام زيد، وزيد قائم، وهو أكثر كلام العرب.
ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو علمت أقام زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على " علمت " وإن كان ليس ما بعد " علمت " استقهاما، بل الهمزة فيه للتسوية.
ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية، نحو:
عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشييْبَ عَلَى الصِّبَا (2). . . . . . . . . . . . . . . . ..
إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ المعنى، وهو المصدر، فصحت

(1/337)


الإضافة. انتهى (1).
* * *
تنبيه: منع الأصبهاني هذا الوجه ألبتة، ووجهه بأن الجملة لا تقع مبتدءا قط، وأن الاستفهام لا يتقدم خبره عليه.
وقال ابن يعيش: قال قوم: سواء مبتدأ، والفعلان بعده كالخبر؛ لأن بهما تمام الكلام وحصول الفائدة، فكأنَّهم أرادوا إصلاح اللفظ، وتوفيته حقه (2).
قوله: (أما لو أطلق وأريد به اللفظ)
في " شرح اللب " للسيد (3): إن الإسناد إلى الفعل مرادا لفظه نوعان:
تارة يسند إليه باعتبار اللفظ، مع عدم اعتبار المعنى، كقولهم: زعموا مطية الكذب، أي هذا اللفظ مطية الكذب.
وتارة يسند إليه باعتبار اللفظ، مع اعتبار معناه، كقوله تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا) أي إذا قيل لهم هذا القول. انتهى.
قوله: (أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع، فهو كالاسم في الإضافة)
قال ابن السراج في " الأصول ": الأصل والقياس أن لا يضاف اسم إلى فعل، ولا فعل إلى اسم، ولكن العرب اتسعت في بعض ذلك، فخصت أسماء الزمان بالإضافة إلى الأفعال؛ لأن الزمان مضارع للفعل؛ لأن الفعل له بني، وصارت إضافة الزمان إليه كإضافته إلى مصدره؛ لما فيه من الدلالة عليهما (4).
قوله: (كقوله تعالى (واذا قيل لهم آمنوا)
مثال لما أريد لفظه (5).
(وقوله: (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) [سورة المائدة 119].
مثال لما أريد به مطلق الحدث، ففيه لف ونشر مرتب.

(1/338)


قوله: (وقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)
هو مثل يضرب لمن خبره خير من مرآه.
قال أبو عبيد في " كتاب الأمثال ": من أمثالهم: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
كان الكسائي يدخل فيه " أن " " والعامة لا تذكر " أن " والوجه ما قاله الكسائي، وكان يرى التشديد في الدال، فيقول: المُعَيْدِّيِّ ويقول: إنما هو تصغير رجل من مَعَدٍّ.
قال أبو عبيد: ولم أسمع هذا من غيره.
قال: وأخبرني ابن الكلبي أن هذا المثل ضرب للصقعب بن عمرو النهدي، قاله النعمان بن المنذر، وهذا على معنى من قال: هو قضاعة ابن معد (1).
وأما المفضل (2) فحكي عنه أنه قال: المثل للمنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه، فقال: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فأرسلها مثلا، فقال له شقة: أبيت اللعن، إن الرجال ليسوا بجزر يراد منهم الأجسام، وإنما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فذهب مثلا، وأعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ثم سماه باسم أبيه فقال: أنت ضمرة بن ضمرة (3).
قال ابن السكيت: هو تصغير مَعَدِّيِّ (4).
وقال الميداني في " الأمثال ": يروى تسمع، وأن تسمع، ولأن تسمع.
قال: وعدي تسمع بالباء؛ لتضمنه معنى تحدث (5).
وفي " شرح اللب " للسيد: وقع الإسناد في هذا المثل إلى الفعل، فإما أن يحمل على حذف " أن " أي أن تسمع، فيكون الإسناد في الحقيقة إلى المصدر، دون الفعل، أو على تنزيل الفعل منزلة المصدر من غير تقدير، أي سماعك

(1/339)


بالمعيدي، وذلك لأن الفعل يدل على المصدر والزمان، فجرد في بعض المواضع لأحد مدلوليه. انتهى.
وقد ضمن بعض الأدباء هذا المثل في بيت، فقال:
لَعَمْرُ أَبِيْكَ تَسْمَعُ بِالمُعَيْدِّيَّ. . . بَعِيْدِ الدَّارِ خَيْرٌ أَنْ تَرَاْهُ (1).
قوله: (وإنما عدل هاهنا عن المصدر إلى الفعل، لما فيه من إيهام التجدد)
مأخوذ من كلام الإمام فخر الدين حيث قال: فائدة العدول إفادة أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت، وذلك يفيد حصول اليأس، وقطع الرجاء منهم الذي هو مقصود الآية، والمصدر لا يفيد ذلك (2).
قوله: (وحسن دخول الهمزة وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء) إلى آخره.
قال ابن يعيش: قد أجرت العرب أشياء اختصوها على طريقة
النداء؛ لاشتراكهما في الاختصاص، فاستعير لفظ أحدهما للآخر، من حيث شاركه في الاختصاص، كما أجروا التسوية مجرى الاستفهام إذ كانت التسوية موجودة في الاستفهام، فكما جاءت التسوية بلفظ الاستفهام لاشتراكهما في معنى التسوية كذلك جاء الاختصاص بلفظ النداء لاشتراكهما في معنى الاختصاص وإن لم يكن منادى.
والذي يدل أنه غير منادى أنه لا يجوز دخول حرف النداء عليه، لا تقول: أنا أفعل كذا يا أيها الرجل، إذا عنيت نفسك، ولا نحن نفعل كذا يا أيتها العصابة (3). انتهى.
قلت: ومن هاهنا تعلم أن قول المصنف: (كما جردت حروف النداء عن
الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) غير مطابق؛ لأن باب الاختصاص لم تجرد فيه حروف النداء، بل لا وجود لحروف النداء فيه أصلا، وإنما الأسماء فيه شابهت المنادى، وهي التي جردت.
وقد تؤل العبارة على أنه أراد بالحروف الكلمات الجارية في الاختصاص،

(1/340)


وهي الأسماء التي صورتها صورة المنادى، لا الحروف التي هي " يا " وأخواتها.
وعبارة " الكشاف ": " جرى هذا على صورة الاستفهام، ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء، ولا نداء " (1) وهي في غاية الحسن.
وأصل هذا قول سيبويه: جرى هذا على طريقة الاستفهام، كما جرى على طريقة النداء قولهم: اللهم اغفر لتا أيتها العصابة، ولا استفهام في الحقيقة، ولا نداء (2).
وقال ابن الحاجب: اعلم أن في كلامهم جملا لمعان في الأصل، ثم نقلوها إلى معان أخر، مع تجريدها عن أصل معناها، وهذا في أبواب:
منها: قولهم: سواء عليَّ أقمت أم قعدت، سؤال عن تعيين مع التسوية بينهما، ثم نقل إلى الخبر بمعنى التسوية، من غير سؤال.
ومنها قولهم: أيها الرجل أصله تخصيص المنادى بطلب إقباله عليه، ثم نقل إلى معنى الاختصاص مجردا عن معنى طلب الإقبال في قولك: أما أنا فافعل كذا أيها الرجل (3).
قال صاحب " الانتصاف ": وحاصل ذلك استعمال الحرف في أعم معناه، والهمزة المعادلة لـ " أم " موضوعة في الأصل للاستفهام عن أحد متعادلين في عدم التعيين فنقلت إلى مطلق المعادلة وإن لم تكن استفهاما، والنداء في الأصل لتخصيص المنادى بالدعاء، فنقل إلى مطلق التخصيص، ولا نداء، كتخصيص الدابة بذوات الأربع وإن كانت في الأصل لكل ما دبَّ ودرج (4).
وقال بعض أرباب الحواشي: تلخيصه أن النداء فيه تنبيه للمنادى (5) وإقبال عليه، والاستفهام فيه استخبار وإشعار باستواء الأمرين في المستفهم عنه، أهو حاصل أم لا، فقد انسلخ في قولنا: اللفم اغفر لنا أيتها العصابة أحد المعنيين، وهو التنبيه؛ لأن الإنسان لا ينبه نفسه، وبقي معنى الإقبال على نفسه، كما انسلخ معنى الاستخبار في قوله (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) وبقي معنى الاستواء،

(1/341)


فهذا معنى تشبيه سيبويه لإحدى المسألتين بالأخرى.
وقال صاحب " التقريب ": في هذا نظر؛ لأنهما لو كانا للاستواء لما أخبر عنه بسواء، فلعل المراد أنهما كانا للاستفهام عن مستويين، فجردا عن الاستفهام، بقي أنهما للمستويين، ولا تكرار لإدخال سواء عليه؛ لأن المعنى أن المستويين في العلم مستويان في عدم النفع، وإنما جردا عن الاستفهام ليقع فاعلاً لسواء؛ لأن الاستفهام يمنع ذلك لصدريته، ولكونه لأحد الأمرين، والاستواء يقتضي متعددا، فبالتجريد ارتفع المانعان (1).
قوله: (والإنذار التخويف)
زاد ابن عطية: ولا يكاد يكون إلا في تخويف يسع زمانه للاحتراز، فإن لم يسع (2) زمانه للاحتراز كان إشعارا، ولم يكن إنذارا (3).
قوله: (وقرئ أأنذرتهم " بتحقيق الهمزتين، وتخفيف الثانية بين بين)
زاد في " الكشاف ": " والتحقيق أعرب وأكثر " (4).
قوبه: (وقلبها ألفا، وهو لحن) إلى آخره
تابع فيه صاحب " الكشاف " (5) وأخطأ في ذلك؛ لأنه ثابت في السبعة، لأنها رواية لورش (6).
قال الكواشي (7): ما زعمه الزمخشري فيه نظر؛ لأن من يقلبها ألفا يشبع الألف

(1/342)


إشباعا زائدا على مقدار الألف الخارجة عادة، ليكون الإشباع فاصلا بين الساكنين، وهما الألف المقلوبة والنون (1).
قال الطيبي: وذكر ابن الحاجب في وجه من قرأ (محياي) بإسكان الياء وصلا هذا المعنى (2)، وقيل: طريق التخفيف ليس بخطإ، وأنشد للفرزدق (3):
. . . . . . . . . . . فَارْعَيْ فَزَاْرَةُ، لا هَنَاكِ المَرْتَعُ (4)
أي هَنَاكِ
وقال حسان:
سَألَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللهِ فَاحِشَة (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
قال الطيبي: وإذا ثبت مثله في كلام الفصحاء، ونقل عمن ثبتت عصمته من الغلط وجب القبول.
وأما القراء فهم أعدل من النحاة فوجب المصير إلى قولهم.
قال: فإن قلت: هذا طعن فيما هو من القراءة السبعة الثابتة بالتواتر، وهو كفر.
قلت: ليس بكفر؛ لأن المتواتر ما نقل بين دفتي المصحف الإمام، وهذا من قبيل الأداء، ونحوه المد، والإمالة، وتخفيف الهمزة بين بين (6). انتهى.
وذكر مثله الشيخ أكمل الدين، والشريف (7).
وقال أبو حيان: هي قراءة ورش، وهي صحيحة متواترة لا تدفع ببعض المذاهب؛ لأن منع الجمع بين ساكنين على غير حده إنما هو مذهب البصريين (8).
قوله (وبحذف الاستفهامية، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها).

(1/343)


قال الطيبي: القراءتان شاذتان (1).
وقال ابن الجني في " المحتسب ": حذف الهمزة قراءة ابن محيصن (2)، وهو للتخفيف كراهة اجتماع الهمزتين، والقرينة مجيء " أم " وقد حذفت في غير موضع.
قال: فإن قيل: لعل المحذوف في الآية همزة أفعل.
قلنا: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام، فيجب أن يحمل هذا عليه، وأما همزة أفعل في الماضي فما أبعد حذفها (3).
وقال الشيخ سعد الدين في القراءة الثانية: يحتمل أن يكون ذلك مع إقرار همزة أنذرتهم، ومع حذفها حتى تكون القراءة عليهم أنذرتهم، أو عليهم نذرتهم.
قال: ولا وجود لواحدة من القراءتين (4).
وقال الشيخ أكمل الدين: إلقاء حركة حرف الاستفهام لم يقرأ به أحد (5).
وقال الشريف: هذه القراءة عليهمَ نذرتهم بفتح الميم وسكون النون بلا همزة أصلا.
وأما القراءة بفتح الميم والهمزة معا فهي مع كونها غير مروية عن أحد مخالفة للقياس، وموجبة للثقل (6).
قوله: (لا يؤمنون) جملة مفسرة لإجمال ما قبلها)
قال أبو حيان: لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه (7).
قوله: (فلا محل لها)
سئل الشيخ شمس الدين بن أبي الفتح البعلي (8)، تلميذ الشيخ جمال الدين

(1/344)


ابن مالك عن معنى قولهم: جملة لها محل لها من الإعراب، وجملة لا محل لها، فألَّف في ذلك كراسة.
وحاصل ما قاله ابن السراج في " الأصول ": أن معنى ذلك، أي لو وقع موقع الجملة اسم مفرد لكان مرفوعا مثلا.
قوله: (أو حال مؤكدة، أو بدل عنه (1)، أو خبر إنّ)
عبارة " الكشاف ": " إما جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبر لـ " إن " (2) ولم يذكر الحالية، فإما أن تكون عبارة المصنف كذلك، وتحرفت من النساخ، فكتبوا لفظة " حال " موضع لفظة " جملة " وإما أن يكون لا تحريف، فإن الحال منقول أيضاً.
قال أبو حيان: يحتمل (لا يؤمنون) أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبرا بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف، أي هم (لا يؤمنون)
وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال، وهو بعيد، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب، فتكون جملة تفسيرية، أو تكون جملة دعائية، وهو بعيد (3). انتهى.
وقال الشيخ أكمل الدين في وجهي " الكشاف ": منهم من رجح الوجه الأول؛ لأن حسن الاعتراض باعتبار أن من حقه أن يساق مساق التأكيد، لما عسى أن يختلج في وهم وإن تم المقصود دونه لفظا ومعنى، وليس ذلك فيما نحن فيه؛ لأنه أقوى في الإبانة عما سيق له الكلام من قوله " لا يؤمنون " على ما لا يخفى.
ومنهم من رجح الثاني؛ لأن فيه التأكيد والاهتمام بشأنها؛ لتخللها في أثناء الكلام، وفيه معنى العلية.
قيل: ولم يذكر أن يكون خبرا بعد خبر؛ لأنه يذهب بالفخامة (4). انتهى.

(1/345)


وقال الشريف: جعل (لا يؤمنون) تأكيدا وبيانا للاستواء في عدم الاهتداء أولى من أن يجعل خبرا، وما قبله اعتراضا؛ لأن ما تقدمه أقوى وأظهر منه في إفادة ما سيق له الكلام، فبالحري أن تكون عمدة فيه، لا معترضة مستغنى عنها.
فإن جعل (لا يؤمنون) خبرا كان له محل من الإعراب، وكذا إن جعل بيانا للجملة قبله إن أجري مجرى التوابع.
هذا إذا كان ما قبله جملة، وإن قدر أنه اسم فاعل مع فاعله تعين أن يكون (لا يؤمنون) تقريرا وبيانا لمضمونه؛ لأن الاعتراض عنده لا يكون إلا جملة لا محل لها من الإعراب (1). انتهى.
ومن هنا يعلم أن التأكيد الذي ذكره صاحب " الكشاف " غير الحال المؤكدة، وغير التفسير اللذين ذكرهما المصنف، بل هو الجاري مجرى التوابع في التأكيد والبيان، فيكون له محل من الإعراب على حسب ما قبله، وهو الرفع، بخلاف ما ذكره المصنف فإنه لا محل له على التفسير، ومحله النصب على الحال.
قوله: (والجملة قبلها اعتراض)
قال الطيبي: الفرق بين المعترضة والمؤكدة - على أن المعترضة أيضاً مؤكدة - هو أن المعترضة أحسن موقعا وألطف مسلكا، وفيه مع التأكيد الاهتمام بشأنها؛ لتخللها بين الكلام (2).
قوله: (سيما الأمثال)
قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": لا يستثنى ب " سيما " إلا ومعه جحد، لو قلت: جاءني القوم سيما زيد لم يجز حتى تأتي ب " لا ".
قال: ولا يستثنى ب " لا سيما " إلا فيما يراد تعظيمه (3).
وقال ابن هشام في " المغني ": " سِيٌّ " من " لا سِيِّمَا " اسم بمنزلة " مثل " وزنا ومعنى، وعينه في الأصل واو، وتشديد يائه، ودخول " لا " عليه، ودخول الواو على " لا " واجب.
قال ثعلب: من استعمله على خلاف ما جاء في قوله:

(1/346)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَلا سِيَّمَا يَومٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ (1)
فهو مخطئ.
ويجوز في الاسم الذي بعد " ما " الجر على الإضافة، و " ما " زائدة بينهما، والرفع على أنه خبر لمحذوف، و " ما " موصولة، أو نكرة موصوفة بالجملة، أي " ولا مثل الذي هو " أو " ولا مثل شيء هو " فإن كان نكرة جاز نصبه أيضاً على التمييز، و " ما " كافة عن الإضافة (2).
* * *
قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) تعليل للحكم السابق، وبيان ما يقتضيه)
قال الطيبي: تقريره أن الآية جارية مجرى السبب الموجب لكون الهدى لا ينفع فيهم، فإنه تعالى لما أظهر عليهم تصميمهم على الكفر بقوله (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) اتجه لسائل أن يقول: فما بالهم كذلك؟ فأوقع قوله تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) إلى ساقته جوابا منطويا على بيان الموجب.
وقد بولغ في المعنى حيث جعل الختم على القلوب ليمنع من الفكر في الدلائل المعقولة الصرفة، وعلى السمع لأن لا ينفذ في القلوب بسببه الدلائل المصنوعة، وجعل على البصر الغشاوة لأن لا يصل إليها الدلائل المبصرة، فيستدلوا بها على وجود منشئها، فسد الطريق عليهم من كل وجه (3).
قوله: (والختم الكتم)
عبارة " الكشاف ": " الختم والكتنم أخوان " (4)
قال القطب: أي في الاشتقاق الأكبر؛ لقرب اللفظ واشتباك المعنى؛ لأن في الختم - وهو ضرب الخاتم على الشيء - معنى الكتم، فإن المختوم مكتوم (5).
قال الشيخ أكمل الدين - بعد إيراده -: وهو كلام صحيح، لكنه بعيد المناسبة، فإن الكتم فيما نحن فيه لا يصلح تفسيراً للختم (6).
الشريف: " أخوان " أي متشاركان في العين واللام، ومتناسبان في المعنى (7).

(1/347)


قوله: (سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه؛ لأنه كتم له، والبلوغُ آخره، نظرا إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه)
مأخوذ من كلام الراغب حيث قال: الختم والطبع الأثر الحاصل عن نقش شيء، ويتجوز به يقال: ختمت كذا في الاستيثاق من الشيء والمنع منه، نظرا إلى ما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، ويقال ذلك ويعنى بلوغ آخر الشيء نظرا إلى أنه آخر فعل في إحراز الشيء، ومنه قيل: ختمت القرآن. انتهى (1).
وعلم بذلك أن قول المصنف: (والبلوغ آخره) معطوف على الاستيثاق، عطف قسيم على قسيم.
قوله: (والغشاوة فِعالةٍ، من غَشَّاه إذا غَطَّاه، بنيت لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة).
قال الزجاج: كل ما اشتمل على الشيء مبني على " فِعالةِ " نحو العمامة والقلادة، وكذلك أسماء الصناعات، فإن الصناعة مشتملة على كل ما فيها، نحو الخياطة والقصارة، وكذلك ما استولى على اسم، فاسم ما استولى عليه الفِعالةِ نحو الخلافة والإمارة (2).
قوله: (ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة)
هي عبارة " الكشاف " (3) وهو أحد مسالك أهل السنة، يجعلون إحداث الهيئة الآتية فعل الله حقيقة، وتسميتها ختما وتغشية مجاز (4).==

2. نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي
(المتوفى: 911هـ)

والأقوى أنهما ختم وتغشية حقيقيتان، والأحاديث صريحة في ذلك:
منها: ما أخرج البزار (1) عن ابن عمر رفعه قال: " الطابع معلق بقائمة العرش، فإذا اشتكت الرحم، وعمل بالمعاصي، واجترئ على الله بعث الله الطابع فيطبع على قلبه، فلا يعقل بعد ذلك شيئا " (2)
وكثير من هذه الأحاديث ونحوها يحملها من لم يتضلع من الحديث على المجاز والاستعارة.
والأقوى - كما قاله البغوي في " شرح السنة " (3) وغيره - إجراؤها عنى الحقيقة؛ إذ لا مانع من ذلك، والتأويل خلاف الأصل، ولا يصار إليه إلا لمانع، وهو مفقود هنا.
قوله: (وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم) إلى آخره مأخوذ من كلام الراغب حيث قال: قد قيل: للإنسان ثلاثة أنواع من الذنوب، يقابلها من الدنيا ثلاث عقوبات:
الأَوَّلُ: الغفلة عن العبادات، وذلك يورث جسارة على ارتكاب الذنوب، وهو

(1/349)


المشار إليه بقوله: " إن المؤمن إذا أذنب أورث في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه " (1)
والثاني: الجسارة على ارتكاب المحارم (2)، إما لشهوة تدعوه إليها، أو شرارة تحسنه في عينه فتورثه وقاحة، وهي المعبر عنها بالرين في قوله تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين 14].
والثالث: الضلال، وهو أن يسبق إلى اعتقاد مذهب باطل، وأعظمه الكفر، فلا يكون تلفت منه بوجه إلى الحق، وذلك يورثه هيئة تمرنه على استحسانه المعاصي، واستقباحه الطاعات، وهو المعبر عنه بالطبع والختم في قوله (وختم على سمعه وقلبه) [سورة الجاثية 23] و (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) [سورة النحل 108] وبالأقفال في قوله (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [سورة محمد 24] إلى غير ذلك (2)
قوله: (وسماه على الاستعارة ختما وتغشية، أو مَثُّلَ قُلُوبَهُم) إلى آخره.
قال الطيبي: لا يخلو هذا الكلام عن تسامح (4)؛ لأن ظاهره جعل التمثيل قسيما للاستعارة، ونوعا من المجاز لقوله أول الكلام: " ولا ختم على الحقيقة " فإن عنى بالتمثيل ما هو واقع على سبيل التشبيه، بأن يكون وجهه منتزعا من عدة أمور غير حقيقية، فهو ليس بمجاز، وإن أراد به الاستعارة التمثيلية، فهو ليس قسيما للاستعارة، بل هو قسم منها.
قال: والجواب أن المراد الثاني، والعذر أن الاستعارة التمثيلية غلب عليها اسم التمثيل، ولا يكاد يطلق عليها اسم الاستعارة، وبقية الاستعارات يطلق عليها اسم الاستعارة مطلقا.
وذلك أنهم إذا أرادوا أن بعض أنواع الجنس له مزية على سائر أنواعه

(1/350)


يخرجونهم من ذلك الجنس، ويجعلونه جنسا آخر.
وإذا جعل هنا استعارة فهي مكنية عن قلوب متخلية، على صورة شيء مستوثق منه، ثم نسب إليها لازم ذلك الشيء، وهو الختم، بعد التخييل (1).
قوله: (ناعية عليهم)
أي مظهرة، من قولهم: فلان نعى على فلان ذنوبه، أي أظهرها وشهرها.
قوله: (فذكروا وجوها من التأويل)
ذكر المصنف منها سبعة، وزاد الإمام فخر الدين أوجها:
منها: أنهم أعرضوا عن التدبر، ولم يصغوا إلى الذكر، وكان ذلك عند إيراد الله عليهم الدلائل، فأضيف ما فعلوا إلى الله؛ لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده دلائله عليهم، كقوله في التوبة (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) [سورة التوبة 125] أي ازدادوا بها كفرا إلى كفرهم.
ومنها: أن الختم على قلوب الكفار من الله تعالى، والشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر، ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق، كما يقول الرجل لصاحبه: أريد تختم على ما يقوله فلان، أي تصدقه وتشهد بأنه حق، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية أنه قد شهد بذلك، وحققه عليهم (2).
قوله: (الثاني أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم) إلى آخره قال الطيبي: هو الذي عناه السكاكي بقوله: التشبيه التمثيلي متى فشا استعماله على سبيل الاستعارة سمي مثلا (3).
والفرق بين هذا التمثيل والذي سبق في تقرير أهل السنة أن هناك الاستعارة واقعة في الختم فقط، على سبيل التبعية، وهنا الاستعارة في الجملة برأسها (4).
قوله: (سال به الوادي)
قال الميداني في " الأمثال ": يقال لمن وقع في أمر شديد (5).

(1/351)


قوله: (وطارت به العنقاء)
قال أبو عبيد في " الأمثال ": من أمثالهم طارت به العنقاء (1)
قال الخليل: سميمتا عنقاء؛ لأنه كان في عنقها بياض كالطوق (2).
وقال أبو البقاء الكعبري في " شرح المقامات ": كان بأرض أهل الرس جبل صاعد في السماء، قدر ميل، به طيور كثيرة، منها العنقاء، وهي عظيمة الخلق، لها وجه كوجه الإنسان، وفيها من كل حيوان شبه من أحسن الطير، وكانت تأتي هذا الجبل في السنة مرة قتلتقط طيره، فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به، ثم ذهبت بجارية، فشكوا ذلك إلى نبيهم حنظلة بن صفوان في زمن الفترة، فدعا عليها فهلكت، وقطع نسلها (3).
وفي " ربيع الأبرار ": عن ابن عباس خلق الله في زمن موسى عليه السلام طائرا اسمها العنقاء، لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجهها كوجه الإنسان، وأعطاها من كل شيء، وخلق لها ذكرا مثلها، وأوحى إليه أني خلقت طائرين عجيبين، وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس، فتناسلا وكثر نسلهما، فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش وتخطف الصبيان، إلى أن نبئ خالد بن سنان العبسي (4) قبل النبي صلى الله عليه

(1/352)


وسلم، فشكوا إليه، فدعا عليها، فانقطع نسلها وانقرضت (1).
وقال الغزويني (2) في " عجائب المخلوقات ": العنقاء أعظم الطير جثة وأكبره، كان يخطف الفيل في قديم الزمان بين الناس (3)، فتأذوا منه إلى أن سلب يوما عروسا بحليها، فدعا عليه حنظلة النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب الله به إلى بعض جزائر البحر المحيط، تحت خط الاستواء، وهي جزيرة لا يصل إليها الناس (4).
وما أحسن قول الصفي الحلي (5):
لمَّا رَأَيْتُ بَنِيْ الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ. . . خِلٌّ وَفِيٌّ لِلشدَائِدِ اصطُفِيْ
أَيْقَنْتُ أنَّ المُسْتَحِيْلَ ثَلاثَةٌ. . . الغُولُ وَالعَنْقَاءُ والخِل الوَفِيْ (6)
قوله: (والقسر) بسين مهملة ساكنة، الإكراه والقهر
قوله: (كقوله تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) الآية) [سورة البينة 1].
قال الطيبي: فإنهم كانوا يقولون قبل البعثة: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود به الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) [سورة البقرة 90] فحكى الله ذلك عنهم، كما كانوا يقولون، على سبيل الوعيد والتهديد، ولو كان هذا ابتداء إخبار منه تعالى لكان الانفكاك متحققا موجودا عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم (7). انتهى.

(1/354)


قوله: (ووحد السمع للأمن من اللبس، واعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله)
قال الطيبي: في " المغرب ": السمع الأذن، وأصله المصدر، قيل: وقد يطلق مجازا على القوة الحالّة في الغشاء المفترش عند الصماخ، بها تدرك الأصوات، فعلى هذا الوجه المراد بالسمع الآلة، ولم يلمح فيه الأصل (1).
وفي بعضر الحواشي: هذه العلة أوردها أكثر المفسرين على صورة يلحقها خلل، فأصلحها المصنف، وذلك أنهم قالوا: السمع مصدر، فلا يثنى ولا يجمع، والقلوب والأبصار أسماء أعضاء فجمعت.
واستشعر الزمخشري كان سائلاً يقول: ليس المراد بالسمع هنا المصدر، فإنه لا يختم على المصدر، وإنما (2) يختم على العضو، فأصلح الجواب بأن قال: السمع في أصله مصدر (3)، ثم نقل إلى هذه الجارحة المخصوصة، فروعي أصله مع نقله إلى العضو المخصوص، وملاحظة الأصل ليست ببعيد عند النحاة، فإنهم قالوا في قوله تعالى (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) [سورة المعارج 17] بالنصب: إنه حال، والعامل فيها (لظى) وهي اسم لجهنم، ولكن لما كان أصلها مأخوذا من التلظي روعي الأصل، فعملت لمحي الحال.
قوله: (أو على تقدير مضاف، مثل: وعلى حواس سمعهم)
قال الطيبي: فعلى هذا الوجه السمع مصدر، وليس بمعنى الأذن (4).
قوله: (ويؤيده العطف على الجملة الفعلية)
قال الطيبي: أي واستقر على أبصارهم غشاوة (5).
قوله: (وقرئ بالنصب)
قال الطيبي: القراءات كلها شواذ، والمشهور غِشاوة بكسر الغين المعجمة مع الألف بعد الشين، والرفع (6).
قوله: (على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة)

(1/355)


قال أبو حيان: يؤيده ظهوره في قوله (وجعل على بصره غشاوة) (1)
قوله: (أو على حذف الجار) إلى آخره.
قال أبو حيان: هذا ضعيف.
قال: ويحتمل عندي أن يكون اسما وضع موضع مصدر، من معنى ختم: غَشَّى، كأنه قيل: تغشية، على سبيل التأكيد، ويكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مُغَشَّاة (2).
قوله: (وعشاوة بالعين غير المعجمة)
قال الطيبي: هو من قولهم: عشي يعشى إذا صار أعشى، وعشا يعشو إذا
جعل نفسه كأنه أعشى، قال الله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) [سورة الزخرف 36].
قوله: (والعذاب كالنكال)
قال السجاوندي: العذاب إيصال الألم إلى الحي مع الهوان، فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب.
قوله: (ولذلك سمي نقاخا) أي الماء الحلو، وهو بضم النون، بعدها قاف، آخره خاء معجمة.
قال في " الكشاف ": " لأنه ينقخ العطش، أي يكسره " (4).
وفي الصحاح: النقاخ الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرد (5).
قال العرجي (6):
وإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ. . . وإنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلا بَرْدا (7)
قوله: (وفراتا)

(1/356)


قال في " الكشاف ": " لأنه يرفته، على القلب " (1)
قال بعض أرباب الحواشي: يعني أن حق الاشتقاق أن يقال: فراتا؛ لأنه يفرته، فقلبوا وقدموا الفاء على الراء، كما قالوا: صعق، وصقع، وجذب، وجبذ، ففرت مقلوب رفت.
قال الشريف: وعلى هذا فوزن فرات عُفال (2).
وفي " الأساس ": رفت الشيء فته بيده، كما يرفت المدر والعظم البالي (3).
قوله: (فادح) بالفاء أوله، وآخره مهملة.
في " الصحاح ": فدحه الدَّين: أثقله، وأمر فادح إذا عاله وبهظه (4). أي أثقله وشق عليه.
قوله: (فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير)
قال الطيبي: يعني إذا كان الحقير مقابلاً للعظيم، والصغير للكبير، يلزم أن يكون العظيم فوق الكبير؛ لأن العظيم لا يكون حقيرا؛ لأن الضدين لا يجتمعان، والكبير قد يكون حقيرا، كما أن الصغير قد يكون عظيما؛ لأن كلا منهما ليس بضد للآخر (5).
قوله: (ومعنى التنكير في الآية) إلى آخره
قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه للنوعية، والعذاب لما وصف بالعظيم كان المعنى نوعا عظيما منه، فليس القصد إلى تنكيره للتعظيم.
وذكر التعامي دون العمى وإن كانوا من أهل الطبع إشارة إلى أن ذلك من سوء اختيارهم، وشؤم إصرارهم (6).
وذكر الشريف مثله، وزاد: وقيل: هو للتعظيم، أي غشاوة أيَّ غشاوة (7).
قوله: (وهم أخبث الكفرة)

(1/357)


الإمام: اختلف في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق؟
فقال قوم: الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب، كاذب باللسان.
وقال آخرون: بل النفاق؛ لأن المنافق أيضاً كاذب باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد، مع أنه ليس عليه، وقد اختص بمزيد أمور منكرة.
منها: أنه قصد التلبيس، ورضي لنفسه بسمة الكذب، وضم إلى كفره الاستهزاء، والكافر الأصلي بخلاف ذلك (1).
قوله: (وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصرين)
قال الطيبي: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن العطف من حيث حصول مضمون الجملتين في الوجود.
والثاني: أن الجهة الجامعة بين من محض الكفر ظاهرا وباطنا، وبين من أظهر الإيمان وأبطن الكفر التوافق في الكفر (2).
وقال الشيخ سعد الدين: المراد أنه من عطف مجموع الكلام المسوق لغرض، على مجموع قبله، مسوق لغرض آخر، لا يشترط فيه إلا تناسب الغرضين، ولا يتكلف لجملة من هذا مناسبة مع جملة من ذلك.
ولا يرد باشتمال أحد المجموعين على ما لا يناسب المذكور في المجموع الآخر (3).
وقال الشريف: أي ليس هذا من عطف جملة على جملة ليطلب بينهما المناسبة المصححة لعطف الثانية على الأولى، بل من عطف مجموع جمل متعددة مسوقة لغرض على مجموع جمل أخرى، مسوقة لغرض آخر، فيشترط فيه التناسب بين الغرضين، دون آحاد الجمل الواقعة في المجموعين.
قال: وهذا أصل عظيم في باب العطف، لم يتنبه له كثيرون، فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى (4).
* * *
قوله (والناس أصله أناس)
قال ابن الشجري في " أماليه ": وزن أناس فعال، وناس منقوص منه عند أكثر

(1/358)


النحويين -، فوزنه عال، والنقص والإتمام فيه متساويان في كثرة الاستعمال ما دام منكورا، فإذا دخلت الألف واللام التزموا فيه الحذف، فقالوا: الناس، ولا يكادون يقولون: الأناس إلا في الشعر، كقوله:
إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا (1)
وحجة هذا المذهب وقوع الأنس على الناس، فاشتقاقه من الأنس نقيض الوحشة؛ لأن بعضهم يأنس ببعض.
وذهب الكسائي إلى أن الناس لغة مفردة، وهو اسم تام، وألفه منقلبة عن واو.
واستدل بقول العرب في تحقيره نويس.
قال: ولو كان منقوصا من أناس لرده التحقير إلى أصله، فقيل: أنيس.
وقال بعض من وافق الكسائي في هذا القول: إنه مأخوذ من النوْس، مصدر ناس ينوس إذا تحرَّك، ومنه قيل لملك من ملوك حمير: ذو نواس؛ لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه.
قال الفراء: والمذهب الأول أشبه، وهو مذهب المشيخة.
وقال أبو عليٍّ: أصل الناس الأناس، فحذفت الهمزة التي هي فاء، ويدلك على ذلك الإنس والأناسي، فأمَّا قولهم في تحقيره: نويس فإن الألف لما صارت ثانية زائدة أشبهت ألف ضارب، فقيل: نويس، كما قيل: ضويرب.
وقال سلمة بن عاصم (2) - وكان من أصحاب الفراء -: الأشبه في القياس أن يكون كل واحد منهما أصلا بنفسه، وأناس من الأنس، وناس من النوس، لقولهم في تحقيره: نويس، كبويب في تحقير باب (3). انتهى.
وقال ابن جني في " الخصائص ": الناس أصله أناس، قال الشاعر (4):
وإنَّا أُنَاسٌ لا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً. . . إذا ما رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُوْلُ
ولا تكاد الهمزة تستعمل مع لام التعريف، غير أن أبا عثمان أنشد:

(1/359)


إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا (1)
وقال ابن يعيش في " شرح المفصل ": أصله أناس حذفوا الهمزة، وصارت الألف واللام في " الناس " عوضا منها، ولذلك لا يجتمعان، فأمَّا قولهم:
إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا
فمردود لا يعرف قائله (2).
وقال ابن يعيش في " شرح التصريف الملوكي ": أصل ناس أناس، ووزنه عال، محذوف الفاء، وهو فعال من الأنس، واشتقاقه من آنست الشيء إذا رأيته، كأنهم سموا بذلك لظهورهم، أو من آنست، أي علمت، كأنهم سموا بذلك لعلمهم.
وإنسان فعلان مثه، وجمعه أناسي، قال تعالى (وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) [سورة الفرقان 49] قلبوا النون ياء.
ومثله ظِرْبَانٌ وظِرَابِي.
وقيل: أناسي جمع أنسي، كبختي وبخاتي.
وقيل: أصله ناس، ووزنه فعل في الأصل، من ناس ينوس إذا اضطرب، والهمزة في أناس زائدة، دل على ذلك قولهم في التصغير نويس.
وقال الكسائي: هما لغتان ليس أخدهما أصلا للآخر، والوجه الأول، وهو مذهب سيبويه (3). انتهى.
قوله (فحذفت الهمزة، حذفها في لوقة)
في " الصحاج ": اللوقة بالضم الزبدة، وفيها لغتان، لُوْقَةٌ، وَأَلُوْقَةٌ قال الشاعر:
وَإنِّيْ لِمَنْ سَألَتُمْ لأَلُوْقَةٌ. . . وإنِّيْ لِمَنْ عَادَيْتُمْ سُمٌّ أَسْوَدِ (4)
قوله: (وقوله: إِن المَنَايَا يَطلِعْـ. . . نَ على الأنَاسِ الآمِنِيْنَا)
ذكر ابن يعيش أنه لا يعرف قائله، وبعده:
فَتَذَرْهُمُ شَتَّى وَقَدْ. . . كَانُوْا جَمِيْعاً وَافِرِيْنَا

(1/360)


قوله: (وهو اسم جمع)
زاد غيره: لإنسان وإنسانة.
الطيبي: الفرق بين الجمع الحقيقي، وبين اسم الجمع، أن اسم الجمع في حكم الأفراد بدليل جواز التصغير فيه، ولا يجوز تصغير الجمع الحقيقي إذا كان جمج الكثرة. مثال اسم الجمع ركْب وسَفْر، وصَحْب، يجوز أن يقال: رُكَيب، سُفَير، صُحَيب، ولا يجوزون في جمع الكثرة، بل يجب أن يرد إلى واحده، أو إلى جمع قلة إن وجد (1).
قوله: (كرخال) هو بضم الراء، وبكسرها أيضاً، الواحد رخل بكسر الخاء، الأنثى من أولاد الضأن، والذكر حَمَل.
وفي " الصحاح ": إن الرخال جمع الرخل (2).
قال الطيبي: وكذا عن صاحب " الكشاف " في أبيات له (3).
قال: وهو مخالف لما ذكره هنا (4)، وفي الأعراف (5) من كونه اسم جمع.
والأبيات المذكورة قوله:
مَا سَمِعْنَا كَلِماً غَيْرَ ثَمانٍ. . . هُنَّ جَمْعٌ وهي فِي الوَزْنِ فُعالٌ
فَرُبَاب وفُرَارٌ وتُوَءامٌ. . . وعُراقٌ وعُرَامٌ ورُخَال
وظوار جَمْعُ ظِئْرٍ، وبُسَاطٌ. . . جَمْعُ بِسْط، هكذا في ما يُقالٌ
الرباب جمع رُبَّى، على فعلى بالضم، وهي الشاة التي وضعت حديثا. والفرار جمع فرير، وهو ولد البقرة الوحشية. والتُّؤام جمع توأم، على فوعل. والعُراق جمع عَرْق بفتح العين، العظم الذي أخذ عنه اللحم. والعرام بمعناه. والظؤار جمع ظئر، وهي المرضعة. والبساط جمع بسط بكسر الباء، وهي الناقة تخلى مع ولدها، لا يمنع منها.
قلت: قال ابن خالويه (6) في كتابه " ليس ": لم يجمع على فُعال إلا نحو عشرة

(1/361)


أحرف، فذكر من هذه الثمانية ستة، وزاد: ثِنى وثُناء، وهو الولد الذي بعد البكر، ورَذْلٌ، ورُذَال، وهو الشيء الرديء، ونَذْلٌ ونُذال، وهو الخسيس (1).
وقال القالي في " أماليه ": لم يأت من فُعال إلا أحرف قليلة جدا، فذكر بعض ما تقدم، وزاد قولهم: نعم جُفال للكثيرة، ونعم كُثاب كثيرة، وبراء جمع بريء (2).
وقد حصل مما زاده (3) ستة ألفاظ، وقد نظمتها مذيلا على أبيات الزمخشري، فقلت:
قلت: قد زيد ثُناء وبُراء. . . ونُذال ورُذال وجُفال
وكُثاب في كتابي (4) ليس مَعْ. . . كتب القالي، هيا يا رجال
وقل عرف بذلك أن قول المصنف: (إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع) منقوض بما ذكرناه.
قوله: (مأخوذ من أنِسَ أو آنَسَ)
اقتصر عليهما بناء على ما ذكره من أن أصله أناس، وذكر غيره قولين آخرين:
أنه مأخوذ من النسيان، أو من ناس ينوس نوسا إذا تحرّك، فلا همزة ولا حذف.
والقول بأنه من النسيان هو الصحيح الوارد عن ابن عباس، كما أخرجه الطبراني وغيره (5).
وعليه فأصله نَسَيٌ، قلبت اللام قبل العين فصار نَيَساً، تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، فصارت ناسا.
فإن قلت: قوله: (مأخوذ من أنس) مشكل من وجهين: ()

(1/362)


أحدهما: أن الاشتقاق إنما يكون في (1) الأفعال والصفات، والناس، والإنسان اسم عين، لا فعل، ولا صفة، فكيف يصح اشتقاقه؟.
والثاني: أن أنس فعل، والفعل لا يشتق منه إلا على رأي الكوفيين.
قلت: هذه غفلة عن معنى الأخذ، وظن أنه مرادف للاشتقاق، وليس كذلك كما تقرر في أصولي الفقه والنحو من أن دائرة الأخذ أو سع من دائرة الاشتقاق.
وتحقيقه - على ما يؤخذ من " الخصائص " لابن جني وغيره - أن كل مادة ثلاثية فإن لها تقاليب ستة، منها المستعمل والمهمل، فالمستعمل منها يشترك في أمر عام يرجع إليه الأخذ.
مثاله مادة الكلام، ك ل م، فهذه الحروف الثلاثة بتقاليبها تدل على التأثير بشدة، فمنه الكَلامُ؛ لتأثيره في النفس، والكَلْمُ، وهو الجرح؛ لتأثيره في البدن، والمِلْكُ، لتأثيره في التضرّف في الأعيان، والمُلْكُ؛ لتأثيره في التصرف فيما زاد على المِلك، والمَلْكُ بالفتح، وهو شدة التأثير في العجين، واللَّكْمُ، وهو أشد الضرب، وتأثيره واضح، والكَمَال؛ لتأثيره في المعنى المقصود له، فهذه أربع تقاليب مستعملة.
وبقي اثنان مهملان، مَكْلٌ، لَمْكٌ، وكلها راجعة إلى مادة ك ل م، أعني الحروف الثلاثة، فهذا هو معنى الأخذ، وليس فيه اشتقاق (2).
والحاصل أن حروف المادة كالخشب مثلا يتخذ منه سرير، وباب، وكرسي، إلى غير ذلك، فأسماؤها وصيغها مختلفة، ومادتها المأخوذة منها شيء واحد، وهو في الألفاظ كذلك من غير اشتقاق، ولا موافقة في معنى، ولا عمل.
قوله: (ولذلك سموا بشرا)
في بعض الحواشي: أراد أن بشرتهم ظاهرة، وبشرة غيرهم مستترة بصوف، أو ريش، أو غيره.
قوله: (واللام فيه للجنس، و " من " موصوفة؛ إذ لا عهد، كأنه (3) قال: ومن الناس ناس يقولون، وقيل: للعهد، والمعهود هم الذين كفروا، أو " من " موصولة مرادا (4)

(1/363)


بها ابن أبي وأصحابه).
قال ابن هشام في " المغني ": قال الزمخشري: إن قدرت " ال " في الناس للعهد فموصولة، مثل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) [سورة التوبة 63] أو للجنس فموصوفة، مثل (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ) [سورة الأحزاب 24] ويحتاج إلى تأمل (1).
يعني في تخصيص الموصولة بالعهد، والموصوفة بالجنس.
قال ابن المنير في " تفسيره ": يحتمل أن يكون رأى أن العهد بالموصولة أشبه؛ لأن تعريف الموصول عهدي، وأما إذا كانت اللام للجنس فلا عهد ولا تعريف، فناسب ذلك الموصوفة؛ لأنها نكرة، فاستبعد أن يكون المنكور بعض المعهود.
وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: ما وجه هذا التخصيص؟ ولم لا يجوز أن تكون موصولة على تقدير الجنس، وموصوفة على تقدير العهد؟
قلنا: مبناه على المناسبة، والاستعمال.
أما لمناسبة فلأن الجنس لإبهامه يناسب الموصوفة، لتنكيرها (2)، والعهد لتعينه يناسب الموصولة؛ لتعرفها.
وأما الاستعمال فلأن الشائع في مثل هذا المقام هو النكرة الموصوفة، إذا
جعل بعضا من الجنس، كقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا) والموصول مع الصلة إذا كان بعضا من المعهود، كقوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) والقرآن يفسر بعضه بعضا.
وقد يقال: إن العلم بالجنس لا يستلزم العلم بأبعاضه، فتكون باقية على التنكير، فيكون المعبر بها عن البعض نكرة موصوفة، وعهدية، الكل يستلزم عهد أبعاضه، فتكون موصولة، وهذا أيضاً - بعد تسليمه - إنما يتم بما ذكرنا من وجه المناسبة، وإلا فلا امتناع في أن يعبر عن المعين بلفظ النكرة؛ لعدم القصد إلى تعيينه، وفي أن يتعين بعض من الجنس الشائع، فيعبر عنه بلفظ المعرفة (3). انتهى.
ولخصه الشريف فقال: وجعل " من " موصوفة مع الجنس، موصولة مع العهد،

(1/364)


رعاية للمناسبة والاستعمال.
أما المناسبة فلأن الجنس مبهم لا توقيت فيه، فناسب أن يعبر عن بعضه بما هو نكرة، والمعهود معين، فناسب أن يعبر عن بعضه بمعرفة.
وأما الاستعمال فكما في الآيتين، لما أريد بالمؤمنين الجنس عبر عن بعضهم بالنكرة، ولما أريد بضمير (منهم) جماعة معينة من المنافقين عبر عن بعضهم بالمعرفة.
قيل: والسر في ذلك أنك إذا قلت: من هذا الجنس طائفة شأنها كذا كان التقييد بالجنس مفيدا، بخلاف ما إذا قلت: من هذا الجنس الطائفة الفاعلة كذا؛ لأن من عرفهم عرف كونهم من الجنس أولاً.
وإذا قلت: من هؤلاء الذي فعل كذا كان جنسا؛ إذ فيه زيادة تعريف له، ولا يحسن كل الحسن أن يقال: فاعل كذا؛ لأنه عرفهم كلهم إلا إذا كان في تنكيره غرض، كستر عليه، أو تجهيل (1). انتهى.
وقال صاحب " الفرائد ": الوجه أن يكون اللام للعهد، ولا وجه أن تكون للجنس؛ لأن (من الناس) خبر (من يقول) فلو كان للجنس لكان المعنى من يقول من الناس، والظاهر أنه لا فائدة فيه.
وأما إن كانت للعهد فمعناه: ومن الناس المذكورين جماعة يقولون كذا، ولم يلزم أن تكون موصولة في العهد، بل يجوز كلا هما.
وكذا قال صاحب " التقريب ": يحتمل أن تكون موصولة إن جعل التعريف للجنس، وموصوفة إن جعل للعهد (2).
وأجاب بعضهم عما ذكره صاحب " الفرائد " من عدم الفائدة بأنها موجودة، وهي استعظام أن يختص بعفمن الناس بمثل تلك الصفات، فإنها تنافي الإنسانية بحيث كان ينبغي أن لا (3) يعد المتصف بها من جنس الناس.
قال الشيخ سعد الدين: وهذا الجواب ضعيف؛ لأن مثل هذا التركيب شائع ذائع في مواضع، لا يتأتى فيها مثل هذه الاعتبارات، ولا يقصد فيها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة تتصف بكذا.

(1/365)


قال: فالوجه أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ، يعني وبعض الناس من هو كذا وكذا، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف (1). انتهى
وأورده الشريف ثم قال: ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قول الحماسي (2):
مِنْهُمْ لُيُوْثٌ لا تُرَامُ، وبَعْضُهمْ. . . مِمَّا قَمَشْتَ وضَمَّ حَبلُ الحَاطِبِ
حيث قابل لفظ " منهم " بما هو مبتدأ، أعني لفظة " بعضهم "
قال: وقد يقع الظرف موقع المبتدإ بتقدير الموصوف، كقوله تعالى (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) [سورة الجن 12] (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [سورة الصافات 165] فالقوم قدروا الموصوف في الظرف الثاني، وجعلوه مبتدأ، والظرف الأول خبرا، وعكسه أولى بحسب المعنى.
أي جمع منا دون ذلك، وما منا أحد إلا له مقام معلوم، لكن وقوع الاستعمال على " أنَّ من الناس رجالا كذا وكذا " دون " رجال " يشهد لهم (3).
وقال الطيبي: قد منع بعضهم أن يكون اللام للعهد، و " من " موصولة، وقال: بل اللام للجنس، و " من " موصوفة، فإن المراد بالذين كفروا الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وبينهم وبين المنافقين تناف، فلم يكونوا نوعا تحت ذلك الجنس.
وكيف وقد حكم على أولئك بالختم على القلوب وغيره، فعلم كفرهم الأصلي، وعلى هؤلاء بقوله (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) وأشار إلى تمكنهم من الهدى وتنور فطرتهم.
قال الطيبي: وأقول: إن التقصي عن هذا المقام لا يستتب إلا ببيان كيفية نظم الآيات، فإنه مَحَكُّ البلاغة، ومنتقد البصيرة، ومضمار النُّظَّار، ومتفاضل الأنظار، ولا يهتدي إليه من ديدنه المجادلة، ودأبه المماراة، ولم يتكلم عن مقتضى الحال، ولم يعين لكل مقام مقالا، وليس كل ما يصح تقديره بحسب اللغة، أو النحو يعتبر عند علماء هذا الفن، فإن ذلك قد يعد من النعيق في بعض المقامات.
ألا ترى إلى صاحب " الكشاف " في سورة طه في قوله (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي

(1/366)


التَّابُوتِ) [سورة طه 39] كيف بالغ فيه، حيث قال: " حتى لا تفرق الضمائر، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر " (1).
وفي سورة الحاقة في قوله (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [سورة الحاقة 5، 6]
كيف ذهب إلى المعنى بقوله (بالطاغية)
بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، ليطابق قوله (صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) وعدل عن حمله على المصدر، وأنه الظاهر؛ لأن الطاغية كالعافية، أي بطغيانهم (2)؛ لأن الواجب رعاية حسن النظم بين آي التنزيل.
وكم له أمثال ذلك، فالواجب على من يخوض في هذا الكتاب أن يستوعب معرفة جميع المقامات، وجميع خواص التركيب، لينزل كلا في مقامه.
إذا علم هذا فنقول: إذا كان النظم هو ما ذكر افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ثم ثنى بذكر الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وثلث بالذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، فالواجب حمل التعريف في الأقسام الثلاثة إما على الجنس بأسرها، وإما العهد برمتها.
وإذا حمل على الجنس فلا يجوز أن يقال: مَن في (مَن يقول) موصولة، كما قال أبو البقاء: هذه الآيات استوعبت أقسام الناس، فالآيات الأوَّلُ تضمنت ذكر المخلصين في الإيمان، وقوله (إن الذين كفروا) تضمن من أبطن الكفر وأظهره، وهذه الآية تضمنت ذكر من أظهر الإيمان، وأبطن الكفر، و " مِن " للتبعيض، و " مَنْ " نكرة موصوفة، ويضعف أن تكون بفعنى الذي؛ لأن " الذي " يتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هاهنا على الإبهام (3). تم كلامه.
فإن قلت: آثرت الموصوفة على الموصولة، وهي أيضاً محتملة للجنس، فيلزم الإبهام أيضاً كما في قوله (الذين كفروا).
قلت: الموصوفة نص في الشياع، بخلاف الموصولة، لاحتمال الأمرين فيها.
بقي أن يقال: فما معنى قوله: من يقول من الناس، وأي فائدة فيه؟

(1/367)


فيقال: إنه تعالى نظم الآيات الثلاث في سلك واحد، لكن خص كل صنف بفن من الفنون، لا سيما خصَّ هذا الصنف بمبالغات وتشديدات لم يخص الصنفين بها، وأبرز أيضاً نفس التركيب إبرازا غريبا، حيث قدم الخبر على المبتدإ، وأبهمه غاية الإبهام ونكر المبتدأ، ووصفه بصفات عجيبة؛ ليشوق السامع إلى ذكر ما بعده من قبائحهم، ونكرهم نعيا عليهم، وتعجيبا من شأنهم
يعني انظروا إلى هؤلاء الخبثة، وقبيح ما ارتكبوه كيف اختصوا من بين سائر الناس بما لم يرض العاقل أن ينتسب إليه.
نعم لم يفد شيئا أن لو أريد مجرد الإخبار، ونظيره قوله تعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) [سورة الأحزاب 23] أي امتاز من بين سائر المؤمنين بهذه المناقب الشريفة رجال كرماء، فدل التنكير في (رجال) على تعظيم جانبهم، كما دل الإبهام في (من يقول) على خلاف ذلك هاهنا.
وأما إذا حمل التعريف في الناس على العهد فيقال: المراد بالمتقين من شاهد حضرة الرسالة من الصحابة المنتخبين، وينصره تقدير إرادة أهل الكتاب - أعني عبد الله بن سلام وأصحابه - من قوله تعالى (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) معطوفا على قوله (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)
فعلى هذا يحمل قوله تعالى (إن الذين كفروا) على قوم بأعيانهم، كأبي جهل، وأبي لهب، وأضرابهم، وأن يراد بقوله (ومن الناس من يقول آمنا) عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، وأشباههم، فلا وجه إذن لقول من قال: ويحتمل أن تكون موصوفة إن جعلت التعريف للعهد؛ لأن المراد بقوله (من يقول) حينئذ قوم بأعيانهم وأشخاصهم، كعبد الله بن أبي وأصحابه، فكيف تجعل موصوفة؛ لأن " من " نكرة، والقوم معهودون.؟
قال: ثم إني بعد برهة من الزمان وقفت على قول صاحب " الكشاف " في قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) [سورة النحل 76] " الظاهر أن " من " موصوفة، كأنه قيل: وحرا رزقناه ليطابق عبدا، ولا يمتنع أن تكون موصولة " (1)
يريد أن الآية من باب التضاد، فالظاهر أن تراعى المطابقة بين كلمات

(1/368)


القرينتين، فإذا قلت: عبدا مملوكا، والحر الذي رزقناه ذهبت المطابقة، وفاتت الطلاوة، فلا يذهب إليه إلا الكز الجافي، والغليظ الجاسي (1).
وأما الجواب عن قول من قال: بينهم وبين المنافقين تناف: فهو عين ما ذكره صاحب " الكشاف ": في الجواب عن سؤاله " كيف يجعلون بعض أولئك، والمنافقون غير المختوم على قلوبهم "؟ (2)
وحاصل جوابه أن كون هؤلاء مخصوصين بحكم النفاق لا يخرجهم من جنس المصممين، بل يفيد تميزهم عنهم بما لم يتصفوا به، وإليه الإشارة بقوله: " بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما " فالتعريف في قوله: " الكفر جمع الفريقين " وقوله: " الكفر الجامع بينهما " للعهد، وهو الكفر الخاص؛ لأنه جنس أيضا باعتبار النوعين.
وهذا من فصيح الكلام ووجيزه؛ لأن الجنس إذا أطلق شاع في جميع متناولاته إن لم تنتهض قرينة على إرادة البعض، فإذا حصلت القرينة قيدت، فإذا كررت كرر، فإنه تعالى لما قال (إن الذين كفروا) تناول جميع الفرق من الكفرة، فقيد بقوله (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بالمصممين، ثم قيده مرة أخرى مع ذلك القيد (ومن الناس من يقول)
ونحوه قول الأصوليين: يجوز تخصيص ما بقي غير محصور.
قال: ثم إني عثرت بعد هذا التقرير على كلام من جانب الإمام أفضل المتأخرين، القاضي ناصر الدين، تغمده الله برحمته ما شَدَّ بعضده:
قال: (واللام فيه للجنس) وساق كلام البيضاوي إلى آخره (4).
وقال أبو حيان (مَن) في قوله تعالى (من يقول) نكرة موصوفة، مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم (5) الذكر، و (يقول) صفة.
هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه، وكأنه قال: ومن

(1/369)


الناس ناس يقولون كذا، كقوله (من المؤمنين رجال صدقوا)
قال: إن جعلت اللام للجنس، يعني في قوله (ومن الناس)
قال: وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله (ومنهم الذين يؤذون النبي) (1)
واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة، قال: لأن " الذي " تتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام، والتقدير: ومن الناس فريق يقول (2).
وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في (الناس) إن كانت للجنس كانت (من) نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس، والعهد للعهد.
ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس، و (من) موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، و (من) نكرة موصوفة، فلا تلازم بين ما ذكر.
وأما استضعاف أبي البقاء كون (من) موصولة، وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه.
قال: والذي نختاره أن تكون (من) موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى، ومن حيث التركيب الفصيخ، ألا ترى جعل (من) نكرة موصوفة إنما يكون إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا المكان ليس من المواضع التي تختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جدا، حتى إن الكسائي أنكر ذلك (3). انتهى.
قوله: (تمويها) من موهت الشيء، إذا طليته وزينته.
قوله: (والقول هو التلفظ بما يفيد)
يحتمل أن يريد به مطلق الإفادة احترازا عن المهمل، كديز مقلوب زيد، فإنه لا يسمى قولا، وإنما يسمى لفظا، بخلاف الكلام، والكلم، والكلمة فإن كلا من الثلاثة يسمى (4) قولا، وهذا هو المشهور عند المتأخرين، وجزم ابن مالك في " الألفية " (5)

(1/370)


ويحتمل أن يريد الفائدة التامة احترازا من الكلمة، والمركب الذي لا يفيد، فلا يسمى قولا، وهو أحد الأقوال في المسألة.
قال الخويي في تفسيره: القول حقيقة في المركب المفيد، وإطلاقه على المفود والمركب الذي لا يفيد مجاز.
والقول الثالث فيه: أنه حقيقة في المفرد، وإطلاقه على المركب مجاز، وعليه ابن معط (1).
والرابع: أنه حقيقة في المركب سواء أفاد أم لا، وإطلاقه على المفرد مجاز.
ونقل ابن الصائغ (2) في " في شرح الألفية " عن سعيد بن فلاح (3) أنه قال في " الكافي ": دلالة القول بالنسبة إلى المفرد وضعية، وبالنسبة إلى المركب عقلية على قول من قال: المركب غير موضوع.
وقال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرحه الكبير المسمى " رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة " (4): قول ابن مالك:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقول عم
أي أنه يطلق على الكلام، والكلمة، والكلم، وظاهر كلامه أن إطلاقه على الثلاثة على حد سواء، وهو المشهور.
وفي " فصول " ابن معط: والقول يعم الجميع، والأصل استعماله في المفرد (5).
فعلى هذا يكون استعماله في الكلام، والكلم بطريق المجاز.

(1/371)


وقيل: إن القول خاص بالمركب، وقيل: خاص بالمركب المفيد، فهذه أربعة أقوال. انتهى.
وبقي قول خامس: أنه يطلق على المهمل أيضاً كاللفظ، حكاه أبو حيان في باب ظن من " شرح التسهيل ".
ونحوه قول أبي البقاء في " اللباب ": القول يقع على المفيد، وغير المفيد؛ لأن معناه التحرك والتقلقل، فكلما يمذل به اللسان ويحركه يسمى قولا (1).
وقال ابن إياز في " شرح الفصول ": اختلف الناس في القول، فذهب بعضهم إلى أنه عبارة عن كل ما نطق بها اللسان تاما كان أو ناقصا، مفيدا أو غير مفيد، وهو مصدر، قال تعالى (ما يلفظ من قول) [سورة ق 18] أي ما يطرح ويلقي، وهو اختيار المصنف يعني ابن معط غير أنه قال: والأصل استعماله في المفرد، وغيره، ممن اختار هذا لم يقل كذا (2)، بل قال: استعماله في المفرد والمركب على حد سواء.
وذهب بعضهم إلى أنه لا فرق بين الكلام والقول.
وذهب آخرون إلى أن القول يطلق على المركب خاصة سواء كان مفيدا أو غير مفيد (3). انتهى.
وقال الرضي: القول والكلام واللفظ من حيث أصل اللغة بمعنى، يطلق على كل حرف من حروف المعجم كان، أو من حروف المعاني، وعلى أكثر منه، مفيدا كان أولا، لكن القول اشتهر في المفيد، بخلاف اللفظ، واشتهر الكلام في المركب من جزئين فصاعدا (4).
قوله: (ويقال بمعنى المقول)
أي، فيكون من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول.
قوله: (والمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ، والرأي والمذهب مجازا)
قال ابن إياز في " شرح الفصول ": اعلم أنه قد يطلق القول على الآراء

(1/372)


والاعتقادات، فيقال: هذا قول الشافعي، وقول أبي حنفية، يراد بذلك رأيه وما ذهب إليه.
والذي سوغ هذا الإطلاق كون الرأي والاعتقاد خافيا، لا يظهره غالبا سوى القول، فلما كان القول سببا في إظهاره والإعلام به أطلق عليه.
فإن قيل: قد يطلق على الرأى والاعتقاد الكلام والقول، فأيهما أولى بالإطلاق عليهما؟
قلنا: قال شيخنا أبو جعفر (1): إن إطلاق القول عليهما أولى من إطلاق الكلام، وذلك لأن الرأي والاعتقاد كل منهما كما ذكرته خاف لا يظهر بنفسه، بل يحتاج إلى ما يظهره، كما أن القول قد لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى ما يتممه (2)، فقد اشتركا في الاحتياج، ولا كذلك الكلام، فإنه مستقل مستغن بنفسه.
قال: وقد يستعمل القول أيضاً لغير ذي لفظ تجوزا، قال الشاعر:
فَقَالَتْ لَهُ العَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً. . . وَأَبْدَتْ كَمِثْلِ الدُّرِّ لِمَا يُثْقِبُ (3)
وإنما جاز ذلك؛ لأن صورة حالهما قائمة مقام قولهما: سمعا وطاعة (4).
قوله: (وما هم بمؤمنين) إنكار لما ادعوه)
قال الطيبي: يعني أن مقتضى المطابقة لقوله (آمنا) أن يقال: وما آمنوا، ليتحدا في ذكر شأن الفعل، فإن (وما هم بمؤمنين) في ذكر شأن الفاعل، لا الفعل.
والجواب: المصير إلى التأويل، والحمل على الكناية الإيمائية، ليفيد التأكيد، ويحصل التطابق.
بيانه: أنه تعالى لما أولى الضمير حرف النفي، وحكم عليهم بأنهم ليسوا بمؤمنين، وكان ذلك جوابا عن دعواهم أنهم اختاروا الإيمان بجانبيه على صفة الاستحكام، دلّ على إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، وإذا شهد عليهم بذلك لزم نفي ما ادعوه، على سبيل البت والقطع.

(1/373)


قال الطيبي: وهذا إنما يصح لو قيل: وما هم من المؤمنين؛ إذ ليس قوله (وما هم بمؤمنين) مثل ما هم من المؤمنين، لكن الأول أبلغ؛ لأنه نفى لأصل الإيمان، والثاني نفي للكمال (1).
وقال الشيخ سعد الدين: من قواعدهم أنهم يقدمون الذي شأنه أهمّ، وهم ببيانه أعنى، فقولهم " آمنا " بتقديم الفعل كلام في شأن الفعل، وأنه صادر عنهم متحقق، وقوله (ما هم بمؤمنين) كلام في شأن الفاعل، وأنه بحيث لم يصدر عنه الفعل، حتى إن تقديم الضمير، وإيلاءه حرف النفي ربما يفيد اختصاصه بنفي الفعل، كما سنذكر في قوله تعالى (وما أنت علينا بعزيز) [سورة هود 92] وأمثاله، فكيف ما كان لا تكون الجملة الاسمية المشتملة على إيلاء الضمير حرف النفي مطابقة لمقتضى الحال في رد كلامهم.
والجواب أن هذا ليس من باب التقديم لإفادة الاختصاص، أو لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا، بل من باب العدول إلى الجملة الاسمية، لرد كلامهم بأبلغ وجه وآكده، كأنه قيل: إنهم ليسوا في شيء من الإيمان، ولا يصدق هذا الوصف عليهم ألبتة.
لا يقال: الاسمية تدل على الثبات، فنفيها يفيد نفي الثبات، لا ثبات النفي
وتأكده، لأنا نقول: ذاك إذا اعتبر الثبات بطريق التأكيد والدوام، ونحو ذلك، ثم
نفي، وهاهنا اعتبر النفي أولا، ثم أكد، وجعل بحيث يفيد الثبات، أو الدوام، وذلك
كما أنَّ " ما أنا سعيت في حاجتك " لاختصاص النفي، لا لنفي الاختصاص،
وبالجملة ففرق بين تقييد النفي، ونفي التقييد (2). انتهى.
وقال الشريف: الجواب أن العدول إلى الاسمية لسلوك طريق الكناية في رد دعواهم الكاذبة، فإن انخراطهم في سلك المؤمنين، وكونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء ملزومه، ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء.
وكيف لا، وقد بولغ في نفي اللإزم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضاً، فليس في هذه الاسمية تقديم

(1/374)


لقصد الاختصاص أصلا، ولا لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا قطعا، بل المقصود بها ما ذكرناه من سلوك طريق هو أبلغ وأقوى في رد تلك الدعوى (1).
وفي بعض الحواشي: ادعى صاحب " الكشاف " هنا أن قولنا: زيد ليس بقائم، أبلغ من قولنا: ما قام، وما يقوم، ولم يصرح بحجة تدل عليه.
ولعله يشير إلى أن قولنا: زيد لا يقوم وصف له بالامتناع من القيام، وذلك قد يكون مع القدرة عليه، ومع عدم القدرة، وقولنا: زيد ليس بقائم، فيه سلب الاتصاف، فكأنَّه أقوى في (2) سلب أهلية الاتصاف.
وقال أبو حيان: لأجل التأكيد والمبالغة في نفي إيمانهم جاءت الجملة المنفية اسمية مصدرة ب " هم "، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيدا بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان؛ إذ لو جاء النفي منسحبا على اللفظ المحكي الذي هو (آمنا) لكان وما آمنوا، فكان يكون نفيا للإيمان الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت ما من الأوقات (3).
قوله: (انتحلوا) في " الأساس ": انتحل شعر غيره إذا ادعاه لنفسه (4).
قوله: (وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به؛ لأنه جوابه)
في بعض الحواشي: هذا الاحتمال مطرد في التقييد بالمجرور، وظرف الزمان والمكان، والمفعول من أجله، والحال، وسين الاستقبال إذا عطف عليه ما خلا عن التقييد بها، كقولك: ضربت زيدا بعصى وعمرا، وأكرمت زيدا يوم الجمعة وعمرا، وضربت زيدا عندك وعمرا، وأكرمت زيدا وفاءً بحقه وعمرا، ولقيت زيدا راكبا وعمرا، وسيقوم زيد، ويكتسب (5) مالا.
ومنه قوله تعالى (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ) [سورة مريم 79]
والذي يختص بهذه الآية أن الإطلاق فيها، والخلو عن التقييد أبلغ؛ لأنه يدخل

(1/375)


فيه المقيد وغيره، لعموم النفي، بخلاف هذه الأمثلة.
* * *
قوله: (الخدع)
هو بفتح الخاء وكسرها كما في " الصحاح " (1) واقتصر بعضهم على الكسر.
قوله: (أن توهم)
قال الشيخ سعد الدين: هو متعد إلى مفعولين، يقال: وهمت الشيء، أهمه، أي وقع في خلدي، وأوهمته غيري وَوَهَّمتُهُ (2).
قوله: (الخارش) أي الصائد
قال القطب: الخرش مخصوص بصيد الضباب (3).
وفي " الصحاح ": فلان يخرش لعياله، أي يكتسب ويطلب الرزق (4)
قوله: (وأصله الإخفاء) أخذه من الإمام (5).
وقال ابن عطية نقلا عن أهل اللغة: أصله الفساد، ثم حكى الأول بصيغة التمريض (6) في كلام الراغب ما يوهم أن أصله التلون (7).
وقال الطيبي: قد يكون الخداع حسنا إذا كان الغرض استنزال الغير من ضلال إلى رشد، ومن ذلك استدراجات التنزيل على لسان الرسل في دعوة الأمم، وهذا يناسب أن يكون أصله الإخفاء (8).
قوله: (ومنه المخدع) وهو بضم الميم وكسرها.
قال ابن السكيت: والأصل الضم، وإنما كسر استثقالا (9).
قوله: (والأخدعان لعرقين خفيين)
قال الراغب: الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما

(1/376)


يخفيه، ومنه خدع الضب إذا استتر في جحره، و " أخدع من ضب " (1) وطريق خادع، وخيدع مضل، كأنه يخدع سالكه، والمخدع بيت في بيت، كأنَّ بانيه جعله خادعا لمن رام تناول ما فيه، وخدع الريق إذا قلَّ، يتصور منه هذا المعنى، والأخدعان يتصور منهما الخداع لاستتارهما تارة، وظهورهما أخرى.
وفي الحديث " بين يدي الساعة سنون خداعة " (2) أي محتالة؛ لتلونها بالجدب تارة، وبالخصب تارة. (3) انتهى.
قوله: (وخداعهم مع الله ليس على ظاهره)
قال الإمام: لقائل أن يقول: مخادعة الله ممتنعة من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر، فلا يمكن أن يخادع، بأن يخفى منه خلافه ما يبدى.
والثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله (4).
قوله: (بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف)
قال الراغب: نسبة الخداع إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته، وجعل ذلك خداعا تفظيعا لفعلهم وتعظيما، وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه.
وقول أهل اللغة: إن هذا على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتي بالمضاف المحذوف؛ لما ذكرنا من التنبيه على أمرين:
أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله.

(1/377)


والثاني: التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وأن معاملته كمعاملة الله. (1) انتهى.
قوله: (أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته)
قال الشيخ سعد الدين: حاصل هذا الوجه أن المراد بخدع الله خدع الرسول، فالمجاز في التحقيق يكون في الهيئة التركيبية، والنسبة الإيقاعية، لا في لفظ " الله " وإطلاقه على الرسول؛ للإطباق على أن لفظ " الله " لا يطلق على غيره، لا حقيقة، ولا مجازا (2).
وفي بعض الحواشي: حاصل هذا الوجه يرجع إلى إطلاق اسم السبب على المسبب.
بيانه أن الملك إذا أمر بالقتل، فالقا تل هو المباشر، وأمر الملك هو السبب، فإذا قيل: قتل الملك فلانا، أطلقوا على المسبب اسم السبب.
قوله: (وإما أن صورة صنعهم مع الله) إلى آخره
قال الشيخ سعد الدين: حاصل هذا الوجه أن المراد بالخداع المعاملة الشبيهة به، فيكون استعارة تبعية تمثيلية (3).
وقال الشريف: الحاصل أن بينهم من الجانبين معاملة شبيهة بالمخادعة، فقوله: (يخادعون) استعارة تبعية، وليس في هذا اعتبار هيئة مركبة من الجانبين، وما يجري بينهما مشبهة بهيئة أخرى مركبة من الخادع والمخدوع والخدع؛ ليحمل الكلام على الاستعارة التمثيلية (4).

(1/378)


قوله: (بإجراء أحكام المسلمين عليهم)
قال الطيبي: يعني به جريان التوارث، وإعطاء السهم من المغنم، وغيرهما (1).
قوله: (لأنه بيان لـ (يقول) أو استئناف)
زاد في " الكشاف ": " كأنه قيل: ولم يَدَّعُون الإيمان كاذبين، وما رفقهم في ذلك؟
فقيل: يخادعون " (2)
قال أبو حيان: وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. (3)
قوله: (والفعل متى غولب فيه)
قال الشيخ سعد الدين: أي عورض، وجرى بينه وبين صاحبه مباراة ومقابلة (4).
قوله: (كان أبلغ)
زاد في " الكشاف ": " لزيادة قوة الداعي إليه (5) "
قوله ": (وُيخْدَعُوْنَ وُيخَادَعُونَ على البناء للمفعول، ونصب أنفسهم بنزع الخافض)
قال ابن جني في " المحتسب ": وما يُخدعون قراءة عبد السلام بن شداد (6)، والجارود بن أبي سبرة (7).
وهذا على قولك: خدعت زيدا نفسه، ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت: حذف حرف الجر، فوصل الفعل، كقوله تعالى (واختار موسى قومه) [سورة الأعراف 155]
أي من قومه، وإن شئت قلت: حمله على المعنى، فأضمر له ما يناسبه.

(1/379)


وذلك أن قولك: خدعت زيدا عن نفسه يدخله معنى انتقصته نفسه، فلما تضمن معناه أجري مجراه في الاستعمال.
وعليه قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [سورة البقرة
187] وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها، لكن لما ضمن معنى الإفضاء عدي ب " إلى "، كما يعدى أفضيت ب " إلى " (1)
وقال أبو حيان: ومن قرأ (وما يُخَادَعُوْنَ) أو (يُخْدَعُوْنَ) مبنيا للمفعول فانتصاب ما بعد إلاّ على ما انتصب عليه " زَيْدٌ غُبنَ رَأيَهُ " إما على التمييز على مذهب الكوفيين، صماما على التشبيه بالمفعول به، عَلى ما زعم بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقصون ويسلبون، فينتصب على أنه مفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء، فعدي ب " إلى "، ولا يقال: رفث إلى كذا، وكما ضمن (هل لك إلى أن تزكى) [سورة النازعات 18] معنى أدعوك، ولا يقال إلا: هل لك في كذا (2).
قوله: (والنفس ذات الشيء، وحقيقته) زاد الإمام: ولا تختص بالأجسام (3).
قوله: (ثم قيل للروح) إلى آخره
قال الشيخ سعد الدين، والشريف: ظاهر هذا الكلام أن لفظ النفس حقيقة في الذات، مجاز فيما عداها.
وكذا قال القطب، وعلله بأن الذات تقوم بالروح، وبالقلب وبالدم، وبالماء (4).
وقال الطيبي: قوله: " ثم قيل للقلب: نفس " متفرع على الأول، وقوله: " للدم نفس " متفرع على الثاني، يدل عليه " لأن قوامها " أي قوام الروح بالدم (5).
وقال الشريف: إطلاق النفس على الرأي من قبيل تسمية المسبب باسم السبب، أو استعارة مبنية على المشابهة (6).
قوله: (جعل اللحوق وبال الخداع) إلى آخره.

(1/380)


قال الشيخ سعد الدين: يعني أن قوله (لا يشعرون) أبلغ وأنسب من (لا يعلمون " (1)
قوله: (لأنها مانعة من نيل الفضائل) إلى آخره.
بيان لعلاقة المجاز، وهو مأخوذ من كلام الراغب (2).
قوله: (والآية تحتملهما).
أقول: الذي عليه أهل التفسير حمل الآية على الثاني، وهو المجاز، فقد أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة (3)، والحسن، والربيع، وقتادة (4)، ولم يحكيا خلافه عن أحد. والتفسير مرجعه النقل.
والعجب من المصنف، وصاحب " الكشاف " أنهما في أكثر المواضع القرآنية والحديثية يحملان ما ظاهره الحقيقة على المجاز والاستعارة، مع عدم الداعية إليه، ومع تصريح أئمة الحديث والأجلاء بأن المراد الحقيقة على ظاهره، ويساعدهما الشريف، ومن جرى مجراه على ذلك، ويتركون أئمة الحديث بقولهم: زعم أهل الظاهر! ولا مستند لهم في ذلك إلا قولهم: إن المجاز أبلغ من الحقيقة.
وهاهنا ورد التفسير عن الصحابة والتابعين بالمجاز، ليس إلا، فلم يقتصروا عليه، وزادوا الحقيقة.
وليس في المتكلمين على الكشاف أكثر مشيا على طريقة المحدثين من الطيبي، فإنه كان - مع إمامته في المعقولات - محدثا صوفيا قوله: (أليم) أي مؤلم)
قال أبو حيان: وفعيل بمعنى مفعل مجاز (5).
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أليم فهو

(1/381)


الموجع (1).
قوله: (يقال: ألم، فهو أليم) إلى آخره
في بعض الحواشي: هذا فرار مما قاله الأكثرون، أن أليما بمعنى مؤلم، وجعلوه مثل (بديع السموات والأرض) [سورة البقرة 117] أي مبدعهما.
وقول الشاعر (2):
أَمِنْ رَيحَانَةَ الدَّاعِيْ السَّمِيْعُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
أي المسمع
والزمخشري يقول: إن فعيلا إنما يكون بمعنى فاعل، أو مفعول من الثلاثي، فأمَّا الرباعي فلا يجيء منه فعيل، فلا يقال: فعيل في " أحسن " ولا في " أعطى " فجعل أليما مأخوذا من " ألم " الثلاثي.
ونَظَّرَهُ بقولهم: وجع الرجل، فهو وجيع.
واحتاج إلى مجاز في الإسناد، وهو أن المتوجع والمتألم هو الإنسان، وقد ينسب ذلك إلى المصدر الحالِّ به، فيقال: ضرب وجيع، والوجع إنما هو للمضروب، ويقال: عذاب أليم، والألم إنما هو للمُعَذَّبِ، ونَظَّرَهُ بقولهم: جَدَّ جِدُّهُ، والجد في الأمر هو الاجتهاد، وهو على التحقيق فعل الجادِّ، لا فعل الجِدِّ (3).
وأما قوله (بديع السموات والأرض) فقد فسره الزمخشري في مكانه بأنه من باب الصفة المشبهة (4)، بديع السموات كقولك: جميل الوجه، وكريم الأب، وليس المعنى مبدع السموات، بل المعنى بديعة سمواته، كما أن المعنى جميل وجهه، وكريم أبوه.
وأما قوله:
أمن ريحانة الداعي السميع. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
فقد ذكر الزمخشري - فيما علّق عنه، ورأيته بخطه على حاشية " الكشاف " - أن المراد من ريحانة داع من قلبي، سميع لدعاء داعيها، لا بمعنى مسمع منها.

(1/382)


ويؤيده قوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يُؤَرِّقُنِيْ وَأَصْحَاْبِيْ هُجُوْعُ
فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها. انتهى.
وهذه الحاشية التي أنقل عنها على الإبهام وقع لي منها مجلد على سورة البقرة، ولم يكتب عليه اسم مؤلفه، فانا أنقل عنه مبهما، وأظن أنها حاشية الجابردي (1)
قوله: (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَحِيِّةُ بَيْنهِمْ ضرْبٌ وَجِيْعُ)
قال الطيبي: أنشد أوله الزجاج:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهُمْ بِخَيْلٍ (2). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
أي أصحاب خيل.
دلفت: دنوت، يقال: دلفت الكتيبة في الحرب، أي تقدمت. والتحية مصدر حييته تحية، أي رب جيش قد تقدمت إليهم بجيش، والتحية بينهم الضرب بالسيف، لا القول باللسان، كما هو العادة. والوجيع في الحقيقة المضروب، لا الضرب (3).
وقال الشريف: يقال: دلفت الكتيبة تقدمت، ودلف الشيخ إذا قارب الخطو، وكلا المعنيين حسن هنا، والباء في " بخيل " للتعدية (4).
وفي " شرح شواهد سيبويه " للزمخشري: أن هذا البيت لمعدي كرب (5).
قوله: (على طريقة قولهم: جَدَّ جدُّهُ)
قال الطيبي: أي طريقة الإسناد المَجازي (6).
وقال الشيخ سعد الدين: ظاهر هذا الكلام أنه من قبيل الإسناد إلى المصدر مثل جد جده، لكن لا يخفى أنه ليس مصدر الفعل المسند، وإنما يكون كذلك لو

(1/383)


قيل: أَلَمٌ أَلِيْمٌ، وَوَجَعٌ وَجِيْعٌ، فمن هنا قد يتكلف فيقال: العذاب هو الألم الفادح، والضرب أعني المضروبية هو الوجع (1).
قوله: (والمعنى بسبب كذبهم)
قال الشريف: أشار بذلك إلى أنَّ لفظة " ما " مصدرية (2).
وقال أبو حيان: زعم أبو البقاء أن كون " ما " موصولة أظهر، قال: لأن الهاء المقدرة عائدة إلى " الذي " دون المصدر (3).
ولا يلزم أن يكون ثَمَّ هاء مقدرة، بل من قرأ (يَكْذِبُوْنَ) بالتخفيف فالفعل غير متعد، ومن قرأ بالتشديد (4) فالمفعول محذوف، لفهم المعنى، تقديره بكونهم يُكَذَّبُوْنَ اللهَ في أخباره، والرسولَ فيما جاء به (5).
قوله: (من كَذَّبَهُ)
أي على أنه للتعدية، بمعنى يُكَذِّبُوْنَ النبيَّ، أي يعتقدونه كاذبا.
قوله: (أو من كَذَّبَ الذي هو للمبالغة أو التكثير)
قال الطيبي: الفرق بين الكثرة والمبالغة أن الكثرة تفيد صدور هذا المعنى من الشخص مرارا كثيرة، والمبالغة لا تستدعي المرات، بل المراد أن الشخص في نفسه بليغ في كذبه، كأنه بمنزلة مرار كثيرة (6).
وقال الشيخ سعد الدين: المبالغة الزيادة في الكيفية، أي يكذبون كذبا عظيما، والتكثير الزيادة في الكمية من جهة كثرة الفاعلين (7).
قوله: (مِثْلُ بَيَّنَ الشيْءُ) أي اتضح، بمعنى بأن، غير أن بَيَّنَ أبلغ؛ لأنه يدل على كمال ظهور الشيء واتضاحه.
قوله: (وَمَوَّتَتِ البَهَائِم) هو بمعنى ماتت، غير أنه يفيد الكثرة (8).

(1/384)


ففي كلام المصنف لف ونشر مرتب؛ فإن بين الشيء راجع إلى المبالغة، وموتت البهائم راجع إلى التكثير، كما أفصح به في " الكشاف " (1)
قوله: (أو من كَذَّبَ الوَحْشِيُّ) إلى آخره
قال الطيبي: فعلى هذا هو استعارة تبعية واقعة على التمثيل (2).
وقال الشيخ سعد الدين، والشريف: هو مجاز عن كَذَّبَ الذي هو للتعدية، كأنه يَكْذِبُ رأيه وظنه، فيتردد (3).
زاد الشريف: ولما كثر استعماله في هذا المعنى وكان حال المنافق شبيهة به جاز أن يستعار لها وإن كان ما تقدم أولى (4).
قوله: (والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، حرام كله)
تبع في ذلك " الكشاف (5) " وليس كما قالاه، بل من الكذب ما هو مباح، وما هو مندوب، وما هو واجب، كما هو مقرر في كتب الفقه.
وفي الحديث: " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا (6): الرجل يكذب في الحرب؛ فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما " (7)

(1/385)


رواه الطبراني في " الكبير " من حديث النواس بن سمعان (1).
وروى الطبراني في " الأوسط ": حديث " الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم، أو دفع به عن دين " (2)
قال النووي في " الأذكار ": وأما المستثنى منه فقد روينا في الصحيحين عن أم كلثوم (3) أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " ليس الكذاب الذي

(1/386)


يصلح بين الناس، فينمي خير أو يقول خيرا "
زاد مسلم قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها (1).
فهذا الحديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة.
وقد ضبط بعض العلماء ما يباح منه، وأحسن ما رأيته في ضبطه ما ذكره أبو حامد الغزالي فقال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام؛ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب ولم يمكن بالصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا.
فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده، أو عند غيره وديعة، وسأل ظالم يريد أخذها منه وجب عليه الكذب بإخفائها، ولو استحلفه عليها لزمه أن يحلف، وُيوَرِّيْ في يمينه، وكذا لو كان المقصود حربا، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بالكذب، فالكذب ليس بحرام، وكذلك كلما ارتبط به غرض صحيح له أو لغيره، فالذي له مثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ليأخذه فله أن ينكره، أو يسأله السلطان عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكرها ويقول: ما زنيت، أو ما سرقت مثلا.
وقد اشتهرت الأحاديث بتلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار.
وأما غرض غيره فمثل أن يسأل عن سر أخيه فينكره، أو نحو ذلك.
وينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب، والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب، وإن كان عكسه، أو شك حرم عليه الكذب. (2) انتهى.
وفي الحاشية المشار إليها: هذا الذي ذكره الزمخشري بناء على مذهبه في التحسين والتقبيح، فهم يقولون: الكذب كله قبيح وإن تضمن مصلحة بناء على أن الأحكام تابعة لأوصاف في الذات.

(1/387)


وأهل السنة يقولون: الكذب للمصلحة مباح، وقد يكون واجبا كما إذا اختفى مظلوم، وسئل عنه فإنه يحرم الصدق في الإعلام به، ويجب الكذب (1). انتهى.
وهذا الموضع مما مشى على (2) البيضاوي من " الكشاف "، فلم يتنبه أنه على مذهبه، وما تنزه عن الغفلة إلا الله سبحانه.
قوله: (وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات)
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة: " فيقول إبراهيم إني كذبت ثلاث كذبات (3) " وفي رواية: " وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم (4) "
وروى الترمذي عن أبي سعيد في حديث الشفاعة: " فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات " ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله "
وفي رواية عند أحمد، وأبي يعلى: " إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات والله إن أجادل بهن إلا عن دين الله: قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته حين أتى على الملك: أختي (5) "

(1/388)


وفي الحاشية المشار إليها: حكى ابن خطيب الريِّ أنه باحث رجلا في هذا الحديث فقال: يجب القطع بكذب الراوي؛ لأنه قد ثبت عصمة الأنبياء، فقال له الرجل: كيف يكذب الراوي، والحديث ثابت في الصحيحين؟ فقال: تكذيب الراوي حتى يصدق إبراهيم أولى (1).
قال صاحب الحاشية: وهذا البحث فاسد من ابن الخطيب.
قوله: (فالمراد التعريض)
قال الشيخ أكمل الدين: اختلف في معنى التعريض هاهنا، فقيل: هو خلاف التصريح، وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها فيه ذكر، وقيل: هو اللفظ المشار به إلى جانب، والغرض جانب آخر، وسمي تعريضا لما فيه من التعرج عن المطلوب (2).
وبهذا الأخير جزم الطيبي، وقال: يقال: نظر إليه بعرض وجهه، أي بجانبه، ومنه المعاريض في الكلام، وهي التورية بالشيء.
قال: ونوع من التعريض يسمى الاستدراج، وهو إرخاء العنان مع الخصم في المجاراة؛ ليعثر حيث يراد تبكيته، فسلك إبراهيم عليه السلام مع القوم هذا المنهج.
أما قوله في الكوكب: (هذا ربي) فكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطإ في دينهم، ويرشدهم إلى أن شيئا منها لا يصلح للإلاهية؛ لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها.
وأما قوله: (بل فعله كبيرهم) فتنبيه على أن الإلاه الذي لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه كيف يرجى منه دفع الضرر عن الغير.

(1/389)


وأما قوله: (إني سقيم) فإنه عليه السلام أوهمهم أنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سيسقم ليتركوه، فيفعل بالأصنام ما أراد أن يفعل، أو سقيم لما أجد من الغيظ والحنق باتخاذكم النجوم آلهة (1)
قال الشيخ سعد الدين: وأما قوله: هذه أختي فالغرض منه الأخوة في الدين، تخليصا من يد الظالم. (2)
قال الطيبي: فإن قلت: فإذا شهد له الصادق المصدوق بالبراءة فما باله (3) يشهد على نفسه بها؟
قلت: نحن وإن أخرجناها عن مفهوم الكذبات باعتبار التورية، وسميناها معاريض فلا ننكر أن صورتها صورة التعريج عن المستقيم، فالحبيب قصد إلى براءة ساحة الخليل عما لا يليق بها، فسماها معاريض، حيث قال: ما حل، أي جادل، وهو معنى التعريض؛ لأنه نوع من الكناية، والخليل لمح إلى مرتبة الشفاعة هنالك، وأنها مختصة بالحبيب، فتجوز في الكذبات.
ويمكن أن يقال: إنهم من هول ذلك اليوم، وما بهم من شأن أنفسهم يدفعونهم بذلك.
هكذا ينبغي أن يتصور هذا المقام؛ فإنه من مزال الأقدام، ألا ترى إلى الإمام كيف ذهل عن ذلك، وطعن في الأئمة، وقال في سورة يوسف: الأولى أن لا يقبل مثل هذه الأحاديث؛ لئلا يلزمنا تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا شك أن صونهم عن نسبة الكذب إليهم أولى من صون الرواة. (4) انتهى.
قلت: قد وقع مثل ذلك (5) للإمام في غير ما حديث صحيح أنكره اعتمادا على صعوبة ظاهره، وكذا وقع أيضاً للقاضي أبي بكر الباقلاني، ولإمام الحرمين، ولابن فورك (6)، وللقاضي عياض، وللغزالي، وآخرين أجلاء، أنكروا أحاديث، وهي صحيحة

(1/390)


ثابتة في الصحيحين وغيرهما، قابلة للتأويل، وتعجب منهم أئمة الحديث في ذلك، وأرجو أن أجمعها في جزء، وسيمر بك في هذه الحاشية أشياء منها.
قوله: (عطف على (يكذبون) أو (يقول)
فيه أمور:
الأول: قال أبو حيان: إذا كان عطفا على (يكذبون) كان موضعه نصبا؛ لأنه معطوف على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم.
وإذا كان عطفا على (يقول) فلا محل له من الإعراب؛ لأنه معطوف على صلة (من) والصلة لا محل لها، ولا يكون جزءا من السبب (1).
الثاني: قال في " الكشاف ": " والأول أوجه (2) "
قال صاحب " التقريب ": لأنه أقرب، وليفيد تسببه للعذاب أيضاً (3).
زاد الطيبي: وليؤذن أن صفة الفساق يحترز منها؛ لقبحها، كما يحترز من الكذب (4).
زاد الشيخ أكمل الدين، والشيخ سعد الدين: ولئلا يلزم تخلل البيان، أو الاستئناف فيما بين أجزاء الصلة، أو الصفة (5).
قال القطب، والطيبي، والتفتازاني، والشريف: ويمكن أن يقال: إن الثاني أوجه؛ لأن في العطف على (يقول آمنا) تصييرا للآيات على سننن تعديد قبائحهم، فيفيد صفة أخرى لهم على الاستقلال، ولأن قوله (وإذا قيل لهم) (وإذا لقوا) معطوفان على قوله (وإذا قيل لهم لا تفسدوا) فلو عطف على (يكذبون) كانا أيضا معطوفين عليه، فيدخلان في حيز تسبب العذاب، فتنتفي فائدة اختصاص الكذب بالذكر بالكلية (6).

(1/391)


وعبارة الشيخ سعد الدين: وقد يقال: بل الثاني أوجه؛ لتكون الآيات على سنن تعديد قبائحهم، وتفيد اتصافهم بالأوصاف المذكورة قصدا واستقلالا، وتدل على أن العذاب لاحق بهم من أجل كذبهم الذي هو أدنى حالهم في الكفر والنفاق، فكيف بسائر الأحوال؟
قال: فإن قيل: فالعطف على الاسمية - أعني (من الناس من يقول) - أوفى بتأدية هذه المعاني، فلم لا يعتد به؟
قلنا: لأنه لا يفيد دخول هذه الأحوال في ذكر المنافقين، وبيان قصتهم وحالهم، ولا يحسن عود الضمائر إليهم عند من له معرفة بأساليب الكلام (1).
الثالث: قال أبو حيان: ما أجازه الزمخشري من العطف على (يكذبون) أجازه أيضاً أبو البقاء (2).
وهذا خطأ إن كانت " ما " في قوله (بما كانوا يكذبون) موصولة بمعنى الذي، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر، و (يكذبون) قد حذف منه العائد على (ما)
* * *
وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على (ما) فبطل أن يكون معطوفا عليه؛ إذ يصير التقدير: ولهم عذاب أليم بالذي كانوا (إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) وهذا كلام غير منتظم، لعدم العائد، وإن كانت مصدرية فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضاً خطأ؛ إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه، وأما على مذهب الجهور فهذا الإعراب شائع (3). انتهى.
الرابع: قال أبو حيان: لم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء في إعراب هذا سوى أن يكون معطوفا على (يكذبون) أو (يقول) (4).
وزعما أن الأول أوجه، وقد ذكرنا ما فيه.
والذي نختاره أن يكون من باب عطف الجمل، وأن هذه الجملة مستأنفة، لا موضع لها من الإعراب؛ إذ هذه الجملة، والجملتان بعدها، هي من تفاصيل الكذب، ونتائج التكذيب.

(1/392)


ألا ترى قولهم (إنما نحن مصلحون) وقولهم (أنؤمن كما آمن السفهاء) وقولهم عند لقاء المؤمنين (آمنا) كذب محض، فناسب جعل ذلك جملا مستقلة، ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم، ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم، والرد عليهم.
وهذا أولى من جعلها سيقت " صلة جزء كلام؛ لأنها إذ ذاك لا تكون مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسما، ومتممة لمعناه إن كان حرفا (1).
قوله: (وما روي عن سلمان أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد)
أخرجه ابن جرير من طرق عنه (2).
قوله: (فلعله أراد به أن أهله ليس الذين كانوا فقط، بل وسيكون من بعد من حاله حالهم)
هو جواب ابن جرير، ولفظه: لعله قال ذلك بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهده صلّى الله عليه وسلّم خبرا منه عمن هو جاء منهم بعدهم، ولما يجئ (3).
قوله: (وكان من فسادهم في الأرض)
قال التفتازاني، والشريف: أي من الفساد الناشئ من جهتهم، لا فسادهم في أنفسهم.
والأولى أن يقول: إفسادهم؛ لأن الممالأة ونحوها إفساد، لا فساد (4).
قوله: (هيج الحروب)
يقال: هاج الشيء هيجا وهيجاناً، أي ثار، وهاجه غيره يتعدى، ولا يتعدى.
قال الشيخ سعد الدين والشريف: والأنسب أن يحمل هنا على غير المتعدي؛ لأن المتعدي إفساد، لا فساد (5).
قوله: (وممالأة الكفار)
الراغب: مالأته: عاونته وصرت من ملئه، أي جمعه، كشايعته، أي صرت من

(1/393)


شيعته (1)
قوله: (فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض)
قال التفتازاني، والشريف: توجيه لإطلاق الفساد على هيج الحروب والفتن.
قالا: ولما كان حقيقة الإفساد جعل الشيء فاسدا، ولم يكن صنيعهم كذلك، بل مؤديا إليهم جعل الكلام من قبيل المجاز باعتبار المآل، أي لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد، وليس معنى الإفساد الإتيان بالفساد وفعله ليصح حمل الكلام على الحقيقة (2).
قوله: (الهرج والمرج)
الهرج الفتنة والاختلاط، والمرج كذلك، وهو بفتح الراء، وإنما سكن لأجل الهرج ازدواجا للكلام. قاله الجوهري في الصحاح (3).
قوله: (والقائل هو الله تعالى، أو الرسول، أو بعض المؤمنين)
هو كلام الإمام قال: إن كل ذلك محتمل، وإن الأقرب أن القائل ذلك من شافههم، إما الرسول، أو بعض الصحابة (4).
قلت: والثاني أقربهما.
قوله: (والمعنى أنه لا تصح مخاطبتنا) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه قصر إفراد؛ لأن نهيهم عن الإفساد يشعر بأن فيهم إفسادا، فنفوا ذلك، بادعاء أنهم مقصورون على الإصلاح، من غير شائبة إفساد.
وآثروا (إنما) دلالة على أن ذلك ظاهر بين، لا ينبغي أن يشك فيه، فرد الله عليه ذلك بقوله (ألا إنهم هم المفسدون) قصر قلب، أي هم مقصورون على الإفساد، لا ينتظمون في جملة المصلحين أصلا، مع المبالغة بالاستئناف المقصود به تمكين الحكم في ذهن السامع فضل تمكن؛ لحصوله بعد السؤال والطلب، وبالتأكيد بحرفي التنبيه والتحقيق المقصود بهما تنبيه السامع للحكم، وتقرره عنده بحيث لا مجال فيه للريبة، وبتعريف الخبر المفيد للحصر، وبتوسط ضمير الفصل المؤكد لذلك، وبقوله (ولكن لا يشعرون) الدال على أن كونهم مفسدين مما ظهر ظهور المحسوس، لكن لا إحساس لهم ليدركوه.

(1/394)


بقي هاهنا بحث: وهو أن ضمير الفصل إنما يفيد قصر المسند على المسند إليه، وكذا
تعريف الخبر - على ما ذكره صاحب " المفتاح " (1) وشهد به الاستعمال - مثل (إن الله هو الرزاق) [سورة الذاريات 58] أي لا رازق سواه، فكيف يدل (إنهم هم المفسدون) على أنهم مقصورون على صفة الإفساد، لا يتجاوزونه إلى الإصلاح؟
والجواب: أنه إذا كان في الكلام ما يفيد القصر فضمير الفصل إنما يفيد تأكيده، سواء كان قصر المسند على المسند إليه، أو بالعكس.
وقد ذكر في " الفائق " أن تعريف المسند يفيد قصر المسند إليه على المسند، وأن معنى " إن الله هو الدهر " (2) أنه الجالب للحوادث، لا غَيْرُ الجالِبِ (3) فيكون المعنى هاهنا أنهم المفسدون، لا المصلحون.
فالوجه أن يقال: تعريف الخبر قد يكون لقصر المسند إليه، وقد يكون لقصر المسند بحسب المقام. انتهى (4).
قوله: (وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح)
هو أحد احتمالات الإمام، وهو أوجهها من حيث المعنى وأعمها.
زاد الإمام: وإن فسرنا (لا تفسدوا) بمداراة الكفار كان معنى قولهم (مصلحون) أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار (5).
قلت: وهو الوارد عن ابن عباس، أخرج ابن جرير عنه في قوله (إنما نحن مصلحون) أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب (6).
* * *
قوله: (للإستئناف به)
قال الطيبي: أي ترك العاطف ليفيد ضربا من المبالغة (7).
قوله: (فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا،

(1/395)


ونظيره (أليس ذلك بقادر) [سورة القيامة 40]
عبارة الكشاف " ألا مركبة من همزة الاستفهام، وحوف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقيق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا، كقوله (أليس ذلك بقادر) (1) قال أبو حيان: والذي نختاره أن " ألا " التنبيهية حرف بسيط؛ لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل، ولأن ما زعم من أن همزة الاستفهام دخلت على " لا " النافية دلالة على تحقيق ما بعدها. . . إلى آخره خطأ؛ لأن مواقع " ألا " تدل على أن " لا " ليست للنفي، فيتم ما ادعاه.
ألا ترى أن قولك: ألا إن زيدا منطلق، ليس أصله لا إن زيدا منطلق؛ إذ ليس من تراكيب العرب، بخلاف ما نَظَّرَ به من قوله تعالى (أليس ذلك بقادر) لصحة تركيب " ليس ذلك بقادر " ولوجودها قبل " رب "، وقبل " ليت "، وقبل النداء، وغيرها مما لا يتعقل فيه أن " لا " نافية (2).
وقال الشيخ سعد الدين في عبارة " الكشاف ": يريد أن الهمزة للاستفهام بطريق الإنكار، و " لا " للنفي، وإنكار النفي في قوة تحقيق الإثبات، لكن بعد التركيب صارت كلمة تنبيه، تدخل على ما لا تدخل عليه كلمة " لا " مثل ألا إن زيدا قائم، ولا تقول: لا إن زيدا قائم، وكذا الكلام في " أما ".
والأكثرون على أنهما حرفان موضوعان، لا تركيب فيهما. انتهى (3).
وممن جزم بأنها غير مركبة ابن مالك في " شرح الكافية " فقال: " ألا " المقصود بها العرض، نحو ألا تزورنا، مركبة (4) من " لا " والهمزة.
وأما " ألا " المستفتح بها فغير مركبة.
وذكر مثل ذلك أيضاً صاحب (5) كتاب " رصف المباني في حروف المعاني (6) "

(1/396)


وتابع الزمخشري على أنها مركبة ابن يعيش في " شرح المفصل " (1) وابن القواس (2) في " شرح الكافية " (3).
وقال الشيخ أكمل الدين: مذهب الأكثر أنها مركبة، ومنهم من قال: إنها حرف بسيط مشترك بين التنبيه والاستفتاح (4).
قوله: (ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم)
قال الشيخ سعد الدين: يعني " إنَّ " والنفي، وذلك لمشاركتهما القسم في كونهما للتأكيد (5).
وقال أبو حيان: هذا غير صحيح، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح برب، وبليت، وبفعل الأمر، وبالنداء، وبحبذا في قوله (6):
ألا حَبّذَا هِنْدٌ وأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
ولا يتلقى بشيء من هذا القسم (7).
قلت: قد أشار المصنف إلى هذه الصور النادرة بقوله: (لا تكاد)
قوله: (وأختها " أما " التي هي من طلائع القسم)
قال الطيبي: جمع طليعة، وهي ما يتقدم الجيش، فاستعيرت هنا للمقدمة (8).
قوله: (وما مصدرية - أو كافة مثلها في ربما)
قال أبو حيان: تبعه في ذلك أبو البقاء (9).

(1/397)


وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية؛ لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على " ما " المصدرية، وقد أمكن ذلك في (كما آمن الناس) فلا ينبغي أن تجعل كافة (1).
وذكر مثل ذلك ابن هشام (2)، والحلبي (3)، والسفاقسي (4).
وعبر عن الأخير بقوله: وأيضاً فإن غيرها من حرف الجر إذا دخل على " ما " قدرت معه مصدرية، فكذلك الكاف.
واستحسنه الشيخ بدر الدين ابن الدماميني في " حاشية المغني (5) "
ْوفي الحاشية المشار إليها: الأحسن أن يقال في " ما ": إنها كافة مهيئة؛ لأنها دخلت على ما يجوز أن يعمل بها الجر.
وقال الشيخ أكمل الدين: أعترض على جعلها كافة بأنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأن جعلها مصدرية مبق للكلام على ما عهد لها من العمل (6).
وأجيب بأن الكافة أيضاً معهودة، فجاز الحمل عليها.
وقال الشريف: إن كانت " ما " كافة عن العمل، مصححة لدخولها على الجملة كان التشبيه بين مضموني الجملتين: أي حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم.
وإن كانت مصدرية فالمعنى: آمنوا إيمانا مشابها لإيمانهم (7).
قوله: (واللام في الناس للجنس، والمراد به الكاملون في الإنسانية) إلى آخره مأخوذ هو من كلام الراغب قال: كل اسم نوع فإنه يستعمل على وجهين:
أحدهما: فى دلالة على المسمى، وفصلا بينه وبين غيره.
والثاني: لوجود المعنى المختص به، وذلك هو الذي يمدح به في نحو:

(1/398)


. . . . . . . . . . . . إِذِ النَّاسُ ناسٌ، والزُّمانُ زَمانُ.
وذلك أن كل ما أوجده الله تعالى في هذا العالم جعله صالحا لفعل خاص، ولا يصلح لذلك العمل سواه، فالفرس للعدو الشديد، والبعير لقطع الفلاة البعيدة، وعلى ذلك الجوارح كاليد، والرجل، والعين.
والإنسان أُوجدَ لأن يعلم، ويعمل بحسبه، فكل شيء لم يوجد كاملا لما خلق له لم يستحق اسمهَ مطلقا، بل ينفى عنه، كقولهم: فلان ليس بإنسان، أي لا يوجد فيه المعنى الذي قد خلق لأجله، فقوله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله) هو اسم جنس، لا غير، وقوله (كما آمن الناس) معناه كما يفعل من وجد فيه تمام معنى الإنسانية، الذي يقتضيه العقل والتمييز، وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم (1).
قوله: (. . . . . . . . . . . . . . إِذ الناسُ ناسٌ، والزمانُ زمانُ)
أورده في " الحماسة البصرية " هكذا:
أَلا هَلْ إِلَىْ أجْبَالِ سَلْمَى بِذِي اللِّوَى. . . لِوَىْ الرَّمْلِ مِنْ قَبْلِ المَمَاتِ مَعَادُ
بِلادَ بِهَا كَنَّا وكُنَّا نُحِبُّهَا. . . إِذِ النَّاسُ نَاسٌ والِبلادُ بِلادٌ (2)
ولم يسم قائله.
وقال في " الأغاني ": هو لرجل من عاد، فيما ذكر.
ثم أخرج عن حماد الراوية (2) قال: حدثني ابن أخت لنا من مراد قال: وليت صدقات قوم من العرب، فقال لي رجل منهم: ألا أريك عجبا، فأدخلني في شعب من جبل، فإذا أنا بسهم من سهام عاد، من قنا، قد نشب في ذروة من الجبل، عليه مكتوب:
أَلا هَلْ إِلَى أَبْيَاتِ شَمْخٍ إِلَى اللِّوَى. . . لِوَى الرَّمْلِ يَوْماً لِلْنُّفُوسِ مَعَادُ
بِلادٌ بِهَا كُنَّا وكُنَّا مِنْ أهْلِهَا. . . إِذِ النُّاسُ نَاسٌ والبِلادُ بِلادُ
ثم أخرجني إلى ساحل البحر فإذا أنا بحجر عليه مكتوب: يا ابن آدم، يا عبد

(1/399)


ربه اتق الله، ولا تعجل في أمرك، فإنك لن تسبق رزقك، ولا ترزق ما ليس لك (1).
قوله: (أو للعهد، والمراد به الرسول ومن معه)
قلت: يؤيده ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله " كما آمن الناس " قال: أصحاب محمد (2).
وقال أبو حيان: الأولى حملها على العهد، وأن يراد به ما سبق قبل قول ذلك لهم، فيكون حوالة على ما سبق إيمانه؛ لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان (3).
قوله: (من أهل جلدتهم)
قال الطيبي: أي جملتهم.
الجوهري: أجلادُ الرجل جسمه وبدنه (4). كقولهم: فلان بضعة مني، وفي الحديث " لحمه لحمي ودمه دمي " (5) أي هو مني ومن جملتي (6).
قوله: (وأن الإقرار باللسان إيمان)
هذا ذكره الإمام، وأجاب عنه، فترك المصنف الجواب.
وعبارته: لقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يكن إيمانا لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص، فكان قوله (آمنوا) كافيا في تحصيل المطلوب، وكان ذكر قوله (كما آمن الناس) لغواً
والجواب: أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص، أمَّا في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بالإقرار الظاهر، فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده (كما آمن الناس) (7).
قوله: (الهمزة فيه للإنكار)

(1/400)


قال الشيخ سعد الدين: أي لا يكون ذلك (1).
قوله: (واللام مشار بها إلى الناس)
قال الشريف: أي اللام في السفهاء للعهد، وهو الناس سواء أريد به معهودون، أو الجنس (2).
قال الطيبي: ويتغير معنى السفهاء بتغير إرادة معنى الناس من كونه جنسا، أو عهدا (3).
قوله: (أو الجنس بأسره)
قال الشيخ سعد الدين: أي جنس السفيه على ما يراه بعض الأصوليين من بطلان الجمعية، وتعين الجنسية، أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية (4).
قوله: (وإنما سمهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم) إلى قوله: (أو للتجلد وعدم المبالاة) إلى آخره
ذكر الطيبي: أن الأول مبني على أن اللام في " السفهاء " للجنس، وأن الثاني والثالث على أنها للعهد (5).
وقال التفتازاني، والشريف: الأولان على تقديري العهد والجنس، وأما الثالث فمختص بالعهد.
زاد الشريف: أعني بكون اللام في (السفهاء) مشاراً بها إلى الناس، المراد به هؤلاء فقط، وإنما عطف ب " أو " لأن معنى كلامه أنهم أرادوا بالسفهاء جميع المؤمنين، وسموهم بذلك اعتقادا لأحد الوجهين، أو أرادوا به بعضهم، وسموهم بذلك تجلدا وترقيا مع علمهم بأنهم من السفه بمعزل (6).
قوله: (وسخافة رأي)
هي الرقة، يقال: ثوب سخيف، أي غير صفيق.

(1/401)


قوله: (والحلم) هو الأناة.
قوله: (وإنما فصلت الآية)
قال القطب: بالتخفيف من الفصل، وبالتشديد من التفصيل (1).
وقال الطيبي: التفصيل من الفاصلة، كالتقفية من القافية، وفصلت الآية إذا جعل لها فاصلة (2).
قوله: (لأنه أكثر طباقا، لذكر السفه)
زاد الإمام: وهو جهل، فطباقه العلم (3).
وقال الطيبي: هو من باب المطابقة المعنوية؛ إذ لو كانت لفظية لقيل، لا يرشدون، فإن الرشد مقابل للسفه، أو قيل: ألا إنهم الجهلاء؛ ليقابل (لا يعلمون) (4)
قوله: (ولأن الوقوف على أمر الدين) إلى آخره
قال الطيبي: تلخيص المعنى أن أمر الديانة أمر أخروي يحتاج إلى دقة نظر، فلذلك فصلت الآية التي اشتملت على الإيمان بقوله (لا يعلمون)
وأما أمر البغي والفساد فأمر دنيوي، فهو كالمحسوس المشاهد، لا يحتاج إلى دقة نظر، فلذلك فصلت الآية ب (لا يشعرون) (5)
الراغب: أصل الشعور من الشعر، ومنه الشعار الثوب الذي يلي الجسد، وشعرت كذا يستعمل على وجهين:
تارة يؤخذ من مس الشعر، ويعبر به عن اللمس، وعنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من قولهم: إنه لا يسمع ولا يبصر؛ لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر.
وتارة يقال: شعرت كذا، أي أدركت شيئا، وقالوا: فلان يشق الشعر في كذا إذا دقق النظر فيه، ومنه أخذ الشاعر؛ لإدراكه دقائق المعاني (6).
فظهر أن شعرتُ يستعمل بمعنى أحسست، وبمعنى أدركت، وفطنت.

(1/402)


فقوله (وما يشعرون) في الآية الأولى نفي الإحساس عنهم، وفي هذه الآية نفي الفطنة؛ لأن معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة.
وفي الآية التي بعدهما نفي العلم، وفي نفيهما على هذه الوجوه تنبيه لطيف، ومعنى دقيق، وذلك أنه بين في الأول أن في استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحس، وفي الثاني أنهم لا يفطنون تنبيها على أن ذلك أيضا لازم لهم؛ لأن من لا حس له لا فطنة له، وفي الثالث أنهم لا يعلمون تنبيها على أن ذلك أيضاً لازم لهم؛ لأن من لا فطنة له لا علم له (1).
* * *
قوله: (فليس بتكرير)
قال الشريف: يريد أنه إذا نظر إلى جزاء الشرطية الأولى - أعني (قالوا آمنا) - توهم أن هناك تكرارا، مع قوله أول قصة المنافقين (ومن الناس من يقول آمنا)
وإذا لوحظ أنه مقيد بلقائهم المؤمنين، وأن الشرطية الثانية معطوفة على الأولى، لا على أن كلا منهما شرطية مستقلة كالشرطيتين السابقتين، بل على أنهما بمنزلة كلام واحد، ظهر أن هذه الآية سيقت لبيان معاملتهم مع المؤمنين وأهل دينهم، كما أن صدر القصة مسوق لبيان نفاقهم، فاضمحلَّ ذلك التوهم (2).
قوله: (روي أن ابن أُبَيِّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة) الحديث
أخرجه الثعلبي، والواحدي من طريق السدي الصغير (3)، عن الكلبي، عن أبي صالح (4)، عن ابن عباس (5).
قال الحافظ ابن حجر في كتابه " أسباب النزول ": أبو صالح ضعيف، والكلبي متهم بالكذب، والسدي الصغير كذاب.

(1/403)


قال: وهذا الإسناد سلسلة الكذب، لا سلسلة الذهب.
قال: وآثار الوضع لائحة على هذا الكلام، وسورة البقرة أنزلت في أوائل ما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، كما ذكره ابن إسحاق وغيره.
وعليٌّ إنما تزوج فاطمة رضي الله تعالى عنها في السنة الثانية من الهجرة. انتهى.
قوله: (واللقاء المصادفة) إلى آخره.
الراغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته معا، وقد يعبر به عن كل واحد منهما (2).
الإمام: اللقاء أن تستقبل الشيء قريبا منه (3).
قوله: (من خلوت بفلان، وإليه، إذا انفردت معه)
الراغب: خلا فلان بفلان صار معه في خلاء، وخلا إليه، انتهى إليه في خلوته (4).
قوله: (أو من خلوت به إذا سخرت منه، وعدي ب " إلى " لتضمنه (5) معنى الإنهاء)
أي على هذا الوجه.
قال في " الكشاف ": " ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم، وحدثوهمْ بها، كما تقول: أحمد إليك فلانا، وأذمه إليك (6) "
قال الشيخ سعد الدين، والشريف: أي أنهي حمده وذمه إليك.
قالا: وهذا بيان لحاصل المعنى.
وأما تقدير الكلام: فهو هكذا: (واذا خلوا) أي سخروا منهين إليهم (7).
قال أبو حيان: يتعدى خلا بالباء، وبـ " إلى " والباء أكثر استعمالا، وعدل إلى

(1/404)


" إلى " لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين:
أحدهما: الانفراد.
والثاني: السخرية؛ إذ يقال في اللغة: خلوت به، أي سخرت منه، و " إلى " لا يحتمل إلا معنى واحدا.
و " إلى " هنا معناها انتهاء الغاية، على معنى تضمين الفعل، أي صرفوا خلاهم إلى شياظينهم، وقيل: يقال: خلوت إليه إذا جعلته غاية حاجته (1).
قوله: (والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين) إلى آخره
قال القطب: فهو استعارة، وإضافة الشياطين إليهم قرينة الاستعارة (2).
قوله: (ومن أسمائه الباطل)
قال الشريف: نوع تقوية للاشتقاق (3)
قوله: (خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية) إلى آخره
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن قولهم للمؤمنين (آمنا) كلام مع المنكر، وقد ترك التأكيد، وقولهم لشياطينهم (إنا معكم) كلام مع غير المنكر، وقد أكد بـ " إنّ " واسمية الجملة، مع أن مقتضى البلاغة عكس ذلك.
والجواب: أن ترك التأكيد كما يكون لعدم الإنكار فقد يكون لعدم الباعث والمحرك من جهة المتكلم، ولعدم الرواج والقبول من جهة السامع، وكذلك التأكيد كما يكون لإزالة الشك، ونفي الإنكار من السامع، فقد يكون لصدق الرغبة، ووفور النشاط من المتكلم، ونيل الرواج والقبول من السامع، فلذا جاء (آمنا) بالجملة الفعلية من غير تأكيد، و (إنا معكم) بالجملة الاسمية مؤكدة ب " إنّ " (4).
قوله: (تأكيد لما قبله) إلى آخره.
قال الشريف: لا شبهة في أن معنى قولهم (إنا معكم) هو الثباب على اليهودية، وليس (إنما نحن مستهزؤون) بظاهره تقريرا وتأكيدا لهذا المعنى، فاعتبر منه لازما يؤكده، وهو أنه رَد ونَفيٌ للإسلام، فيكون مقررا للثبات عليها؛ لأن رفع نقيض الشيء

(1/405)


تأكيد لثباته (1).
قوله: (أو بدل منه) إلى آخره
قال الشريف: بيانه أنهم قصدوا تصلبهم في دينهم، وكان في الكلام الأول نوع قصور عن إفادته؛ إذ كانوا في الظاهر يوافقون المؤمنين في بعض الأمور، فاستأنفوا القصد إلى ذلك بأنهم يعظمون كفرهم بتحقير الإسلام وأهله، فهم أرسخ قدما فيه من شياطينهم.
قال: والحمل على الاستئناف أوجه، لكثرة الفائدة، وقوة المحرك للسؤال.
قال: وهذه الوجوه الثلاثة بيان لترك العاطف بين الجملتين في كلامهم (2).
قال الطيبي: الفرق بين هذا الوجه - وهو البدل - وبين الأول - وهو كونه تأكيدا - أنه اعتبر في الأول مفهوم الثاني، لتقرير المعنى الأول، واعتبر في هذه العبارةُ والمفهومُ معا، ولا بعد فيه؛ لأن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة (3).
وقال الشيخ سعد الدين: لما لم يكن ظاهر كونهم مستهزئين تكريرا وتقريرا لموافقتهم الشياطين في الثبات على اليهودية أخذ منه لازما جعله باعتباره تقريرا وتأكيدا، وهو أنه نفي ورد للإسلام، فيكون إثباتا وقبولا للكفر، فيكون تأكيدا.
وأما البدل فلا يحتاج إلى اعتبار أخذ اللازم في أحد الجانبين، ويكفي تصادق الثابت على الباطل، والمستهزئين بالحق مع كون الثاني أوفى بالمقصود؛ لما في الأول من بعض القصور، حيث يوافقون المسلمين في بعض الأمور.
ثم الظاهر أنه بمنزلة بدل الكل.
وأرباب البيان لا يقولون بذلك في الجملة التي لا محل لها، ويعنون بما لا محل له ما لا يكون خبرا، أو صفة، أو حالا، وإن كان في موقع المفعول المقول، فلذا كان الأوجه الاستئناف، لظهور مظنة السؤال (4). انتهى.
وفي الحاشية المشار إليها: لا يريد البدل الذي هو أحد التوابع الخمسة، فإن ذلك لا يكون في الجمل الاسمية، وقد جاء في الجمل الفعلية، في قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) [سورة الفرقان 68] قوله:

(1/406)


(يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) بدل من قوله (أَثَامًا)
ومراده بالبدل هنا أن الجملة الثانية - وهي قوله (إنما نحن مستهزؤون) - تحل محل قوله (إنا معكم) وتسد مسدها، وتغني عنها غناء البدل عن المبدل منه.
* * *
قوله: (والاستهزاء السخرية)
قال الإمام: حده أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء، على طريق السخرية (1).
الراغب: الاستهزاء طلب الهزء، والهزء مزح في خفية (2).
قوله: (سمي جزاء الاستهزاء باسمه، كما سمي جزاء السيئة سيئة)
قال الشيخ سعد الدين: تسمية جزاء الشيء باسمه كثير في الكلام، إلا أنه مشكل من جهة المعنى.
وهو استعارة حيث أطلق الاستهزاء على ما يشبه صورته صورته، وهو مشاكلة (3).
وقال الشريف: وجهه ما بين الفعل وجزائه من ملابسة قوية، ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا (4).
قوله: (أو ينزل بهم الحقارة والهوان)
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه مجاز عما هو بمنزلة الغاية للاستهزاء، فيكون من إطلاق السبب على المسبب نظرا إلى التصور، وبالعكس نظرا إلى الوجود (5).
قال الشريف: فيكون من قبيل المجاز المرسل، لعلاقة السببية في التصور، والمسببية في الوجود.
والفائدة المخصوصة بهذا المجاز التنبيه على أن مذهبهم حقيق بأن يسخر منه، ويسخر بهم لأجله (6).
قوله: (أو يعاملهم معاملة المستهزئ) إلى آخره

(1/407)


قال الطيبي: شبه صورة صنع الله من إجراء أحكام المسلمين عليهم في الظاهر - وهو مبطن بادخار العذاب - بصورة صنع الهازئ مع المهزوء به، وهو من الاستعارة التبعية (1)
قوله: (وأما في الآخرة فبأن يفتح لهم - وهم في النار - باباً إلى الجنة) إلى آخره
قلت: هذا مأخوذ من حديث أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب الصمت " عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن المستهزئين يفتح لأحدهم باب من الجنة، فيقال: هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح لهم باب آخر، فيقال له: هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب، فيقال: هلم لهم، فما يأتيه "
مرسل جيد الإسناد (2).
قوله: (وإنما استؤنف به، ولم يعطف) إلى آخره
قال الشريف: أي ليس ترك العطف فيه لرفع توهم كونه معطوفا على (إنا معكم)
فيندرج حينئذ في مقول المنافقين، أو على (قالوا) فيتقيد بالظرف، أعني (إذا

(1/408)


خلوا) بل هو لكونه استئنافا (1).
قوله (لا يؤبه به)
في " الصحاح ": لا يبالى به (2). وفي " النهاية ": أي لا يحفل به؛ لحقارته (3).
قوله: (إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا)
قال الطيبي: أي على الاستمرار.
قال: وإفادة الفعل المضارع ذلك من اقتضاء المقام، فإنك إذا قلت في مقام المدح: فلان يقري الضيف، ويحمي الحريم، عنيت أنه اعتاده واستمر عليه، لا أنك تخبر عنه بأنه سيفعله، فكذا أنه تعالى يخبر أن معاملة هؤلاء القوم إنما تقع على هذه الحالة، وإليه الإشارة بقوله: " وهكذا كانت نكايات الله فيهم " (4).
قال: ويمكن أن يقال: إن هذا الاستمرار أبلغ من الدوام الذي يعطيه معنى الجملة الاسمية؛ لأن النفس إذا اعتادت الشيء ألفته، ولا تحب مفارقته.
قال:
أَلِفْتُ الضَّنَا مِمَّا تَطَاوَلَ مُكثُهُ. . . فَلَوْ زَاْلَ عَنْ جِسْمِيْ بَكَتْهُ الجَوَارِحُ (5)
قوله: (نكايات الله)
في " النهاية ": نكيت في العدو أنكي نكاية: إذا أكثرت فيه الجراح والقتل، فوهنوا لذلك (6).
قوله: (من مد الجيش، وأمده)
ظاهره أن مدَّ، وأمدَّ واحد، وهو أحد المذاهب في المسألة، واختيار الزمخشري (7).
والثاني: أن مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير، نحو (ونمد له من العذاب مدا) [سورة مريم 81] (وأمددناهم بفاكهة) [سورة الطور 23]

(1/409)


والثالث: أن مدّ لما كان من نفسه، وأمد لما كان من غيره، وهو اختيار ثعلب (1).
قوله: (والسماد) هو سرجين ورماد. قاله في " الصحاح " (2).
قوله: (ويدل عليه قراءة ابن كثير (ويمدهم) ليست هذه القراءة في السبعة.
قوله: (ألطافه) جمع لطف
قال الطيبي: قال نجم الدين الزاهدي الخوارزمي (3) في " كتاب الصفوة ": اللطف في عرف المتكلمين: هو ما يختار عنده المكلف الطاعة تركا وإتيانا، ثم إن اللطف إذا كان محصلا للواجب يسمى توفيقا، وإذا كان محصلا لترك القبيح يسمى عصمة، وإذا كان مقربا من الواجب، أو ترك القبيح يسمى لطفا مقربا.
قال: وفي " شرح مقامات المصنف ": الألطاف عند المتكلمين هي المصالح، وهي الأفعال التي عندها يطيع المكلف، أو يكون أقرب من الطاعة على سبيل الاختيار، ولولاها لم يطع، أو لم يكن أقرب، مع تمكنه في الحالين، والواحد لطف بضم اللام وسكون الطاء (4).
وقال أهل السنة والجماعة في " مسألة خلق الأفعال ": إن لله تعالى لطفاً لو فعله بالكفار لآمنوا اختيارا، غير أنه لم يفعل، وهو في فعله متفضل، وفي تركه عادل.
وقال أبو القاسم القشيري (5) في " كتاب مفاتيح الحجج ومصابيح النهج ": اللطف قدرة الطاعة على الصحيح، ويسمى ما يقرب العبد إلى الطاعة، ويوصل إلى الخير أيضاً لطفا.
قوله: (والطغيان) إلى قوله: (وأصله تجاوز الشيء عن مكانه)

(1/410)


قال الراغب: الفرق بين عدا، وطغى، وبغى أن العدوان تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه والوقوف عنده، وعلى ذلك قال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) [سورة البقرة 194] أي من تجاوز معكم المقدار المأمور بالانتهاء إليه فتجاوزوا معه قدره، لتكون العدالة محفوظة في المجازاة.
وأما الطغيان فتجاوز المكان الذي وقفت فيه، ومن أخَلَّ بمَا عيِّنَ له من المواقف الشرعية، والمعارف العقلية، فلم يرعها فيما يتحرَاه ويتعاطاه فقد طغى، وعلى ذلك (لما طغى الماء) [سورة الحاقة 11] أي تجاوز الحد الذي كان عليه من قبل.
والبغي طلب تجاوز قدر الاستحقاق، تجاوزه أم لم يتجاوزه، وأصله الطلب، ويستعمل في التكبر؛ لأن المتكبر طالب منزلة ليس لها بأهل (1).
قوله: (والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر)
ظاهره اختصاص كل بما ذكر، وهو الذي ذكره ابن عطية (2)، وكلام الإمام بخلافه، حيث قال: العمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة، وكذا في " المفردات " للراغب (3).
قوله: (قال:. . . . أَعْمَى الهُدَى بِالجَاهِلِيْنَ العُمَّهِ (4))
هو لرؤبة يصف مضلة، وقبله:
ومَخْفِقٍ مِنْ لُهْلُهٍ ولُهْلُهِ (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
ومَهْمَهٍ أطْرَافُهُ فِيْ مَهْمَهٍ (6). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
المهمه المفازة، أراد أنها لا تنتهي سعة، بل أطرافها من جوانبها في مفازة أخرى.

(1/411)


وأعمى قيل: فعل ماض، أي أخفى طرق الهداية، وقيل: صفة من عَمِىَ الأَمْرُ: التبس، أي ملتبس الهداية، أي طرقها على من يجهل ويتحير فيها.
وقال الشريف: أي خَفِيُّ المنار بالقياس إلى من لا دراية له بالمسالك، جعل خفاء العلم عمى بها بطريق الاستعارة (1).
وقال الطيبي العُمَّهُ جمع عَمِهٍ، وعَامِهِ، أي المهمه طريقة مشتبهة على الغبي، إذ ليس فيه جادة، أو منار يهتدى به (2).
قوله: (ومنه:
أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأساً أَزْعَرَا. . . وبِالثَّنَايَا الوَاضِحَاتِ الدُرْدُرَا
وبِالطَّوِيْلِ العُمرِ عُمْراً جَبْذَرَا. . . كَمَا اشتَرَى المُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا) (3)
هو لأبي النجم (4) الباء للبدل. والجمة بالضم مجتمع شعر الرأس. والأزعر الأصلع الذي قلّ شعره. والدردر بضم الدالين المهملتين مغرز الأسنان الساقطة الباقية الأصول. والعمر عطف بيان للطويل. والجبذر بالجيم، والموحدة، والذال المعجمة القصير. والمسلم الذي اشترى النصرانية بالإسلام جبلة بن الأيهم (5).
وفي الحاشية المشار إليها: معنى البيتين أنه استبدل بالشعر الطويل شعرا قصيرا، وبالثنايا البيض الصحيحة أسنانا مهتمة مكسرة الأطراف، وبالشابة التي يرجى لها طول العمر كبيرة على فم حفرتها.
وموضع الاستشهاد منه قوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما اشترى المسلم. . . . . .

(1/412)


أي اشترى النصرانية بالإسلام حين تنصر.
قال أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " الأضداد ": قال بعض أهل اللغة: كل من آثر شيئا على شيء فالعرب تجعل الإيثار له بمنزلة شرائه، واحتجوا بقول الشاعر. وذكر هذين البيتين (1).
* * *
قوله: (ترشيح للمجاز)
قال الشيخ سعد الدين: هو من رشح الأم ولدها باللبن القليل، تجعله في فيه شيئا بعد شيء إلى أن يقوى على المص، وفلان يرشح للوزارة: أي يربى، ويؤهل لها (2). كذا في " الصحاح ".
وفي " الأساس ": فلان يرشح للخلافة. وأصله ترشيح الظبية ولدها، تعوده بالمشي، فيرشح، وغزال راشح، ورشح إذا مشى ونزا (3).
ومعناه عندهم أن يقرن بالمجاز صفة، أو تفريع كلام يلائم المعنى الحقيقي، وأكثر ما يكون في الاستعارة، كقولك: جاوزت بحرا يتلاطم أملاجه، وقد يكون في المجاز المرسل، كقولهم: له اليد الطولى، أي القدرة الكاملة.
قال: وقد ذكرنا في " شرح التلخيص " نبذا من الكلام في أن اللفظ الدال على الترشيح حقيقة، أو مجاز، وفي الفرق بينه وبين الاستعارة التخييلية؛ إذ في كل منهما إثبات لوازم المستعار منه وملائماته.
وأما اشتبهاهه بالاستعارة بالكناية فلا يخطر ببال من له مسكة في علم البيان، لكن ينبغي أن يكون متحققا عندك أن الترشيح إنما يكون بعد تمام الاستعارة بالقرينة في التصريحية، وبالتخييل في المكنية، وأنه قد يكون مجازا عن الشيء، وقل لا يكون (4).
قوله: (وَلما رَأَيْتَ النَّسْرَ عَزَّ ابنَ دَاْيَةَ. . . وَعَشْعَشَ فِيْ وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِيْ (5))
قال الطيبي: النسر طائر، وابن داية الغراب.

(1/413)


استعار للشيب النسر، وللشباب الغراب، ثم رشحهما بالوكرين، وهما الرأس واللحية (1).
وقال الشيخ سعد الدين: معنى عَزَّ غلب. وجاش اضطرب. والوكران استعارة للرأس واللحية، أو للفودين أعني جانبي الرأس. والتعشيش للحلول والنزول، وهو ترشيح، والتعشيش أخذ العش، وعش الطير موضعه الذي يأخذه من دقاق العيدان وغيرها للتفريخ، وهو في أفنان الشجر، فإذا كان في جدار، أو جبل، أو نحوهما فهو وكر (2).
وقال الشريف: استعار لفظ " النسر " للشيب، ولفظ " ابن داية " - وهو الغراب - للشعر الأسود، ورشح الاستعارتين بذكر التعشيش، وذكر الوكر.
واستعير لفظ الوكرين من معناه الحقيقي للرأس واللحية، أو للفودين، ولفظ التعشيش للحلول والنزول فيهما مع كونهما مستعارين، ترشيحا لتينك الاستعارتين، لا باعتبار المعنى المقصود بهما، بل باعتبار لفظهما، ومعناهما الأصلي (3).
قوله: (يسمى شفا) بكسر المعجمة وتشديد الفاء.
في " الصحاح ": الشف بالكسر الفضل والربح، الشف أيضاً النقصان، وهو من الأضداد (4).
قوله: (لما جاء بحقيقة حالهم عقبه) إلى آخره
قال الطيبي: يعني أن قوله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) إلى هنا جار مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين، فلما فرغ منها عقبها ببيان تصوير تلك الحقيقة، وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس تتميما للبيان (5).
قوله: (لأنه يريك المتخيل متحققا، والمعقول محسوسا)
قال القطب: وهاهنا دقيقة أخرى أنيقة، وهي أن المعاني التي يراد تفهمها ربما

(1/414)


تكون معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها، حتى يحجبها عن العقل، فيضرب لها الأمثال، فيبرزها في معرض المحسوسات؛ ليساعد الوهم العقل في إدراكها؛ لأن شأن الوهم إدراك المحسوس والمحاكاة، ولهذا يبكت الخصم الألد بضرب المثل؛ لأن خصومته بسبب انقياده للوهم، ونُبُوُّ الوهم عن طاعة العقل، فإذا توافقا زالت الخصومة، لا محالة (1).
قوله: (ثم قيل للقول السائر)
قال الطيبي: ثم نقل هذا المعنى إلى القول السائر، أي المشهور الدائر بين الناس، الذي هو كالعلم للتشبيه، ولأجل كونه علما للتشبيه حوفظ عليه، وحمي عن التغيير.
قال الميداني: حقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بالحال الأولى، قال كعب (2):
كَانَتْ مَوَاعِيْدُ عُرْقُوْبٍ لَهَا مَثَلاً. . . وَمَا مَوَاعِيْدُها إَلاّ الأَبَاطِيْلُ (3)
قوله: مواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد (4)، والأعلام لا تغير (5).
وقال الشيخ سعد الدين: السائر أي الفاشي الممثل موضع ضربه بموضع وروده.
قال: وهذا معنى قولهم: الاستعارة التمثيلية متى فشا استعمالها سميت مثلا (6).
وقال الشريف: أي نقل من معناه اللغوي، إلى معنى آخر عرفي، يتفرع عليه معنى ثالث مجازي.

(1/415)


قال: والسائر هو الفاشي، ويعتبر فيه مع الفشو أن يكون تشبيها تمثيليا، على سبيل الاستعارة.
وإنما سمي مثلا لأنه جعل مضربه - وهو ما يضرب فيه ثَانِياً - مثلا لمورده - وهو ما ورد فيه أولاً (1) -.
وقال القطب: الفرق بين المثل والاستعارة التمثيلية أن في المثل شهرة بحيث يصير علما للحال الأولى التي هي المورد، بخلاف الاستعارة التمثيلية، فكل مثل استعارة تمثيلية، وليست كل استعارة تمثيلية مثلا (2).
* * *
قوله: (المثل مضربه بمورده)
قال الطيبي: مورد المثل هو الحال التي صدر فيها المثل عن مرسله ما ومضربه الحال التي شبهت بها، أي شبه حالة مضربه بحالة مورده.
مثاله: قولهم: " في الصيف ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ " مورد المثل هو أن دختنوس بنت لقيط بن زرارة كانت تحت عمرو بن عمرو، وكان شيخا كبيرا فكرهته (3) فطلقها، ثم تزوجها فتى، وأجدبت، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة، فقال عمرو: " في الصيف ضيعت اللبن " فذهبت مثلا (4).
ومضرب المثل حصول حالة من يطلب شيئا قد فوته على نفسه في أوانه؛ لأن فحواه مشابه لذلك، فيستعار المثل بعينه من غير تغيير، وهو تذكير صيغة " ضيعت " لاستعماله في المذكر، بل يورد هكذا على صيغة المؤنث، وإلا لم يكن عارية لذلك (5).
قوله: (ولا يضرب إلا لما فيه غرابة)
في " الغريب المصنف ": كلام نادر غريب خارج عن المعتاد.
وقال الطيبي: اعلم أن غموضة الكلام وكونه نادرا إما أن يكون بحسب المعنى، أو اللفظ.
أما الأول: فأن يرى فيه أثر التناقض، أو التنافي ظاهرا.

(1/416)


مثال الأول - في غير المثل - قوله تعالى (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [سورة الأنفال 18] فأثبت الرمية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه؛ لأن أثرها فعل الله عز وجل، وكأنَّ الله هو فاعل الرمية على الحقيقة.
وقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) [سورة البقرة 180] للحياة قال الزمخشري: كلام فصيح؛ لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل ظرفا ومكانا للحياة (1).
وفي المثل قول الحكم بن عبد يغوث: " رُبَّ رَمْيَةٍ مِنْ غَيْرِ رَام (2) " أثبت الرمية، ونفى الرامي.
ومثال الثاني: ما في الحديث: " إن من البيان لسحرا (3) " حكم بأن بعض البيان سحر، والمشبه مباح مندوب، والمشبه به حرام محظور.
وأما الثاني فإما أن يحصل فيه ألفاظ نادرة لا تستعملها العامة، نحو قول حباب بن المنذر (4): " أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب (5) " يضرب في المجرب الذي يستشفى برأيه وعقله، أو أن يكون فيه حذف، أو إضمار، كما في قوله: " رب رمية من غير رام " أي رب رمية مصيبة من رام مخطئ، أو مراعاة للمشاكلة، نحو: " كما تدين تدان " أي كما تجازي تجازى، أي كما تعمل تجازى، فسمى الابتداء جزاء، إلى غير ذلك.
وروى الميداني عن إبراهيم النظام (6) قال: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع

(1/417)


في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية.
وزاد ابن المقفع (1): والوسعة في شعوب الحديث (2).
قوله: (ولذلك حوفظ عليه من التغيير)
قال الشيخ سعد الدين: ظاهره أن المحافظة على الأمثال وعدم تغييرها من جهة اشتمالها على غرابة.
والأظهر أن ذلك من جهة أن المثل استعارة، فيجب أن يكون هو اللفظ الدال على المشبه به (3).
وقال الشريف: الأظهر - كما في " المفتاح " - أن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة، فيجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به، فإن وقع تغيير لم يكن مثلا، بل مأخوذا منه، وإشارة إليه، كما في قوله: " الصيف ضيعتَ اللبن " على صيغة التذكير (4).
قوله: (ثم استعير لكل حال، أو قصة، أو صفة لها شأن وغرابة)
حاصله أن للمثل مفهوما لغويا، وهو النظير، وعرفيا، وهو القول السائر، ثم معنى مجازيا، وهو الحال الغريبة، استعير المثل لها لعلاقة الغرابة، فإن القول لا يكون سائرا إلا إذا كان فيه غرابة.
قوله: (والذي بمعنى الذين) إلى آخره
جواب سؤال مقدر تقديره: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟
وحاصل ما أجاب به أوجه: استعمال الذي في موضع الذين على طريقة الحذف والتخفيف، أو إرادة الجنس، فلا يختص بالواحد؛ ليلزم المحذور، أو جعل موصوفه لفظا مفردا دالا على معنى الجماعة، كالفوج.
وبقي رابع ذكره الإمام، وقال: إنه أقوى الأجوبة، وهو أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد، وإنما شبهت قصتهم

(1/418)


بقصة المستوقد.
ومثله (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار) [سورة الجمعة 6] (ينظرون إليك نظر المغشي عليه (1)) [سورة محمد 21]
وهذا مذكور في " الكشاف (2) " في ذيل الكلام.
وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أنه لا يتوجه هذا السؤال بعد ما ذكر أن المثل مستعار للحال العجيبة الشأن، وأن المعنى أن حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا، ولهذا قال (3) آخراً " على أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد، حتى يلزم تشبيه الجماعة بالواحد ".
وقال أبو حيان: من زعم " أن الذي " هنا هو " الذين " وحذفت النون لطول الصلة فهو خطأ؛ لإفراد الضمير في الصلة، ولا يجوز الإفراد للضمير؛ لأن المحذوف كالملفوظ، ألا ترى جمعه في قوله تعالى (وخضتم كالذي خاضوا) [سورة التوبة 70]
قال: والذي نختاره أنه أفرد لفظا وإن كان في المعنى نعتا لما تحته أفراد، فيكون التقدير: كمثل الجمع الذي استوقد نارا (4).
قوله: (كما في قوله (وخضتم كالذي خاضوا)
فرق ابن عطية بين الآيتين بأن (الذي استوقد) وصف للذات، و (كالذي خاضوا) وصف لمصدر محذوف، تقديره كالخوض الذي خاضوا، فهو على بابه في الإفراد (5)، ونحا إليه القطب (6).
قوله: (وإنما جاز ذلك، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين)
قال القطب: التخفيف في باب الذي مطلوب، بخلاف باب القائم

(1/419)


والقائمين؛ لأمور: كونه وضع وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، فهو ليس مطلوبا بالذات، بل آلة للوصف بالمعارف، والآلة كلما كانت أخف كانت أحسن.
وأن باب الذي كثير الوقوع في كلام العرب، وما كان أكثر وقوعا فهو جدير بالخفة.
وأنه مستطال بصلته، والاستطالة مؤدية إلى الملالة، فالاختصار مطلوب، وأنه نهك بالحذف للياء، ثم الكسرة، ثم الذال واللام (1).
قوله: (وليس الذين جمعه المصحح، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى)
قال السفاقسي: تعقب ذلك بأنه إنما هو صحيح من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فهو كالجمع بالواو والنون من حيث إنه لا يكون واقعا إلا على ما اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون، فلا فرق بين الذين يفعلون وبين الفاعلين، لكن لما كان مبنيا التزم فيه طريقة واحدة إلا عند هذيل، فإنها أتت بها على صيغة الجمع بالواو والنون رفعا، والياء والنون نصبا وجرا، وكلهم التزم الجمع في الضمير العائد عليه من صلته، كالجمع (2). انتهى.
والمتعقب هو أبو حيان (3).
قوله: (ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه (4)، ثم كسرته، ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين)
قال الحلبي: اعتقد (5) كون " أل " الموصولة بقية " الذي " وليس كذلك، بل هي موصول مستقل، على أن الراجح من جهة الدليل أنها موصول حرفي.
قال: وليس لمرجح أن يرجح قوله بأنهم قالوا: إن الميم في قولهم: " مُ اللهِ " بقية " أَيْمُنٌ " فإذا انتهكوا " أيمن " بالحذف حتى صار على حرف واحد فأولى أن يقال ذلك فيما بقي على حرفين؛ لأن " أل " زائدة على ماهية " الذي " فيكونون قد حذفوا جميع الاسم، وتركوا ذلك الزائد عليه، بخلاف ميم " أيمن ".
وأيضاً فإن القول بأن الميم بقية " أيمن " قول ضعيف مردود، يأباه قول

(1/420)


الجمهور (1).
وقال السفاقسي: قوله: " إنهم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين " سبقه إليه غيره.
ورُدَّ بأن اللام لو كانت بقية " الذي " في اسم الفاعل والمفعول لكان لها موضع من الإعراب، ولما تخطّاها العامل إلى الصلة، ولجاز وصلها بالجملة، ك " الذي "
قال السفاقسي: ويمكن أن يجاب بأنها أشبهت لام التعريف، فلهذا لم يكن لها موضع من الإعراب، وتخطاها العامل، ولم تدخل على الجمل، كلام التعريف (2).
قوله: (أو قصد به جنس المستوقدين)
في بعض الحواشي: يريد به أن اسم الجنس وإن كان مفردا في اللفظ فقد يعامل معاملة الجمع، فيوصف بالجمع، كقوله (عاليهم ثياب سندس خضرٍ) [سورة الدهر 22] بكسر الراء.
فشبه هنا جماعة المستوقدين بجنس المستوقد؛ لأنه وإن كان مفردا فالمراد به الكثرة.
قوله، (أو (3) الفوج الذي استوقد)
أي يقدر موصوفه لفظا مفردا معناه الجماعة، كلفظ الجمع والفوج ونحوهما.
قوله: (والاستيقاد طلب الوقود)
الأكثر على أن استوقد هنا بمعنى أو قد، لا على الطلب.
قوله: (وهو سطوع النار)
هو حدة الوقود. ذكره الإمام أخذا من الراغب (4).
وفي " الصحاح ": سطع يسطع سطوعا: ارتفع (5).
قوله: (واشتقاق النار من نار ينور)
زاد في " الكشاف ": " والنار جوهر لطيف مضيء، حار، محرق "
الراغب: النار يقال للهب الذي يبدو للحاسة، وللحرارة المجردة (6).

(1/421)


قوله: (إن جعلتها متعدية)
قال أبو حيان: الأولى في الآية أن تكون (أضاءت) متعدية (1).
قوله: (أو إلى ضمير النار، وما موصولة في معنى الأمكنة نصب على الظرف)
قال الطيبي: أي أضاءت النار في الأمكنة التي حول المستوقد (2).
قو له: (وتأليف الحول للدوران)
في بعض الحواشي: أن تركيب هذه الحروف كيف كانت تدل على هذا المعنى، كما قالوا: إن الميم والكاف واللام تدل على القوة، فمنه كمل، وكلم، وملك، ومكل، ولكم.
قال الشيخ سعد الدين: يقال: حال الشيء، واستحال، أي تغير، وحال عن العهد انقلب، وحال وتحول إلى مكان آخر، تحرك، وحال الإنسان عوارضه التي تتغير عليه، والحوالة الاسم، من أحال عليه بدينه، والحويل الاسم من حاولت الشيء أردته، والمحالة بالفتح الحيلة، والاستحالة الخروج عن الاستقامة (3).
قوله: (ذهب الله بنورهم) جواب (لمّا)
هذا هو الذي اختاره أبو حيان، والأكثرون (4).
وقال الشريف: إنه الظاهر إلا أن فيه مانعا لفظيا، وهو توحيد الضمير في (استوقد) و (حوله) وجمعه في (بنورهم) ومعنويا، وهو أن المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب النور، بخلاف المنافق، فجعله جوابا يجتاج إلى تأويل.
وقد نبه على إزالة المانع اللفظي بقوله: " وجمعه للحمل على المعنى "
والمعنوي بقوله: " وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى " إلى آخره (5).
قوله: (أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان)
قال الطيبي: أي يكون تفسيرا لمجموع قوله (كمثل الذي استوقد نارا فلما
أضاءت ما حوله) خمدت، فبقوا متحيرين متحسرين؛ لأن حاصله وتلخيصه: ذهب الله بنور المنافقين، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، والبدل - كما قد علم - كالبيان

(1/422)


والتفسير للمبدل منه (1).
وقال أبو حيان: جملة التمثيل - وهي (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) اسمية، و (ذهب) فعلية، ولا تبدل جملة فعلية من اسمية اتفاقا، وإنما تبدل من فعلية.
وأيضاً فالبدل على نية تكرار العامل، والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب؛ لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا تكون الثانية بدلا منها (2).
وأجاب السفاقسي: بأنه لم يرد البدل الصناعي، وإنما أراد أن جملة (ذهب) مبينة لجملة المثل، وأطلق عليها اسم البدل لما كانت مبينة للأولى، كما أن البدل مبين للمبدل منه (3).
قال: ثم له أن يمنع أن البدل على نية تكرار العامل، بل العامل في البدل هو العامل في المبدل منه، وهو ظاهر كلام سيبويه، ولو سلم فإنما ذلك حيث يكون المبدل منه عاملا، كما في المفردات، أو ما جرى مجراها، وإلا لامتنع عطف جملة على جملة لا موضع لها؛ لأن العطف أيضاً قد قيل: إنه على نية تكرار العامل، ولو لم يكن على نية تكرار العامل فهم يقولون: إن حروف العطف للتشريك في الإعراب، مع تسويغهم عطف جملة على جملة لا محل لها من الإعراب، فدل على أن ذلك حيث يكون للأول عامل. انتهى (4).
وفي بعض الحواشي: ليس يعني به البدل النحوي التابع للأول في إعرابه، بل يعني به أن تكون الثانية مفسرة للأولى، قائمة مقامها في المعنى موضحة لها؛ لأنهم أشبهوا مستوقد النار في ذهاب نورهم بعد ظهوره.
قوله: (والجواب محذوف)
أي خمدت وانطفأت.
قوله: (كما في قوله تعالى (فلما ذهبوا به) [سورة يوسف 15] للإيجاز وأمن الإلباس).
عبارة " الكشاف ": " لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس (5) "

(1/423)


قال أبو حيان: ولا نسلم استطالة الكلام هنا، بخلاف قوله (فلما ذهبوا به) فإن الكلام طال بذكر المعاطيف على الفعل ومتعلقاتها (1).
قلت: ولذلك عدل المصنف عن ذكر الاستطالة إلى ذكر الإيجاز؛ لأن هذا القدر لا يرد عليه، كما هو واضح؛ إذ الإيجاز موجود في كل حذف، سواء كان في الكلام استطالة أم لم تكن.
ثم قال أبو حيان: وقوله: " مع أمن الإلباس " ممنوع، فأي أمن، ولا شيء يدل على المحذوف.؟
والذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن جوابه (ذهب الله بنورهم) فإذا جعل غيره الجواب مع قوة ترتيب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة كان لغزا؛ إذ ترك شيءٌ يتبادر، وأضمر شيء يحتاج إلى وحي يسفر عنه؛ إذ لا دلالة على حذفه (2). انتهى.
قوله: (ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة) إلى آخره.
ما ذكره من أن التعدية بالباء أبلغ من الهمزة ذكره المبرد (3)، ثم السهيلي (4)، ثم صاحب " المثل السائر ".
قال: من ذهب بشيء فقد أذهبه، وليس كل من أذهب شيئا فقد ذهب به؛ لأن قولنا: ذهب به يفهم منه أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى حالته الأولى، وليس كذلك أذهبه (5).
وتوقف فيه صاحب " الفلك الدائر " باستوائهما في معنى التعدية (6).
ورده الطيبي بأن ذلك لا يمنع أن تفيد مع التعدية معنى سواها، وليس النزاع إلا فيه، فإن الهمزة للإزالة، والباء للمصاحبة، وصاحب المعاني لا ينظر إلا إلى الفرق بينهما، واستعمال كل منهما في مقامه، لا إلى التعدية نفسها، فإن البحث عنها وظيفة النحوي (7).

(1/424)


وقال أبو حيان: الباء عند جمهور النحويين ترادف الهمزة، فإذا قلت: خرجت بزيد، فمعناه أخرجت زيدا، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت.
وقال المبرد: إذا قلت: قمت بزيد دلّ على أنك قمت، وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيدا لم يلزم أنك قمت. ففرق بين الباء والهمزة في التعدية.
ورد عليه بهذه الآية ونحوها، ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم، والله تعالى لا يوصف بالذهاب مع النور.
وأجيب أنه لا يلزم ذلك؛ إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به، كما وصف نفسه بالمجيء في قوله (وجاء ربك) [سورة الفجر 23]
والذي يفسد قول المبرد من التفرقة. بين الباء والهمزة قول الشاعر (1):
دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحنُ عَلَى مِنَى. . . تَحِلُّ بِنَا لَوْلا نَجَاءُ الرَكَائِبِ
أي تُحِلُّنا.
المعنى: تصيرنا حلالا غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك؛ لأنها لم تكن حراما فتصير حلالا بعد ذلك (2). انتهى.
قوله: (وما أخذه وأمسكه فلا مرسل له) (3)
في بعض الحواشي: يريد أن نسبة الذهاب إلى الله تعالى أفاد في الكلام قوة في امتناع عود النور، لا تحصل عند فقد ذلك.
قوله: (ولذلك عدل عن الضوء) إلى آخره.
ما أشار إليه من أن الضوء أبلغ من النور ذكره جماعة.
وقال صاحب " الفلك الدائر ": هذا غير صحيح؛ فإنا تصفحنا كتب اللغة فلم نجدها شاهدة لما ذكروا، والاصطلاح (4) العرفي مساعد له.
وقد قال ابن السكيت: في " إصلاح المنطق ": النور الضياء، فجعلهما شيئا واحدا، قال: وليس في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)

(1/425)


[سورة يونس 6] ما يدل على الاختلاف (1).
وأجاب الطيبي: بأن ابن السكيت بين معناه الحقيقي بحسب الوضع، لا الاستعمال، والاعتبار المذكور في التفرقة بحسب الاستعمال.
قال: وأما قوله: وليس في الآية المذكورة ما يدل على الاختلاف فيقال له: أفلا نقابل الآية بقوله (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) [سورة الإسراء 13] وقوله تعالى (وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) [سورة نوح 17]
حتى يعلم الاختلاف للاستعمال (2).
قوله: (فذكر الظلمة التي هي عدم النور)
زاد الإمام: عما من شأنه أن يستنير (3). وهي على هذا أمر عدمي.
وزاد " في الكشاف: " وقيل: عرض ينافي النور (4) "
قال الطيبي: فعلى هذا أمر وجودي (5).
قال: ويدل عليه قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور) [سورة الأنعام 1]
قوله: (وترك في الأصل بمعنى طرح وخَلَّى، وله مفعول واحد، فضمن معنى صير)
قال الطيبي: يوهم أن تقدير الآية مقصور على الثاني، دون الأول.
وقد ذكر ابن الحاجب في " أماليه ": أن على الأول مفعول ترك هم و (في ظلمات) و (لا يبصرون) حالان مترادفان من المفعول (6).
فيقال: إن المصنف إنما ترك ذكره لظهوره (7).
قوله: (وقول الشاعر (8):
فتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاع ينشنه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .)

(1/426)


وتمامه. . . . . . . . . . . . . . . . . . مَا بَيْنَ قُلَّةِ رَأسِهِ والمِعصَمِ
هو من معلقة عنترة المشهورة، وقبله
فَشَكَكْتُ بِالرُّمحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ. . . لَيسَ الكَريمُ عَلَى القَنَا بِمُحرَّمِ
ويروى: فتركنه بالنون، والضمير للقنا. والجزر جمع جزيرة، وهي الشاة التي أعدت للذبح. والنوش التناول.
يقول: قتلته فجعلته عرضة للسباع.
قال الشيخ سعد الدين: البيت نص في كون " ترك " بمعنى صير؛ لأن جزر السباع معرفة لا تحتمل الحال، بخلاف الآية؛ لجواز أن يكون ترك بمعنى طرح، و (في ظلمات) و (لا يبصرون) حالين مترادفين، أو متداخلين (1).
قوله: (والظلمة مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك)
قال الشيخ سعد الدين: هذا بعيد جدا (2).
قوله: (أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم بحقن الدماء) إلى آخره.
هذا هو الوارد، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (3).
قوله: (كأنما إيفت مشاعرهم)
بالبناء للمفعول، أي أصابتها آفة.
والمشاعر الحواس الخمس.
قوله: ْ (صُمٌّ إِذا سَمِعُوا خَيرًا ذُكِرتُ بِهِ. . . وإن ذُكِرْتُ بسُوءٍ (4) عِندَهُمْ أَذِنُوا)
هو لقعنب بن أم صاحب (5)، من بني عبد الله ابن غَطفان، وقبله:
إِن يَسْمَعُوا رِيْبَةً طَاروا بِهَا فَرَحاَ. . . مِنِّي، وَمَا سَمِعُوا مِن صَالِح دَفَنُوا
وَأَذِنُوا من أذنت للشيء: أصغيت إليه.
وأول القصيدة:

(1/427)


مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ، ثُمَّ لَيسَ لَهُمْ. . . عَهْدٌ، وَلَيْسَ لهم دِيْنٌ، إِذَاْ ائْتُمِنُوْا
شِبْهُ العَصَافِيرِ أحلاماً وَمَقدِرَةً. . . لَوْ يُوْزَنونَ بِزِقِّ الرِيْشِ مَا وَزِنُوْا
جَهْلاً عَلَيْنَا وَجُبْناً عَنْ عَدُوِّهِمْ. . . لَبِئْسَتِ الخلَّتَانِ الجَهْلُ وَالجُبْنُ (1)
قوله: (أَصَمُّ عَنِ الشيءِ الذَيْ لا أرِيْدُهُ. . . وَأَسْمَعُ خَلْقِ اللَهِ حِيْنُ أرِيدُ (2))
قال الشيخ سعد الدين: عَدَّي " " أصم " ب " عن " لتضمين معنى الذهول والغفلة والإعراض، وهو أفعل صفة، وأسمع أفعل تفضيل (3).
قوله: (وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل، لا الاستعارة)
تابع الزمخشريَّ في كون (صم بكم عمي) وبابه من التشبيه المحذوف الأداة، لا من الاستعارة، وقد نقله الزمخشري عن المحققين، وعلله بما أشار إليه من أن شرط الاستعارة أن يحذف المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد المنقول عنه، وإليه، لولا دلالهّ الحال، أو فحوى الكلام (4).
وتابعه السكاكي، وعلله بأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر، وتناسي التشبية، وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز كونه استعارة (5).
وتابعه صاحب " الإيضاح (6) "
قال الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح ": وما قالاه ممنوع، وليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر.
قال: بل لو عكس ذلك، وقيل: لابد من عدم صلاحيته لكان أقرب؛ لأن الاستعارة مجاز، لابد له من قرينة، فإن لم تكن قرينة امتثع صرفه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة إما لفظية، أو معنوية، نحو

(1/428)


زيد أسد، فالإخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقته.
قال: والذي نختاره في " زيد أسد " أنه قسمان، تارة يقصد به التشبيه، فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة فلا تكون مقدرة، ويكون الأسد مستعملا في حقيقته (1)، وذكر زيد والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة قرينة صارفة إلى الاستعارة، دالة عليها، فإن قامت قرينة على حذف الأداة صرنا إليه، وإن لم تقم فنحن بين إضمار واستعارة، والاستعارة أولى، فيصار إليها.
وممن صرح بهذا الفرق عبد اللطيف البغدادي في (2) " قوانين البلاغة " وغيره (3). انتهى.
والجواب عما قاله أولاً ما ذكره الطيبي أن الشرط المذكور مبني على القول بالادعاء الذي هو أصل الاستعارة، وهو أن المتكلم يدير أَوَّلاً دخول المشبه في جنس المشبه به، وأنه فرد من أفراد حقيقته، فصار المستعار كاللفظ المشترك الدائر بين مفهوميه، ولولا القرينة المبينة لم يعلم المراد (4).
قوله: (إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له) إلى آخره.
قال الطيبي: هذا شرط في المصرحة، لا في المكنية (5).
قوله: (لَدَي أَسَدٍ شَاكِي السِّلاحِ مُقْذَفٍ. . . لَهُ لِبَدٌ، أَظْفَارُهُ لم تُقَلَّمِ) (6)
هو لزهير بن أبي سلمى. الشوكة شدة الباس، وحدة السلاح، يقال منه: شاك الرجل، فهو شائك السلاح، وشاكي السلاح مقلوب منه. ومقذف يقذف به، ويرمي به كثيرا إلى الوقائع والحروب. كذا قال القطب (7). وقال الطيبي: مقذف كثير اللحم.

(1/429)


ولبد جمع لبدة، وهي الشعر الذي على رقبته يتلبد (1).
وقوله: (. . . . . . . . . . . . . . . . . أظفاره لم تقلم)
أي براثنه، لا يعتريها ضعف، يقال للضعيف: مقلوم الظفر.
وقد اجتمع في البيت تجريد الاستعارة (2)، وترشيحها (3)، فالأول شاكي السلاح، مقذف؛ لأن الأسد لا يكون له سلاح، ولا يرمي في الحروب، والثاني باقي البيت. والاستشهاد بالبيت لقيام دلالة الحال على الاستعارة.
قوله: (ومن ثم ترى المفلقين)
جمع مفلق، وهو الآتي بالفِلقِ، بالكسر، وهو الأمر العجيب، أي من أجل أن الاستعارة لا تطلق إلا حيت ترك المستعار له، واقتصر على المستعار منه، يتناسون التشبيه؛ لأن التشبيه يستدعي الطرفين، فإذا حذف أحدهما وأدخل المشبه في جنس المشبه به، فكأنَّه لا تشبيه به، كما في قوله:
وَيصْعَدُ حَتَّى يَظُنَّ الجَهُولُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
فإن الصعود المكاني استعارة للعلو في المرتبة، ونسي التشبيه، فبنى عليه ما يبنى على الصعود المكاني، من حيث الحاجة في السماء.
قوله: (كما قال أبو تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول. . . بِأنَّ لَهُ حَاجَةً فِي السَّمَاءِ)
هو من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد الشيباني (4). أولها:
نَعَاءِ إِلَى كُلِّ حَيٍّ نَعَاءِ. . . فَتَى العَرَبِ اخَتَطَّ رَبْعَ الفَنَاءِ
أُصِبْنَا جَمِيعاً بِسَهْمِ النِّضَالِ. . . فَهَلاّ أُصِبْنَا بِسَهْمِ الغِلاءِ
أَلا أَيُّهَا الَمْوتُ فَجَّعْتَنَا. . . بِمَاءِ الحَيَاةِ وَمَاءِ الحَيَاءِ
ومنها:

(1/430)


مَضَى المَلِكُ الوَائِلِيُّ الَذِيْ. . . جَلَبْنَا بِهِ العَيْشَ وُسْعَ الإِنَاءِ
فَأوْدَي النَّدَى نَاضِرَ العُوْدِ وَآل. . . فُتُوَّةُ مَغْمُوسَةَ فِي الفَتَاءِ
وَأَضْحَتْ عَلَيهِ العُلا خُشَّعاً. . .وَبَيتُ السَّمَاحَةِ مُلْقَى الكِفَاءِ
وَقَدْ كَانَ مِمَّا يُضِيْءُ السَّرِيْرَ. . . وَالبَهْوَ يَمْلَؤُهُ بِالبَهَاءِ
سَلِ المُلكَ عَن خَالِدٍ والمُلُوكَ. . .بِقَمْعِ العِدَى وبنَفْيِ العَدَاءِ
أَلَمْ يَكُ أَقْتَلَهُمْ لِلأُسُوْدِ. . . صَبْراً وَأوْهَبَهُمْ لِلْظّبَاءِ
أُصِبْنَا بِكَنْزِ الغِنَى والإِمَامُ. . . أَمْسَى مُصَاباً بِكَنْزِ الغَنَاءِ
ومنها:
فَمَا زَالَ يَفْرَعَ تِلْكَ العُلَى. . . مَعَ النَّجْمِ مُرْتَدِياً بِالعَمَاء
ويرقى حتى يظن الجهول. . . بأن له حاجة في السماء (1)
قوله: (أَسَدٌ عَليُّ، وفِي الحرُوْبِ نَعَامَةٌ. . . فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيْرِ الصَافِرِ)
هو لعمران بن حِطُّان (1) رأس الخوارج، يخاطب الحجاج، وقد كان لَجَّ في طلبه، وبعده:
هَلاَّ حَمَلْتَ على غَزَالَةَ فِي الوَغَى. . . بَلْ كَانَ قلْبُكَ فِي جَنَاحَي طَائِرِ
صَدَعَتْ غَزَالَةُ قَلْبَهُ بِفَوَاْرِسَ. . . تَرَكَتْ مَدَابِرَهُ كَأَمسِ الدَّاْبِرِ (3)
قال الطيبي: فتخاء مسترخية الجناح. والصفير صوت المكاء.
والنعام يضرب به المثل في الجبن.
قيل: قتل الحجاج شبيبا الخارجي، فحاربته امرأته غزالة سنة، وهرب الحجاج وهي تتبعه، فقيل له ذلك تعييرا.
أي هلا حملت على هذه المرأة في الوغى، بل كان قلبك في الرجف والخفقان كأنه في جناحي طائر (4).

(1/431)


وقال الشيخ: سعد الدين: المعنى أنت أسد، فهو في حكم المنطوق.
قال: وفي التمثيل بهذا البيت إشارة إلى أن ذكر المشبه به وإن ذكر بعده ما يشعر بأنه ليس في معناه، كلفظ " عَلَيَّ " فالكلام تشبيه.
لكنا نقول: النزاع في هذا المقام ليس لفظيا محضا، بل مبنيا على أن اسم المشبه به هاهنا في معناه الحقيقي، حتى لا يستقيم الكلام إلا بتقدير الكاف، فيكون تشبيها أوفي معنى المشبه، كالرجل الشجاع مثلا، ليكون استعارة لمعنى اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي، ويصح الحمل من غير تقدير الكاف.
قال: وهذا هو المختار عندي، وقد شهد به الاستعمال، فإن معنى " أسد عليّ " مجترئ صائل، ومعنى انعامة في الحروب " جبان هارب.
وتقول: هو أخي في الله، وهم إخوتنا في الدين.
قال ابن مالك: إذا قلت: هذا أسد مشيرا إلى السبع فلا ضمير في الخبر، وإذا قلت: مشيرا إلى الرجل الشجاع ففيه ضمير مرفوع به؛ لأنه متأوّل بما فيه معنى الفعل، ولو أسند إلى ظاهر لرفعه كقولك: رأيت رجلا أسدا أبوه (1).
وقال الشريف: " أسد عَلَيَّ " جاز تعلق الظرف به؛ لملاحظة ما يلزمه من الجراءة؛ لأنه مستعمل في معنى مجترئ صائل، وإلا كان مجازا مرسلا، وفات معنى التشبيه بالكلية، كما في قولك: زيد شجاع، أو مجترئ، وكذلك الحال في نعامة يلاحظ معهما معنى الجبن والفرار.
وما قيل من: أن " أسدا " في " زيد أسد " مستعمل في المشبه، أي الرجل الشجاع، فيكون استعارة = مردود بأن هذا المجموع ليس مشبها بالأسد؛ فإن الشجاعة خارجة عن الطرفين اتفاقا.
والحق أن أسدا مستعمل هناك في معناه الحقيقي، وقد حمل على زيد، بناء على دعوى كونه من أفراده، فلا يظهر حينئذ تقدير الأداة؛ لفوات المبالغة، فإنك إذا قلت: زيد كالأسد، فقد جعلت مشابهته للأسد مقصودة بالإثبات، وإذا قلت: زيد أسد كان مقصودك إثبات حمله عليه، لا مشابهته إياه، كما في سائر أفراده، ثم إنه قد يلاحظ - على سبيل التبعية لمعناه الحقيقي - ما يلزمه من الجراءة والصولة وغيرهما من المعاني اللازمة، فيعمل في الظرف باعتبار ذلك المعنى التابع، وقد يرفع به

(1/432)


الفاعل أيضاً، نحو رأيت رجلا أسدا أبوه، إما لقصد معنى المشابهة، أو لاعتبار اللازم، سواء جعل تابعا أو مستعملا فيه اللفظ. انتهى (1).
قوله: (وثلاثتها قرئت بالنصب على الحال من مفعول " تركهم)
قال أبو حيان: على أن ترك لا يتعدى لمفعولين، أو يكون تعدى إليهما وقد أخذهما.
قال: أو يكون مفعولا ثانيا لترك، على تعدد الخبر، أو منصوبا على الذم، كأنه قال: أذم صما بكما عميا (2) ..
قوله:: (لا يعودون إلى الهدى) إلى آخره.
قال الطيبي: أي لا يرجعون متعلقة بمحذوف، فإما أن يقدر المتعلق " إلى " فالرجوع إذن بمعنى الإعادة إلى ما كان، فالمعنى: لا يعودون إلى الهدى؛ لأن المراد تمكنهم من الهدى.
وإما أن يقدر " عن " فالمعنى: لا يرجعون عن الضلالة، فإن المتمسك بالشيء لا يرجع عنه، وإما أن لا يقدر شيء، ويترك على الإطلاق (3).
وفي الحاشية المشار إليها: تلخيصه أنه يصلح أن يكون الضمير في (لا يرجعون) عائدا إلى المنافقين، وأن يكون عائدا إلى المستوقد، والأول يحتمل وجهين؛ لأنه يقال: رجع عن الشيء إذا تركه، ورجع إليه إذا أقبل عليه، فعلى الأول فهم لا يرجعون عن الضلالة بعد أن اشتروه، وعلى الثاني فهم لا يرجعون إلى الهدى بعد أن باعوه.
والاحتمال الثاني في أصل المسألة للمستوقدين، ومعناه لا يدرون كيف يذهبون، ولا كيف يرجعون.
* * *
قوله: (أي كمثل ذوي صيب)
قال في بعض الحواشي: مراده أن المنافقين لا يشبهون نفس الصيب، وإنما يشبهون مَن أصابه الصيب الموصوف.
قوله: (و " أو " في الأصل للتساوي في الشك، ثم اتسع فيها، فأطلقت للتساوي

(1/433)


من غير شك)
قال صاحب " الفرائد ": الوجه أن يقال: " أو " لتعليق الحكم بأحد المذكورين فصاعدا، والتفاوت في المؤدى إنما يقع بحسب التركيب الذي وقعت فيه، فإن وقعت في الخبر فالحاصل تعلق الحكم بأحدهما، وهو غير معين، فأمكن أن يقع الشك فيه، وإن وقعت في الطلب ولم يمكن وقوع الشك فيه أفاد التخيير والإباحة، والحاصل أيضاً تعلق الحكم بأحدهما، وذلك غير مانع لتعلق الحكم بكل واحد منهما، فعلى هذا لم تلزم الاستعارة، وهي في المواضع كلها على معناها.
قال الطيبي: حاصل تقريره أنَّ " أو " حقيقة في القدر المشترك بين الشك والتخيير والإباحة، وهو تعليق الحكم بأحد الأمرين.
قال الحديثي (1): دلالة " أو " و " أم " و " إمُّا " على أحد الشيئين، لا غير، وأما الشك والتخيير والإباحة وغيرها فإنها من صفات الكلام الذي هي فيه، وإضافتها إليها مجاز.
وقال ابن الحاجب في " شرح المفصل ": إنما قال المصنف: ويقال في " أو " و " إما " في الخبر: إنهما للشك، بلفظة " يقال " تنبيها على أن ذلك ليس بلازم، إذ قد يكون المتكلم مُبْهِماً.
أما في الأمر فيقال: إنهما للتخيير والإباحة على وضعهما لإثبات الحكم لأحد الأمرين، إلا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن الأمر غير حاجز عن الآخر، مثل قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة، وإلا سمي تخييرا، وهو لأحد الأمرين في الموضعين، وإنما علم نفي حجز الأمر عن الآخر في الإباحة من أمر خارج، كما في النهي، نحو قوله تعالى (ولا تطع مثهم آثما أو كفورا) [سورة الإنسان 24] جاء التعميم من جهة النهي الداخل على معنى النفي؛ لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا، أي واحدا منهما، فإذا جاء النهي تبقى على بابها ويصير المعنى: ولا تطع واحدا منهما، فلا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما مطلقا (2).
قال الطيبي: وجه التوفيق بين كلاميه في " الكشاف " و " المفصل " هو أن " أو " في

(1/434)


أصل اللغة موضوعة لتساوي شيئين في الشك، ثم فيه طريقان:
أحدهما: أن يستعار لمعنى التخيير أو الإباحة؛ لعلاقة تعليق الحكم بأحد المذكورين، كما يستعار الأسد للشجاع؛ لعلاقة الجراءة.
وثانيهما: أن يحمل على عموم المجاز؛ لتعليق الحكم بأحد المذكورين، فيقال: أما في الخبر فإنها للشك، وفي الأمر للتخيير، والإباحة، وعلى الأول ورد في " الكشاف " وعلى الثاني في " المفصل ".
وفي كلام الزجاج إشعار بما ذهب إليه المصنف. قال: (أو) في قوله تعالى (أو كصيب من السماء) دخلت لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة " أو " الإباحة.
والمعنى أن التمثيل مباح لكم في المنافقين، إن مثلتموهم بالمستوقدين فذاك مثلهم، أو مثلتموهم بأصحاب الصيب فهو مثلهم، أو مثلتموهم بهما جميعا فهما مثلاهم (1).
قال الطيبي: فاختصاص الحذاق - أي المهرة - بهذا المعنى دون من سواهم دليل على دقة هذا المعنى، ولم يكن كذلك إذا كان حقيقة، لاستواء الحذاق وغيرهم من أهل اللغة فيه.
وهذا خلاف تلك القاعدة، وهي أن " أو " في الأمر للإباحة؛ لكونها داخلة هاهنا على الخبر، وهي للإباحة؛ ولأن " أو " عند الإطلاق يتبادر منها الشك، دون ما سواه من المعاني، وذلك أمارة الحقيقة (2).
قوله: (وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما)
قال في " الكشاف ": فإن قلت: أَيُّ التمثيلين أبلغ؟
قلت: الثاني؛ لأنه أدلّ على فرط الحيرة، وشدة الأمر، وفظاعته، ولهذا أخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ (3) ".
قوله: (ويقال للمطر وللسحاب)
عبارة " الكشاف ": " والصيب المطر الذي يصوب، أي ينزل ويقع، ويقال

(1/435)


للسحاب: صيب أيضاً " (1)
قال الشريف: أي على أنه صفة له (2).
وقال الشيخ أكمل الدين: لم يبين أن إطلاقه على السحاب حقيقة أو مجاز، وهو محتمل لهما، والمجاز أبلغ (3).
قوله: (قال الشماخ (4):
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأسْحَمُ دانٍ صادِقُ الرَّعدِ صَيِّبُ (5))
صدره:
مَحَا آيَهُ نَسجُ الجَنُوْبِ مَعَ الصَّبَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
قال الطيبي: الأسحم: السحاب الأسود. ودان: قريب من الأرض.
صادق الرعد: أي غير خلب.
المعنى: محا آثَارَ رَبْعِ المحبوب، وَغَيَّرَ رُسُوْمَهُ = اختلافُ هاتين الريحين، وتتابع هبوبهما، مثل اختلاف الريحين بنسج الصانع الثوب، فإن إحدى الريحين بمنزلة السَّدَى، والأخرى اللحمَةِ، فإن ريح الصبا تهب من جانب المشرق، والجنوب من يمين من يكون متوجه المشرق (6).
وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن هذه الأوصاف إنما تحسن في السحاب، دون المطر (7).
وفي الحاشية المشار إليها: صادق الرعد من باب المجاز، فإن الرعد لما كان مبشرا بالمطر صار كأنه واعد بنزول المطر، ثم صدق وعده بنزوله.
* * *
فائدة: الشماخ بالشين المعجمة، هو ابن ضرار بن حرملة بن صيفي بن أصرم، شاعر مشهور.

(1/436)


وقد رأيت البيت في " ديوان النابغة الذبياني (1) " من قصيدة يخاطب بها النعمان بن المنذر.
وأولها:
أرَسْماً جَدِيداً مِن سُعادَ تَجَنَّبُ. . . عَفَتْ رَوضَةُ الأَجْدَادِ مِنها فتنضب
محا آيَهُ ريحُ الجَنُوبِ مَعَ الصَّبَا. . . وَأسْحَمُ دانٍ مُزْنُهُ مُتَصَوِّبُ (2)
قوله: (وفي الآية يحتملهما)
أقول: الثابت في التفسير أن المراد به في الآية المطر.
أخرجه ابن جرير (3) من عدة طرق عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والربيع، وابن زيد، وسفيان، ولا مخالف لهم.
قوله: (قال:. . . . . . . . . . ومن بُعْدِ أرضٍ بَينَنَا وَسَمَاءِ)
صدره:
فَأوَّهُ لِذِكْرَاهَا إِذا ما ذكَرْتُهَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
قال الشيخ سعد الدين: حيث نكَّرَ أرضاً، وسماءً للبعضية؛ إذ ليس بينهما بُعْدُ جميع الأرض، وجميع السماء.
يعني أتوجع من ذكراها، ومن حيلولة قطعة من الأرض، وناحية من السماء بيننا (4).
وقال الطيبي: سمى بعض الأرض أرضا، وبعض السماء سماء، وأراد ببعد السماء والأرض، ما تقابل من السماء والأرض، التي بينهما.
ولا يجوز أن يراد بالسماء المطلقة؛ لأنها ليست بينه وبينها (5).
وقال الشيخ أكمل الدين: الاستشهاد على أنه أراد بالسماء طائفة منها تتخلل بينه وبين محبوبته؛ إذ السماء المطلقة ليس بينه وبينها (6).

(1/437)


قلت: والبيت أورده ابن جني في " الخصائص (1) " شاهدا على أن " أَوَّ " لغة في " أَوَّهُ " اسم، بمعنى أتألّم.
قال: ويروى: فأوَّ لذكراها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وهي لغة فيها.
قوله: (ما في صيب من المبالغة من جهة الأصل)
عبارة " الكشاف ": " من جهة التركيب (2) "
قال الشيخ سعد الدين: أي من جهة المادة الأولى؛ لأن الصاد من المستعلية، والياء مشددة، والباء من الشديدة، ومن جهة المادة الثانية؛ لأن الصوب فرط الانسكاب والوقوع (3).
قوله: (والبناء)
قال الطيبي: لأنها بنيت على وزن فَيْعِلٍ، وهي صفة مشبهة، تدل على شيء ثابت (4).
قال السجاوندي: وهي بناء يختص بالمعتل، وفيه مبالغة.
قوله: (والتنكير)
قال الشيخ سعد الدين: لأنه للتعظيم والتهويل (5).
قوله: (مع ظلمة الليل)
قال الطيبي: قيل: ظلمة الليل من أين تستفاد من الآية، وليس فيها ما يدل عليها.
فيقال: تستفاد من الجمع، ومقام المبالغة، فإن أقَلَّ الجمع ثلاثة (6).
وقال الشيخ سعد الدين: الغرض إثبات ثلاث ظلمات في الصيب، على ما هو أَقَلُّ الجمع، وظلمة الليل مستفادة من قوله تعالى " كلما أضاء لهم " الآية (7).

(1/438)


قوله: (وجعله مكانا للرعد والبرق)
قال الشريف: يعني أن ظرفية السحاب للرعد والبرق ظاهرة، دون ظرفية المطر لهما (1).
قوله: (لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به)
قال الطيبي: هو من إطلاق أحد المتجاورين على الآخر (2).
وقال الشيخ سعد الدين: جعلا كأنهما فيه بطريق استعارة كلمة " في " للتلبس المخصوص الشبيه بتلبس الظرفية الحقيقية.
قال: وما قاله الطيبي رُدَّ بأنه يكون المعنى حينئذ: أن في السحاب رعدا وبرقا، لا فى المطر على ما هو المطلوب.
قال: فإن قيل: يكون المراد بالصيب المطر، وبضميره السحابُ المجاورُ له على طريق التجوز. قلنا، فلا يكون ظلمة التكاثف، وظلمة الغمام في المطر إلا أن يقدر: وفيه رعد وبرق، ويراد بالضمير الأول المطر، وبالثاني السحاب الملاصق.
قال: ومنشأ هذه التعسفات الذهول عن اعتبار التجوز في كلمة " في " (3).
قوله: (وارتفاعها بالظرف وفاقا؛ لأنه معتمد على موصوف)
قال الشيخ سعد الدين: يعني الاتفاق على جواز ذلك، بخلاف ما إذا لم يعتمد، فإنه مختلف فيه، فسيبويه لا يجعله مرفوعا بالظرف، بل بالابتداء (4).
وقال الشريف: أي يجوز ذلك بالاتفاق لا أنه يجب، بخلاف ما إذا لم يعتمد، فإن سيبويه لا يجوز إعماله (5).
وفي الحاشية المشار إليها: لا يربد به أنه يجب ارتفاعه به، فإنه يجوز أن يرفع مبتدأ، ويجعل (فيه) الخبر بالاتفاق أيضاً، ولكن مراده أنه إذا لم يعتمد لا يرفع الفاعل عند البصريين دهان أجازه الكوفيون.
وأما إذا اعتمد فالرفع به جائز عند الفريقين.
قوله: (والرعد صوت يسمع من السحاب، والمشهور أن سببه اضطراب

(1/439)


أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح)
تبع في ذلك " الكشاف " (1) ولا عبرة به؛ فإن الأحاديث والآثار وردت بخلافه.
قال الطيبي: الصحيح الذي عليه التعويل ما ورد في الحديث (2).
أخرج الإمام أحمد في " مسنده " والترمذي - وصححه - والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه في تفاسيرهم، والطبراني في " معجمه " وأبو نعيم، والبيهقي، كلاهما في " دلائل النبوة " عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلًم قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد، قال: " ملك من ملائكة الله، موكل بالسحاب، بيده مخراق من نار يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمر الله " قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: " صوته " قالوا: صد قت (3).
وأخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المطر " وابن جرير، وابن المنذر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " الرعد ملك، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد (4) "
وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " وابن أبي الدنيا في " كتاب المطر " وابن

(1/440)


جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " الرعد ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه، وكان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له (1) "
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ ابن حيان، عن ابن عباس قال:
" الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه (2) "
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: " الرعد ملك من الملائكة، اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته، والبرق سوط من نور يزجر به الملك السحاب (3) "
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: " الرعد ملك، اسمه الرعد، وصوته هذا تسبيحه (4) "
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: " الرعد ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير (5) "
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: " ما خلق الله شيئا أشد سوقا من السحاب، ملك يسوقه، والرعد صوت الملك يزجر به، والمخاريق يسوقه بها "
وأخرج أبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو أنه سئل عن الرعد فقال: " - ملك وكله الله بسياقة السحاب، فإذا أراد الله أن يسوقه إلى بلدة أمره فساقه، فإذا تفرق عليه زجره بصوته حتى يجتمع، كما يود أحدكم ركابه " ثم تلا هذه الآية (ويسبح الرعد بحمده (6)) [سورة الرعد 13]
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: " الرعد ملك ينشئ السحاب، ودويه صوته (7) ".

(1/441)


وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أن رجلا سأله عن الرعد فقال: " ملك يسبح بحمده "
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله تعالى: (يسبح الرعد بحمده) قال " هو ملك يسمى الرعد، وذاك الصوت تسبيحه (1).
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن أبي صالح قال: " الرعد ملك من الملائكة يزجر السحاب بصوته (2) ".
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: " الرعد ملك من الملائكة، قد وكل بالسحاب، يسوقها كما يسوق الراعي الإبل (3) ".
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن شهر بن حوشب قال: " الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق " (4).
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال " البرق مصع ملك (5) ".
قوله: (حدتها الريح)
قال الشريف: أي ساقتها (6).
قوله: (من الارتعاد)
قال الطيبي: لم يرد أن أصله منه؛ لأن أصله من الرعدة، بل أراد أن فيه معنى الاضطراب والحركة (7).
وقال الشريف: أي مشتق من الارتعاد، فإن المصنف قد يرد المجرد إلى المزيد إذا كان المزيد أعرف في المعنى الذي اعتبره في الاشتقاق، كالقدر من التقدير،

(1/442)


والوجه من المواجهة.
وقيل: " من " هذه اتصالية، أي هما من جنس واحد، يجمعهما الاشتقاق من الرعدة، وكذا التي في قوله: " من برق الشيء بريقا (1) "
وقال الشيخ سعد الدين: يعني أن الرعد من الارتعاد، كما أن البرق من البريق.
ولو قال: من الرعدة لكان أنسب، إلا أنه لا يبالي بجعل المجرد من المزيد، كالوجه من المواجهة قصدا إلى إلحاق الأخفى بالأعرف في ذلك المعنى الذي يتناسب اللفظان فيه (2).
قوله: (كما عَوَّلَ حسَّانُ في قوله:
يَسقُونَ مَنْ وَردَ البَرِيْصَ عَلَيهِمِ. . . بَردَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيْقِ السلْسَلِ)
البريص - بالصاد المهملة كما ضبطه ابن يعيش في " شرح المفصل " - نهر يتشعب من بردى، وبردى نهر دمشق. وتصفيق الشراب تحويلة من إناء إلى إناء. وبالرحيق حال من فاعل يصفق. والرحيق الخمر. السلسل السهل الدخول في الحلق (3).
قال الشيخ سعد الدين: وتعدية وردب " على " مع ذكر المفعول على تضمين معنى النزول، كأنه قال: ورد البريص نازلا عليهم، ضيفا لهم، وإلا فالاستعمال ورد الماءَ ورودا، وورد البلدَ حضر، وورد عليه الكتاب وصل إليه.
والباء في ب " الرحيق " للمصاحبة. وألف بردى للتأنيث، فتذكير الضمير في " يصفق " لعوده إلى المضاف المحذوف، أي ماء بردى، كجمع الضمير في (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [سورة الأعراف 3] ولو روعي حال اللفظ القائم مقام المضاف لأنث هنا، وأفرد ثمة.
والبيت من قصيدة معدودة في المختارات، وأولها:
أَسَألْتَ رَسْمَ الدارِ، أَمْ لَمْ تَسألِ. . . بَيْنَ الجَوابِي، فالبُضَيْعِ، فَحَوْمَلِ
لِلهِ دَرُّ عِصابةٍ نادْمتُهُمْ. . . يَوْماً بِجِلَّقَ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ

(1/443)


أوْلادُ جَفْنةَ حولَ قَبْرِ أَبِيْهِمِ. . . قَبْرِ ابنِ مَارِيةَ الكَرِيمِ المُفْضِلِ
بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحسَابُهُمْ. . . شُمُّ الأنُوْفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ
يُغْشَوْنَ حَتَّى ما تَهِرُّ كِلابُهُمْ. . . لا يَسْألُوْنَ عَنِ السَّوَادِ المُقْبِلِ
اللاحِقِيْنَ فَقِيرَهُمْ بِغنِيِّهِمْ. . . المُنْفِقِينَ عَلَى اليَتِيْمِ الأَرْمَلِ
يسقون من ورد البريص عليهم. . . بردى يصفق بالرحيق السلسل (1)
قوله: (والجملة استئناف)
قال أبو حيان: فلا محل لها من الإعراب
قال: وجوزوا أن يكون موضعها الجر على الصفة لـ " ذوي " المحذوف، والنصب على الحال من الهاء في " فيه " والراجع على الحال (2) محذوف، نابت الألف واللام عنه، والتقدير: من صواعقه (3).
قوله: (وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة)
قال ابن المنير: فيه إشعار بأنهم يدخلون أصابعهم في آذانهم فوق المعتاد فرارا من شدة الصوت (4).
قوله: (أي من أجلها)
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنها الباعث، وذلك أن " من " هنا تغني عنها اللام في المفعول له، فقد يكون غاية يقصد حصوله، وقد يكون باعثا يتقدم وجوده (5).
قوله: (سقاهم (6) من العيمة)
أي بسبب العيمة، وهي شهوة اللبن، كما أن القرم شهوة اللحم.
قوله: (والصاعقة قصفة رعد)
قال القطب: أي صوت رعد، والقصف في الأصل الكسر (7).
وقال الشيخ سعد الدين: أي شدة صوته (8).

(1/444)


وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد (1).
قوله: (إلا أتت عليه)
قال الطيبي: أي أهلكته (2).
قوله: (وقرئ من الصواقع، وهو ليس بقلب من الصواعق؛ لاستواء كلا البناءين في التصرف)
قال الطيبي: أي فيما يلزم الفعل من التشعب والاشتقاق، فيقال: صقع الديك، وخطيب مصقع، وصقعه على رأسه، ولو كان مقلوبا لم يتجاوز عن صورة واحدة (3).
الراغب: الصاعقة، والصاقعة متقاربان، وهما الهدَّة الكبيرة، إلا أن الصقع يقال: في الأجسام الأرضية، والصعق في الأجسام العلوية.
وقال بعض أهل اللغة: الصاعقة ثلاثة أوجه:
الموت: كقوله تعالى (فصعق من في السموات) [سورة الزمر 69]
والعذاب: كقوله تعالى (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) سورة فصلت 14]
والنار: كقوله تعالى (ويرسل الصواعق) [سورة الرعد 14]
قال الطيبي: وما ذكره فهي أشياء متولدة من الصاعقة، فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو، ثم يكون منه نار فقط، أو عذاب، أو موت، وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء تأثيرات منها (5).
قوله: (صقع الديك) أي صاح.
قوله: (وخطيب مصقع) بكسر الميم، أي مِجهر، يقال: رجل مجهر - بكسر الميم - إذا كان من عادته أن يجهر بكلامه.
قوله: (وصقعته الصاعقة) أي أهلكته.
قوله: (وهي في الأصل إما صفة)

(1/445)


زاد قوله: (في الأصل) على " الكشاف " ولابد منه.
وقد نبه على ذلك الشيخ سعد الدين فقال: كون الصاعقة صفة للقصفة، أو للرعد، أو مصدرا إنما هو بحسب الأصل، وإلا فهو اسم.
قال: وعلى كل تقدير لا شذوذ في جمعها على صواعق (1).
وكذا قال الشريف: هي الآن " اسم، وجمعها - على التقادير - على صواعق، جار على القياس (2).
قوله: (لقصفة الرعد)
قال الطيبي: لأن فاعلة صفة المؤنث، يجيء جمعها على فواعل، كضاربة، وضوارب (3).
قوله: (أو للرعد، والتاء للمبالغة)
قال الطيبي: أي هو فاعل صفة للمذكر، والتاء للمبالغة، فيجمع على فواعل شذوذا، كفارس وفوارس (4).
قوله: (كما في الراوية) هو الرجل الكثير الرواية
قوله: (أو مصدر كالعافية والكاذبة) بمعنى المعافاة والكذب
وفي الحاشية المشار إليها: قد جاء المصدر على وزن فاعلة في القرآن في مواضع:
منها: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) [سورة المائدة 13] أي خيانة
(لا تسمع فيها لاغية) [سورة الغاشية 11]، أي لغو (والعاقبة للمتقين) [سورة القصص 83] أي العقبى.
(ليس لوقعتها كاذبة) [سورة الواقعة 2] أي كذب.
(ليس لها من دون الله كاشفة) [سورة النجم 58] أي كشف.
قوله: (حذر الموت) نصب على العلة)
قال أبو حيان: كذا أعربوه، وشروط المفعول له موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلا وزمانا.

(1/446)


وفيه نظر؛ لأن قوله (من الصواعق) هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان
معطوفا لجاز، كقوله تعالى (ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم) [سورة البقرة 265]
وقد جوزوا أن يكون نصبا على المصدر، أي يحذرون حذر الموت (1).
قوله: (وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَريمِ ادِّخَارَهُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
تمامه (2). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَأعْرِضُ عَن شَتْمِ اللُّئِيمِ تَكَرُّمًا.
قال الطيبي: العوراء الكلمة القبيحة، أي أسترها لتبقى الصداقة، وأدخره ليوم احتياج إليه فيه؛ لأن الكريم إذا فرط منه قبيح ندم على فعله، ومنعه كرمه أن يعود إلى مثله.
واستشهد به لكون المفعول له مضافا إلى المعرفة، وهو نادر (3).
قلت: والبيت لحاتم الطائي (4)، من قصيدة أولها:
أَتَعْرِفُ أَطْلالاً ونُؤْياً مُهَدَّماً. . . كخَطِّكَ في رَقٍّ كِتاباً مُنَمْنَمَا
فنفسَكَ أكْرِمْهَا فَإِنَّكَ إِنْ تَهُنْ. . . عليكَ فَلَن تُلْفَى لَهَا الدَّهْرَ مُكْرِمَا
أَهِنْ فِي الذي تَهوَى التِّلادَ فإِنَّهُ. . . إذا مِتَّ صَارَ اْلمالُ نَهْباً مُقَسَّمَا
ولا تَشْقَيَنْ فِيهِ فَيَسْعَدَ وَارِثُ. . . بِهِ حِينَ تَخشَى أَغْبَرَ الجَوِّ مُظْلِمَا
تَحَلَّمْ عَنِ الأَدْنَيْنَ واستَبْقِ وُدَّهُم. . . وَلَنْ تَستَطِيعَ الحِلْمَ حَتى تَحَلَّمَا (5)
قوله: (والموت زوال الحياة)
قال الطيبي: هو على هذا الوجه ليس بعرض، بل هو أمر عدمي (6).
قوله: (وقيل: عرض يضادها)
قال الشريف: فيكون أمرا وجوديا (7).

(1/447)


وذهبت فرقة ثالثة من أهل الحديث إلى أن الموت جسم؛ لورود الأحاديث والآثار مصرحة بذلك، غير أن للأولين أن يقولوا: إنهم لم يقصدوا حقيقة الموت في الواقع، بل أثره القائم ببدن الحيوان عند مفارقة الروح له، فاختلف محل النزاع.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في. قوله تعالى (الذي خلق الموت والحياة) [سورة الملك 2] قال: الحياة فرس جبريل، والموت كبش أملح.
وقال مقاتل والكلبي: خلق الله الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيَّ.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان في " كتاب العظمة " عن وهب بن منبه (1) قال: خلق الله الموت كبشا أملح مستترا بسواد وبياض، له أربعة أجنحة، جناح تحت العرش، وجناح في الثرى، وجناح في المشرق، وجناح في المغرب (2).
وأخرج الشيخان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله علية وسلّم: " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت "
وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت - زاد ابن حبان -: وكلهم قد رأوه - ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت - وكلهم قد رأوه - فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود، فلا موت، ويا أهل النار خلود، فلا موت (3) ".

(1/448)


وأخرج البزار وأبو يعلى، والطبراني في " الأوسط " بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي منادٍ يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح كما تذبح الشاة، فيأمن هؤلاء، وينقطع رجاء هؤلاء (1) "
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار.
والأحاديث في هذا كثيرة، بحيث إن طائفة من أهل الكلام استشكلت ذلك بناء على أن الموت عرض، والعرض لا ينقلب جسما، فكيف يذبح؟
وتجاسرت طائفة فأنكرت صحة الحديث، ودفعته.
والتحقيق ما أشرنا إليه، وهو أن الموت دي الحقيقة هو هذا الجسم الذي على صورة الكبش، كما أن الحياة جسم على صورة فرس لا تمر على شيء إلا حيَّ.
وأما المعنى القائم بالبدن عند مفارقة الروح فإنما هو أثره، فإما أن تكون تسميته بالموت من باب المجاز، لا الحقيقة، أو من باب الاشتراك، وحينئذ فالأمر في النزاع قريب.
* * *
تنبيه: تابع المصنف " الكشاف (2) " في هذه المسألة حتى إنه مشى معه على مذهبه.
قال المازري (3) في " شرح مسلم ": الموت عند أهل السنة عرض من

(1/449)


الأعراض، وعند المعتزلة عدم محض (1). انتهى.
فأنت ترى المصنف كيف صدر بالقول الذي هو مذهب المعتزلة مرجحا له، ثم ثنى بالقول الذي هو مذهب أهل السنة بصيغة التمريض، وما كفاه ذلك حتى ذكره حجته وردَّها، ولكن كل هذا تلخيص كلام " الكشاف ".
ومما يدل أن الموت جسم، أو عرض مخلوق قوله تعالى (أو خلقا مما يكبر في صدروكم) [سورة الإسراء 51] فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالموت (2).
قال الطيبي هناك: معناه: لو كنتم نفس الموت لأحياكم على المبالغة، كما يقال: لو كنت عين الحياة لأماتك، وإلا فالموت عرض لا ينقلب الجسم إليه، وهو لا ينقلب إلى ضده الذي هو الحياة (3).

(1/450)


قوله: (لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ)
قال القطب: فهو استعارة تمثيلية، شبه حاله تعالى، مع الكفار - في أنهم لا يفوتونه، ولا محيص لهم عن عذابه - بحال المحيط بالشيء - في أنه لا يفوته المحاط - واستعير لجانب المشبه الإحاطة (1).
وقال الطيبي: هي استعارة تمثيلية، شبهت حالة إنزال الله تعالى عذابه على الكافرين من كل جانب بحيث لا محيد لهم عنه، بحالة الجيش الذي صبح القوم، وقد أحاط بهم عن آخرهم، فلا يفوت منهم أحد (2).

(1/451)


وقال الشيخ سعد الدين: شبه حال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور ألبتة بإحاطة المحيط بالمحاط، بحيث لا يفوته، فتكون الاستعارة تبعية جارية في الإحاطة، وهذا لا ينافي كونها تمثيلية، لما في الطرفين من اعتبار التركيب.
وأما كونها تمثيلا بمعنى تشبيه حاله تعالى مع الكفار بحال المحيط مع المحاط، بحيث تكون المفردات على حقيقتها، كما في " أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " ففيه نظر (1).
وقال الشريف: إن شبه شمول قدرته تعالى إياهم بإحاطة المحيط بما أحاط به - في امتناع الفوات - كان هناك استعارة تبعية في الصفة، سارية إليها من مصدرها.
وإن شبه حاله تعالى معهم بحال المحيط مع المحاط، أي شبه هيئة منتزعة من عدة أمور بأخرى مثلها كان هذا استعارة تمثيلية، لا تصرف في شيء من ألفاظ مفرداتها.
ومن زعم (2) أن كون هذه الاستعارة تبعية لا ينافي كونها تمثيلية لما في الطرفين من اعتبار التركيب = إن أراد به أن معنى الإحاطة مركب ففساده ظاهر؛ لأنها كالضرب مدلولها مفرد، وإن أراد اعتبار هيئة في مدلوله مع غيره لم يكن مدلول الإحاطة حينئذ مشبها به، فكيف تسري منه استعارة إلى الوصف المشتق منها.
ومن هنا ينكشف لك أن الاستعارة التمثيلية لا تكون تبعية أصلاً (3). انتهى.
قوله: (والجملة اعتراضية لا محل لها)
قال أبو حيان: لأنها دخلت بين هاتين الجملتين، وهما (يجعلون أصابعهم) و (يكاد البرق) وهما من قصة واحدة (4).
قال الطيبي: فإن قلت: كيف يصح أن تقع معترضة، وهي لتأكيد معنى المعترض فيها، والكلامان اللذان اعترضت هذه فيهما في شأن ذوي الصيب، وهو الممثل به، وهذه بعض أحوال المنافقين الممثل له؟
قلت: هذا من وجيز الكلام وبليغه، وذلك أن مقتضى الظاهر أن يذكر هذا قبيل

(1/452)


(كصيب) ليكون بعضا من أحوال المشبه، فنزل هنا ليدل على ذلك، ويعطي معنى التأكيد لهاتين الجملتين، وفيه من الغرابة أنه مؤكد لحال المشبه، وهو من حال المشبه به، وفائدته شدة المناسبة بين المشبه والمشبه به، فإن المشبه به مما يهتم بشأنه، ويعتنى بحاله (1).
وقال الشيخ سعد الدين: من مذهب صاحب " الكشاف " أن لنا واوًا اعتراضية، لا عاطفة، ولا حالية، وأن الاعتراض قد يكون في آخر الكلام، كقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [سورة البقرة 92]
وذلك لأن كلا من الجمل الثلاث، أعني (يجعلون) و (يكاد) و (كلما أضاء) استئناف مستقل، منشأ الأول (ورعد) والأخيرين (وبرق) فيكون (والله محيط بالكافرين) في آخر الكلام.
والنكتة في الاعتراض التنبيه على أن الحذر من الموت لا يفيد.
وقيل: هذا الاعتراض من جملة أحوال المشبه، على أن المراد بالكافرين المنافقون، فإنهم من عذابه تعالى في الآخرة، وإهلاكه إياهم في الدنيا بحيث لا مدفع له، وَوَسَّطَ بين أحوال المشبه به تنبيها على شدة الاتصال، وفرط التناسب (2).
قوله: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) استئناف ثان)
قال أبو حيان: ويحتمل أن يكون في موضع جر صفة لـ " ذوي " المحذوفة (3).
قوله: (ويخَطِّفُ على أنه يختطف)
القراءة على هذه بكسر الطاء المشددة وبفتحها.
قوله: (وكذلك أظلم)
قال الأزهري: كل واحد من " أضاء " و " أظلم " يكون لازما ومتعديا (4).
قال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل: إن كان أظلم هنا متعديا، فالفاعل ضمير " الله " أو " البرق " أي أظلم البرق بسبب خفائه معاينة الطريق.
قوله: (منقولا من ظلم الليل)

(1/453)


في " الصحاح ": ظَلِمَ الليل بالكسر، وأظلم. حكاه الفراء (1).
قوله: (ويشهد له قراءة أظلم على البناء للمفعول)
قال القطب: فيه نظر، لجواز أن يكون (أظلم) مسندا إلى (عليهم) (2) كقوله (غير المغضوب عليهم)
وحينئذٍ فلا يدل على تعدية.
وكذا قال الحلبي: لا دليل في ذلك، لاحتمال أن أصله: وإذا أظلم الليل عليهم، فلما بني للمفعول حذف الليل، وقام " عليهم " مقامه (3).
قال الطيبي: والجواب أن " عليهم " ليس صلة لأظلم، بل هو ظرف مستقر.
والأصل وإذا أظلم الليل مَمْشىً عليهم قاموا، فبنى للمفعول، فاستتر فيه ضمير " ممشى " فحينئذٍ يطابق قوله فيما سبق (كلما نور لهم ممشى أخذوه) (4)
وقال الشريف: أجيب بأن (عليهم) مقابل (لهم) في (أضاء لهم) فإن جعلا مستقرين لم يصلح (عليهم) أن يقوم مقام الفاعل أصلا، وإن جعلا صلتين للفعلين على تضمينهما معنى النفع والضر صح أن يقام مقام فاعل المضمن، دون المضمن فيه.
وعلى تقدير صلوحه لذلك فعطف (إذا أظلم) على (كلما أضاء لهم) مع كونهما معا جواباً للسؤال عما يصنعون في تارتي خفوق البرق، وخفيته يقتضي أن يكون (أظلم) مسندا إلى ضمير البرق، كأضاء، على معنى كلما نفعهم البرق بإضاءته اغتنموه، وإذا أضرهم بإظلامه واختفائه دهشوا.
قال: وقد يجاب أيضاً بأن بناء الفعل للمفعول من المتعدي بنفسه أكثر، فالحمل عليه أولى (5).
قوله: (وقول أبي تمام
هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أَجلَيَا. . . ظَلامَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ)
قبله - وهو أول القصيدة -:

(1/454)


أَحَاوَلْتِ إِرْشَادِي فَعَقْلِي مُرْشِدِِي. . . أمِ استَمْتِ تَأْدِيبي، فَدَهْرِيْ مُؤدِّبيْ (1)
الاستيام الطلب. يقول: لا تتعرضي لإرشادي فعقلي مرشدي، ولا تجشمي تأديبي فدهري (2) مؤدبي. هما أي العقل والدهر.
قال القطب، والطيبي، والتفتازاني، والشريف: وإنما أسند الإظلام إلى العقل؛ لأن العاقل لا يطيب له عيش.
زاد التفتازاني، والشريف: وإلى الدهر؛ لأنه يعادي كل فاضل.
قال التفتازاني: ويجوز أن يكو لإرشاد العاذلة وتأديبها.
وقوله: حاليَّ، قال القطب أي الديني والدنيوي
وقال الطيبي: أي الشيب والشباب.
وقال التفتازاني والشريف: أراد بحاليه ما يتوارد عليه من المتقابلين، كالخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والعسر واليسر.
قال الشريف: والمقصود التعميم (3).
وقوله: ثمت أجليا، أي كشفا ظلاميهما.
وقوله:. . . . . . . . . . . . . . . عن وجه أمرد أشيب
من باب التجريد (4)، أي عن وجهي وأنا شاب في السن، وشيخ أشيب في تجربة الأمور وعرفانها، أو أشيب في غير أوانه لمقاساة الشدائد.
والهمزة في " أحاولت " للإنكار، أي ما كان ينبغي أن تتجشمي في الإرشاد والتأديب. والفاء تعليل لمحذوف، أي لا تحاوليني لشيء منهما؛ فإن العقل والدهر كفاية فيهما.
قوله: (فإنه وإن كان من المحدثين)
هم الشعراء الذين نشؤوا بعد الصدر الأول من الإسلام، لا يحتج

(1/455)


بكلامهم؛ لكونهم بعد فساد الألسنة، وأولهم بشار بن برد (1).
والشعراء طبقات:
الجاهليون: مثل امرئ القيس (2)، وزهير بن أبي سلمى (3)، وطرفة (4)، والنابغة الذبياني.
والمخضرمون: وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، مثل حسان، ولبيد.
والمتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق، وجرير، ويستشهد بأشعارهم في اللغة والعربية.
ثم المحدثون كالبحتري (5)، وأبي تمام، والمتنبي، ولا يستشهد بشعرهم في لغة، ولا في عربية.
نقل ثعلب عن الأصمعي قال: ختم الشعراء بإبراهيم بن هرمة (6)، وهو آخر الحجج.
وقال الأندلسي (7) في " شرح بديعية رفيقه ابن. . . . . . . . . . . . . . .

(1/456)


جابر (1) ".
علوم الأدب ستة: اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع.
قال: فالثلاثة الأول لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب نظما ونثرا؛ لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم، والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب، وغيرهم من المولدين؛ لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق فيها في ذلك بين العرب وغيرهم؛ إذ هو أمر راجع إلى العقل، ولذلك قبل من أهل هذا الفنّ الاستشهاد بكلام البحتري، وأبي تمام، وأبي الطيب، وأبي العلاء (2)، وهلمَّ جرا (3).
قوله: (لكنه كان (4) من علماء العربية).
ولذا ترجمة الكمال ابن الأنباري في كتابه المسمى " نزهة الألباء في طبقات الأدباء " فقال: هو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس الطائي، شامي الأصل، قدم بغداد وجالس بها الأدباء، وعاشر العلماء، وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهر (5) وغيره أخبارا مسندة. ورثاه الحسن بن وهب (6) بقوله:
فُجِعَ القَرِيضُ بِخَاتَمِ الشُّعَرَاءِ. . . وغَدِيْرِ رَوْضَتِهَا حَبِيبِ الطَّائِيْ
مَاتَا مَعاً فَتَجَاوَرَا فِي حُفرَةٍ. . . وَكَذَاكَ كَانَا قَبْلُ فِي الأَحْيَاءِ (7)

(1/457)


وجمع الصولي (1) أخبار أبي تمام في مجلد (2).
قوله: (فلا يبعد أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه)
أي لأنه موثوق به في الرواية، فلو لم يسمع من العرب لم يقل.
قلت: ولا يخفى ما في هذا؛ إذ لو فتح هذا الباب لاحتج بكل ما وقع في شعر المحدثين بهذا الطريق.
وكم أخذ النحاة، واللغويون على أبي تمام، والمتنبي، وأضرابهما من موضع ولَحَّنُوهُم (3).
وفي الحاشية المشار إليها: ما ذكره المصنف ممنوع؛ فإن الإنسان قد يتساهل فيما ينطق به، ولا يتساهل فيما ينقله إذا كان عدلا.
ولو صح ما قاله لم يقتصر ذلك على أبي تمام، ولجاز الاستشهاد بقول الحريري، وغيره ممن جمع بين الأدب والعدالة، وليس كذلك.
وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل في تفسيره: الظاهر لزوم أظلم، فالأصل عدم الحذف، وكون الهمزة للنقل خلاف الظاهر، وقول أبي تمام ليس كروايته؛ لجواز صدور قوله عن اجتهاد أخطأ فيه، فالحجة فيما رواه، لا فيما رآه.
وكذا قال الشيخ سعد الدين: قد يفرق بأن مبنى الرواية على الوثوق والضبط،
ومبنى القول على الدراية والإحاطة بالأوضاع والقوانين، والإتقان في الأول لا يستلزم الإتقان في الثاني، فغاية الأمر أنه جمع في " الحماسة " أشعار من يستشهد بشعرهم، وصدق في ذلك، فمن أين يجب أن يكون ما يستعمله في شعره مسموعا

(1/458)


ممن يوثق به، أو مأخوذا من استعمالاتهم.
والقول بأنه بمنزلة نقل الحديث بالمعنى ليس بسديد، بل هو بعمل الراوي أشبه، وهو
لا يوجب السماع (1).
قوله: (وإنما قال مع الإضاءة (كلما) ومع الإظلام (إذا) لأنهم حراص على المشي، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، ولا كذلك التوقف)
الفرصة النوبة والشرب، يقال: وجد فلان فرصة، أي نهزة، وجاءتك فرصتك في النهز، أي نوبتك.
وفي " الصحاح ": انتهزت الفرصة إذا اغتنمتها (2).
وقد ذهب بعضهم إلى أن التكرار مراد في الإظلام أيضاً، وأنه ترك استغناء بذكره في الجملة الأولى، أو لاستفادة التكرار منها، فإن تكرار الإضاءة لا يتحقق إلا بتكرار الإظلام.
وقال أبو حيان: لا فرق عندي بين (كلما) و (إذا) هنا من جهة المعنى إذ التكرار متى فهم من (كلما أضاء) لزم منه التكرار أيضاً في أنه (إذا أظلم عليهم قاموا) إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، متى وجد ذا فُقِدَ ذا، ولزم من تكرار وجود ذا عدم ذا.
على أن من النحاة من ذهب إلى أن " إذا " تدل على التكرار، كـ " كلما " وأنشد:
إِذا وَجَدتُّ أُوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي. . . أَقبَلْتُ نَحْوَ سِقاءِ القَوْمِ أبْتَرِدُ (3)
فمعناه معنى " كلما " (4).
والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في " كلما (5) " إنما ذلك فيها من العموم، لا أن لفظ " كلما " وضع للتكرار، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت " كل " توكيدا للعموم المستفاد من " ما " الظرفية، فإذا قلت: " كلما جئتني أكرمتك " فالمعنى: أكرمك في كل فرد من جيأتك إليَّ.

(1/459)


قوله: (ومنه قامت السوق إذا ركدت)
قال التفتازاني: أي سكنت.
قال: وقد سبق قامت السوق، بمعنى نفقت، وكلاهما مذكور في كتب اللغة (1).
قال الشريف: فهو من الأضداد (2).
قوله: (بقصيف الرعد) أي شدة صوته.
قوله: (بوميض البرق) أي لمعانه.
قوله: (ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد)
في الحاشية المشار إليها: ليس على ظاهره، بل إنما يكون ذلك مع " إِنْ " الشرطية، و " لولا " الامتناعية، وما شاكلهما، ك " إذا " ونحوها، لافتقارها إلى جواب فيغني الجواب عن المفعول المضمر.
فأمَّا إذا تجردا عن ذلك فحكمهما حكم سائر الأفعال في ظهور مفعولهما.
وكذا قال الشريف: أي تكاثر حذف المفعول في شاء وأراد ومتصرفاتهما إذا وقعت في حيز الشرط؛ لدلالة الجواب على ذلك المحذوف، مع وقوعه في محله لفظا، ولأن في ذلك نوعا من التفسير بعد الإبهام (3).
قوله: (فَلَوْ شِئْتُ أن أَبْكِيَ دَماً لَبَكَيتُهُ. . . . . . . . . . . . . . . .)
تمامه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . عَلَيكَ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ (4)
قال الطيبي: أتى بالمفعول؛ لأن بكاء الدم مستغرب، ونصب " دما " باعتبار تضمين البكاء معنى الصب (5).
قلت: والبيت من قصيدة لأبي يعقوب الخريمي (6)، يرثي بها خريم بن عامر

(1/460)


المري، وبعده - وهو آخرها -:
وإنِّي وإنْ أَظهَرْتُ صَبْرًا وَحسبَةً. . . وَصَانَعْتُ أَعدَائِيْ، عَلَيكَ لَمُوْجَعُ
قوله: (و " لو " من حروف الشرط، وظاهرها الدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه)
قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن " لو " هاهنا لمجرد الشرط، بمنزلة " إِنْ " لا بمعناه الأصلي من انتفاء الشيء لانتفاء غيره (1).
وقال الشريف: كلمة " لو " هنا مستعملة لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على أن انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر، فهي بمنزلة " إن "
وقد يقال: إنها باقية على أصلها وقصد بها التنبيه على أن مشقتهم بسبب الرعد والبرق وصلت غايتها، وقاربت إزالة الحواس بحيث لو تعلقت به المشيئة لزالت بلا حاجة إلى زيادة في قصيف الرعد وضوء البرق (2).
قوله: (وقرئ لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء)
قال الطيبي: يعني دلت الهمزة على التعدية، والباء كعضادة للتعدية وتأكيدها، كما يعضد الباب بعضادتيه (3).
وفي الحاشية المشار إليها: القياس أن لا يجمع بين أداتي تعدية، بل إما الهمزة، أو الباء، وقد جاء الجمع بينهما قليلا، ومنه هذه القراءة.
قوله: (وفائدة هذه الشرطية إبداء المانع) إلى آخره.
قال الطيبي: وفائدته الراجعة إلى الممثل له هي أنه تعالى يمهل المنافقين فيما هم فيه؛ ليتمادوا في الغي والفساد؛ ليكون عذابهم أشد (4).
قوله: (والشيء يختص بالموجود)
قال في " الانتصاف ": فإن قيل: إذا كان المعدوم لا يسمى شيئا، وإذا وجد صار شيئا لا تتعلق به القدرة؛ إذ القدرة إنما تتعلق بالشيء أول وجوده، فكيف يكون قادرا على كل شيء؟

(1/461)


فجوابه أنه من باب " قتل قتيلا " أي تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، كأنه قال: قادر على كل ما يصير شيئا (1).
قال في " الإنصاف ": وفيه نظر، فإن القدرة تتعلق به في أول زمن وجوده، وهو في أول زمن وجوده شيء، بلا خلاف بين المسلمين؛ إذ لو لم يكن شيئا في أول زمن وجوده لم يكن شيئا في ثاني الأحوال (2).
قوله: (أطلق بمعنى شاء تارة)
قال الطيبي: أي مريد.
(وبمعنى مشيء أخرى) هو بفتح الميم، اسم مفعول كمبيع.
قال ابن عقيل: فالأول بمعنى الفاعل، والثاني بمعنى المفعول.
قوله: (وقول امرئ القيس:
كَأنَّ قُلُوْبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيابِساً. . . لَدَى وَكرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِيْ)
قال الشيخ سعد الدين: يصف العقاب، وهو مخصوص بأنه لا يأكل قلب الطير.
و " رطبا " و " يابسا " حال، أي رطبا بعضها، ويابسا بعضها، وكذا " لدى وكرها "
وقد شبه الرطب بالعناب، واليابس بالحشف البالي، أي أراد التمر اليابس (4).
وقال ابن قتيبة (5) في " أبيات المعاني ": قلوب الطير أطيب ما فيها، فهي تأتي به تزق به - فراخها (6). وأول القصيدة:
أَلا عِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالِيْ. . . وَهَلْ يَعِمْنَ مَنْ كَانَ فِي العُصُرِ الخَالِيْ
وَهَلْ يَعِمْنَ إِلا سَعِيدٌ مُخَلَّدُ. . . قَلِيْلُ الهُمُوْمِ مَا يَبيْتُ بِأوْجَالِيْ
كَأنِّيْ بِفَتْخَاءِ الجَنَاحَينِ لِقْوَةٍ. . . عَلىَ عَجَلٍ مِنْهَا أطأْطِئُ شِمْلالِ
تَخَطَّفُ خِزَّانَ الأَنيعمِ بِالضُّحَى. . . وَقَدْ حَجَرَتْ منها ثَعَالِبُ أَوْرالِ

(1/462)


كأن قلوب الطير رطبا ويابسا (1). . . . . . . . . . . . البيت
وفتخاء الجناحين لينتها. واللقوة بكسر اللام العقاب.
وقال المبرد في " الكامل ": هذا البيت - بإجماع الرواة - أحسن ما جاء في تشبيه شيء في حالين مختلفين بشيئين مختلفين (2).
وقال ابن عساكر في " تاريخه ": يقال: إن لبيدا قدم المدينة فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أشعر الناس؟ فقال: " يا حسان أعلمه " فقال حسان: الذي يقول:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا. . . لدى وكرها العناب والحشف البالي
فقال: هذا امرؤ القيس.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لو أدركته لنفعته " ثم قال: " معه لواء الشعراء يوم القيامة حتى يتدهدى بهم في النار (3) "
وفي " أمالي القالي ": عن روح بن زنباع (4) قال: أشعر الشعراء الذي يقول:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا. . . لدى وكرها العناب والحشف البالي (5)
والعناب بضم العين بوزن رمان. ذكره في القاموس (6).
قوله: (خفقة) من خفق البرق، أي لمع.
قوله: (انتهزوها فرصة)

(1/463)


قال الشريف: الانتهاز يتعدى إلى مفعول واحد، فقوله: " فرصة " حال (1).
قال الشيخ سعد الدين: والأحسن أن يكون مفعولا ثانيا على تضمين معنى الاتخاذ، أي اتخذوا الخفقة فرصة (2).

(1/464)


تابع سورة البقرة
الآية (21) من سورة البقرة
قوله: (فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد) إلى آخره.
أما العموم في الحكم: فمجمع عليه. وهل هو بالصيغة؟ أو بدليل آخر من قياس أو غيره؟. خلاف محكي في الأصول. والأصح: الثاني وهو: لفظي.
قال الإمام: والأقرب: إنه لا يتناول من سيوجد لأن (يا أيها

(2/73)


الناس) خطاب مشافهة، وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز.
وتناوله: له: لدليل منفصل. وهو: ما تواتر من دينه عليه السلام أن أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة.؟.
قوله: (وما روى عن علقمة، والحسن: أن كل شيء نزل فيه، (يا أيها الناس): فمكي. و (يا أيها الذين آمنوا): فمدني)، إلى آخره.
فيه: أمور. أحدها: قول علقمة، أخرجه أبو عبيد.
في فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً عن ميمون ابن مهران. ولم أقف على قول الحسن مسنداً. الثاني: قوله: (إن صح رفعه)، صوابه: إن صح، بدون (رفعه) لأن المرفوع: قول النبي (أو قول الصحابي فيما يتعلق بالنزول. وعلقمة والحسن ليسا من الصحابة.

(2/74)


(فقد يقال: إن قولهما في ذلك: في حكم المرفوع المرسل).
الثالث: هذا توقف من المصنف في صحته، وكذا قال الطيبي: (هذا مذكور في معالم التنزيل والبسيط والكواشي، ولم أجده في كتب الحديث) وقد تقدم تخريجه. وصح عن ابن مسعود أيضاً.
أخرجه البزار في مسنده، والحاكم في المستدرك

(2/75)


والبيهقي في دلائل النبوة.
الرابع: لم يستدل أحد بهذا الأثر على اختصاص الآية بالكفار حتى يحتاج المصنف إلى رفعه، وغاية ما استدل به، على أن الآية مكية، أي نزلت بمكة مع قصد العموم للمؤمنين والكفار.
وأن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: مدني أي نزل بالمدينة.
الخامس، في الحاشية المشار إليها: هذا وإن كان مشهوراً ومنقولاً عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: فهو مشكل، لأن سورة البقرة مدنية. وقد قال هنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}.
وكذلك سورة النساء: مدنية، وأولها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وفي أثنائها: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قد جاء في سورة الحج وهي مكية بالاتفاق. وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا

(2/76)


وَاسْجُدُوا} فإن أرادوا به أن الأغلب كذا فهو صحيح لا سيما في نداء الذين آمنوا.
وإن أرادوا به الحصر: فهو منقوض بما ذكرنا. انتهى.
قلت: وقد أجيب عنه بأوجه ذكرتها في أول الاتقان.
قوله: (وقرئ من قبلكم على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته)، توكيداً، قال أبو حيان: هذا الذي قاله: مذهب لبعضهم، إنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكداً لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة.
وهذا باطل. لأن القياس: إذا أكد الموصول (بمثله) أن تكرره مع صلته.
لأنها من كماله، وإذا كانوا إذا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمزلة جزء منه. وخرج أصحابنا هذه القراءة أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك

(2/77)


المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول، وهو اللذين.
التقدير: والذين هم من قبلكم. وذكر السفاقسي مثل ما قاله أبو حيان. وحكى الحلبي هذا التخريج الذي قاله أبو حيان، ثم قال: ولا يخفى ما فيه من التعسف.
وقال الشيخ سعد الدين: لم يعهد التأكيد اللفظي إلا بإعادة اللفظ الأول، ومع ذلك فقد صرحوا بامتناعه قبل الصلة وإن أريد التأكيد من جهة المعنى: عاد المحذور، واحتيج إلى بيان وجه اجتماع الموصولين. ألا ترى إنهم لم يذهبوا في مثل قول الشاعر: فصيروا مثل كعصف مأكول.
إلى أن الكاف تأكيد؟ بل مزيدة - فالأولى أن يقال ههنا: إن كلمة (من) مزيدة، على ما هو مذهب الكسائي، أو موصوفة أو موصولة،

(2/78)


واقعة موقع خبر مبتدأ محذوف.
والجملة: صلة الذين، أي الذين هم من قبلكم.
وذكر الشريف مثله، وزاد في تقدير كونها موصوفة. إنها موصولة بالظرف، وخبر لمبتدأ محذوف، أي الذين هم أشخاص كائنون قبلكم، ثم قالا: ونقل عن صاحب الكشاف هنا سؤال، وهو: أن الموصول بدون الصلة غير مفيد، فكيف يؤكد بمن؟ وأجاب بأنه يفيد مبهماً، كاسم الإشارة، ولهذا صح عود الضمير إليه في مثل الذي قام، مع أن الضمير إنما يرجع إلى المفيد. فقيل عليه: إن التأكيد اللفظي لما لم يستبعد في الحرف ففي الموصول أولى. وأجيب بأن وجه الاستبعاد هو أن الموصول لا يتم جزءا إلا بصلة وعائد، فهو وحده بمنزلة جزء من الاسم، كالزاي من زيد.
ولا كذلك الحرف وإن توقف على ذكر شيء فلا يصير معه بمنزلة

(2/79)


كلمة واحدة.
قال الشريف: وأنت خبير بأن جعل الموصولات في الإفادة الاستقلالية دون الحرف خروج عن الإنصاف.
قوله: (كما أقحم جرير في قوله: يأتَيَّمُ تَيْمَ عدي لا أبالكم. تَيْماً الثاني بين الأول وما أضيف إليه).
قال الشيخ سعد الدين والشريف: الإقحام إدخال شيء على شيء بشدة وعنف، يعني أن تَيْماً الأول مضاف إلى عدى المذكور، وتَيْمَ الثاني: مقحم بين المضاف والمضاف إليه، كما أقحم اللام في لا أبا لك بين المضاف والمضاف إليه تأكيداً للام الإضافة المقدرة فإن قلت: كيف جاز الفصل بغير الظرف؟ وما وجه حذف التنوين من تيم الثاني؟ قلت: لما تكرر المضاف بلفظه وحركته صار كان الثاني هو الأول من غير فصل، كما في قولك: إن أن زيداً قائم مع امتناع الفصل بين أن واسمها بغير الظرف والتأكيد اللفظي في الأغلب حكمه حكم الأول، وحركته حركته، إعرابية كانت أو بنائية. فكما حذف التنوين من الأول حذف من الثاني، لأنه كأنه باشره حرف النداء. انتهى.
وما ذكره المصنف من أن الثاني مقحم وأن الأول مضاف إلى ما

(2/80)


بعد الثاني هو مذهب سيبويه. وذهب المبرد إلى أن الثاني مضاف لما يليه وأن الأول حذف منه المضاف إليه، لدلالة الثاني عليه، والمراد ياتيم عدى. والبيت: من قصيدة هجا بها جرير عمر بن بـ82 لجأ التيمي وتمامه:
لا يوقعنكم في سوءة عمر وأول القصيدة:
هاج الهوى وضمير الحاجة الدكر ... واستعجم اليوم من سلومة الخبر
قوله: (أو مبتدأ خبره: فلا تجعلوا). قال أبو حيان: هذا ضعيف لوجهين، أحدهما أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا فلا يناسب دخول الفاء في الخبر.
الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه. فالذي، مبتدأ وفلا تجعلوا لله أندادا، جملة خبرية، والرابط لفظ (الله) من (لله)، كأنه قيل: فلا تجعلوا له أنداداً، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه، ولا يعرف إجازة ذلك إل عن أبي الحسن،

(2/81)


فإنه أجاز أن يقال: زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو كنية لزيد. ونص سيبويه على منع ذلك.
قوله: بمعنى صار وطفق فلا يتعدى. كقوله:
فقد جعلت قلوص بني سهيل ... من الأكوار مرتعها قريب
قال التبريزي في شرح الحماسة: جعلت يمعنى طفقت، ولذلك لا يتعدى (ومرتعها قريب): في موضع الحال أي: أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم لما بها من الإعياء، وقال غيره: ليست جعلت هنا بمعنى المقاربة وإنما هي بمعنى صيرت، وفيها ضمير يعود على المذكورة.
وقلوص: بالنصب، مفعول أول، ومرتعها قريب: جملة في موضع المفعول الثاني - وقيل: فيها ضمير الشأن. وقيل: هو، على إلغاء جعلت مع تقدمها، لأن الرواية الشهيرة: برفع قلوص.
قوله: (ويتعدى إلى مفعولين، كقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} يجوز كونها هنا متعدية إلى مفعول واحد، وفراشاً: حال.
قوله: (بيتا كان) هو من الطين واللبن والشعر وغير ذلك.
قوله: (أوقبة)، هي مثل الخيمة.
قوله: (أو خباء)، هو البيت من وبر أو صوف كما أن

(2/82)


الطراف بيت من أدم، والخيمة بيت من شعر.
قوله: (مدرجاً) قال الشيخ سعد الدين: حال من فاعل إنشائها.
قوله: (فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض، على ما دلت عليه الظواهر) أي: ظواهر الآيات والآثار، كقوله تعالى:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ}، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} وأخرج أبو الشيخ ابن حبان في العظمة.
عن الحسن، أنه سنل: المطر من السماء، أم من السحاب؟
قال: من السماء إنما السحاب علم ينزل عليه الماء من السماء.

(2/83)


وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن خالد بن معدان، قال: المطر ما يخرج من تحت العرش، فينزل من سماء إلى سماء، حتى يجتمع في السماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له الإبرام فتجيء السحاب السود (فتدخله) فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن عكرمة قال: ينزل الماء من السماء السابعة فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير، وأخرج ابن أبي حاتم، عن خالد بن يزيد، قال المطر: منه، من السحاب، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق.
فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات، وأما النبات: فمما كان من ماء السماء.

(2/84)


قوله: و (من) الثانية للتبعيض قال الشيخ سعد الدين: أما أولاً: فلموافقة الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} إذ لا وجه للبيان، لأنه لا ذكر لشيء مبهم يحتاج إلى البيان، وكقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} فإن التنكير لا سيما في جمع القلة يفيد البعضية على ما هو الظاهر. وأما ثانيا: فلدلالة السياق أعني ماء ورزقا فإن المخرج ببعض الماء لأجل بعض الرزق ولا يكون إلا لبعض الثمرات.
وأما ثالثا: فلمطابقة المعنى في الواقع، فإن المنزل من السماء بعض الماء لأكله، والمخرج بماء السماء بعض الثمرات، وحقيقته شيئاً من الثمرات؛ لأن من حرف فلا اسم وكان رزقاً مستعملاً.
في معناه المصدري واقعاً موقع المفعول له، ولكن مفعول رزقا، أي أخرج بعض الثمرات لأجل أن يرزقكم.
قوله: (أو للتبيين)، قال الحلبي: فيه نظر، إذ لم يتقدم ما يبين هذا وكأنه يعني أنه بيان لرزقا من حيث المعنى.
وقال التفتازاني، والشريف: إن كانت مبينة، فالأمر المبهم المحتاج للبيان، هو رزقا على أنه بمعنى المرزوق مفعولا به لأخرج،

(2/85)


ولكم صفة له، ومن الثمرات بيان له تقدم عليه فصار حالا منه، أي: أخرج مرزوقا لكم هو الثمرات.
قوله: (كقوله: أنفقت من الدراهم ألفا)، في الحاشية المشار إليها ليس مراده أن يكون عنده أكثر من ألف وأنفق الألف منه لأن ذلك معنى التبعيض، بل المراد أن نفقته من هذا الجنس المعروف المسمى بالدراهم مقدارها ألف.
قوله: (وإنما ساغ الثمرات، والموضع موضع الكثرة، لأنه أراد بالثمرات جمعة الثمرة) إلى آخره.
قال القطب، والطيبي: يريد ن مفرد الثمرات الثمرة التي يراد بها الثمار، لأن الثمار إذا تلاحقت واجتمعت يطلق عليها الثمرة، كما يقال: كلمة الحويدرة: لقصيدة لأن القصيدة كلها مجتمعة متلاحق بعضها ببعض فصارت كأنها كلمة واحدة، فالكثرة المستفادة من الثمرات أكثر من الكثرة المستفادة من الثمار. وقال الشيخ سعد الدين: حاصل الجواب أن الثمرات جمع الثمرة التي في معنى الكثرة، لا الواحدة: وهي واقعة موقع جمع الكثرة، كما في قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} لأن كم للتكثير، كما يقع جمع الكثرة موقع جمع القلة مثل ثلاثة قروء، فإن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة.

(2/86)


هذا والحق أن جمع التصحيح إنما يكون للقلة إذا لم يعرف باللام. وقال أبو حيان: لا حاجة تدعو إلى ما ذكره الزمخشري، لأن جمع السلامة المحلي بأل التي للعموم يقع للكثرة فلا فرق إذا في الثمرات والثمار. وقال ابن عقيل: هذا الذي قاله الزمخشري، إن قصد به أن الثمرات للقلة ففيه نظر، لأن اللام تفيد الاستغراق، ولا فرق حينئذ بين جمع التصحيح وغيره، وإن قصد أنه عدل إلى التعبير بجمع قلة محلي بأل عن التعبير بذلك: ففيه نظر أيضاً لاستواء الجمعين في استغراق الأفراد من جهة أل.
قوله: (ولكم صفة رزقا): إن أريد به المرزوق، ومفعوله، إن أريد به المصدر.
قال أبو حيان: إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف، في لكن، مفعولا به واللام منوية لتعدي المصدر إليه، نحو: ضربت إبني تأديباً له أي: تأديبه، وإن أريد به المرزوق كن في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي: كأننا لكم، وقال ابن عقيل: لا يمتنع عكس ذلك.
قوله: (أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فأطلع)، قال أبو حيان: هذا لا يجوز على مذهب البصريين بل على مذهب الكوفيين. لأنهم أجروا نعل مجرى هل في نصب الفعل جوابا له.
قوله: (والمعنى أن تتقو لا تجعلوا لله أنداداً) قال الطيبي: هذا الوجه ذكره القاضي على غير ما في الكشاف لأنه لم يجعل لعل على تأويل الشرط، بل جعلها يمعنى كي على تشبيه الحالة بالحالة، في قوله: {

(2/87)


لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}.
قوله: (أو بالذي جعل، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبراً)، عبارة أبي حيان: ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي، إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة فلا تجعلوا له أنداداً، قال: والظاهر في هذا القول هو ما ذكرنا أولا من تعلقه بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} قوله: (الند: المثل) الراغب: ند الشيء مشاركه في الجوهر، وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، وكل ند: مثل: ولا ينعكس قوله: (المناوئ): العادي. قاله: (قال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا .... وا تيم لذي حسب نديد)
قال الطيبي: ضمن تجعلون معنى تضمون، أي أتضمون إلي تيما وتجعلونه لي ندا؟ ويجوز أن يكون تيما مفعولا لفعل محذوف، أي أتضمون وتنسبون إلي تيماً تجعلونه ندا لي؟ وأن يكون إلى مع متعلقه المحذوف حالاً من تدا.
وقال الشيخ سعد الدين: جعل هنا من دواخل المبتدأ والخبر،

(2/88)


والمعنى: أتجعلون تيما ندا إلى وهو لا يصلح ندا لمن هو دونه. وقوله: إلي: حال من ندا بمعنى مضموماً إلى ومنتسباً، والنديد الند. وقال الشريف: الجعل هنا بمعنى التصيير القولي والاعتقادي، من قبيل {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ومعنى إلي: منسوباً إلي نداً فهو حال من (تيما)، وقيل: من (ندا) وفيه: أن ندا في حكم خبر المبتدأ فلا يكون ذا حال.
والنديم المثل - أي لا يصلح مثلا لذي حسب فكيف بمثلي المشهور في الأحساب؟
قوله: (شابهت حالهم حال من يعتقد) إلى آخره. وقال الطيبي. حاصله، أنها استعارة مصرحة تحقيقية أصلية واقعة على سبيل التهكم.
وقال التفتاواني: هي استعارة تمثيلية تهكمية، وقال الشريف: هي، استعارة تمثيلية وليست تهكمية اصطلاحية، إذ ليس فيها استعارة أحد الضدين للآخر، بل أحد المتشابهين لصاحبه، لكن المقصود منها

(2/89)


التهكم بهم بتنزيلهم منزلة الأنداد حتى أشبهت حالهم حاله.
قوله: (بأن جعلوا أنداداً): قال الشريف: متعلق بشنع، أي شنع عليهم واستفظع شأنهم بذكر أنهم جعلوا.
قوله: (قال موحد الجاهلية، زيد بن عمرو بن نفيل: أربا واحدا) إلى آخره. أخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق هشام بن عروة، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -، قالت: قال زيد بن عمرو بن نفيل:
أرباً واحداً أم ألف ربّ .... أدبن إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً .... كذلك يفعل الرجل البصير
ألم تعلم بأن الله أفنى، رجالاً كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين ببر قوم، فيربو منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوماً، كما يتروح الغصن النضير.
قال الشريف: أدين، أي: أطيع. من دان له: إنقاد، وقل الطيبي: إذا تقسمت الأمور أي: تفرقت الأحوال.
قوله (أي: وحالكم أنكم من أهل العلم) إلى آخره.

(2/90)


قال الطيبي: يريد أن موقع (وأنتم تعلمون) موقع الحال المقررة لجهة الإشكال المتضمنة بمعنى التعجب، أي: لا تجعلوا لله أندادا والحال أنكم من صحة التمييز والمعرفة بمنزلة يعني جعلكم لله أنداداً مع هذا الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب.
قوله: (من المقلة والمظلة) أي: الأرض والسماء.
قوله: (فإن لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حد مطلعا)، هذا لفظ حديث أخرجه الفريابي في تفسيره عن الحسن مرفوعاً مرسلاً، وفيه: ولكل حرف حد ولكل حد مطلع، وله شواهد مرفوعة وموقوفة عن ابن مسعود وغيره، وقد اختلف في معناه على أقوال أوضحتها في أواخر الإتفان، والذي جنح إليه المصنف في معنى الظهر والبطن أن الظهر ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، والبطن ما تضمنه من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق. وقال أبو عبيد: الأشبه بالصواب: أن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الأخبار بهلاك الأولين، وباطنها وعظ

(2/91)


الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم فيحل بهم ما حل بهم، وقال بعضهم: الظهر التلاوة والبطن الفهم والحد أحكام الحلال والحرام. والمطلع الإشراف على الوعد، والوعيد، ولكل حرف حد أي منتهى فيما أراد الله من معناه، وقيل: لكل حكم مقدار من الثواب/ والعقاب، ولكل حد مطلع، أي: لكل غامض من المعاني مطلع يتوصل به إلى معرفته، ويوقف على المراد به.
وقيل: كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة.
قوله: بدت، بالذال المعجمة (المشددة: أي سيئت).
قوله: (منطيق) هو البليغ، كما في الصحاح.
قوله: (وتهالكهم)، أي: تساقطهم والمعارة: بالراء المشددة.
قوله: (وإنما قال مما نزلنا لأن نزوله نجما فنجما)، إلى آخره. قال الحلبي قال بعضهم: هذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا: هو الذي يعبر عنه بالتكثير أي: يفعل مرة بعد مرة فيدل على ذلك بالتضعيف قال: وذهب على أن شروطه غالباً أن يكون في فعل متعد قبل التضعيف، نحو خرجب زيداً، وقد قيل في للازم نحو موت المال، وأيضاً فالتضعيف الدال على الكثرة لا يجعل القاصر متعدياً كما تقدم في موت المال. ونزل: كان قاصراً فصار بالتضعيف متعديا فدل على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضا فكان يحتاج قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً

(2/92)


وَاحِدَةً} إلى تأويل. وأيضاً فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثر نحو قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ}، {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} إلا بتأويل ضعيف جداً إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول آية ولا على أنه على تكرير نزول ملك رسول، على تقدير كون ملائكة في الأرض.
قوله: (والسورة الطائفة من القرءان المترجمة التي أقلها ثلاث آيات)، قال الشيخ سعد الدين، يريد تفسير سورة القرءان، وإلا فالسورة أعم بدليل ما سبق من أن من سور الإنجيل سورة الأمثال وما سيجيء أن سائر كتب الله سورة. ومعنى المترجمة: المسماة باسم خاص، كسورة الفاتحة وسورة البقرة وبه يقع الاحتراز عن عدة آيات من سورة، كاعشر والحزب، ولا يرد مثل آية الكرسي لأنه مجرد إضافة لا تسمية وتلقيب. قال: وقوله: التي أقلها ثلاث آيات تنبيه على أن أقل ما تتألف منه السورة ثلاث آيات لا قيد في التعريف، إذ لا يصدق على شيء من السورة إنها طائفة مترجمة أقلها ثلاث آيات، وكذا قال الشريف، أراد بقوله: أقلها ثلاث آيات، إن تلك الطائفة المسماة، بالسورة تتفاوت قلة وكثرة في أفرادها.
وغاية قلتها: ثلاث آيات، وبهذا ينكشف المقصود زيادة إنكشاف، فلا يرد أن هذا القيد يوجب أن لا يصدق التفسير على شيء من السور قوله: (على حيالها) أي: انفرادها. قوله:

(2/93)


ولرهط حراب وقد سوره ... في المجد ليس غرابها بمطار
هو للنابغة وبعده.
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... وفرا غداة الروع والإنفار
حراب بالحاء المهملة والراء المشددة، و (قد) بفتح القاف وتشديد الذال المعجمة، كذا ضبطه الطيبي، والشيخ أكمل الدين، هو ابن مالك الأسدي كان جوادا لا يبقي شيئاً. وقوله: ليس غرابها بمطار قال الطيبي كناية عن كثرة الرهطين ودوام المجدلهما، فإن النبات والشجر إذا كثر في موضع، قيل: لا يطير غرابه لأن الغراب، إذا وقع في الموضع الخصيب أصاب مالا يحتاج معه إلى أن ينتقل منه إلى مكان آخر. قال: والوجه (أن يراد) أنه لا يرام هذه المرتبة لكونها منيعة، وقال الشيخ سعد الدين: (حراب وقد) بالراء والدال المهملتين. وقد بالدال المهملة. وقد يظن بالمعجمة، وليس غرابها بمطار: أي هي مجد كامل ثابت لا يزول. يقال: أرض لا يطير غرابها أي مخصبة كثيرة الثمار، وقيل: كناية عن رفعة الشأن أي لا يصل إليها الغراب حتى يطار، أي لا غراب هناك ولا إطارة أو لا تصل الإشارة إلى غرابها حتى يطار مع أنه يطير بأدنى ريبة قال الشيخ أكمل الدين تخصيص الغراب لأنه ينفر بأدنى ريبة أو لأن أصل المثل فيه.

(2/94)


قوله: (وإن جعلت مبدلة من الهمزة)، قال الشريف: فيه ضعف من حيث اللفظ إذ لم يستعمل في المشهورة ولا في الشاذة المنقولة في كتاب مشهور. ومن حيث المعنى كأنها اسم ينبئ عن قلة وحقارة. وأيضاً استعماله فيما فضل بعد ذهاب الأكثر، ولا ذهاب ههنا.
قوله: (متى حذقها): في الصحاح: حذق الصبي القرآن إذا مهر فيه. وفي الأساس حذق القرآن أتم قراءته وقطعها، من حذق السكين الشيء قطعه.
قوله: (والضمير لما أنزلنا) هذا هو الصحيح، كما قال ابن جرير، وهو: قول قتادة ومجاهد لقوله في آية أخرى: {فَأْتُوا

(2/95)


بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} وليس السورة مثل النبي. قال الإمام فخر الدين، في تفسيره: عود الضمير إلى ما نزلنا مروي عن الصحابة. ويدل على الترجيح وجوه، أحدها: أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في سورة يونس {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}.
وثانياً: أن البحث إنما وقع في المنزل، لأنه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى: وإن ارتبتم في أن القرآن. منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله، وقضية الترتيب: لو كان الضمير مردودا إلى الرسول. أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمداً منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله.
وثالثها: أن الضمير إذا كان عائداً إلى القرآن يقتضي كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا. وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين.
أما لو كان عائداً إلى محمد فذلك لا يقتضي إلا كون أحادهم من الأميين عاجزين عنه، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي وأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد، لأن الجماعة لا تمثل الواحد، والقارئ لا يكون مثل الأمي، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى.
رابعها: إنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة، وأما لو صرفناه إلى محمد فكونه معجزاً إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم، وهذا وإن كان معجزاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقدير نوع من النقصان في حق محمد كان الأول أولى.

(2/96)


خامسها: أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد. لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن، ولو صرفنا إلى القرآن لدل على أن صدور مثله من الأمي وغير الأمي، ممتنع، فكان هذا أولى.
قوله: (أوصلة فأتوا والضمير للعد)، قال القطب، والطيبي: لا يجوز على هذا عوده لما نزلنا، لأنه يستدعي كون من للبيان، والبيان يستدعي تقديم مبهم، ولا مبهم، فتعين أن تكون للابتداء أي: أنشئوا واستخرجوا من مثل العبد بسورة لأن مدار الاستخراج هو العبد لا غير، فلذلك تعين على هذا الوجه عود الضمير إلى العبد. قال القطب: وبهذا يضمحل وهم من لم يفرق بين فأتور بسورة من مثل ما نزلنا وبين فأتوا بسورة.
وقال الطيبي: قد تصدى للسؤال بعض فضلاء العصر، وقال: قد استبهم قول صاحب الكشاف حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لما نزلنا تصريحاً، وحظره في الثاني تلويحاً، فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة؟ وأجيب بأن من إذا تعلق بالفعل يكون إما ظرفاً لغوا ومن للابتداء، أو مفعولاً به، ومن للتبعيض، إذ لا يستقيم أن يكون بياناً لا قتضائه أن يكون مستقراً والمقدر خلافه، وعلى تقدير أن يكون تبعيضاً، فمعناه: فأتوا ببعض مثل المنزل بسورة وهو ظاهر البطلان، وعلى أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدي الإتيان بالسورة فقط، بل يشترط أن يكون بعضا من كلام مثل القرآن وهذا على تقدير استقامته بمعزل عن المقصود واقتضاء المقام، لأن المقام يقتضي التحدي على سبيل المبالغة وأن القرآن بلغ في الاعجاز بحيث لا يوجد لأقله نظير فكيف للكل؟ فالتحدي إذا بالسورة الموصوفة بكونها من مثله في الإعجاز. وهذا إنما

(2/97)


يتأتى إذا جعل الضمير لما نزلنا، ومن مثله صفة لسورة، ومن بيانية فلا يكون المأتي به مشروطاً بذلك الشرط، لأن البيان والمبين كشيء واحد. انتهى.
والفاضل الذي أشار إليه: هو، العلامة العضد، ونص سؤاله، قوله: يا أدلاء الهدى، ومصابيح الدجا حياكم الله وبياكم. وألهمنا الحق بتحقيقه وإياكم ها أنا من نوركم مقتبس وبضوء ناركم (للهدى) ملتبس ممتحن بالقصور لا ممتحن ذو غرور، ينشد بأنطق لسان وأرق جنان:
ألا قل لسكان وادي الحما ... هنيئا لكم في جنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش وأنتم ورود
قد استبهم قول صاحب الكشاف - أفيضت عليه سجال الألطاف -:
من مثله، متعلق بسورة أي بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا، أو لعبدنا، ويجوز أن يتعلق بقوله: فأتوا، والضمير للعبد. حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لما نزلنا تصريحاً وحظره في الوجه الثاني تلويحاً، فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة، وهل ثم حكمة خفية، أو نكتة معنوية؟ أو هو تحكم بحت؟، بل هذا مستبعد من مثله، فإن رأيتم كشف الريبة وإماطة الشبهة

(2/98)


والإنعام بالجواب أثبتم جزيل الاجر والثواب، وقد دار هذا السؤال بين العضد، والفخر الجار بردي، فكتب الجار بردي على هذا السؤال كتابة تتضمن الغض منه فكتب العضد عليها بما هو أبلغ في الغض من الجار بردي وتصدى إبراهيم. ولد الجار بردي لنصرة والده في رسالة سماها: السيف الصارم في قطع العضد الظالم. وقد سقت الجميع في الجزء الخامس من تذكرتنا المسماة بالفلك المشحون ونذكر هنا أجوبة المحققين من هذا السؤال.
قال العلامة، أمين الدين التبريزي: إن قيل: ما وجه تخصيص الضمير بالعبد على تقدير تعلق من مثله بفأتوا مع تجويز كونه له وللمنزل على تقدير تعلقه بالسورة؟ قلنا: الجواب يقتضي تقديم مقدمتين: الأول: أن (مثله) يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون المراد من مثل الكلام المنزل، والعبد المذكور

(2/99)


نفس ذلك العبد، فيكون معنى المثل ملغي، كما في قول الشاعر:
حاشا لمثلك أن تكون بخيلة ... ولمثل وجهك أن يكون عبوساً
وحينئذ يجب تقدير المثل في السورة ليستقيم المعنى وإلا لزم أن يكون التحدي بإتيان سورة كائنة، من القرآن أو صادرة من النبي وهو محال.
الثاني: أن يكون معنى المثل بحاله ويكون المراد منه كلاماً آخر مثل القرآن أو شخصا آخر مثل النبي وهو ظاهر.
الثانية: أن الأقسام على ما ذكره صاحب الكشاف أربعة، لأن من مثله إما متعلق بسورة أو بالإتيان.
وعلى التقديرين فالضمير إما للعبد أو للمنزل فهذه أربعة وإذا تقرر ذلك: فنقول: القسم الأول صحيح على الوجهين لأن التقدير حينئذ فأتوا بسورة صادرة من النبي أو بسورة صادرة من مثل النبي وهما: مستقيمان، والثاني صحيح على الأول دون الثاني، وإلا لم يكن التحدي بإتيان السورة فقط، بل يشترط أن يكون بعضاً من كلام مثل القرآن، وهو باطل، والثالث صحيح على الثاني دون الأول، لأن تقديره حينئذ فأتوا من مثل هذا العبد بمثل سورة، وهو لغو، فيكون القسم الرابع فاسداً على الوجهين انتهى.
وقال الإمام قوام الدين الشيرازي: ولقائل أن يقول: إذا جعل

(2/100)


مثل القرآن يحسب الفرض والتقدير فالمثل مفروض حينئذ، ولا يبعد أن يقال: فأتوا من مثل المفروض بسورة، كما قيل: فأتوا بسورة كائنة مثل ما نزلنا، على ان من بيانية، أو هي بعض ما نزلنا على أن من تبعيضية، ومن مثله متعلق بسورة هذا وكما أن مثل القرآن لا يوجد، مثل بعضه لا يوجد، والأمر هنا للتعجيز، فلا يقتضي الإتيان بالمأمور.
وقال كما الدين عبد الرزاق لما قال جار الله العلامة: من مثله، متعلق بسورة صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله والضمير: لما نزلنا، أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله: فأتوا والضمير للعبد: أو هم قوله إن الضمير، إذا كان لما نزلنا، كان الكلام مشعراً بثبوت مثل له حتى يأتوا بسورة من جملة ذلك المثل.
فاحترز عن ذلك بما معناه: أن من بيانية، لا تبعيضية، والمراد بمثل ما هو على صفته من جنس النظم، أي بسورة من جنس كلام هو على صفته من غير قصد إلى مثل له كما ذكر يعني بسورة هي كلام موصوف بصفته.
كقولك: عندي ما من الماشية، أي: مال هو الماشية فعلى هذا، إذا علق من مثله بفأتوا كان المعنى على تقدير عود الضمير إلى المنزل. فأتوا من جنس كلام موصوف بصفته بسورة، فيكون من مثله إما حالا من السورة مبينة لهيآتها بأنها مثل هذا المنزل، والحال من المعمول يفيد عامله.
وإما صلة للإتيان، وكيف كان يقيد الفعل فيكون الإتيان المأمور إتيانا مقيداً بأنه كائن من كلام مثله بسورة، فإن كان المراد به السورة كما قررنا: كان المعنى فأتوا إتيانا مقيدا بكونه من سورة مثله بسورة، وذلك فاسد لا شك فيه، وإن كان المراد فأتوا من جملة كلام يماثله بسورة واحدة، فإن كان ذلك المثل موجودا لزم المحذور وهو: ثبوت المثل وكذا إن

(2/101)


كان المراد إتيانا مستنداً من كلام مثله بسورة وإن لم يكن موجودا كان الفعل المقيد بإتيانه منه ممتنعاً، فإن الممكن المقيد وجوده بوجود المعدوم ممتنع الوجود، وذلك ينافي التحدي، لأن التحدي إنما يكون إذا كان أصل الفعل ممكنا مقدورا مطلقاً للنوع، لكنه اختص بشيء من زيادة أو تعلق بمفعول لا يسع أحداً من بناء نوع ذلك أن الفاعل مثل ذلك الفعل المختص بتلك الزيادة أو بذلك الفعل فيدل على أن ذلك الاختصاص إنما هو لمزية وتأييد من عند الله تعالى لصاحبه، وهنا أصل الفعل ليس بممكن وإن جعل الأصل مطلق الإتيان والمعجزة الإتيان المقيد كان المتحدي به هو الفعل لا المفعول والمقدور خلافه، فإنه إتيان مقيد بوجود معدوم، لا نفس الإتيان، فتبين أن كون الضمير عائدا إلى المنزل على تقدير تعلق من مثله بفاتوا لا يخلو عن أقسام كلها باطلة، سواء كانت من ابتدائية أو تبعيضية أو بيانية. وقال المولى عز الدين التبريزي: إن في جعل من مثله صفة لسورة، وإن كان الضمير للمنزل، فمن للبيان، وإن كان للعبد فمن للإبتداء، وهو ظاهر. فعلى هذا إن تعلق مثله بقوله: فأتوا. فلا يكون الضمير للمنزل لأنه يستدعي كونه للبيان والبيان يستدعي تقديم مبهم، فإذا تعلق بالعبد فلا يتقدم مبهم فتعين أن تكون للابتداء لفظاً أو تقديراً أي: أصدروا وأنشئوا واستخرجوا من مثل العبد بسورة، لأن مدار الاستخراج هو العبد لا غير، فتعين في الوجه الثاني عود الضمير إلى العبد. وقال المولى همام الدين، قوله: ويجوز أن يتعلق بقوله فاتوا والضمير للعبد لأنه إذا كان ظرفا

(2/102)


مستقراً على أنه صفة سورة بمعنى سورة كائنة من مثله لم يتعين الضمير للعبد بل كما احتمل العود إلى العبد احتمل العود إلى المنزل، أما إذا كان ظرفاً لغواً متعلقاً بقوله: (فأتوا) لم يحتمل العود إلا إلى العبد لأنك لما علقته به فقد جعلته مبتدأ الاتيان بالسورة ومنشأها فيكون هو المنشيء لها والآتي بها والمصدر أو المملي () حتى يتحقق الابتداء فيه حقيقة كما إذا قلت: ايتني بشعر من فلان كان هو المملى والمنشيء على ما لا يخفى، ولو رجعت الضمير على هذا إلى المنزل أجدت، وأما نحو قولك: إيتني بماء من دجلة وثمر من بستانك وآية من القرآن وبيت من الحماسة فليس منه على أن في الحمل عليه فساداً لأنه يفيد ثبوت المثل للقرآن أو يوهم، والغرض نفى المثل على ما قلنا ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك. قال: وفي ثبوت التحدي؛ لأن المعنى: فأتوا من مثل القرآن، أي من كلام، مثل القرآن في الأسلوب والفصاحة، بخلاف ما إذا علقته بالسورة لأن حقيقة المعنى على إقحام كلمة (من)، فكأنه قيل: بسورة مماثلة نظماً وأسلوباً، فلا يلزم فيه ما يلزم في الأول، وهذا كما إذا قلت: إئتني بدرهم كائن من مثل هذه الدراهم المضروبة كان المعنى أن يأتي بما ينطبع على وجهها ويتكون من مثلها مطلقاً، لا أن يأتي من مثلها الموجود.
وقال بعض أرباب الحواشي: هذا كلام مشكل قد استشكله قوم ولم يتضح لهم وجهه والذي يمكن فيه أنا إذا قلنا بالأول كانت رتبة من مثلها التقديم.
فيصير التقدير: فاتوا من مثله بسورة فيكون مثله كالموجود المحقق، وإنما التعجيز في أن يخرج منه سورة كما لو قلت: أصنع في مثل هذه القطعة من الحديد درعاً أو أصنع من هذه الخشبة كرسياً، فمثل الحديد والخشب موجود، وإنما التعجيز في تحصيل الدرع والكرسي

(2/103)


منهما.
ومثل القرآن مستحيل الوجود، فلا يمكن أن يقال: ائتوا من مثله بسورة، لأنهم يقولون: لا مثل للقرآن حتى نأتي منه بسورة ومثل الرسول في البشرية موجود، فيمكن أن يقال: هاتوا من مثله في كونه عربياً أمياً بسورة.
وأما إذا جعلته صفة بسورة فالتعجيز وقع بأن يأتوا بسورة موصوفة بكونها من مثله والتعجيز بالموصوف يكون تارة بفقد الموصوف وتارة بفقد الوصف مع وجود الموصوف عارياً من الوصف فكأنه يقول: لا قدرة لكم على أن تأتوا بسورة موصوفة بكونها من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا على أن تأتوا بسورة موصوفة بكونها من مثل القرآن، وقال الشيخ تقي الدين السبكي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.
قال الزمخشري، من مثله، متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله. وليس مراده التعلق الصناعي، لأن الصفة: إنما تتعلق بمحذوف وقد صرح هو به، ومراده أنه لا يتعلق بقوله: {فَأْتُوا}، ثم قال: والضمير لما نزلنا أو لعبدنا - والأحسن عندي أن يتعلق بعبدنا، وإن علق بما نزلنا فيكون بالنظر إلى خصوصيته فيشمل صفة المنزل في نفسه والمنزل عليه. وإنما قلت ذلك: لأن الله تعالى تحدى بالقرآن في أربع سور، في ثلاث منها بصفته في نفسه. فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}

(2/104)


الآية وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} والسياق في ذكر القرآن من حيث هو هو، ولذلك لم يذكر في هاتين السورتين لفظ (من) المحتملة للتبعيض ولإبتداء الغاية فمن هنا تعين الضمير للقرآن، وفي سورة البقرة، لما قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فتكون من لابتداء الغاية، والضمير في مثله للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون قد تحداهم فيها بنوع آخر من التحدي غير المذكور في السور الثلاث. وذلك أن الإعجاز من وجهين:
إحداهما: من فصاحة القرآن وبلاغته وبلوغه مبلغا تقصر قوى الخلق عنه، وهو المقصود في السور الثلاث المتقدمة المتحدى به فيها، والثاني: من إتيانه من النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب وهو المتحدى به في هذه السورة، ولا يمتنع إرادة المجموع كما قدمناه، فإن أراد الزمخشري بعود الضمير على ما نزلنا المجموع بالطريق التي أشرنا إليها فصحيح، وحينئذ يكون ردد بين ذلك وعود الضمير على الثاني فقط.
وإن لم يرد ذلك فما قلناه أرجح، ويعضده أنه أقرب، وعود الضمير على الأقرب أوجب ويعضده أيضاً أنهم قد تحدوا قبل ذلك، فظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، لأن سورة يونس

(2/105)


مكية فإن عجزوا عنه من كل أحد فهم عن الإتيان بمثله ممن لم يقرأ ولم يكتب أشد عجزا، فالأحسن أن يجعل الضمير لقوله: عبدنا، فقط، وهذان النوعان من التحدي يشتمل على أربعة أقسام، لأن التحدي بالقرآن أو ببعضه بالنسبة إلى من يقرأ ويكتب، وإلى من ليس كذلك. والتحدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى مثل المنزل وإلى أي سورة كانت.
فإن من لم يكتب لا يأتي بها فصار الإتيان بسورة من مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ممتنعاً (شابهت القرآن أو لم تشابهه)، والإتيان بسورة من مثل القرآن ممتنعاً كانت من كاتب قارئ أم من غيره.
فظهر أنها أربعة أقسام، ثم قال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق بقوله فأتوا والضمير للعبد، هذا صحيح وتكون من لابتداء الغاية، ولم يذكر الزمخشري على هذا الوجه احتمال عود الضمير على ما نزلنا، ولعل ذلك لأن السورة المتحدى بها إذا لم يوجد معها المنزل عليه لابد أن يخصص بمثل المنزل كما في سورة يونس وهود، فإذا علقنا الضمير هنا في سورة البقرة بقوله: {فَأْتُوا} وعلقنا الضمير بالمنزل كانوا قد تحدوا بأن يأتوا بسورة مطلقة ليست موصوفة ولا من شخص موصوف، فليست على نوع من نوعي التحدي. فإن قلت: {مِنْ}، على هذا التقدير للتعيض، فتكون السورة بعض مثله يقتضي مماثلتها.
قلت: المأمور به السورة المطلقة. و {مِنْ} يحتمل أن تكون لابتداء الغاية وإن سلم أنها للتبعيض فالمماثلة إنما يعلم حصولها للسورة بالاستلزام، فلم يتحدوا ولم يؤمروا بإتيانها من حيث هي مطلقة ولا من حيث ما اقتضاه الاستلزام من المماثلة، فإن المماثلة بالمطابقة في الكل المبعض لا في البعض، فإن لزم حصولها في البعض فليس من اللفظ، وبهذا يعرف الجواب. عن قول من قال: ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة

(2/106)


من مثل ما نزلنا، وبين فأتوا من مثل ما نزلنا بسورة، فنقول: الفرق بينهما: ما ذكرناه، فإن المأمور به في الأول سورة مخصوصة، وفي الثاني: سورة مطلقة من حيث الوضع، وإن كانت بعضاً من شيء، مخصوص والله تعالى أعلم. وقال الشيخ العلامة محمود السيواسي: تعيين الفرق ههنا موقوف على استحضار أمرين معلومين في هذا المقام أما الأول فهو: أن المطلوب في معرض المعارضة بهذه الآية الكريمة دائر بين الأمرين وليس بخارج عنهما، بل لا يصح أن يخرج وذلك: إما كون السورة المأتي بها مثلا للمنزل أو كونها مأتيا بها من مثل العبد في كونه بشراً أو أمياً (وأما الأمر الثاني: فهو، أن {مِنْ} إذا تعلق بفأتوا لا تكون إلا للابتداء ولا يصح أن تحمل على غيره) من البيان، وإذا تعلق بسورة يصلح لذلك كله وإذا تقرر هذان الأمران، نقول: الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا (وفأتوا من مثل ما نزلنا) بسورة إذا أريد تعلق من بفأتوا، هو أن التركيب الثاني: يدل على أن المطلوب في معرض المعارضة كون السورة مأتيا بها من مثل المنزل، وذلك: خارج عن أحد الأمرين اللذين قلنا: إن المطلوب دائر بينهما وذلك ليس بمطلوب ولا يصح أن يكون.
أما أنه ليس مطلوبا فلأنهم لو وجدوا في ديوان أشعارهم وأمثالهم أو خطبهم مقدار أقصر سورة تكون مثلا للمنزل في غريب البيان وعلو الطبقة في حسن النظم وأبوابه لكان به المعارضة لهم، وإن كان نفس ذلك الديوان ليس مثلا للمنزل كما يدل على هذا قول صاحب الكشاف قبيل هذا في جواب قوله: فإن قلت: لم قيل: مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال؟، وأما أنه لا يصح فلأنه يلزم أن يكون الإتيان بمثل المنزل أيضاً مطلوباً لامتناع تحصيل الشيء من غير الحاصل، فحينئذ يكون

(2/107)


الإتيان بالسورة التي هي المطلوبة في التحدي مانعاً فليتدبر؛ وأما التركيب الأول: فلا يدل على ذلك إلا إذا حمل {مِنْ} على الابتداء، وذلك غير لازم هنا، فإنه يمكن أن تكون للبيان، ويكون معنى الكلام: فأتوا بسورة كائنة مثل المنزل، وذلك ليس بخارج عن الأمرين اللذين قلنا إن المطلوب دائر بينهما وذلك المقدار من الفرق كاف في ذلك التخصيص وقال الشيخ أكمل الدين: قد استشكل بعض الفضلاء جواز عود الضمير إلى المنزل والعبد على تقدير كون من مثله متعلقا بسورة وانحصار عوده إلى العبد على تعلقه بقوله: {فَأْتُوا} وقال: ليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا [وفاتوا من مثل ما نزلنا] بسورة، وكثر الكلام فيه بين العلماء بتبريز. والذي انتهى إليه الكلام فيه منهم، ومن غيرهم: إنه إذا تعلق بقوله: فأتوا لا يجوز أن يكون الضمير للمنزل لاستلزام بطلان كلمة {مِنْ}، لأنها لا يصح أن تكون للتبعيض لأنه حينئذ يكون مفعول فاتوا ثلاثاً ولابد منها ولا أن تكون للبيان لانه يقتضي مبهما قبله وليس بموجود، ولا للابتداء لأن ابتداء الإتيان من مثل المنزل لا يتحقق ولا زائدة، على قول الأخفش لما ذكر في التبعيض.
وأما إذا كان الضمير للعبد كان من للابتداء ليس إلا، وابتداء الإتيان من مثل العبد الصحيح. وقال الشيخ سعد الدين: قد اشتهر هنا سؤال تخصيص، وهو أنه لم لا يجوز على هذا التقدير أيضاً أن يكون الضمير لما نزلنا كما جاز على تقدير كون من مثله صفة سورة.
والجواب: أن هذا أمر تعجيز باعتبار المأتي به والذوق شاهد بأن تعلق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء ومثل النبي - صلى الله عليه وسلم - في البشرية والعربية موجود بخلاف مثل القرآن في البلاغة والفصاحة، وأما إذا كان صفة للسورة فالمعجوز عنه هو الاتيان بالسورة الموصوفة ولا يقتضي وجود المثل، بخلاف قولنا:

(2/108)


أتيت ببيت من مثل الحماسة، قال: وقد (يجاب) بوجوه أخر، الأول: أنه إذا تعلق بفأتوا فمن للابتداء قطعاً، إذ لا مبهم يبين ولا سبيل إلى البعضية، لأنه لا معنى لإتيان البعض ولا مجال لتقدير الباء مع (من)، كيف وقد ذكر المأتي به صريحاً وهو السورة، وإذا كانت (من) للابتداء تعين كون الضمير للعبد لأنه المبتدأ للإتيان لا مثل القرآن وفيه نظر لأنه المبتدأ الذي تقتضيه من الابتداء ليس هو الفاعل حتى ينحصر مبتدأ الإتيان بالكلام في المتكلم على أنك إذا تأملت فالمتكلم ليس مبتدأ للإتيان بالكلام منه بل للكلام نفسه بل معناه أن يتصل به الأمر الذي اعتبر له إمتداد حقيقة أو توهما كالبصرة للخروج والقرآن للاتيان بسورة منه.
وبهذا يندفع ما يقال: إن المعتبر من المبتدأ هو الفاعلي أو المؤدي أو الغاني أو جهة يتلبس بها ولا يصح شيء من ذلك فيما نحن فيه على أن يكون مثل القرآن مبدأ مؤديا للإتيان بالسورة ليس أبعد من كون مثل العبد مبدأ فاعليا له.
الثاني: أنه إذا كان الضمير لما نزلنا و (من) صلة فأتوا كان المعنى فأتوا من منزل مثله بسورة فكان مماثلة ذلك المنزل لهذا المنزل هو المطلوب لا مماثلة سورة واحدة منه بسورة من هذا، وظاهر أن المقصود خلافه كما نطقت به الآي الأخر، وفيه نظر لأن إضافة المثل إلى المنزل لا يقتضي أن تعتبر موصوفة منزلاً ألا ترى أنه إذا جعل صفة سورة لم يكن المعنى بسورة من منزل من مثل القرآن، بل من كلام، فكيف يتوهم ذلك، والمقصود تعجيزهم على أن يأتوا من عند أنفسهم بكلام مثل القرآن، ولو سلم فما ادعاه من لزوم خلاف غير بين ولا مبين.
والثالث: أنها إذا كانت صلة فأتوا كان المعنى فأتوا من عند المثل

(2/109)


كما يقال: ائتوا من زيد بكتاب أي من عنده، ولا يصح إئتوا من عند مثل القرآن بخلاف مثل العبد، وهذا أيضاً بين الفساد. انتهى.
قال الشريف: أورد على هذا الوجه أنه لم لا يجوز أن يكون الضمير حينئذ لما نزلنا أيضاً؟ كما جاز ذلك على تقدير كون الظرف صفة للسورة؟ وأجيب بوجهين:
الأول: إن فأتوا أمر قصد به تعجيزهم باعتبار المأتي فلو تعلق به قول (من مثله) وكان الضمير للمنزل تبادر منه أن له مثلا محققا وإن عجزهم إنما هو عن الإتيان بشيء منه وهو فاسد، بخلاف ما إذا رجع الضمير إلى العبد فإن له مثلا في البشرية والعربية والأمية فلا محذور.
والثاني: إن كلمة - (من) - على هذا التقدير ليست بيانية إذ لا مبهم هناك. وهي أيضاً مستقر أبداً فلا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية، وإذا كان الفعل واقعا عليه حقيقة، كما في قولك: أخذت من الدراهم، ولا معنى لإتيان البعض بل المقصود الإتيان بالبعض ولا مجال لتقدير الباء مع وجود من، كيف وقد صرح بالمأتي به أعني بسورة، فتعين تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد، لأن جعل المتكلم مبدأ للاتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكلام مبدأ للإتيان بما هو بعض منه، ألا ترى أنك إذا قلت: إئت من زيد بشعر كان القصد إلى معنى الابتداء أعني إبتداء الإتيان بذلك الشعر من زيد مستحسناً فيه، بخلاف ما إذا قلت: إئت من الدراهم بدرهم، فإنه لا يحسن فيه قصد الابتداء ولا تر تضيه فطرة سليمة وإن فرض صحة ما قيل في النحو من أن جميع معانيها راجعة إليه ولا نعني بالمبدأ الفاعل ليتوجه أن المتكلم مبدأ الكلام نفسه لا للإتيان بالكلام منه بل ما يعد عرفاً مبدأ من حيث

(2/110)


يعتبر أنه اتصل به أمر له امتداد حقيقة أو توهما.
قوله: (معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته): فقد اعتنى بهذا المحل رجل من فضلاء العجم، يقال له: مظفر الدين الشيرازي، رأيته بمكة سنة تسع وستين وثمانمائة، فألف فيه كراسة نقل فيها كلام الطيبي والتفتازاني وبحث معهما وقدم إلى الديار المصرية معنا سنة سبعين فأظهرها مستحجا بها فنازعه من نازعه، ورفع في ذلك سؤال إلى شيخنا العلامة محي الدين الكافيجي فكتب عليه كتابة مطولة، خطأ فيها مظفر الدين فيما بحثه وفيما خرجه، لكونه عول في التخريج على القواعد المنطقية، وهي مخالفة لأساليب العربية التي مرجع البلاغة القرآنية إليها، ولولا خشية الإطالة لسقت ذلك كله.
قوله: (ولأن مخاطبة الجم الغفير)، قال الطيبي: لأنه لا معنى للاستظهار بهم على أن يأتوا بسورة واحدة من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (ومنه: تدوين الكتب)، هذا ممنوع، فإن التدوين إنما هو مأخوذ من الديوان، وهو لفظ أعجمي ليس مشتقاً من دون.
قوله: (ثم استعير للرتب) إلى آخره. قال الطيبي: يعني لما مر

(2/111)


استعماله في هذه المعاني استعير في معنى المرتبة مطلقا بأن شبهت المراتب المعنوية بالمكانية، واستعير لها ما كان مستعملاً هناك، ثم اتسع فيه فجعل مثلا لكل متجاوز حد من غير نظر إلى الاستعارة.
قوله: (وقال أمية:
يا نس مالك دون الله من واق
تمامة:
ولا للسع بنات الدهر من راق
يريد النوائب.
قوله: (ومن متعلقة بأدعو) هذا على أن الشهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة.
قوله: (أو بشهدائكم). هذا لأنه بمعنى القائم بالشهادة.
قوله: (من قول الأعشى (تريك القذى من دونها وهي دونه)) تمامه: إذا ذقها من ذاقها يتمطق.
يصف زجاجة فيما خمر. أي: تريك الزجاجة القذي من قدامها وهي قدام القذي. (يتمطق): أي: يمص شفتيه من لذاتها.

(2/112)


وفي شرح ديوان الأعشي أن هذا البيت من مستحسنات شعره. أراد أن الزجاجة لصفائها تريك القذى. أقرب إليك منها، وإنما القذاة في أسفلها
وأول القصيدة:
أرفت وما هذا السهاد المؤرق .... وما بي من سقم وما بي معشق
ولكن أراني لا أزال بحادث ... أغادي بما لم يمس عندي وأطرق
وشاو إذا شئنا كميش بمسعر .... وصهباء مزباد إذا ما تصفق
وقبل البيت المستشهد به، قال الطيبي: روى ابن حمدون في التذكرة: أن الوليد بن عبد الملك قال لابن الأقرع: أنشدني قولك في الخمر، فأنشده:
كميت إذا شجت ففي الكأس وردها ..... لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونها وهي دونه .... لوجه أخيها في الإناء قطوب

(2/113)


فقال الوليد: شربتها ورب الكعبة، قال: لئن كان وصفي لها رابك فقد رابني معرفتك بها.
فعلى هذا ابن الأقرع إما ضمن المصراع أو كان من التوارد.
(قوله: (فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازاً) قال الشيخ سعد الدين: أن الفائدة في ترك ذكر الإتيان إلى ذكر الفعل هو أن الإتيان فعل من الأفعال، والفائدة هو الإيجاز حيث وقع لفظ الفعل موقع الإتيان مع ما يتعلق به.
قوله: (ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أن من حق الشرط أن يكون سبباً للجزاء أو ملزوماً، وليس عدم الإتيان بالسورة سبباً لاتقاء النار ولا ملزماً فكيف وقع جزاء له؟ والجواب: أن اتقاء النار كناية عن ترك العناد، وهو مشروط بعدم القدرة عن الاتيان بالسورة ومسبب عنه، وهذه الكناية مع أنها في نفسها من شعب البلاغة وأبلغ من التصريح تفيد أمرين:
أحدهما الإيجاز حيث طوى ذكر الوسائط أعني، قولنا: فإن لم تفعلوا فقد صح عندكم صدقه، وإذا صح كان لزومكم العناد وترككم الإيمان والانقياد سبباً لاستحقاقكم العقاب بالنار فاتركوا ذلك واتقوا النار، وليس المراد أن هناك حذفا وإضماراً بشرط أو جزاء بل أن المعنى على ذلك. وإلى هذا يشير من يقول: أنه يراد في الكناية معنى اللفظ ومعنى معناه.
وثانيهما: تهويل شأن العناد بإقامة النار مقامه بناء على أن إنابة اتقاء النار مناب ترك العناد وإبراز ترك العناد في صورة اتقاء النار فاعترض بأنه ينبغي أن يكون مجازا عن ترك العناد وعلى ما اختاره صاحب المفتاح لا كناية إذ مبناها على التعبير باللازم عن الملزوم.

(2/114)


والجواب: أن اطلاق الكناية على التعبير بالملزوم عن اللازم شائع في كلام صاحب الكشاف، ومبنى الفرق بينها وبين المجاز عنده على إرادة المعنى الحقيقي وعدمها، وأما التفرقة بأن التعبير باللازم عن الملزوم كناية وعكسه مجاز، فإنما هي لصاحب المفتاح. انتهى.
قوله: (وخطابا معهم على حسب ظنهم).
قال الطيبي: فإنهم كانوا يقولون: (لو نشاء لقلنا مثل هذا).
قوله: (حرف مقتضب) أي: مرتجل لتبسيط ثنائي الوضع.
قوله: (عند سيبويه والخليل في إحدى الروايتين عنه) هو الراجح عند المتأخرين، وأبي حيان، وابن هشام.
قوله: ((وفي الرواية الأخرى: أصله، (لا أن)).
أي: فحدفت الهمزة لكثرتها في الكلام ثم الألف لالتقاء الساكنين.
قوله: (فلان فخر قومه).
قال الطيبي: أي الذي يفتخر به قومه، كقولك: ضرب الأمير أي مضروبة.
قوله: (وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي: وقودها

(2/115)


احتراق الناس) زاد غيره: أو يقدر المضاف قبله، أي ذو وقودها الناس. زاد
الطيبي: أو يجعل من باب رجل عدل، قال: وعلى هذا فالمعنى ليس وقود النار إلى ذلك وعلى الأول يجوز أن يكون هناك وقود آخر.
وقوله: (وقيل حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل) إلى آخره.
أقول: تبع في ذلك الكشاف، وهذا من جملة رده الأحاديث الصحيحة والتفاسير المرفوعة الثابتة، بمجرد الراي: فإنا لله، فإن تفسير الحجارة هناك بحجارة الكبريت هو الثابت في المنقول، ولا يعرف في التفسير غيره أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور في سننه وهناك ابن السري في كتاب الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنزر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.

(2/116)


قال: حجارة الكبريت جعلها الله تعالى كما شاء، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية.
قال: هي حجارة في النار من كبريت أسود.
ومثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم الرفع بإجماع أهل الحديث.
وقد أخرج ابن أبي حاتم مثله عن مجاهد، وأبي جعفر، وابن جرير، وجزم به ابن جرير ولم يحك خلافه عن أحد، وعلله بأنها أشد حرا، ونقله البغوي عن أكثر المفسرين، وقالوا: لأنها أكثر التهابا، ونقله ابن عقيل عن الجمهور، وقال: خصت لأنها تزيد على غيرها من الأحجار بسرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدة الالتصاق بالأبدان وقوة الحر.
قوله: (ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة، قوله تعالى: في سورة التحريم {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وسمعوه صح تعريف النار).

(2/117)


تابع في ذلك الكشاف، وقد تعقبه القطب وغيره بأنه ينافي ما سيقوله في سورة التحريم أنها مدنية وقال صاحب الانتصاف لم أقف على خلاف أن سورة التحريم مدنية. والظاهر أن الزمخشري وهم في قوله: إنها مكية. وقال الشيخ أكمل الدين: ما ذكره الزمخشري ليس بصحيح لأن سورة التحريم مدنية بلا خلاف، قال: وقد اتفق الشارحون على ورود هذا الاعتراض، ونسب بعضهم الزمخشري إلى السهو، وفي الحاشية المشار إليها: ما ذكره الزمخشري وهم. فإن المفسرين/ متفقون على أن سورة التحريم مدنية، وكان يكفيه أن يقول: أية التحريم نزلت قبل هذه بالمدينة، ثم هذه بعدها، فإن صحة الجواب لا يتوقف على كون آية التحريم مكية وقال الشيخ سعد الدين والشريف: اعترض هنا بأن الصفة أيضاً يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة، وإلا لكان خبرا، ولهذا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فيعود السؤال بعينه في قوله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}. والجواب: أن الصفة والصلة يجب كونها معلومين للمخاطب لا لكل سامع، وما في التحريم خطاب للمؤمنين. وهم قد علموا ذلك بسماعهم

(2/118)


من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه نارا موصوفة بتلك الجملة، فجعلت فيما خوطبوا به.
قوله: (والجملة استئناف أو حال)، قال أبو حيان: ذكر أبو البقاء، أن جملة أعدت للكافرين في موضع الحال من النار، والعامل فيها فاتقوا وفي ذلك نظر، لأن المعنى حينئذ يصير: فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين، وهي معدة للكافرين، اتقوا النار أو لم تتقوها، فتكون إذ ذاك حالا لازمة والأصل في الحال التي للتأكيد أن تكون منتقلة. قال: والأولى عندي: أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب وكأ، ها جواب سؤال مقدر، كأنه لما وصفت نار وقودها الناس والحجارة، قيل: لمن أعدت، فقيل: أعدت للكافرين. وقال الشيخ سعد الدين: لا يحسن الاستئناف والحال؛ لأنها متعلقة بأحوال تلك النار وعندي إنها صلة بعد صلة، كما في الخبر والصفة قال: وإن أبيت بناء على أنه لم يسطر في كتاب فليكن عطفا بترك العاطف، قال: لكن عطف وبشر على لفظ

(2/119)


المبنى للمتعول عليه يقوى جانب الاستئناف.
قوله: (أس) الأساس.
قوله: (عطفا على الجملة المستأنفة) إلى آخره.
قال القطب: أي هذا العطف لا يتعلق باللفظ بل عطف معنوي، فإن مفهوم الجملة الأولى وصف عقوبة الكافرين، ومفهوم الثانية وصف ثواب المؤمنين. زاد الطيبي، والتشاكل لا يطلب في عطف الجمل بل في عطف المفردات.
قوله: (أو على فاتقوا) إلى آخره. قال القطب: إعترض بأنه لا يصلح جواباً للشرط ولا يعطف عليه، قال: وهذا الاعتراض ليس بذاك، لجواز أن يكون (بشر) مرتباً على الشرط. أما أولا: فإن من تتميم عذاب الكافرين ثواب أضدادهم كأن الله تعالى يعذبهم بوجهين، فيكون معناه: فإن لم تفعلوا فاتقوا من عذابكم واتقوا من ثواب أضدادكم والأول تحذير والثاني تحسير. وأما ثانيا: فلأنهم إذ لم يعارضوا القرآن ظهر أنه معجز، فمن صدق به استحق الثواب، ومن كذب به استحق العذاب، وهذا يقتضي إنذار هؤلاء وتبشير هؤلاء، فلهذا ترتب التبشير على عدم المعارضة كما ترتب الإنذار. انتهى. وهذا الثاني: هو الذي قرره البيضاوي. وقال

(2/120)


الطيبي بعد إيراده الاعتراض، هذا سؤال اتفق الناس على وروده. والجواب عنه: أن الزمخشري لم يجعل قوله فاتقوا جوابا لقوله فإن لم تفعلوا حتى يلزم المحذور. وإنما جعله مبنيا على جزاء محذوف، والتقدير: وإن كنتم في شك من صحة ثبوته وصدق قوله: إن القرآن منزل عليه من عند الله، فأتوا بسورة من مثله فإن لم تقدروا على ذلك وأنتم فرسان البلاغة فقد صح صدقه وإذا صح صدقه فليتق المعاند النار، وبشر يا محمد المصدق بالجنة، قال: وهذا هو الذي قرره البيضاوي. وقال أبو حيان: جعل وبشر معطوفاً على قوله {فَاتَّقُوا} قاله أيضاً أبو البقاء وهو خطأ، لأن فاتقوا جواب الشرط، وموضعه جزم والمعطوف على الجواب جواب. ولا يمكن أن يكون وبشر جواباً لأنه أمر بالبشارة مطلقا لا على تقدير إن لم تفعلوا بل أمر أن يبشر الذين آمنوا، أمرا غير مرتب على شيء قبله.
قال السفاقسي: قوله وموضعه جزم والمعطوف على الجواب جواب، فيه نظر، وقد أجاز الفارسي في نحو زيد ضربته وعمرا كلمته معطوفاً على الجملة الصغرى وهي ضربته وإن لم يصح أن يكون وعمرا كلمته خبراً لعدم الرابط ووافقه على ذلك جماعة، قال: لأن الجملة وإن كان لها موضع من الإعراب فإن ذلك الموضع لما لم يظهر لم يكن له حكم وصار ذلك بمنزلة الجملة التي لا موضع لها من الإعراب فلم يمتنع أن يعطف عليها ما لا موضع له فلما صح أن يعطف على الخبر ما لا

(2/121)


يكون خبرا صح أن يعطف على الجواب ما لا يكون جوابا.
قوله: لأنه أمر بالبشارة مطلقا لا على تقدير إن لم تفعلوا، جوابه إن الواقع عدم الفعل جزماً ولهذا قال: ولن تفعلوا فلم يبق ثم تقدير إن فعلتم فلا تبشير فكان الأمر بالبشارة واقعاً مطلقاً. وقال ابن هشام في المغني: في جواب الزمخشري نظر، لأنه لا يصح أن يكون جوابا للشريط إذ ليس الأمر بالتبشير مشروطا بعجز الكافرين عن الإتيان بمثل القرآن، ويجاب بأنه قد علم أنهم غير المؤمنين، فكأنه قيل فإن لم يفعلوا فبشر غيرهم بالجنات.
ومعنى هذا فبشر هؤلاء المعذبين. بأنه لاحظ لهم في الجنة.
قوله: (وقرئ وبشر على البناء للمفعول عطفا على أعدت) فيكون أي: أعدت - استئنافا، قال أبو حيان ولا يصح عطفه على أعدت إذا أعرب حالا لأن المعطوف على الحال حال، ولا يصح أن يكون وبشر في موضع الحال، وحينئذ فيكون معطوفا على ما قبله من الجمل وإذ لم تتفق معانيها كما ذهب إليه سيبويه.
وقال الحلبي: قوله: (عطفا على أعدت) غلط لأن المعطوف على الصلة صلة ولا راجع على الموصول من هذه الجملة فلا يصح عطفه على أعدت. وقال الطيبي: إذا عطف على أعدت فعلى هذا يدخل في حيز، الصلة، ويكون بشارة للمؤمنين عن الخلاص عنها من جملة تنكيل الكافرين فيجتمع لهم التعذيب مع الحسرة كما قيل: إن الإحسان إلى العدو مما ينعم به العدو وفي الحاشية المشار إليها: لا يصح عطف وبشر على أعدت إن أعرب حالا، لأن المعطوف على

(2/122)


الحال حال، فيكون قوله: وبشر خالا من النار أيضا، وهو بعيد لا ينتظم، وكذلك إن جعلت أعدت صلة بعد صلة للتي، كما تقول: زيد الذي يكرم الضيف يحمل الكل فإنه لا يقتضي أن يكون وبشر صلة التي، فيكون التقدير: النار التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ولا عائد فيه على الموصول، أللهم إلا أن يدعى أن أعدت جملة مستأنفة وليست صلة ولا حالا فحينئذ يسوغ عطف وبشر عليها.
قوله: (والبشارة الخبر السار) شرطه أن يكون صدقا نبه عليه في الحاشية المشار إليها، وهو منصوص في كتب الفقه.
قوله: (فإنه يظهر أثر السرور في البشرة)، قال الراغب: وذلك إن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجر. وفي الحاشية المشار إليها أن البشرة مشتقة من تغير البشرة لما يرد عليها وذلك مشترك في خبر الخير والشر غير أن عرف الاستعمال خصصه بالخير، فيجوز أن يقال: إن قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ} استعمل عليه الوضع اللغوي فيكون حقيقة لغة ومجازاً عرفا.
قوله: (وأما قوله {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}) فعلى التهكم، قال الطيبي، أي: هو من الاستعارة التهكمية استعارة البشارة للنذارة بواسطة اشتراط الضدين، ومن حيث اتصاف كل بمضادة صاحبتها فنزلت البشارة منزلة النذارة، ثم قيل على التبعية: فبشرهم بدل فأنذرهم.
قوله: (أو على طريقة. قوله: تحية بينهم ضرب وجيع).

(2/123)


الفرق بينهما أن الثاني لا تهكم فيه.
قوله: (من الصفات الغالبة) أي التي استعملت من غير موصوف، فكأنها ليس لها موصوف قوله:
قوله: كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني
هو الحطينة قال ابن الأثير في الكامل: إن النعمان دعا بحلة من حلل الملوك، وقال للوفود - وفيهم أوس بن حارثة بن لأم الطائي - احضروه في غد، فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فلما كان الغد حضروا إلا أوساً، فقيل له في ذلك: فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أحضر، وإن كنت المراد فسأطلب.
فلما جلس النعمان ولم ير أوساً، طلب، وقال: (فقولوا له): أحضر آمنا مما خفت فحضر فألبس الحلة فحسده قوم من أهله، وقالوا للحطينة: أهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال: كيف الهجاء البيت.
قال الطيبي: تنفك تزال وبظهر الغيب، حال، أي: ملتبسا بالغيب، أي: غائبين، والظهر معجمة لتأكيد معنى الغيب، وتأتيني خبر تنفك.

(2/124)


قوله: (واللام فيه للجنس)، قال أبو حيان: أي لا للعموم، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات.
قوله:
كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواصح تسقى جنة سحقا
هو لزهير ابن أبي سلمى، الغربان تثنية غرب وهو الدلو العظيمة والمقتلة الناقة المرتاضة المذللة والنواضح الإبل التي يسقى عليها، جمع ناضح.
قال الطيبي: وتخصيص النواضح والمقتلة لأنها تخرج الدلو ملان بخلاف الصعبة فإنها تنفر فيسيل الماء من نواحي الغرب فلا يبقى منه الإصابة، والسحق جمع سحوق وهي النخلة الطويلة وأراد بالجنة النخلة لأنها أحوج إلى الماء، والطوال منها أكثر حاجة من القصار.
وفي قوله: (في غربي) تجريدية وهو خبر كأن.
وقال الشيخ سعد الدين جعل عينيه في الغربين دون أن يجعلهما غربين، كناية لطيفة، كأن ما ينصب في الغربين ينصب من العينين

(2/125)


انتهى. وأول القصيدة:
إن الخليط أجدوا البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا
وأخلفتك ابنه البكري ما وعدت ... فأصبح الحبل منها واهيا خلقا
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا
قوله: (ثم دار الثواب)، قال الطيبي: فهي منقولة شرعية على سبيل التغليب.
قوله: (لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه: سبع) لم أقف عليه.
قوله: وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وأخرجه ابن المبارك وهناد في الزهد وابن جرير والبيهقي في البعث والأخدود شق مستطيل في الأرض قاله في الصحاح.

(2/126)


قوله: (واللام في الأنهار للجنس) الطيبي: يشير به إلى ما هو حاضر في ذهن المخاطب، وأنت تعلم أن الشيء لا يكون حاضراً في الذهن إلا أن يكون عظيم الخطر معقوداً به الهمم أي تلك الأنهار التي عرفت أنها النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الرياض وإن كانت آنق لا تبهج الأنفس حتى تكون فيها الأنهار.
قوله: (أو للعهد)، والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى:
{أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية. قال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل: هذا يتوقف على تقدم نزول آية القتال على هذه. وقد قال عكرمة: إن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الشيخ سعد الدين: إنما يصح هذا لوثب سبقها في الذكر، قال: ومع ذلك لا يخفى بعد مثل هذا العهد.
قوله: (والنهر بالفتح والسكون) زاد في الكشاف أن الفتح اللغة العالية، قال الطيبي: أي: الفصيحة التي كثر استعمالها في كلام الفصحاء.
قوله: (والتركيب للسعة)، قال القطب: فإن النهار اسم لضوء واسع ممتد من طلوع الشمس إلى غروبها.
والإنهار الإسالة سعة وكثرة، وأنهر الطعن: وسع، واستنهر الشيء: اتسع، والمنهرة فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها

(2/127)


كناستهم.
قوله: (كلما رزقوا صفة ثانية لجنات أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة) إلى آخره، قال أبو حيان: الأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، فإنه لما ذكر أن لهم جنات صفتها كذا: هجس في النفوس حيث ذكرت الجنة الحديث عن ثمار الجنات وأحوالها، فقيل لهم كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب، نصب على تقدير كونها صفة للجنات أو رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف عائد على الجنات أي هي {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا}، أو عائد على الذين آمنوا أي هم كلما رزقوا. والأولى: الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه، لأنها في الوجهين الأخيرين تتقدر بالمفرد، فهي مفتقرة إلى الموصوف أو إلى المبتدأ المحذوف. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الذين آمنوا تقديره: مرزوقين على الدوام، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن تكون الحال مقدرة لأنهم وقت التبشير: لم يكونوا مرزوقين على الدوام وأجاز أيضا أن تكون حالا من جنات، لأنها نكرة قد وصفت بقوله: تجري، فقربت من المعرفة، ويؤول أيضا إلى الحال المقدرة، والأصل في الحال أن تكون مصاحبة فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره، انتهى.
وفي الحاشية المشار إليها: في كونها خبر مبتدأ محذوف إشكال. وذلك أن (كلما) هنا ظرفية، والتقدير: كل زمن رزق يتجدد لهم، وكل منصوبة انتصاب ظرف الزمان، وهو لا يكون خبرا عن جثة، إنما يكون خبراً عن المصدر، ففي تقدير المبتدأ عسر.
وقال الشيخ سعد الدين: قوله: أو خبر مبتدأ محذوف أي: هم أو هي، لا شأنها لعدم العائد - وإن أريد أن الجملة خبر عن ضمير الشأن فلا يكون المحذوف شأنها، بل هي بمعنى القصة والشأن، قال: وههنا بحث، وهو أن المحذوفة المبتدأ إما أن تجعل صفة أو استئنافا

(2/128)


فاعتبار الضمير لغو، وإما أن يكون كلاماً مبتدأ غير صفة ولا استئناف فلتكن بدون اعتبار الحذف كذلك.
قوله: (وقع في خلد السامع): بفتح الخاء المعجمة واللام أي: في قلبه وروعه.
قوله: (ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال)، الذي ذكره صاحب الكشاف. أنهما على هذا الوجه، أي: كونها لابتداء الغاية متعلقان برزقوا. قال أبو حيان: (من) في قوله: منها، لابتداء الغاية، وفي - (من ثمرة) كذلك - لأنه بدل من قوله: (منها) أعيد معه حرف الجر وكلتاهما متعلق برزقوا على جهة البدل لأن الفعل لا يقتضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف أو على طريقة البدل، وهذا البدل من بدل الاشتمال.
قوله: ويحتمل أن يكون من ثمرة بيانا تقدم كما في قولك: رأيت منك أسداً قال الطيبي: يعني هو من باب التجريد، وهو أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها إيهاما لكمالها فيه كأنك جردت من المخاطب شيئاً يشبه الأسد، وهو نفسه كذا هنا جرد له من ثمرة رزق وهو هي، فيكون رزقا أخص من ثمرة لأن الثمرة ذات أوصاف، فانتزع منها وصف المرزوقية أي التي يقع الأكل عليها لكمال هذا المعنى فيه. فالرزق على هذا مخرج من قوله: من ثمرة، وعلى الأول بالعكس. وقال القطب بعد تقديره: ليت شعري إذا حمل (من) هنا على البيان لم يجعل الأسلوب من التجريد، فإنه يجوز بل يظهر أن رزقا منهم يفسره الثمرة، أي: الرزق الذي هو الثمرة، لا كما في قولك: أنفقت من الدراهم ألفا فإنه ليس من أسلوب التجريد وقال الشيخ أكمل الدين - بعد حكايته -: الظاهر: أنه لا مانع

(2/129)


من ذلك في موارد (من) البيانية كلها، فإنه يجوز أن يقال في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} أن الأوثان بلغت في صفة النجاسة بحيث يجوز أن يجرد منها رجس، وكذلك الدراهم، بلغت في الأنفاق كثرة يمكن أن يجرد منها نهاية مراتب العدد، وإن كان ذلك أمراً اعتبارياً لا يستلزم محالا لم يستبعد جوازه.
وقال أبو حيان: أجاز الزمخشري أن يكون من ثمرة بيانا، كقولك: رأيت منك أسداً تريد أسد، وكون (من) للبيان ليس مذهب المحققين، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك ولو فرضنا مجيئها للبيان لما صح تقديرها للبيان هنا لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة إن كان قبلها معرفة نحو: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} أي: الرجس الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة فهو يعود على تلك النكرة نحو: من يضرب من رجل، أي: هو رجل، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بيانا لا نكرة ولا معرفة إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير: كلما رزقوا منها رزقا من ثمرة، فتكون من مبينة لرزق أي رزقا هو ثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما رأيت منك أسداً فمن لابتداء الغاية. انتهى.
وقال الشيخ سعد الدين: وأما جعل هذا البيان على منهاج رأيت منك أسداً فمبني على أن (من) البيانية عنده راجعة إلى ابتداء الغاية، فلا بد من اعتبار التجريد بأن ينتزع من المخاطب أسد، ومن الثمرة

(2/130)


رزق.
قوله: (وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا) هو: مثال على الوجهين كون (من) للابتداء، وكونها بياناً.
قوله: (وإن كانت الإشارة إلى عينه) إن هنا وصلية من تتمة ما قبله على ما يفهمه إيراد الطيبي.
وقوله: (فالمعنى متفرع على قوله): وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا، ولم يذكر المصنف الوجه الآخر الذي ذكره صاحب الكشاف على البيان وهو أنه يحتمل أن يكون إشارة إلى المفرد والشخص.
قوله: (فالمعنى هذا مثل الذي)، قال الشيخ سعد الدين إنما احتاج إلى ذلك، لأن هذا إذا لم يذكر معه الوصف كان إشارة إلى المحسوس الحاضر وهو الذات الجزئية لا الماهية الكلية. وأما إذا قيل هذا النوع كذا فلا يلزم ذلك.
قوله: (ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته). قال الطيبي: أي هو تشبيه بحذف الأداة ووجهه: نحو قولك: زيد أسد. قال الإمام: لما اتحد في الحقيقة وإن تغايرا في العدد صح أن يقال: هذا هو ذاك لأن الوحدة النوعية لا ينافيها الكثرة بالشخص. وقال صاحب الفرائد:
الإشارة بقوله: هذا إلى النوع، فلا حاجة إلى التأويل. قال الطيبي: قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يحتاج إلى التأويل، لأنه

(2/131)


اعتراض يقرر أمر المعترض فيه أو حال مقيدة. وقال الشيخ أكمل الدين: الإشارة الحسية إلى النوع غير متصورة لعدم تحققه في الخارج فبطل قول صاحب الفرائد.
والإشارة إلى الشخص وإرادة النوع مجاز، لأن الشخص يستلزمه والذي ذهب إليه المصنف تشبيه بليغ بحذف الأدارة ووجه الشبه.
وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يدل عليه دلالة، فصار المصير إليه متعينا. وقال أبو حيان: إنما احتيج إلى هذا الإضمار لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم.
قوله: (مزيته): في الصحاح: المزية الفضيلة ولا يبنى منها فعل وفي حاشية الصحاح: يقال أمزيته أي فضلته، وفي الأساس: تمزيت علينا تفضلت أي: رأيت لك الفضل علينا ومزيت فلانا فضلته.
قوله (حكي عن الحسن أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيترك ذلك، فتقول الملئكة: كل فاللون واحد والطعم مختلف). أخرجه ابن جرير عن يحيى ابن أبي كثير بهذا اللفظ. والصحفة كالقصعة والجمع صحاف.

(2/132)


قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (والذي نفس محمد بيده إن الرجل (من أهل الجنة) ليتناول الثمرة ليأكل منها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها). أخرجه ابن جرير عن أبي عبيدة موقوفا. وفي المستدرك من حديث قوبان، مرفوعاً (لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها شيئاً إلا أخلف الله مكانها مثلها). وقال: صحيح على شرط الشيخين.
قوله: (والأول أظهر، لمحافظته على عموم كلما، فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا) فلا يصح في الوجه الثاني هذا القول إذا أتوا به أول مرة. قلت: وعندي أن الثاني أرجح لأن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقة لقوله بعد: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} فإنه في رزق الجنة أظهر وإعادته إلى المرزوق في الدارين لا يخفى ما فيه من التكلف، وسيأتي في كلام أبي حيان إشارة إلى ذلك.
قوله: (وتبجحهم) التبجح الفرح.
قوله: (وأتوا به متشابها اعتراض) قال القطب: الأشبه أنها من

(2/133)


باب التذييل، وهو أن يعقب الكلام بما يشتمل على معناه توكيداً لا محل له من الإعراب وقال الشيخ أكمل الدين: قد جوز بعض علماء المعاني وقوعها آخر جملة لا تليها جملة متصلة بها فيشتمل التذييل. وهو مختار صاحب الكشاف.
وقال الشيخ سعد الدين: هذا على تجويز الاعتراض في آخر الكلام، والأكثرون يسمونه تذييلاً.
قوله: (والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}) قال الطيبي: إن المشبه به مشتملان على معنى المرزوق في الدارين. يعني من أرد أن يعبر عن قوله: هذا الذي رزقنا في الآخرة مثل الذي رزقنا في الدنيا بلفظ جامع له أن يقول المرزوق في الدنيا والآخرة. وهذا الطريق في البيان يسمى الكناية الإيمائية فالضمير المفرد راجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان فلو رجع إلى الملفوظ وهو المشبه والمشبه به. لقيل: وأتوا بهما وقال أبو حيان: معنى الكلام أنه لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على ذكر المرزوقين معاً ألا ترى أنك إذا قلت: زيد مثل حاتم، كان منطويا على ذكر زيد وحاتم. قال: وما ذكره الزمخشري غير

(2/134)


ظاهر الآية؟ لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عاندا على مرزوقهم في الآخرة فقط لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأن هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه مخبراً على المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين ألا يعود الضمير إلا إلى الرزق في الجنة [كأنه، قال وأتوا بالمرزوق في الجنة] متشابها، ولاسيما إذا أعربت الجملة حالاً، إذ يصير التقدير قالوا: هذا مثل الذي رزقنا من قبل، وقد أتوا به متشابها.
أي قالوا ذلك في هذه الحال، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابها ومجيء الجملة المصدرة بماض حالاً ومعها الواو على إضمار (قد) جائز في فصيح الكلام.
قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} أي وقد كنتم. ولذلك لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله: (هو الذي رزقنا من قبل) لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيا معه لأن ما في حيز كلما والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى، وإن كان ماضي اللفظ، لأنها لا تخلو من معنى الشرط، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الأخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابها ولا يظهر فيه أيضا العود إلى الدارين

(2/135)


لأن هذه الجمل محدث بها عن الجنة وأحوالها. انتهى.
قوله: ونظيره قوله: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) أي: الغنى والفقير. في الحاشية المشار إليها تنظيره عود الضمير في قوله: وأتوا به [إلى ما رزقوه في الدنيا والآخرة بقوله: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) وهاهنا القياس وأتوا بهما] متشابهين فهو على عكس ما نظر به غير أن كلام الكشاف ما يجيب عن هذا السؤال لأنه قال في أخر كلامه: ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به، فهذه الآية نظيرة تلك في أن كل واحدة منهما رجع الضمير فيها إلى المعنى لا إلى اللفظ، فقياس هذا أن يقال: وأتوا بهما، فقيل: به وقياس تلك أن يقال به، فقيل: بهما، وكذا قال الطيبي ونظيره في رجوع الضمير إلى المعنى دون اللفظ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} إذ لو اعتبر اللفظ لقيل: أولى به على الإفراد، لأن الضمير في الشرط- وهو أن يكن- راجع إلى المشهود عليه في قوله: (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن) أي: المشهود عليه غنيا أو فقيرا فالله أولى به ليتطابق الشرط والجزاء لكن لما كان المانع من الشهادة على الأقرباء غالبا أما خوف الفقر عليهم إذا كانوا أغنياء أو تضررهم بها إذا كانوا فقراء عم

(2/136)


الصنفين بتثنية الضمير، أي الله أعلم بجنس المتصف بصفة الغنى وبجنس المصتف بصفة الفقر، سواء كان مشهوداً عليه أو غيره، وأعلم بمصالحه وبما ينفعه فيدخل في هذا العام المشهود عليه دخولا أوليا وهذا أيضا كناية إيمائية يدل عليه قوله: بجنس الغنى والفقير. انتهى.
قوله: قال ابن عباس: (ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء). أخرجه مسدد في مسنده وهناد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث.
قوله: (مطهرة مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: معنى تطهيرهن مما ذكر أنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهن لا التطهير الشرعي بمعنى إزالة النجس/ الحسي والحكمي كما في الغسل عن الحيض ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. نعم في إطلاق التطهير تشبيه للدنس بالأقذار والأحداث.
قوله: وإذا العذاري بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت
قال المرزوقي، في شرح الحماسة. العذارى جمع عذراء يقول: إذا أبكار النساء صبرت على دخان النار حتى صار كالقناع لها ولم

(2/137)


تصبر على إدراك ما في القدور بعد نصبها لشدة الحاجة، فملت أي: شوت في الملة وهو الرماد الحار قدر ما تعلل به نفسها من اللحم لدفع ضرر الجوع المفرط من اشتداد السنة. وتخصت العذارى بالذكر لفرط حياتهن ولتصونهن عن كثير مما يبتذل فيه غير هن فجعل نصب القدور مفعول استعجلت على السعة. وجواب إذا، قوله بعده:
دارت بأرزاق العفاة مغالق .... بيدي من قمع العشار الجلة
والبيت من قصيدة، لسلمى بن ربيعة من بني أسد بن ضبة.
أولها: حلت تماضر غربة فاحتلت .... فلجأ وأهلك باللوى فالحلة
وكأن في العينين حب قرنفل .... أو سنبلا كحلت به فانهلت
زعمت تماضر أنني إما أمت .... يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
تربت يداك وهل رأيت لقومه .... مثلى على يسرى وحين تعلتى
رجلا إذا ما النائبات غشينه .... أكفى لمعضلة وإن هي جلت
ومناخ نازلة كفيت وفارس ... نهلت قناتي من مطاه وعلت

(2/138)


قوله وإذا العذارى: البيت.
قوله: ولذلك قيل للأثافي خوالد، قال في الصحاح: لبقائها بعد دروس الأطلال.
قوله (فإن قيل: الأبدان مركبة)، إلى آخره. قال الطيبي. ذكر الراغب نحو هذا الجواب. ثم قال: ليس لذلك القول وجه إلا التوقيف، ولا مدخل للاجتهاد فيه والذي يستبعده المتفلسفون هو أنهم يريدون أن يتصوروا أبدانا متناولة الأطعمة لا استحالة له فيها ولا تغير لها ولا يكون منها فضلات، وتصور ذلك محال وذلك لأن التصور هو إدراك الوهم ما أدركه الحس. ومالا يدركه الحس جزءه ولا كله كيف يمكن تصوره ولو كان للإنسان سبيل إلى تصور ذلك لما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
وما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخبراً عن الله تعالى: ((أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).
قوله: (التمثيل)، قال الطيبي: لم يرد به التشبيه التمثيلي [أو الاستعارة التمثيلية بل أعم. وقال الشيخ سعد الدين: المراد

(2/139)


بالتمثيل] التشبيه مطلقا سواء كان في المفرد أو المركب على وجه الاستعارة أو غيرها.
قوله: (ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء).
قلت: أخرج الرامهرمزي في الأمثال عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل).
قوله: كما مثل في الإنجيل غل الصدور بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة- ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير)، نص على ما حكاه الإمام في الأول: لا تكونوا كمنخل خرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم.
وفى الثاني: قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح.
وفي الثالث: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم، فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم.
قوله: (أسمع من قراد) قال الميداني: لأنه يسمع صوت

(2/140)


أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرك لها، وقال الشيخ سعد الدين: تزعم العرب إنه يسمع الهمس الخفي.
من وقع مناسيم الإبل على مسيرة سبع ليال، وقال القمي في الأمثال: زعموا أنه يحس بالإبل في ليلة القرب: وهي الليلة التي تصبح منها الإبل على الماء، فيتحرك لذلك حركة لا يخفى أنها قد أحست بإقبال الإبل والناس لا يشعرون قال: وفي لطف إحساس كثير من الحيوان عجب عجيب وإن في ذلك لعبرة لأولى الألباب، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قوله: (وأعز من مخ البعوض)، يضرب لمن تكلف الأمور الشاقة.
قوله: (وأيضا لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي) إلى آخره. وقال الإمام: إنه تعالى لما بين أن القرءان معجز أتى بشبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها. وتقرير الشبهة أنه جاء في القرءان ذكر النحل والذباب والعنكبوت، وهذه الأشياء لا تليق بكلام البلغاء فضلاً عن كلام المجيد، وأجاب أن صغر هذه الأشياء، لا يقدح في البلاغة.
إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة. قال الطيبي: فعلى هذا نظم الآية بما قبلها نظم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ

(2/141)


أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في كونها جملة مستطردة، كما ذكره الإمام: قلت: وفيه إشارة إلى مناسبة وضع هذه الآية هنا، ولم توضع في سورة العنكبوت أو الحج عقب المثل المستنكر، لأنه جواب عن شبهة أوردت على إقامة الحجة على حقيقة القرءان بأنه معجز فكان ذكرها هنا أنسب.
قوله: (فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها).
قال الشيخ سعد الدين: هو تفسير للفظ الحياء ونوع تنبيه على معناه الوجداني المغني عن التعريف.
وقال الشيخ أكمل الدين، الحق أن الكيفيات النفسانية لا تحتاج إلى تعريف لكونها وجدانيات، فإن عرفت كان التعريف لفظيا. قال: والظاهر أنه عرفه هنا ليبنى عليه كيفية جواز إطلاقه على الله تعالى.
قوله: (فقيل: حيي الرجل، هي لغة حكاها أبو زيد خلافا لقول أبي البقاء: إنه لم يستعمل منه فعل بلا سين.
قوله) (إذا اعتلت نساه وحشاه) النسا بالفتح والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين، ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ

(2/142)


الحافر، والحشا: الربو وهو النفس العالي، قاله: القطب والطيبي والشيخ سعد الدين، وقاد الشيخ سعد الدين وغيره: الحشا ما انضمت عليه الضلوع والجمع أحشاء.
قلت: يريد الأول قول الشماخ:
تلاعبني إذا ما شئت خود ... على الأنماط ذات حشا قطيع
أي: ذات نفس عال من سمنها.
قوله: (إذا وصف به الباري تعالى، كما جاء في الحديث: ((إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه)). أخرجه البيهقي في الزهد، من حديث آنس بنحوه، وابن أبي الدنيا في كتاب العمر من حديث سلمان بنحوه.
قوله: ((إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردها صفرا حتى يضع فيهما خيرا)). أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه،

(2/143)


والحاكم، وصححه من حديث سلمان، يدون قوله: حتى يضع فيها خيراً. وأخرجه الحاكم من حديث أنس هذه الجملة نحوه. والصفر: الخالي.
قوله: (فالمراد به الترك اللازم للانقباض، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما). قال صاحب الانتصاف: التأويل في الحديث لازم، لأنه إثبات، وأما الآية فلا تحتاج إلى التأويل، لأن الحياء مسلوب عنه تعالى، فهو كقوله: إنه تعالى، ليس بجسم ولا عرض، وتعقبه القطب، بأن نفي الحياء في الآية ليس سلبا محضا، بل عدم الحياء عن ما من شأنه الحياء، فإن نفى الحياء مطلقا وصف مذمة، فإنه يقال للخائض فيما لا ينبغي: لا حياء له وذلك محال على الله تعالى سلبا، فوجب التأويل في السلب كالإثبات، وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: هب أن إثبات الاستحياء لله تعالى كما في الحديث يحتاج إلى تأويل، وأما نفيه كما في الآية فلا يحتاج إلى ذلك كما في قولهم: لله ليس بجوهر ولا عرض وقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، و {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ونحو ذلك: فأي

(2/144)


حاجة إلى جعل لا يستحي من قبيل التمثيل أو المقابلة أعنى المشاكلة، قلنا إذا نفيت أمثال ذلك على الإطلاق، بمعنى أنها ليست من شأنه فإنه لا يتصف بها، كما في الأمثلة المذكورة لم يحتج إلى تأويل، وأما إذا نفيت على التقييد فقد رجع النفي إلى القيد، وأفاد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، فاحتاج إلى تأويل، كما إذا قيل: لم يلد ذكرا ولم يأخذه نوم في هذه الليلة، وليس بعرض قارن الذات. وقال الطيبي: الفرق بين قولنا: إن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض، وما في الآية والحديث هو أن القصد في ذلك التنزيه: ومالا يجوز أن ينسب إليه تعالى. وفي الآية القصد إلى تجويز ضرب المثل وأن الحياء غير مانع منه، وفي الحديث القصد إلى ترك تخييب العبد وأن الحياء مانع من التخييب فالمقاصد مختلفة والمقامات متباينة، فهما قريبان من ترتب الحكم على الوصف المناسب، فلابد من اعتبار المجاز.
قوله: (ونظيره، قول من يصف إبلا:
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه .... كرعن بسبت في إناء من الورد)
هو للمتنبي، قال الطيبي: أي تركن، والضمير للنوق وكرع الماء يكرع كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه والسبت بكسر السين المهملة: جلود البقر المدبوغة بالقرظ، شبه مشافر الإبل به، وعنى بالإناء

(2/145)


النقرة فيها الماء، وبالورد الأزهار، ويصف الإبل وكثرة مياه الأمطار المحفوفة بالأزهار، فكأن الماء يعرض نفسه عليها.
والإبل تستحي من رد الماء إذا كثر عرض نفسه عليها فتكرع فيه بمشافر كأنها السبت. والبيت من قصيدة يمدح بها أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد، أولها:
نسيت وما أنسى عتابا على الصد .... ولا خفرا زادت به حمرة الخد
ومن يصحب اسم ابن العميد محمد ... يسر بين أنياب الأساود والأسد
يمر من السم الوحي بعاجز ... ويعبر من أفواههن عن درد
كفانا الربيع العيس من بركاته ... فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه .... كرعن بسبت في إناء من الورد
كأنا أرادت شكرنا الأرض عنده .... فلم يخلنا جو هبطناه من رفد
قوله: (وأنما عدل به عن الترك لما فيه من التمثيل).

(2/146)


قال الشيخ سعد الدين: بين الاستعارة التمثيلية وبين التشبيه في المصدر تنبيها على أنها استعارة تبعية، وبه يظهر أن المستعار في الاستعارة التمثيلية قد يكون لفظا مفرداً دالاً على معنى مركب.
قوله: (وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة). قال الطيبي: لم يرد بالمقابلة المعنى المصطلح عليه في البديع، وهي أن يجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وبين ضديهما. بل أراد المشاكلة. وهي: أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته لكن المشاكلة على التقدير. إذ لولا قولهم: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت على سبيل الإنكار لم يحسن قوله إن الله لا يستحي، جوابا عنه. وذكر نحوه الشيخ أكمل الدين والشيخ سعد الدين. وزاد أن المشاكلة ليس بحقيقة، كما هو ظاهر، وأن وجه التجوز ليس بظاهر، قال: وظاهر كلامهم أن مجرد وقوع مدلول هذا اللفظ في مقابلة ذاك جهة التجوز.
قلت: وقد كنت سئلت قديما عن المشاكلة ما علاقتها؟ فأجبت بما نصه، قد رأيت بعض متأخري أهل البيان إدعى في نوع المشاكلة أنه واسطة بين الحقيقة والمجاز، قال: وليس بحقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما لم يوضع له ولا مجاز لعدم العلاقة المعتبرة.
والصواب أنه مجاز قطعا، والعلاقة في مثل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ

(2/147)


سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الشكل والشبه الصورى، كما يطلق على الإنسان والفرس على الصورة المصورة.
قوله: (وضرب المثل اعتماده) زاد في الكشاف وصنعه.
قوله: (وأصله وقع شيء على آخر) قال الراغب: الضرب إيقاع شيء على شيء، ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف ونحوها. وضرب الدراهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، وقيل له الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه، وبذلك شبه السجية، فقيل لها: الضريبة والطبيعة، والضرب في الأرض: الذهاب فيها وهو ضربها بالأرجل، وضرب الخيمة بضرب أوتادها بالمطرقة، وتشبيها بضرب الخيمة قال تعادلى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} أي: التحفتهم الذلة التحاف الخيمة، ومنه استعير

(2/148)


{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} وضرب المثل هو من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.
قوله: (وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بافضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه) قال ابن مالك في شرح الكافية: يجوز أن يتعدى الفعل اللازم بحرف الجر إلى إن وأن وغيرهما، نحو عجبت [من أنك منطلق، ومن أن قام زيد ومن قعود عمرو، ويجوز حذف حرف الجر من أن وإن، فيقال]: عجبت أنك ذاهب وأن قام زيد، ولا يجوز حذفه من غيرهما، فلا يقال: عجبت قعود عمرو.
ومذهب الخليل والكسائي في أي وإن، إنهما في محل جر بعد حذف حرف الجر. ومذهب سيبويه والفراء إنهما في محل نصب، ويؤيد قول الخليل قول الشاعر: أنشد الأخفش:
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة ... إلى ولا دين بها أنا طالبه
فجر المعطوف على أن فعلم أن أن في محل جر.
تنبيه: قول المصنف: منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها كلام مطلق لم يقصد به خصوص هذا الموضع، فإنه يجوز هنا أن تكون منصوبا لا على حذفها، بل على تعدية الفعل بنفسه إليه فإن استحي

(2/149)


يتعدى بنفسه
أيضا. قالت شاعرة:
وإني لأستحييه والثوب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني
وقد نبه على ذلك في الكشاف، فقال: وفيه لغتان، التعدي بالجار والتعدي بنفسه. تقول: استحييت منه واستحييته وهما محتملان هنا. هذه عبارته، قال في الحاشية المشار إليها: يعني التعدية بنفسها وبحرف الجر فإن عديت بنفسها فموضع (أن يضرب) النصب بالمفعولية، فإن عديت بحرف الجر كانت على الوجهين المشهورين في موضع أن وما بعدها إذا حذف منها حرف الجر، هل هي في موضع نصب أو جر؟ فحاصله أن فيها طريقين، طريقة قاطعة بأن محله نصب وطريقة بأن في محله قولين، أحدهما النصب والآخر الجر. انتهى.
قوله: (وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا) وتسد عنها طرق التقييد، كقولك: أعطني كتابا ما أي أي كتاب كان، أو مزيدة للتأكيد، كالتى في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} قال الشيخ سعد الدين: جعل صاحب الكشاف ههنا ما الإبهامية قسيما للصلة وفي المفصل قسيما من حروف الصلة، مثلها في {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} وكأنه مال هنا إلى أنها اسم على ما هو رأي البعض، فمعنى مثلا ما أي مثل

(2/150)


ويتفرع على الإبهام الحقارة مثل أعطه شيئا ما، والفخامة مثل لأمر ما يسود، والنوعية مثل أضربه ضربا (ما) ففي الجملة تؤكد ما إفادة تنكير الاسم قبلها قال: وبين فائدة المزيدة بقوله للتأكيد لئلا يتوهم أنها لغو يجب صيانة الكلام الفصيح عنه.
وقال الطيبي: إذا كانت ما إبهامية تعطى معنى التنكير في مثلا وتزيد في شيوعه، ولهذا قلنا أي مثل كان والمؤكدة تؤكد معنى مضمون الجملة ويعضده ما في المفصل: قولك ما أن رأيت زيداً. الأصل ما رأيت، ودخول أن صلة أكدت معنى النفي وقال الشيخ أكمل الدين: الإبهامية: قال بعضهم إنها اسمية للصفة لأنها في معنى مثلا أي: مثلا حقيرا كان أو صغيراً، قال: وذكر بعضهم أن ما في الكشاف هو الوجه، لثبوت زيادة ما لهذه الفائدة نصا في مثل {أَيًّا مَا تَدْعُوا} و {أَيْنَمَا تَكُونُوا} فالحمل على ما ثبت أولى، قال: وقوله: أو مزيدة للتأكيد، يعني أنها لتأكيد الكلام، لا لزيادة الإبهام والشيوع.
قال بعضهم: وحينئذ يحتمل أن تكون لتأكيد ضرب المثل فيكون معناه إن الله يضرب المثل حقا. وأن تكون لتأكيد نفي الاستحياء، فمعناه إن الله لا يستحي ألبته أن يضرب مثلا، وقال أبو حيان: ما إذا نصب بعوضة زائدة للتأكيد، أو صفة للمثل تزيد النكرة شياعا، كما تقول: ايتني برجل

(2/151)


ما، أي: أي رجل كان. وقيل: ما نكرة وتنصب بدلا من مثلا. وقال ابن هشام في المغني: قال الزجاج: ما في قوله: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين. قال ابن هشام: ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وبعوضة بدل. وقيل: (ما) اسم نكرة صفة لمثلا أو بدل منه، وبعوضة عطف بيان على (ما).
قوله: (ولا نعنى بالمزيد اللغو الضائع) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: معنى كونها صلة ومزيدة أنها لا يتغير بها أصل المعنى، ويشكل ببعض الحروف المفيدة للتأكيد، مثل إن واللام حيث لا تعد صلة وإن اشترط عدم العمل انتقض باللام حيث لم تعمل، وزيادة بعض الحروف الجارة حيث عملت، وقد تكون حروف الصلة لتزيين اللفظ وزيادة فصاحته، وقال الشيخ أكمل الدين: ليس معنى الزيادة التي تكون لغوا، فإنه لا يصح في الكلام المعجز، وإنما المراد بها ألا تكون موضوعة لمعنى أو جزء التركيب وإنما تفيد وثاقة وقوة للتركيب. وقال بعضهم في الفرق بينها وبين الحروف الموضوعة للتأكيد الغير الزائدة، كلام القسم ولام التأكيد ونحوهما إن هؤلاء موضوعة لتأكيد هو جزء معنى التركيب كالجص الذي يوضع بين اللبنتين، والحرف الزائد وإن كان موضوعا لمعنى التأكيد إلا أنه لا دخل له في التركيب بل خارج عنه كما إذا أوصل خشبة بخشبة وضع على مفصلهما ضبة فتلك الضبة ما صارت جزءا من ذلك المركب، بل لا يفيد إلا

(2/152)


توثيقا وزيادة متانة، وكذلك القول في سائر الزيادات. انتهى.
وهذا الكلام الأخير للقطب.
قوله: (وبعوضة عطف بيان لمثلا)، قال أبو حيان: نصب بعوضة، إما على أن تكون صفة (لما) إذا جعلنا (ما) بدلا من (مثل) ومثلا: مفعول بيضرب، وتكون (ما) إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المنكر لإبهام ما أو عطف بيان ومثلا مفعول بيضرب أو بدلا من مثل، أو مفعول ليضرب، وانتصب مثلا حالاً من النكرة مقدما عليها أو مغعولا ليضرب ثانيا، والأول هو (المثل) على أن يضرب [يتعدى إلى اثنين، أو مفعولاً أول ليضرب ومثلا، المفعول الثاني وعلى تقدير اسقاط الجار، والمعنى أن يضرب مثلا] ما بين بعوضة فما فوقها، وحكوا له: عشرين ما ناقة فجملا قال: والذي نختاره من هذه الاعاريب: أن ضرب يتعدى لواحد وذلك الواحد هو مثلا، لقوله تعالىء: {ضُرِبَ مَثَلٌ} ولأنه المقدم في التركيب، وما صفة تزيد النكرة شياعا، وبعوضة بدل لأن عطف البيان، مذهب الجمهور فيه: أنه لا يكون في النكرات. انتهى.
قوله: (أو مفعول ليضرب ومثلا حال تقدمت عليه). قال الشيخ سعد الدين: لإخفاء في أنه لا معنى لقولنا: يضرب بعوضة إلا يضم مثلا إليه فتسميته مثل هذا مفعولا ومثلا حال بعيد جدا، وتوهم كونه حالاً موطئة غلط ظاهر، فإن مثلا هو المقصود، وإنما يستقيم لو جعل مثلا

(2/153)


بعوضة حالا ومثلا صفة له، مثل {أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}. وقال الشيخ أكمل الدين: ذكر بعضهم أن الحال على هذا تكون موطنة ليستقيم المعنى وقل ما يجيء هذا القسم مقدما على صاحبه. فلهذا ضعف هذا الوجه.
قوله: (أوهما مفعولاه: لتضمنه معنى الجمل).
قال الطيبي: قيل هذا أبعد الوجوه لندرة مجيء مفعولي جعل وأمثاله نكرتين، لأنهما من دواخل المبتدأ والخبر. قال الشيخ أكمل الدين: ورد بأن البعوضة فما فوقها فيه معنى التعميم والوصف أيضا؛ لأنه يفيد معنى صغيراً وأصغر.
قال: وكون ضرب بمعنى جعل طريقة المجاز لأن ضرب جعل خاص، ويكون مثلا هو المفعول الثانى.
[وقال الشيخ سعد الدين: هذا على أن مثلا هو الثاني] وبعوضة هو الأول، ومع التنكير لحصول الفائدة إذ القصد بها إلى أصغر صغير.
قوله وعلى هذا تحتمل (ما) وجوها أخر أن تكون موصولة، قلت: هذا صريح في أنها لا تحتمل المحصولية على قراءة النصب، وليس كذلك فقد ذكر ابن جرير عدم قراءة النصب أنها موصولة حذف صدر صلتها، ثم أورد على نفسه أن [النصب] حينئذ لا وجه له. وأجاب

(2/154)


بأن له وجهين أحدهما: أن ما لما كانت في محل نصب وكانت بعوضة صلتها أعربت بإعرابها.
كما في قول حسان:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا
فإن غيرنا أعربت بإعراب من، والعرب تفعل ذلك خاصة في (من، وما)، تعرب صلاتهما بإعرابهما. والثاني: أنه على تقدير ما بين بعوضة إلى ما فوقها فحذف بين ونصب بعوضة لإقامته مقامه ثم حذف (إنى) إكتفاء بالفاء. على قولهم. (أحسن ما قرنا فقد ما)، أي ما بين قرن إلى قدم. انتهى.
قوله: (حذف صدر صلتها)؛ قال أبو حيان؛ أي: الذي هو بعوضة، قال: وهذا يتمشى على مذهب الكوفيين. لعدم اشتراطهم في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة والبصريون يشترطون ذلك.
قوله: (وموصوفة) أي: نكرة بصفة كذلك، أي حذف صدر الجملة التي هي الصفة، أي: هو.
قوله: (واستفهامية)، إلى قوله: ونظيره: (فلان لا يبالي بما يهب مادينار ماديناران)، قال صاحب الانتصاف: لا يستقيم المعنى على ما أشار إليه لأن هذا الاستفهام إنما يقع للانكار تنبيها بالأدنى على

(2/155)


الأعلى، كما يقال: فلان يعطي الأموال ما الدينار وما الديناران، وأما ههنا فهم أنكروا ضرب المثل بالذباب، فلا يستقيم أن تكون البعوضة فما فوقها في الصغر أو الكبر على اختلاف المذهبين، تنبيها بالأقل على الأكثر إذ هي وما فوقها الأكئر في الحقارة ولا تجد لتصحيح المعنى وجها.
قال: وإنما أطلت لأنه موضع ضيق يبعد فهمه، وحسبك بمعنى انعكس فيه فهم الزمخشرئي، وقال صاحب الانتصاف: لو تأمل كلام الزمخشري لوجد جواب اعتراضه فيه لأنه قال: أجيبوا بأن الله لا يستحي أن يضرب [من الأمثال ما يشاء، فما البعوضة فما فوقها وذلك أن المسلوب عنه تعالى أن يستحي أن يضرب] مثلا وهو نكرة في سياق النفي فيعم كل مثل على اختلاف أنواعه، فما البعوضة فما فوقها في الكبر إذ الكل في الجواز سواء.
أو فما البعوضة فما فوقها في الحقارة إذا المبالغة في تحقيره لا يخرجه عن كونه مثلا، والكل جائز، ولا يلزم في الاستفهام (بما) أن يكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى بل قد يكون للإنكار على من سمع قاعدة قد تقررت، فسال عن بعض جزئياتها وقال: لم جاز هذا مع وضوح الدليل على جواز الكل لاشتراك الجميع في علة واحدة، وليس بعجيب ما وهم فيه فظنه من ضيق مجال هذا البحث، فقد قال الشاعر:
وكرم من عانب قولا صحيحا .... وافته من الفهم السقيم

(2/156)


وفي الحاشية المشار إليها: ادعى بعض الفضلاء أن هذا الوجه غلط من المصنف وأن فهمه انعكس فيه فإن تمثيله بقوله: فلان لا يبالي بما يهب، ما دينار ماديناران عكس هذا المثال، فإن من سمح بإعطائه الكثير كان سماحه بإعطاء القليل أولى، فما وجه سؤالك، عن الدينار والدينارين إذ هو داخل تحت قولك: لا يبالي بما وهب من باب الأولى، [وأما هذا فإذا لم يستحي من ضرب الأمثال بالأشياء الكاملة الجليلة لا يكون ضرب المثل بالبعوض جانزا من باب الأولى].
لأنهم إنما استنكروا حقارتها، ولو ضربت بشيء شريف أو جليل لما استنكروه. قال: وجوابه أن المصنف لم يدع أنه من باب الأولى حتى يرد عليه ما قيل، ولكن إذا ذكرت قاعدة كلية يندرج تحتها جزئيات، فسأل سائل على جزئياتها واحدة واحدة توجه الإنكار عليه كما لو قيل: يحرم الربا في كل مطعوم، فقال قائل: فما تقول في السفر جل والتفاح [اللوز؟ فإنك تقول له: قد قلت: إنه يحرم الربا في كل مطعوم، فما سؤالك عن التفاح] وغيره؟ كذلك ههنا، قال إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا، ومثلا نكرة في سياق النفي يعم البعوض والذباب والعنكبوت وغيرها.
قوله: (والبعوض فعول)، [في الكشاف: والبعوض]. في أصله صفة على فعول كالقطوع والخموش فغلبت، واشتقاقه من البعض، وهو القطع كالبضع والعضب.
قوله: (غلب على هذا النوع) يعني غلب استعمال هذه الصفة في هذا الحيوان/ المعروف.
قوله: (كالخموش) قال الشيخ أكمل الدين: يعني أنه أيضا في

(2/157)


الأصل صفة فغلبت، وهو بفتح الخاء: البعوض في لغة هذيل، سميت به لكثرة خمشه أي خدشه.
قوله: (أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا، وهو الصغر والحقارة)، قال الشيخ أكمل الدين، هذا الوجه هو الذي مال إليه المحققون لمطابقته البلاغة ولما سبق له الكلام، وأما الوجه الأخر فلا يظهر إلا إذا خضت بمورد النزول وإنه كان في الذباب والعنكبوت وفي هذا الوجه: الترقية معنوية والصغر في الحجم، وفيه الترقي من الأدنى إلى الأعلى في الحقارة.
قوله: (كجناحها، فإنه عليه السلام ضربه مثلا للدنيا).
أي في قوله: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة). أخرجه الترمذي من حديث سهل بن سعد.
قوله: (روى أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط).
فقالت عائشة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((ما من مسلم يشاك شوكة)) الحديث أخرجه، مالك والبخاري ومسلم والترمذي، قال الطيبي عند بعضهم: أراد بقوله: شوكة المعنى، لا العين، وهي المرة

(2/158)


من شاك: ولو أراد العين لقال: بشوكة. قال: وفيه نظرا، يقال: شيك الرجل فهو مشوك إذا دخل في جسمه شوكة. وجزم التفتازاني والشيخ أكمل الدين بأن المراد المرة من المصدر لا واحد الشوك الذي هو العين. والفسطاط: بيت من شعر قوله: (كنخبة النملة)، قال في النهاية: النخبة، بالخاء المعجمة: العضة والقرصة.
يقال: نخبت النملة تنخب، إذا عضت.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أصاب المسلم من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة)) قال الطيبي: لم أقف له على رواية. وقال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه بهذا اللفظ.
قوله: (أما حرف يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه ليس باسم، على ما يتوهم من قولهم: أما زاد فمنطلق، معناه: مهما يكن من شيء، مع شيوع العبارة عنه بالكلمة دون الحرف ثم هي ليست بحرف شرط، بل فيها معنى الشرط، ونبه بقوله: ولذلك يجاب بالفاء على ما يعلم به تضمنها معنى الشرط. وسره: أنهم لما حاولوا الدلالة على أن الواقع بعده مما يتعلق به (بشيء من الجملة جعلوه في موضع الملزوم أعني الشرط، وما يتعلق به في

(2/159)


موضع) اللازم، أعني الجزاء فدل على لزوم الحكم، وأنه كائن البتة، ولا محالة. وإلى هذا أشار ببيان فائدته.
وذكر ابن الحاجب في تحقيق معناها ووجه جواز تقديم ما في حيز الفاء عليها. أنها لتفصيل ما في نفس المتكلم من أقسام متعددة، فقد تذكر الأقسام، وقد يذكر قسم ويترك الباقي. كقوله تعادلى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} والتزموا حذف الفعل بعدها لجريه على طريقة واحدة كما التزموا حذف متعلق الظرف إذا وقع خبراً، مثل زيد في الدار لأن المعنى: مهما يكن من شيء أو يذكر من شيء، والتزموا أن يقع بينها وبين جزائها ما يكون كالعوض من الفعل المحذوف، ثم اختلفوا فيما يتعلق به ذلك الواقع. والصحيح أنه أحد أجزاء الجملة الواقعة بعد الفاء قدم عليها لغرض العوضية. وذلك: لأن وضعها لتفصيل الأنواع وما ذكر بعدها أحد الأنواع المتعددة. وذكره باعتبار ما يتعلق به من الجملة الواقعة بعد الفاء والغرض من التقديم الدلالة على أنه هو النوع المراد تفصيل جنسه، وكان قياسه أن يقع مرفوعا على الابتداء؛ لأن الغرض الحكم عليه بحسب ما بعد الفاء لكنهم خالفوا الابتداء إيذانا من أول الأمر بأن تفصيله باعتبار الصفة التي هو عليها في الجملة الواقعة بعد الفاء من كونه مفعولاً أو ظرفا أو مصدرا أو غير ذلك. ألا ترى أنك (تفرق) بين يوم الجمعة في قولك: يوم الجمعة ضربت فيه، وقولك: ضربت في يوم الجمعة، وإن كان في الموضعين مضروبا فيه إلا أنه ذكر في الأول ليدل على أنه حكم عليه، ولما كان الحكم بوقوع الضرب فيه علم أن الضرب واقع صفة وفي الثاني ذكر ليدل على أنه الذي وقع الضرب فيه من أول الأمر. فلما كان كذلك قصد أن يكون الواقع بعد (أما) من أول

(2/160)


الأمر على حسب ما هو عليه في جملته ولزم أن يكون على معناه وإعرابه الذي كان له، وبطل القول بكونه معمول الفعل المحذوف مطلقا أو بشرط أن لا يكون هناك مانع، وتبين وجه ما قيل أن لها خاصية في تقديم الصحيح لما يمتنع تقديمه. وحاصله التنبيه على أن الواقع بعدها هو المقصود بالتفصيل والتخصيص من بين ما في الجملة الواقعة بعد الفاء.
تنبيه: وقع في المغني لابن هشام أما حرف شرط وتفصيل وتوكيد.
قال الشيخ بدر الدين، ابن الدماميني، في حاشيته: فهو، معترض، فقد صرح غير واحد من النحاة، أن (أما) ليست بحرف شرط، بل فيها معنى الشرط، قال الشيخ بهاء الدين السبكي، في شرح التلخيص: (أما) من الأدوات التي يحصل بها التعليق وليست شرطا وبذلك صرح شيخنا أبو حيان، ونقل عن بعض أصحابه إنها حرف إخبار تضمن معنى الشرط، ولو كانت أداة شرط لاقتضت فعلا بعدها لكنها أغنت عن الجملة الشرطية وعن أدوات الشرط، وهي من أغرب الحروف لقيامها مقام أداة شرط وجملة شرطية، ولكونها تدل على الشرط، حكم أن معنى أما زيد فذاهب: الإخبار بأنه سيذهب في المستقبل، لأن زيد ذاهب جواب الشرط، ولا يكون جوابه إلا مستقبلا. هذا كلامه.
قال الدماميني: وقد يقال: إنه جعلها حرف شرط باعتبار تضمنها لمعنى الشرط لا باعتبار أنها موضوعة للشرط، والإضافة تكون

(2/161)


بأدنى ملابسة. انتهى.
وقال أبو حيان في شرح التسهيل: قال بعض أصحابنا أما حرف إخبار متضمن معنى الشرط. فإذا قلت: أما زيد فمنطلق: فالأصل إن أردت معرفة حال زيد فزيد منطلق ثم حذفت أداة الشرط وفعل الشرط، وأنيبت أما مناب ذلك. ولو كانت شرطا لكان ما بعدها متوقفا عليها، وأنت تقول (إما عالما فعالم) فهو، عالم. ذكرته أنت أولم تذكره بخلاف إن قام زيد قام عمرو فقيام عمرو متوقف على قيام زيد، وأجيب بأنه قد يجيئ الشرط على ما ظاهره عدم التوقف عليه. كقوله: (من يك ذابت فهذا بتى) ألا ترى أن بته موجود، كان لغيره بت أو لم يكن. وكقولهم: إما عالم فعالم، فالمعنى: مهما تذكره عالما فذكرك حق، لأنه عالم ولا يكون ذكره حقا حتى تذكره فقد تضمنت معنى الشرط وأنابوا (أما) مناب الشرط وفعله (فجاءت الفاء تلي (أما) فأرادوا أن يصلحوا اللفظ فأولوها شينا آخر حتى لا يجئ الجزاء تاليا أداة الشرط).
وفي البسيط، قال ابن السيد: أما حرف إخبار يتضمن معنى الشرط ونقض بنحو، أما زيدا فاضرب. وقد ألغز الشيخ علم الدين السخاوي في أما هذه فقال:

(2/162)


وأية كلمة في حكم شرط .... وجاك جوابها ينيبك عنها
وقد جمعوا حروف الشرط عدا ... وما عدت لعمر أبيك منها
قوله: (ولذلك يجاب بالفاء) قالي الشيخ أكمل الدين: استدلاله على تضمنه معنى الشرط بدخول الفاء في جوابه فيه نظر لأن دخوله بعد كونه للشرط فلا يكون علة له، قال: والجواب: أن معنى الشرط علة للدخول والدخول دليل عليه فاختلفت جهة التوقف.
قوله: (وفي تصدير الجملتين به إحماد). قال الطيبي. ليس من أحمدته أي صادفته محموداً. وإنما هو من أحمدت صنيعه وأحمدت الأرض رضيت سكناها وجاورته فأحمدت جواره.
قاله في الأساس في قسم المجاز، وقيل: حكم بكونه محموداً كالإكفار حكم بكونه كافرا.
قوله. (والضمير في أنه للمثل أو لأن يضرب). قال أبو حيان: الاظهر الأول. كقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} فميز المشار إليه بالمثل والتقسيم ورد عدد شيء واحد فظهر أنه عائد على المثل.
قوله: (وذا بمعنى الذي وما بعده صلته).
قال أبو حيان: والعائد محذوف إذ فيه شرط جواز الحذف والتقدير

(2/163)


ما الذي أراده الله.
قوله: (والمجموع خبر ما) قال الشيخ سعد الدين: بإطباق النحاة وإن كان المبتدأ نكرة والخبر معرفة.
قوله (ليطابق الجواب السؤال) أي: في كونه جملة اسمية على الأول وفعلية على الثاني.
قوله (والإرادة نزوع النفس) إلى آخره ذكر الإماء أنه لا حاجة إلى تعريف الإرادة، لأنها من الضروريات فإن الإنسان يدرك بالبديهة التفرقة بين إرادته وعلمه وقدرته وألمه ولذته، ثم حدها بأنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الأخر لا في انوقوع بل في الإيقاع. قال: واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة.
قوله: (فقيل: إرادته لأفعاله أنه غير ساه) إلى أخره.
هذا قول النجار، من المعتزلة. فالإرادة عنده من الصفات السلبية لا الثبوتية.
قوله: (وقيل: علمه باشتمال الأمر) إلى آخره. هذا رأي الجاحظ والكعبي وأبي الحسن البصري منهم.

(2/164)


((قوله: والحق أن ترجيح أحد مقدوريه على الأخر، وتخصيصه بوجه دون وجه)) إلى آخره. هذا رأي الأشاعرة، فهي صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم. (وقوله: بوجه دون وجه: إحتراز عن القدرة، فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقا.
قوله: (ومثلا: نصب على التمييز).
قال الشيخ سعد الدين: قد كثر في الكلام التمييز عن الضمير، وقد يكون في اسم الإشارة وتمامها بنفسها من جهة أنه تمتنع إضافتها وذلك إذا كانا مبهمين لا يعرف المقصود بهما، مثل ياله رجلا ويالها من قصة ويالك من ليل، ونعم رجلا وأشباه ذلك.
والعامل هو الضمير واسم الإشارة، فقد جوزوا إعمالها كما في سائر الأسماء الجامدة المبهمة التامة بالتنوين ونحوه. وأما إذا كان المرجع والمشار إليه معلوما كما في قولنا: جاءني رجل فلله دره رجلا، ويالك رجلا، في الخطاب المعين، وقال الله عز قائلا أو من قاتل، ولقيت زيدا قاتله الله شاعراً، وانتفع بهذا سلاحا، فالتمييز عن النسبة وهو نفس المنسوب إليه، كما في قولك: كفى بزيد رجلا، ويلم أيام الشباب معيشة وأمثال ذلك. ومعلوم أن هذا في الآية إشارة إلى المثل، فالتمييز على النسبة، وهي: نسبة التعجب والإنكار إلى المشار إليه. وقال أبو حيان: انتصاب مثلا على التمييز أي من مثل. وهو المختار. وجاء على معنى التوكيد لأنه

(2/165)


من حيث أشير إليه علم أنه مثل، فجاء التمييز بعده مؤكدا للاسم الذي أشير إليه.
قوله: (أو الحال، كقوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} قال أبو حيان: هو حال من اسم الإشارة أي: ممثلا به، والعامل فيه اسم الإشارة.
وقال الشيخ سعد الدين: ذو الحال هو اسم الإشارة وأما العامل: فهو الفعل. كما في قولك: لقيت هذا فارسا إلى زيد، ولا حاجة إلى جعل العامل اسم الإشارة وذي الحال الضمير المجرور الذي في أشير إليه مثلا، وعلى هذا فالتمثيل بقوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} في مجرد أن الحال اسم جامد، وإلا ففي الآية العامل في الحال اسم الإشارة. مثل: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} انتهى.
وجوز أبو البقاء، أن يكون صاحب الحال اسم الله أي: متمثلا. ثم قال الشيخ سعد الدين: وإيقاع مثلا تمييزاً أو حالا من هذا. يشعر بأنه إشارة إلى المثل لا إلى ضرب المثل على ما هو أحد محتملي الضمير في أنه الحق.
قوله: (أو بيان للجملتين) إلى آخره، قال الطيبي: كلتا الجملتين مشتملة على الكثرة وعلى معنى الضلالة والهدى، وبين قوله: (يعلمون أنه الحق من ربهم، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) فبين بقوله: (

(2/166)


يضل) إلى آخره ذلك وكشف المعنى.
قوله: (قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا).
هو للمتنبي من قصيدة يمدح بها على بن يسار وقبله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مزد
ثقال/ إذا لالقوا خفاف إذا دعوا
قوله:
إن الكرام كثير في البلاد وإن .... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
قوله: قال رؤبة: فواسقا عن قصدها جوائرا
أوله: يذهبن في نجد وغورا غابرا.
يصف نوقا يمشين في المفاوز ويذهبن عن استقامة الطريق غورا عطف على محل الجار والمجرور. فواسقا: خوارجا. والقصد الطريق المستقيم. وجوائرا: من جار عن القصد، عدل عنه. قال ابن الأعرابي: لم يسمع قط في كلام الجاهلية، ولا في أشعارهم فاسق.

(2/167)


وهذا عجيب وأنه كلام عربي.
قوله: (التغابي) بالغين المعجمة والموحدة، من تغابي: أي تغافل.
قوله: (واستعماله في إبطال العهد من حيث أن العهد يستعار له الحبل).
قال الطيبي: أي لما سمعوا العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، كما في قولهم: إن بيننا وبين القوم حبالا، أي عهدا، جسروا أن يستعملوا النقض في إبطال العهد، وذلك: أنه شبه العهد بالحبل لما فيه من ثبات الوصلة تشبيها بليغا حتى إنه حبل من الحبال، ثم أخذ الوهم في تصويره بصورة الحبل وتخييله بالحبل واختراع ما يلازم الحبل من النقض (ثم إطلاق النقض) المحقق على ذلك المخترع على سبيل الاستعارة التخييلية ثم إضافته إلى العهد المتخيل لتكون قرينة مانعة، من إرادة المعنى الحقيقي ولو لم يذكر النقض لم يعلم أن العهد مكان الاستعارة. فما، في قوله: (ما هو من روادفه) واقعة على النقض، والضمير في روادفه للحبل.
وقال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة بالكناية، حيث سكت عن الحبل المستعار، ونبه عليه بذكر النقض، حتى كأنه قيل: ينقضون حبل الله أي عهده. والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال

(2/168)


العهد بإبطال تأليف الجسم وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فهذا الاعتبار صار قرينة على استعارة الحبل للعهد قال: وبهذا ظهر أن الاستعارة بالكناية قد توجد بدون التخييلية، وإن قرينتها قد تكون استعارة تحقيقية.
قوله: (والعهد الموثق)، بفتح الميم مصدر، بمعنى الوثوق أو اسم موضع، أي موضع الوثوق. قاله القطب.
قوله: (وهذا العهد إما العهد المأخوذ بالعقل) إلى آخره.
الذي اختاره ابن جرير، القول الثاني وأنها نزلت (في منافقي) أهل الكتاب.
قوله: (الضمير للعهد) منهم من رجعه إلى الله تعالى.
فعلى الأول: هو من إضافة المصدر إلى المفعول.
وعلى الثاني: من إضافته إلى الفاعل. قاله أبو البقاء.
قوله: (ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر) هذا ذكره الزمخشري وتبعه أبو البقاء. ورد بأن النحويين لم يذكروا مفعالا في صيغ المصادر، حتى إن أبا العباس ابن الحاج وابن مالك لم يذكرا ذلك مع أنهما من أكثر الناس استيعابا للأبنية المصادر. وأصل مفعال أن يكون وصفا كمطعام ومسقام. قال ابن عقيل: ويجوز حمل كلام الزمخشري

(2/169)


على إرادة أنه اسم واقع موقع المصدر كعطاء، وبه صرح ابن عطية.
قوله: (يحتمل كل قطيعة) إلى آخره. قال ابن جرير - بعد حكايته- هذا المذهب غير بعيد من الصواب إلا أن الله تعالى قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه فوصفهم بقطع الأرحام، فهذه: نظير تلك، غير أنها وإن كانت كذلك، فهي دالة على ذم الله تعالى كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله رحما أو غيره.
قوله: (وبه سمى الأمر الذي هو أحد الأمور). قال الطيبي: أي القصد والشأن، لأن الأمر المصطلح عليه جميعه أوامره.
قوله: (وأن يوصل) يحتمل النصب والخفض)، زاد أبو البقاء، والرفع على تقدير المبتدأ أي: هو.
قوله: (واشتراء النقض بالوفا)، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أنهم جعلوا بإطلاق الخاسرين عليهم بمنزلة التاجرين على طريق الاستعارة المكنية حيث استبدلوا شيئا يشيء.
قوله: (بإنكار الحال) إلى آخره، يعني: أن كيف سؤال عن الحال فيكون إنكارا لحال الكفر، وهو ليس بمطلوب.
والمطلوب: إنكار الكفر. وحاصل الجواب أن إنكار حال الكفر إنكار الكفر بطريق برهاني.
لأن كل شيء يوجد لا ينفك من حال. فالحال من لوازم الشيء، وإذا نفى اللازم انتفى الملزوم قطعا.

(2/170)


فهو كقولك: ليس بكثير الرماد كناية عن ليس بمضياف قال الطيبي: عن الزمخشري أنه قال في الفرق بين الهمزة وكيف أن كيف سؤال تفويض لإطلاقه فكأن الله فوض الأمر إليهم في أن يجيبوا بأي شيء أجابوا، ولا كذلك الهمزة، فإنه سؤال حصر وتوقيت.
فإنك تقول: أجاءك راكبا أم ماشيا فتوقت وتحصر: ومعنى الإطلاق، قال صاحب المفتاح: كيف: سؤال عن الحال. وهو ينتظم الأحوال كلها، والكفار حين صدر الكفر عنهم لابد من أن يكونوا على أحد الحالتين، إما عالمين بالله تعالى وإما جاهلين به. فإذا قيل: كيف تكفرون بالله، أفاد، أفي حال العلم تكفرون بالله تعالى أم في حال الجهل؟ هذا معنى التفويض في الآية.
قوله: (أو مع القبيلين) عطف على قوله: مع الذين كفروا.
قوله: (النعم العامة) هي خلق ما في الأرض لهم، والخاصة بهم: إحياءهم بعد الموت.
قوله: (وما يعم كل ما في الأرض) لا الأرض إلى آخره.
أقول: بل تعم الأرض على وجه آخر عربي بليغ، وهو الاستغناء بالمضاف عن المضاف إليه مع إرادته، كقولهم: راكب الناقة طليحان، أي الناقة وراكبها، فثنى الخبر على اعتبار المضاف والمضاف إليه معا، ذكره في التسهيل وغيره، وكذلك الآية، فقوله: ما في الأرض في تقدير الأرض وما فيها.

(2/171)


قوله: (وجميعا: حال عن الموصول الثاني): في الحاشية المشار إليها: هذا جواب على تقدير سؤال، هل أريد بالتوكيد توكيد الضمير الذي في ((لكم)) وهو معمول الموصول الأول أي خلق لكم جميعا ما في الأرض؟. أو أريد توكيد الموصول الثاني؟ وهو: ما. فاختار أن يكون توكيداً للموصول الثاني لقربه، ولأن المنة بتعد يد النعم أظهر من المنة بتعديد المنعم عليهم، لأن تعداد النعم يتصل إلى كل واحد واحد.
ولأن سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم، ولهذا قال بعد هذا: ثم استوى إلى السماء فسواهن. وقال أبو حيان: انتصب جميعا على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة، لأن لفظ ما في الأرض: عام. ومعنى جميعا: العموم فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل، كأنه قيل: ما في الأرض كله.
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (قصد إليها) إلى آخره.
قال الطيبي: في الأساس: ومن المجاز: استويت إليك قصدتك قصداً لا ألوى على شيء، ولما لم يكن في الاعتدال والاستقامة التواء سمي به القصد المستوى مجازاً بقرينة التعدية بإلى، ثم شبه بهذا القصد الذي يختص بالأجسام إرادته الخاصة تعالى عن صفات المخلوقين، ثم استعير لها ما كان مستعملا في المشبه به استعارة مصرحة تبعية.
وفى الحاشية المشار إليها: الاستواء حقيقة الاعتدال والاستقامة وتمام الخلق والقوى. ومنه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} فأذا أطلق

(2/172)


في حق الباري تعالى: استحال إرادة الحقيقة فتعين حمله على المجاز. وله طريقان، أحدهما: استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء. قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق .... من غير قهر ودم مهراق
وعليه يحمل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} حيث وقع.
والثانية: القصد المستوى إلى الشيء من غير تعريج على غيره مأخوذ من: استوى السهم، وعلامة هذا المجاز: أن يعدى بإلى والأول يعدى بعلى، وعلى الثاني: يحمل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} لاستحالة إرادة الحقيقة، والمجاز الأول.
قوله: (والمراد بالسماء: هذه الأجرام العلوية، أو جهات العلو).
قال الطيبي: إنما عدل إلى هذا التأويل لفقدان المطابقة بين ذكر السماء والضمير في فسواهن إفرادا وجمعا.
فاصل الكلام حينئذ: ثم استوى إلى فوق فسوى سبع سموات: ألا ترى حين جعل السماء في معنى الجنس أو الجمع كيف جعل الضمير

(2/173)


للسماء لحصول المطابقة. فإذن المعنى على التقديرين الأخيرين ثم أراد تسوية السموات فسواهن سبعا. كقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، لكن الأول أقضى لحق البلاغة ومقام إرادة تفضيل خلق السموات على الأرض بدليل
إيثار (ثم) الدالة على التراخي في الرتبة أدعى له فإفراد السماء لإرادة جهة فوق مؤذن بالتفضيل إذ التعبير عنها بها تعظيم لها مع أن في تصوير الفوقية في هذا الجانب تصوير ضدها فيما يقابلها ولرتبة هذه الفائدة أبهم ضمير السموات ليشوق إلى ما يبينه ثم جيء بها مفسرا له فحصل من ذلك مزيد التفخيم لشأنها، وإن شئت فجرب ذوقك في قولك: ربه رجلا وقولك: رب رجل لتعرف الفرق، وليس في إرادة الجنسية تلك الفوائد ولا الجمعية مع أن تلك لغة غير فصيحة. وأما الفرق بين النصبين: فإن الضمير في فسواهن إذا رجع إلى السماء على المعنى، كان سبع سموات حالا، أي فسواهن كائنة سبع سموات أو سبع سموات متعددة على أنها حال موطنة نحو: {أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وإذا كان الضمير مبهما، كان سبع سموات نصبا على التفسير والتمييز، نحو ربه

(2/174)


رجلا نص على هذين النصبين في سورة حم السجدة، وقال الشيخ سعد الدين: إثبات الجهات العلوية والسفلية: والأيام الستة أو الأربعة قبل خلق السماء والأرض مبنى عدى التقدير والتمثيل، ولا أرى باعثا على تفسير السماء بالجهات العلوية بعدما فسر الاستواء بالقصد إليها بمشيئته وإرادته، وهذا لا يقتضي سابقة الوجود.
فلم يجعل ضمير فسواهن عائداً إليها باعتبار كونها عبارة عن الجهات، بل جعله مبهما مفسرا بسبع سموات مثل ربه رجلا ونعم رجلا، وفيه من التفخيم والتشويق والإبهام والتفسير والتمكن في النفس ونحو ذلك مالا يخفي، دون أن يجعل الضمير للسماء لكونها في معنى الجنس أو لكونها جمع سماة، فإن الجمعية لم تثبت والجنسية لم تكن كافية في عود ضمير الجمع المؤنث إليه مع فوات ما في الإبهاء ثم التفسير. انتهى.
قوله: (وثم) لعله لتفاوت هذين الخلقين) قال أبو حيان: في القدر والعظم.
قوله: (لا للتراخي في الوقت).
قال أبو حيان: لأنه لا زمان إذ ذاك.
قال: وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم لما بين خلق الأرض

(2/175)


والاستواء، من تراخ.
قوله: (فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أخف من قول الكشاف: يناقض. ففي الحاشية المشار إليها أنه مأخوذ عليه لما فيه من سوء الأدب في إيراد السؤال. واللائق أن يقول: ما وجه الجمع بين ذا وذاك؟
قوله: (فإنه يدل على تأخير دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء).
قال الشيخ سعد الدين: الجواب بأن يقدم خلق جرم الأرض على خلق السماء لا ينافي تأخر دحوها عنه ليس على ما ينبغي، لأن ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض من عجائب الصنع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام، لا عن مجرد خلق جرم الأرض. وسيذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر إيجاد السماء عن خلق الأرض ودحوها جميعا حتى قيل: إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين، وكثير ذلك في الروايات فلا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة إلا أن يعول على رواية كون إيجاد السماء مقدما على إيجاد/ الأرض فضلا عن دحوها، على ما روى عن مقاتل، والأوجه، أن يحام حول تأويل قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ

(2/176)


بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}. انتهى.
وقال الإمام: ثم هنا من جهة تعديد النعم، كما تقول لصاحبك: أليس قد منحتك هذا ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فثم على هذا مجاز، لمجرد التعاقب.
قلت: أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم، والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، عن سعيد بن جبير، قال جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: أرأيت أشياء تختلف على من القرآن؟
قال: هات ما اختلف عليك من ذلك، قال أسمع الله تعالى يقول: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} حتى بلغ: {طَائِعِينَ} فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء، ثم قال في الآية الأخرى: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فبدأ بخلق السماء في هذه الآية قبل خلق الأرض، فقال: ابن عباس: أما قوله: خلق الأرض في يومين، فإن الأرض خلقت قبل السماء، فكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض، فقال ابن عباس

(2/177)


: أما قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، يقول: جعل فيها، جبلا وجعل فيها نهرا، وجعل فيها، وجعل فيها شجرا، وجعل فيها بحوراً.
وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه وابن مردويه والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، أن اليهود أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: ((خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الماء والشجر والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}.
وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة)) الحديث. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال، خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ

(2/178)


فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}.
قوله: (وهن، ضمير السماء إن فسرت بالأجرام، لأنه: جمع. قال الزجاج: وأحدها سماة. وقيل: سماوة.
وقوله: (أو في معنى الجمع) قال أبو حيان: أي اسم جنس يصدق إطلاقه على المفرد والجمع، ويكون مرادا به هنا الجمع.
قوله: (وإلا فمبهم يفسره ما بعده، كقوله: ربه رجلا).
قال أبو حيان: الضمير الذي يفسره ما بعده عندهم منحصر في ضمير الشأن، ومرفوع باب نعم، والمرفوع بأول المتنازعين، والمجرور برب والمجعول خبره مفسرا له كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} والمبدل منه مفسره وما ذكره الزمخشري ليس واحدا منها، إلا أن يجعل سبع سموات بدلاً، وهو الذي يقتضيه تشبيهه بربه رجلا، فإنه ضمير مبهم: ليس عائدا على شيء قبله لكنه يضعف أيضا لعدم ارتباطه بما قبله ارتباطا كليا لاقتضائه أنه أخبر بأخبارين، أحدهما أنه استوى إلى السماء، والآخر أنه سوى سبع سموات. والظاهر أن الذي استوى إليه هو بعينه المسوى. وقال السفاقسي: الظاهر أنه قصد البدلية، لأنه فسر سوى بمعنى عدل وقوم، فيتعدى إلى واحد، فيتعين أن يكون سبع سموات بدلاً منه، ولولا ذلك لجاز أن يكون عنده بمعنى صيره ويكون المفعول الثاني مفسرا له لأنه خبر المبتدأ في الأصل فرجع إلى المبتدأ الذي يفسره الخبر

(2/179)


وقوله: (هو الذي: يقتضيه تشبيهه بربه رجلا وأنه ضمير مبهم، هذا لا يقتضي إلا التفسير لا البدلية، وقوله، لكنه يضعف لعدم ارتباطه، بل هو مرتبط، لأنه فسر السماء بالعلو والاستواء بالقصد، قال: كأنه قيل: استوى إلى فوق، ثم عطف عليه، فسواهن على معنى السببية: أي لما قصد إلى العلو سوى سبع سموات، وليس الذي استوى إليه بعينه هو المسوى. انتهى.
قوله: سبع سموات؛ بدل أو تفسير، قال أبو حيان: أعرب بعضهم سبع سموات بدلاً من الضمير على أن الضمير عاند على ما قبله. وهو صحيح. نحو أخوك مررت به زيد. قال: وأجازوا أن يكون مفعولا ثانيا لسوى ويكون بمعنى صير. وجعله بمعنى صير ليس بمعروف في اللغة.
قوله: (أليس إن أصحاب الهيئة أثبتوا تسعة أفلاك)؟
قال الإمام: هي كرة القمر، ثم كرة عطارد ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشترى، ثم كرة زحل والفلك الثامن الذي حصلت الكواكب فيه.
والتاسع الفلك الأعظم، وهو يتحرك كل يوم وليلة على التقريب دورة واحدة.
قوله: (قلت: فيما ذكروه شكوك). أقول: هذه الأمور لا يجوز التعويل عليها لأنها أخبار صدرت عن فلاسفة اليونان في أحوال الملكوت الأعلى بغير علم، ولم يرد عن أحد من الأنبياء خبر يصدق شيئا منها.

(2/180)


وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
قوله: (وبنيتا لشبههما بالموصولات).
قلت: الأولى: أن يقال: لشبههما بالحروف في الافتقار إلى جملة كالموصولات، لأن مدار علة البناء على شبه الحروف، ويريد أن شبههما بالحروف في الوضع.
قوله: (واستعملتا للتعليل والمجازاة)، قلت: هو لف ونشر مجمل، فإن إذ هي التي تستعمل للتعليل وإذا هي التي تستعمل للمجازاة، ولا يعرف ورود إذ للمجازاة، ولا إذا التعليل. وقد راسلني الخطيب عند كتابته على هذا المحل، فأجبته بذلك. وأنكر أبو حيان ورود إذ للتعليل ألبتة، وقال ابن هشام في المغني: الجمهور لا يثبتونه. وقال في إذا: إنها لا تعمل الجزم إلا في الضرورة.
قوله: (ومحلهما النصب أبدأ بالظرفية): قال الطيبي: فيه نظر، لأن إذ قد تقع اسما نحو: إذ يقوم زيد. وقال ابن هشام في المغني: إن لها أربعة استعمالات، أحدها أن تكون ظرفا. وهو الغالب والثاني أن يكون مفعولا به، نحو: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} والغالب على المذكورة في أوائل القصص في التنزيل أن يكون مغعولا به

(2/181)


بتقدير اذكر نحو: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ}، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ}، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} وبعض المعربين يقول في ذلك: إنه ظرف لأذكر محذوفا وهذا وهم فاحش، لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر في ذلك الوقت، مع الأمر للإستقبال وذلك الوقت قد مضى قبل تعلق الخطاب بالمكلفين منا، وإنما المراد ذكر الوقت نفسه، لا الذكر فيه.
والثالث: أن تكون بدلا من المفعول، نحو: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} فإذ: بدل اشتمال من مريم.
والرابع: أن يكون مضافا إليها اسم زمان صالح للحذف، نحو: (يومئذ، وحينئذ) أو غير صالح له، نحو (إذ هديتنا).
وزعم الجمهور: أن إذ لاتقع إلا ظرفا أو مضافا إليها، وأنها في نحو: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} ظرف لمفعول محذوف نحو.
(واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم قليلا) وقال في إذا: الجمهور: على أن إذا لا تخرج عن الظرفية، وزعم أبو الحسن: أنها تجر بحتي، وزعم أبو الفتح: أنها تقع مبتدأ وخبرا. وزعم ابن مالك: أنها تقع

(2/182)


مفعولاً، وزعم أخرون أنها تقع في موقع جر بدلاً.
قوله: (وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ} ونحوه: فعلى تأويل، اذكر الحادث إذ كان كذا، فحذف الحادث واقيم الظرف مقامه). في الحاشية المشار إليها: استشكل بعض المتأخرين ورود الأمر بذكر الأوقات، لا بذكر نفس ما جرى في الوقت. وكأنه يقول أي فائدة في تذكار ذلك الزمان؟
وأجيب عنه: بأن الشيء بالشيء يذكر، وقد يعظم الزمان بعظم ما يقع فيه ويشرف بشرفه.
أما الأول: فكقوله تعالى: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقال تعالى: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} والعابس أهله.
وأما الثاني: فقال العلماء: إنما شرف شهر رمضان وليلة القدر والأيام المعلومات: بشرف الأعمال الواقعة فيها.
فلذلك أمر بذكر الوقت، لأنه: عظم وشرف بما وقع فيه.
قال: واعلم أن مسائل إذ متى أمكن أن يعمل فيها لفظ موجود وتبقى على الظرفية كان خيراً من أن يضمر لها فعلا ويجعلها مفعولا،

(2/183)


لأمرين: أحدهما: أن الإضمار خلاف الأصل.
والثاني: أن جعلها من الظروف المتصرفة على خلاف قواعد النحاة.
وقوله: (وعامله في الآية: قالوا: أو اذكر على التأويل المذكور) قال الطيبي: الثاني أوجه، لأن تقدير أذكر: يقتضي تذكيرا متجددا، فيكون كقصة مستقلة، ولا كذلك العطف، فيكون قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} تذكيرا لدلائل الأفاق، وهذه لدلائل الأنفس. وقال الشيخ سعد الدين: الأحسن أن يجعل هذا الأمر على تقدير، واذكر عطفا على محذوف قبله، أي أشكر النعمة في خلق الأرض والسماء، واذكروا ما، على تقدير انتصابه بقالوا: فهو ظرف، والجملة بما فيها عطف على ما قبلها، عطف القصة على القصة من غير التفات إلى ما فيها من الجمل إنشاء وأخبارا، ولهذا جعل صاحب الكشاف الوجه الأول أرجح، يعنى: كونه بإضمار اذكر. وقال أبو حيان، ذكروا في إعراب إذ هنا: ثمانية أقوال، ينزه عنها كتاب الله، والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: وقت قول الله للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} كما تقول: إذ جنتني أكرمك أي وقت مجيئك أكرمك، فهذا: وجه حسن سهل واضح قوله: (أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل وبدأ

(2/184)


خلقكم إذ قال) قال أبو حيان: هذا القول لا تحرير فيه. لأن ابتداء خلقنا: لم يكن وقت قول الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، لأن الفعل العامل في الظرف: لابد أن يقع، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه فلا، لأنه: لا يكون له ظرفا.
قوله: (وعن معمر، أنه مزيدا). قلت. هو أبو عبيدة معمر المثنى الإمام المشهور صاحب مجاز القرآن وغيره من المصنفات، توفى سنه تسع ومائتين، وقيل: بعد ذلك.
قوله: (والملائكة جمع ملأك على الأصل) قال الطيبي: أي أصله: ملأك بالهمزة ثم ترك الهمزة لكثرة الاستعمال فلما جمعوه ردوه إلى الأصل.
قوله: (والتاء لتأنيث الجمع) قال الشيخ سعد الدين: معناه لتأكيد تأنيث الجماعة، وعبارة المفصل: لتأكيد معنى الجمع.
قوله: (وهو مقلوب مألك) في الحاشية المشار إليها: لفظ الملك مشتق من الألوكة، وهي الرسالة. ويقال لها: مألكة، فالأصل فيه مألك ثم قلب فصار ملأكا على وزن مفعل، ثم خفف بعد قلبه ونقلت حركة الهزة إلى اللام، فصار ملكا على وزن فعل، فكان قياس هذا أن يجمع على أفعال كجملة وأجمال وفرس وأفراس، لكنهم راعوا الأصل الثاني وهو ملأك، أعني بعد القلب وقبل أن يخفف فجمع على قياس نظائره.

(2/185)


فقوله: جمع على الأصل: لا يريد به الأصل الأول قبل القلب، وإلا كان قياسه: مألك. كمأدبة ومأدب، لكن يريد به ما تأصل بعد قلبه، وقبل تخفيفه.
قوله: (من الألوكة. تصريح بأن ميمه زائدة، وهو رأي الجمهور، وذهبت طائفة إلى أنها أصلية، ثم اختلفوا هل هو من الملك بالفتح وهو القوة لقوتهم، أو من الملك بالكسر فهو فعل بمعنى مفعول، لأنهم مملوكون لله، قولان.
وأحسن من الجميع قول النضر بن شميل: إنه غير مأخوذ من شيء. قال: إن العرب لا تشتق فعله وتصرفه وهو مما فات علمه.
قوله: (وجاعل من جعل الذي له مفعولان) زاد في الكشاف: ومعناه، مصير.
قوله: (ويجوز أن يكون بمعنى خالق) قال أبو حيان: فيتعدى إلى واحد، قال: وهذا القول عندي أجود لأنهم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، فظاهر هذا أنه مقابل لقوله: {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فلو كان الجعل الأول على معنى التصيير/ لذكره ثانيا فكان (أتجعل فيها خليفة من يفسد فيها) وإذا لم يأت كذلك كان معنى الخلق أرجح ولا احتياج إلى تقرير خليفة لدلالة ما قبله عليه.
قوله: (والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام).
الراغب: إنما استخلف الله تعالى آدم: لقصور المستخلف عليه أن يقبل التأثير) من المستخلف، وذلك ظاهر كأن السلطان جعل الوزير بينه وبين رعيته إذ هم أقرب إلى قبولهم منه، وكذا الواعظ جعل بين

(2/186)


العامة والعلماء الراسخين فإن العامة أقبل منه من العالم الراسخ، وليس ذلك لعجزه، بل لعجز العامة عن القبول منه.
قوله: (تعجب من أن يستخلف) قال الطيبي: أي ولدت الهمزة معنى التعجب لأنه لا يجوز أن يحمل على الإنكار لأنه لا يتصور من الملائكة.
قوله: (من سبح في الأرض والماء، الراغب: التسبيح أصله: من السبح وهو سرعة الذهاب في الماء، واستعير لجري النجوم في الفلك ولجري الفرس.
قوله: (وبحمدك في موضع الحال)، قال أبو حيان: وهي حال متداخلة لأنها حال في حال. وقال ابن الشجري: إن شئت علقت الباء بالتسبيح، أي: نسبح بالثناء عليك، وإن شئت قدرت نسبح متلبسين بحمدك.
قوله: (أي متلبسين بحمدك على ما أهلتنا لمعرفتك ووفقتنا لتسبيحك. قال الطيبي: توجيه لتقييد التسبيح بالحمد أي تسبيحنا مقيد بشكرك ومتلبس به.
قوله: (ونقدس لك، نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك) يشير إلى أن اللام للعلة، وهو أحد الأقوال فيها.

(2/187)


قال أبو حيان: والأحسن أن تكون معدية للفعل كهي في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}، {سَبَّحَ لِلَّهِ}، وسجدت لله.
قوله: (إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه وهو الإلهام)، زاد غيره: أو بإرسال ملك إليه، أو بخطاب الله تعادل له، أو بخلق الأصوات في الأجسام المسميات.
قال الطيبي: وفي إيجاز البيان: وقع التعليم بالوحي في أصول الأسماء والمصادر ومباني الأفعال والحروف عند حصول أول اللغة في الإصطلاح ثم بزيادة الهداية في التصريف والاشتقاق. فأفادت هذه الآية أن علم اللغة فوق التحلى بالعبادة فكيف علم الشريعة التي هي الحكمة.
قوله: (وآدم: اسم أعجمي، كآزر وشالخ، واشتقاقه من الأدمة أو الأدمة بالفتح) يعني أو من أديم الأرض، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام: ((أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم))، فلذلك أتى بنوه أخيافا أو من الأدم، والأدمة: بمعنى الألفة، تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس، ويعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس.
قوله: (واشتقاقه)، مبتدأ وخبره: تعسف، أي إن ذلك إنما

(2/188)


يتأتى في الأسماء العربية. والعجمي: لا اشتقاق له.
قال الشيخ أكمل الدين: واعترض عليه بأن توافق اللغتين غير منكر ولا دليل على أن الاشتقاق من خواص كلام العرب وأيضا آدم عليه الصلاة والسلام كان يتكلم بالعربية فلا يلزم عدم الاشتقاق في المشبه به عدمه في آدم وأيد باشتقاق حواء من الحوة، وأجيب بأن الأصل عدم التوافق وبأن الاشتقاق من كلام العرب فإنهم أطبقوا على أن التفرقة بين اللفظ العربي والعجمي بصحة الاشتقاق، وإن آدم كان يتكلم بكل لسان على ما صح في النقل، ولكن كان غالبه بالسرياني، ويدل عليه أنها في أولاده، ثم إن تكلمه بالعربي لا مدخل له في عربية اسمه واشتقاقه والكلام فيه.
ثم إن الاشتقاق في الأعلام القصدية، أي التي لا تكون علما بالغلبة، كأحمد وتغلب ويشكر مثلا، ليس له معنى إلا النقل عن مشتق، وذلك: لم يعرف في المشبه به، يعنى إدريس وإبليس، وأما في آدم فمن الأدمة، لا يناسبه ما ورد في براعة جماله وأن يوسف عليه الصلاة والسلام كان جماله على الثلث من جماله، وكذلك من أديم الأرض على أن أدم من أديم الأرض غير مستعمل قبل جعله علما حتى يقال: إنه منقول. ثم أن المصنف منع الاشتقاق على قانون كلام العرب بأنها أعجمية، أما اشتقاقها في العجمية إن صح فلا مانع منه. صرح به في طالوت. انتهى.
وأقول: قد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أنه قال: (إنما سمي لأنه خلق من أديم الأرض)، أخرجه

(2/189)


الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، وورد مثله عن على ابن أبي طالب وابن مسعود - رضي الله عنهما- أخرجه ابن جرير. وذلك يقوى كونه عربيا، وبه صرح الجواليقي (وغيره، قال الجواليقي) في المعرب: أسماء الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، كلها أعجمية ألا أربعة أسماء، وهي: آدم وصالح وشعيب ومحمد، وأديم الأرض. ظاهر وجهها والأدمة: لون يشبه لون التراب، قاله: الليث، ويقاربه قول الحافي في لون يقارب السواد. وقول الجوهري: السمرة والحزن ما غلظ من الأرض وصلب. والأخياف بخاء معجمة ومثناة تحتية وفاء: المختلفون. والحديث الذي أورده المصنف أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن مردوده والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الاخضر فجاء بنو آدم على قدر الأرض منها، الأحمر والأبيض، والأسود وبين ذلك، والسهل

(2/190)


والحزن والخبيث والطيب)) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: (إنما سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله، أي أيس منها) وعلى هذا هو عربي، وقد اختاره ابن جرير، ووجه عدم صرفه بكونه لا نظير له في الأسماء، وفيه نظر من وجهين، أحدهما: أن ذلك ليس معدودا من موانع الصرف.
والثاني: أن له نظائر. منها: أغريض للطلع وأحريض للعصفر، وسيف إصليت، أي صقيل.
قوله: والهمة: معرفة ذوات الأسباب وخواصها وأسمائها.
في الحاشية المشار إليها: اختلف الناس في الذي علم آدم على ثلاثة أوجه. أحدهما: أنه علم الألفاظ الموضوعة بإزاء الأعيان والمعاني عملا بظاهر قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} الثاني: أنه علم منافعها، فإن المزية في العلم إنما تحصل بمعرفة مقاصد المخلوقات ومنافعها، لا بمعرفة أن أسماءها كذا وكذا، وهذا: وأن قرب من المعنى، فهو بعيد من اللفظ.
والثالث: وهو الذي سلكه الزمخشري أنه علم الأمرين معا جمعا بين مقتضى اللفظ والمعنى.
فإذا قلنا بالأول ففيه وجهان، أحدهما: أنه علم الأسماء الموضوعة بكل لغة وعلمها أولاده، فلما افترقوا في البلاد وكثروا واقتصر كل قوم

(2/191)


على لغة. وهذا يقوى قول من قال: إن اللغات توقيفية.
والثان: أنه علم لغة واحدة لأن الحاجة لم تدع إلا إليها. وأما بقية اللغات فبالتواضع. انتهى.
قلت: القول الأول هو الوارد عن ابن عباس.
قوله: (إذ التقدير أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه) قال أبو حيان: يحتمل هذا ويحتمل أن يكون التقدير: مسميات الأسماء فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. (قال: (ويترجح الأول لتعلق الإنباء به، في قوله: (أنبنوني بأسماء هؤلاء) ولم يقل: (أنبئوني بهؤلاء)، ويترجح الثاني بقوله: (ثم عرضهم)، لأن الأسماء لا تجمع كذلك قال الشيخ سعد الدين: إنما احتيج إلى اعتبار هذا الحذف ليتحقق مرحع ضمير (عرضهم) وينتظم أنبئوني بأسماء هؤلاء، ولم يجعل المحذوف مضافا، إلى مسميات الأسماء لينتظم تعليف الإنباء بالأسماء فيما ذكر بعد التعليم وفي الحاشية المشار إليا: إنما احتيج إلى إضمار المسميات لقوله تعالى: ثم عرضهم وإنما تعرض الأعيان، لا الأسماء ولأن قوله: ثم عرضهم، جمع من يعقل، والأسماء لا تعقل ولأن قوله: بأسماء هؤلاء، وأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم: يدل على أن المراد المسميات.
قوله: (فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه: وعوض عنه اللام، لقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} قال أبو حيان: ما ذكره من التعويض ليس مذهب البصريين، بل هو مذهب بعض الكوفيين، ولو كانت أل عوضا عن الضمير لما جيء بالضمير معها في

(2/192)


قول النابغة:
رجيب قطاب الجيب منها
وقال السفاقسي: قد نقله ابن مالك في شرح التسهيل عن الكوفيين وبعض البصريين، واختاره. وإن كان بعض المتأخرين قد عد هذه المسألة من مسائل الإختلاف بين البصريين والكوفيين، فقد أنكر ذلك ابن خروف وقال: لا ينبغي أن يجعل خلافا، لأن سيبويه قد جعل الألف واللام عوضا عن الضمير في قوله: في باب البدل: ضرب زيد الظهر والبطن، وهو يريد ظهره وبطنه. قاله السفاقسي: وقول أبى حيان، لما جيء بالضمير معها، لا يلزم، لأنه قد يقال: إذا جيء بالضمير لم يقصد العوضية.
وقال الشيخ سعد الدين: ظاهر كلام الكشاف: إن اللام عوض عن المضاف إليه، كما هو مذهب الكوفيين وقد نفى ذلك في قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} ولم يقل به، في {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، فوجب أن يحمل على ما ذكرنا في {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وإن كان الظاهر على خلافه، أو يقال: ليس كل ما

(2/193)


يذكر من المحتملات مختاراً عنده. والذي ذكره هناك: أنه يجوز أن يكون تعويضا لاميا قائما مقام التعريف الإضافي، لا أن تكون عوضا عن المضاف إليه، كما يراه الكوفيون، لأنه قد ذكر في قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} إن المعنى: هي مأواه وتركت الإضافة للعلم بها، وليست اللام بدلا من الإضافة وإنما معناها الدلالة على أنه أريد ما هي معين، وكذا في: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} إنه لم يصف الرأس إكتفاء بعلم المخاطب، يعني من جهة جعله خبراً عن إني: وعطفه على وهن العظم مني، وظهر أن المعنى على الإضافة من غير أن يكون اللام بدلا عن المضاف إليه. انتهى.
قوله: (لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات ولا يكون المعروض نفس الأسماء) قال القطب: فيه نظر. لأنه كما يجوز أن يعرض المسمى ويستكشف اسمه كذلك يجوز أن يعرض الاسم ويستكشف عن مسماه.
قلت: لكن الآثار الواردة تدفعه، فإنها مصرحة بأن المعروض المسميات، وطلب ذكر أسمائها.
واعلم أن لي هنا سؤالاً، وذلك أن المسميات أعيان ومعان، وعرض الأعيان ظاهر، فكيف عرضت المعاني، كالألم واللذة والفرح والحزن والعلم والجهل والجوع والعطش والمصادر بأسرها؟ ولا محيص عن ذلك إلا بما قررته غير مرة أن المعاني إنما هي غير

(2/194)


مرئية في هذا العالم، وأما في عالم الملكوت فهي متشكلة بأشكال يختص بها بحيث ترى، وتنطق. وهذا نحو من عالم المثال الذي أثبته طائفة ولا يغتر بقول من أنكره، فنحن قد قامت الأدلة عندنا على إثباته، ويدل عليه الأحاديث الواردة في تشكل الإيمان والصلاة والقراءة والعلم والأيام والليالي والرحم وذكر كل ما ذكر ومحاورته. وقد ألفت في ذلك رسالة سميتها: المعاني الدقيقة في إدراك الحقيقة، وقد قال الشيخ عبد الغفار القوصي في كتاب التوحيد والمعاني. تتشكل ولا يمتنع لك على الله تعالى.
قوله: (وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء).
في الحاشية المشار إليها: حقه أن يقول: وإنما ذكر وجمع جمع من يعمل لأن جوابه يشمل الأمرين.
قوله: (وقرئ: وعرضهن وعرضها على معنى مسمياتهن أو مسمياتها)، قال الشيخ سعد الدين: إنما اعتبر حذف المضاف: لأن العرض لا يصح في الأسماء، وكأنه أراد العرض المعقب بقوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}، وإلا فعليه منع ظاهر لجواز أن يعرض الأسماء ويسأل عن معانيها، وإنما لم يجعل الضمير للمسميات المحذوف من قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} لأن اعتبار ذلك الحذف، إنما كان لأجل عرضهم. وأما على تقدير عرضهن أو عرضها فيصح عود

(2/195)


الضمير إلى الأسماء فلا يعتبر حذف المسميات ثمة مضافا إليه، بل هاهنا مضافا لئلا يكون نزعا للخف قبل الوصول إلى الماء فليتأمل.
قوله: (تبكيت) في الأساس: بكته بالحجة وبكته غلبه وبكته:/ قرعه على الأمر وألزمه حتى عن بالجواب.
قوله: (إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة أو أن خلقهم واستخلافهم، وهذه صفتهم لا تليق بالحكمة، وهو وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالتهم) أقول: غير هذا التقدير أولى منه فقد ورد أنهم قالوا: لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس، فالتقدير: إن كنتم صادقين في قول ذلك، ومشى عليه الواحدي.
وقال ابن جرير: الأولى أن تقدر إن كنتم، صادقين في أنى جعلت خليفة من غيركم أفسد وسفك الدماء وإن جعلتكم فيما أطعتم واتبعتم أمري فإنكم إذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور التي ستكون أحرى أن تكونوا غير عالمين فلا تسألوني ماليس لكم به علم فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.
قوله: (سبحان من علقمة الفاخر):

(2/196)


يأتي في سورة الإسراء
قوله: (على وجه البسط): قال الشيخ سعد الدين: حيث تعرض للتفاصيل وإن كان ما لا يعلمون أوجز وأشمل، اللهم إلا إذا خص بما خفي من مصالح الإستخلاف، فحينئذ يكون هذا أشمل وأكمل.
قال الطيبي: وإنما قال: أبسط ولم يقل: بيان له، لأن معلومات الله تعالى لانهاية لها. وغيب السموات والأرض وما يبدونه وما يكتمونه لم يكن قطرة من تلك الأبحر لكنه نوع بسيط لذلك المجمل.
قوله: (تدل على شرف الإنسان ومزيد العلم) قال الإمام: هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم إلا بأن أظهر علمه، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم كان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم.
قوله: (وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه)، قال أبو حيان: قيل: العامل في إذ هذه أبي. ويحتمل عندي أن يكون محذوفا دل عليه قوله: فسجدوا لأن السجود ناشىء عن الانقياد.
قوله: قال الشاعر: (ترى الأكم فيه سجدا للحوافر).
هو لزيد الخير وأوله: (بجمع تضل البلق في حجراته) ومعناه

(2/197)


: أن الأكم تخضع للحوافر فتناثر بها وفي الحاشية المشار إليها: أي أنك تجد خيلنا تستعلي على الأماكن المرتفعة ولا تستعصي عليها فكأنها مطيعة لها. وفي ديوان زيد الخيل: أغار زيد على طوائف من بني عامر فأصاب أسارى وقتل وقال:
بني عامر هل تعرفون إذا غدا ..... أبو مكنف قد شد عقد الدوابر
بجمع تضل البلق في حجراته .... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
وجمع كمثل الليل مرتجز الوغى كثير حواشيه سريع البوادر
أبت عادل للورد أن يكره القنا .... رجاجة رمحي في غبير بن عامر
وقال:
وقلن له اسجد لليلى فاسجدا
هو لأعرابي من بني أسد، وأوله:
فعدن لها وهما أمبا خطامه.
وأسجد بهمزة قطع أمر بوزن أكرم، يقال: أسجد البعير بوزن أكرم، أي طأطأ رأسه ليركب.
قوله: (فاللام فيه كاللام في قول حسان):
أليس أول من صلى لقبلتكم .... وأعرف الناس بالقرآن والسنن
قال أبو حيان: اللام في: لآدم، للتبيين.
وقبل هذا البيت:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرفا

(2/198)


عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
قوله: (قبلتكم): أي مستقبلا لقبلتكم.
قوله: (ولأن ابن عباس روى: (أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم: الجن. ومنهم: إبليس)). لم أقف عليه.
قوله: (ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات) إلى آخره.
قلت: كان الأولى بالمصنف الإعراض عن هذا الكلام والإضراب عنه صفحا.
ولكن هذه ثمرة التوغل في علوم الفلاسفة وعدم التضلع بالأحاديث والآثار، والذي دلت عليه الآثار أن إبليس أبو الجن، كما أن أدم أبو الإنس، وأنه لم يكن من الملائكة طرفة عين وأن المصحح للاستثناء التغليب، لكونه: كان فيهم، أو هو منقطع.
قوله: (روت عائشة رضي الله عنها، أنه عليه السلام قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجلد من مارج من نار)) أخرجه مسلم. وتمامه: ((وخلق آدم مما وصف لكم)).
قوله: (لأنه كالتمثيل لما ذكرت). أقول: لو أمكن المصنف وأشباهه أن يحملوا كل حديث على التمثيل لفعلوا، وهذا غير لائق، وليت شعري إذا حمل ما ذكر في خلق الملائكة والجن على التمثيل ماذا يصنع في بقية الحديث أيحمل ما ذكره في خلق آدم على التمثيل وأنه ليس

(2/199)


مخلوقا من تراب كما هو ظاهر الآية.
هذه إحالة للنصوص على ظواهرها فلنحذر هذه الطريقة، فإن مدار المعتزلة عليها، وهم: أول من أكثر منها، حتى إنهم أنكروا سؤال منكر ونكير.
وعذاب القبر والميزان والصراط والحوض والشفاعة ودابة الأرض وحملوا جميع الأحاديث الواردة في ذلك على التمثيل، ثم عدوا ذلك إلى أحاديث لا يقدح تأويلها في العقيدة كحديث شكوى النار وتنفسها في كل عام مرتين: وشكوى الرحم وغير ذلك، فتبعهم في ذلك من تضلع في علوم الفلسفة والعقول، ولم يتبحر في الحديث فمشى في كل أية وحديث على هذا التأويل، وألغى اعتبار ظاهره، وهذا غير مناسب، بل الأولى الرجوع في الأحاديث إلى أئمة الحديث فما قالوا: إنه على ظاهره كغالب الأحاديث-: حمل على ظاهره، ويجنب فيه طريق التمثيل، إذ لا داعي له والتأويل خلاف الأصل، وما قالوا: إنه ليس على ظاهره- كأحاديث الصفات سلك به طريق التأويل والتمثيل، والطيبي رحمة الله عليه سلك هذا المنهاج لكونه محدثا، ورأيت في تذكرة الإمام تاج الدين ابن مكتوم بخطه: قال الإمام أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس، قد اختلف في معنى قوله عليه الصلاة والسلام، ((اشتكت النار)) فجعله قوم حقيقة، وقال: إن

(2/200)


الله تعالى قادر على أن ينطق كل شيء إذا شاء وحملوا جميع ما ورد من هذا أو نحوه في القرآن والحديث على ظاهره، وهو الحق والصواب وذهب قوم إلى أن هذا كله مجاز، وما تقدم هو الحق من حمل الشيء على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه. هذا لفظه بحروفه مع أن البطليوسي المذكور كان من الأئمة الأفراد المتبحرين في المعقولات والعلوم الفلسفية والتدقيقات، وهؤلاء الذين يقولون بالتأويل وإخراج هذه الأحاديث عن ظاهرها ويرون أن ذلك من التحقيق والتدقيق، وإن حملها على ظاهرها خلاف التحقيق والتدقيق.
قوله: (إذ العبرة بالخواتيم): هذا مأخوذ من حديث ((الأعمال بالخواتيم))، أخرجه البخاري، من حديث سهل بن سعد. وابن حبان، من حديث معاوية وابن عدي، من حديث عائشة، والطبراني من حديث علي والبزار من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهم.
قوله: (السكنى: من السكون)، قال القطب: إشارة إلى قوله: (أسكن) معناه: اتخذ مسكنا، وليس معناه استقر فيها ولا تتحرك، وقال الشيخ سعد الدين: يعني أن أسكن أمر من السكنى بمعنى اتخاذ

(2/201)


المسكن لامن السكون بمعنى ترك الحركة ولهذا يذكر متعلقة بدون في، إلا أن مرجع السكنى إلى السكون.
وقوله: (وأنت تأكيد أكدبه المسكن ليصح العطف عليه، إذ لا يجوز عند البصريين العطف على المرفوع المتصل بلا فصل) الطيبي: فإن قيل: كيف يصح العطف وزوجك لا يرتفع باسكن فإنك لا تقول: أسكن غلامك، إذ الغالب لا يؤمر بلفظ الحاضر، فيقال: قد اندرج الغائب في حكم الحاضر لقضية العطف على سبيل التغليب فينسحب عليه حكمه.
قوله: (وإنما لم يخاطبها أولا تنبيها على أنه المقصود بالحكم، والمعطوف تبع) مأخوذ من كلام الراغب، حيث قال: إن قيل: ما الفرق بين أن يقال: افعل أنت وقومك كذا وبين أن يقال: إفعلوا كذا؟ قيل: الأول تنبيه على أن المقصود هو المخاطب والباقون تبع له، وأنه لولاه لما كانوا مأمورين بذلك، وعلى نحوه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}، وليس كذا إذا قال: افعلوا.
قوله: (صفة مصدر محذوف) قال أبو حيان: انتصاب رغدا، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف لمذهب أكلا رغداً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال. والأول مخالف لمذهب سيبويه؛ لأنه ما جاء من هذا النوع جعله منصوبا على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل.

(2/202)


والثاني: بأنه مقصور على السماع.
قوله: (إزاحة) أي إزالة، يقال: زاح عنى الأمر، زال وذهب.
قوله: (من بين أشجارها الفائتة للحصر) في الحاشية المشار إليها: أي لا تنحصر، فالحصر فيها فائت، وقال الشيخ سعد الدين: معنى الفائتة للحصر، أنها سبقت الحصر ولم تبق محصورة يقال: فاتني بكذا أي سبقنى به وذهب به عني وجاريته وماريته حتى فته، وفي الصحاح: الفوت والفوات مصدر فاتني الشيء، فالمعنى: إنها فاتت الحصر، بمعنى لم يدركها الحصر.
قوله: كما روى (حبك الشيء يعمى ويصم) أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء مرفوعا. قال الميداني في الأمثال: معناه يخفى عنك معايبه ويصم أذنيك عن سماع مساوئه.
وقال الشاعر في معناه:
وكذبت طرفي فيك والطرف صادق .... وأسمعت أذني فيك مالم تسمع
قوله: (والأولى ألا تعين) كذا قال ابن جرير، وقال إن العلم بها

(2/203)


علم لا ينفع وجهل لا يضر، قلت: وقد يقال: إن فيها نفعاما، وذلك إذا قلنا: إنها الكرم، ففيها إشارة إلى أن الخمر أم الخبائث لأن أصلها هو الذي كان السبب في الإخراج من الجنة أولا فيجتنب لئلا يكون مانعا من العود إليها في الآخرة.
قوله: (أصدر زلتهما عن الشجرة وحملهما على الزلة بسببها) قال الطيبي: يشير إلى أن أزلهما على أن يكون الضمير (عنها) للشجرة مضمن لمعنى أصدر، وعن حينئذ للسببية، أي أن الشيطان إنما قدر على إصدار الزلة عن الشجرة بسبب الوسوسة، بأن يقول: هذه شجرة الخلد فكلا لتخلدا، أو لأن أكلها سبب لصيرورتكما ملكين، هذا هو المراد بقوله: فحملهما الشيطان على الزلة بسببها، أي بسبب الشجرة.
قوله: (ونظير (عن) هذه) في قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} قال الشيخ سعد الدين: أي ما أصدرت فعله عن أمري، قال: وما يقال: أن في التضمين بورود الفعل المضمن على طريق الحال ليس بلازم.
قوله: (أو أزلهما عن الجنة)، قال صاحب الانتصاف: يشهد له قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}، قال في الانصاف: وهو سهو، لأن الذي أعاد الضمير إلى الشجرة قدر (فأصدر الشيطان) زلتهما عن الشجرة وذلك لا ينافي إخراج الشيطان إياهما عن الجنة ولا يمكن نسبة الإخراج إلى الشجرة، ولقد كان هذا الوجه قويا وعن تأييده غنيا.

(2/204)


قوله: (فقيل: إنه منع من الدخول على جهة التكرمة) قال الطيبي: يريد أن الأمر بالخروج معلل بقوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} فدل على أن الجنة دار المقربين فلا يسكنها اللعين، فإذا دخل لغير التكرمة لا يمنع منه ويمكن أن يعبر بالأمر عن مطلق الطرد والإهانة.
فلا يلزم على هذا وجوب الخروج.
قوله: (وقيل: دخل في فم الحية حتى دخلت به).
قلت: هو المراد، أخرجه، ابن جرير، عن ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ووهب بن منبه ومحمد بن قيس، وفيه التصريح بأنه تأولهما بذلك ولم يسند شيما من الأقوال المذكورة عن أحد.
قوله: (أو هما وإبليس). قلت: هذا هو الوارد، أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وزاد: والحية، وعن مجاهد وأبي العالية وأبي صالح والسدي فهو المعتمدة. والعداوة بين آدم وإبليس

(2/205)


والحية ظاهرة وفي الحديث. ((الحيات ما/ سالمناهن منذ حاربناهن)).
قوله: (بعضكم لبعض عدو) حال استغنى فيها عن الواو بالضمير، قال الطيبي: ويجوز أن يكون جملة مستأنفة على تقدير السؤال. وقال أبوحيان: هذه الجملة في موضع الحال أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها: اهبطوا، وصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا أكثر من انفراد الضمير، وأجاز مكي أن تكون مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدو فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأمورا به أو كالمأمور، ألا ترى، أنك إذا قلت: قم ضاحكا كان المعنى الأمر بايقاع القيام مصحوبا بالحال، فيكون الحال مأمورا بها أو كالمأمور لأنك لم تسوغ له القيام إلا في حال الضحك، وما لا يتوصل إلى فعل المأمور به إلا به مأمور به.
والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك لأن الفعل إذا كان مأمورا به من المسند إليه في حال من أحواله لم تكن تلك الحال مأموراً بها، لأن النسبة الحالية هي نسبة تقييدية لا نسبة إسنادية فلو كانت مأموراً بها لم تكن تقييدية والتقييدية غير الإسنادية فلو سلمنا كون الحال مأموراً إذا كان العامل فيها أمراً فلا يسوغ ذلك هنا، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد ولا يمكن خلافه: لم يكن ذلك القيد مأمورا به لأنه ليس داخلا في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا

(2/206)


النوع، فلا يلزم أن يكون الله تعالى أمر بها وهذه الحال من الأحوال اللازمة. انتهى كلام أبي حيان.
قوله: (موضع استقرار أو استقرار)، قال أبو حيان: أي أنه اسم مكان أو مصدر، وبقى احتمال ثالث، إنه اسم مفعول، وهو ما استقر ملكهم عليه وجاز تصرفهم فيه، ذكره الماوردي.
قوله: (ومتاع تمتع)، في الحاشية المشار إليها، يعني أن المتاع تارة يطلق ويراد به المصدر وتارة غيره والمراد هنا المصدر.
قوله تعالى: ({إِلَى حِينٍ} يراد به وقت الموت أو القيامة).
قلت: القولان واردان، أخرج ابن جرير الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني عن مجاهد.
قال الطيب: الثاني مشكل بقوله: متاع بمعنى تمتع بالعيش، قال الكواشى: لكل إنسان مكان في الأرض يستقر فيه ويتمتع بما قسم له فيه مدة حياته وبعد مماته، قال الطيبي: هذا معنى قوله: في الأعراف {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}، فالمتاع بمعنى التحقير في الاستمتاع والتقليل في المكث على نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ

(2/207)


وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}.
قال: ويمكن أن يجعل المتاع بمعنى التمتع في العيش على تقدير حصول الثواب والعقاب للمؤمن والكافر في القبر، وأما تمتع الكافر فعلى التهكم ثم التغليب.
قال: والوجه الأول أظهر، وقال الشيخ: أكمل الدين: قوله إلى الموت لا يحتاج إلى تأويل وأما قوله: إلى يوم القيامة فيحتاج إلى ذلك فقيل: لأنه يبتدئ من الموت لإدخال مقدمات الشيء فيه أو لأنه ينتفع بمسكنه في القبر إلى أن يبعث، وقال الشيخ سعد الدين: الظرف واقع خبراً على مستقر ومتاع، فقيل: إلى يوم القيامة، لأن الاستقرار ثابت إلى يوم القيامة، لمكان القبر، وقيل: إلى الموت، نظرا إلى تعلقه بمتاع، إذ لا تمتع بعد الموت.
قلت: ما حمل هذا المحمل على أحسن من هذا المحمل، ثم قال الشيخ سعد الدين: ومن جعله على تقدير التفسير بيوم القيامة أيضا متعلق بمتاع وجعل ابتداء يوم القيامة من الموت، لأن من مات فقد قامت قيامته.
أو جعل مقدمات الشيء من جملته، فلا يخفى أن التفسيرين حينئذ واحد، أو جعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض، وهذا أقرب.
وقال أبو حيان: يمكن أن يفسر قوله {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}

(2/208)


بقوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}.
قوله: (استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين أعلمها) في الحاشية المشار إليها: التلقى حقيقة في استقبال من جاء من بعد واستعماله في الكلمات مجاز منه. وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل: زيادة العمل خارجة عن مدلول التلقي لغة.
وقال الطيبي: هو مستعار من استقبال الناس بعض الأعزة إذا قدم بعد الغيبة، لأنهم حينئذ. لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الإلهية العمل بها.
قوله: وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع كلمات على أنها استقبلته وتلقته، قال الطيبي: وعلى هذه القراءة أيضا استعارة.
قوله: وهي قولى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية.
قلت: هذا أصح الأقوال في ذلك. أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن جرير عن مجاهد، والحسن وقتادة وابن زيد وقاله أيضا: سعيد بن جبير وأبو العالية ومحمد بن كعب والربيع بن أنس وخالد

(2/209)


بن معدان وعطاء الخراساني.
وقال ابن جرير: أنه الموافق للقرآن.
قوله: (وقيل سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره) أخرجه البيهقي في الزهد عن أنس مرفوعا وابن جرير عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية موقوفا.
قوله: (وعن ابن عباس: قال: يا رب ألم تخلقني بيدك) قال في الحديث: أخرجه الفريابي وابن أبى الدنيا في التوبة وابن جرير وابن مردويه والحاكم في المستدرك وصححه.
قال الطيبي: قوله (أراجعى)، صح في نسخة المصنف بالتخفيف، وفي نسخة زين المشايخ، بالتشديد: وهو السماع، وتوجيهه مشكل إلا أنه يجعل جمعا، وهو مستبعد أيضا. وقال الشيخ أكمل الدين: ذكر بعضهم أنه لا استبعاد مع ظهور كونه من أسلوب (ألا فارحموني يا إله محمد)، وأنت على هذا مبتدأ قدم عليه خبره، قال: وأقول: إن لم يكن في سياق الكلام ما يمنع أن يكون ارحموا خطابا لغير الله جاز أن يكون تقديره ياعباد إله محمد، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه

(2/210)


مقامه وأعرب بإعرابه وسقط التنظير به وعاد الاستبعاد.
وقال الشيخ سعد الدين: (أراجعي أنت) اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعله، لاعتماده على الاستفهام وإن شئت فمبتدأ، وأما نسخة زين المشايخ: أراجعي بتشديد الياء فحملها على سهو القلم أقرب من أن تجعل راجعي جمعا مضافا إلى ياء المتكلم خبر أنت، أي أنت راجعون كما في قوله. ألا فارحموني يا إله محمد، وعلى النسختين فوقوع الجملة الاستفهامية جزاء الشرط محل بحث.
قلت: قوله: أرايت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ على أسلوب قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}، وسيأتي الكلام فيه فيخرج على هذا الحديث ما يذكر هناك.
قوله: (وهو الاعتراف بالذنب)، إلى آخره. الراغب: التوبة ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ ضروب الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة.
قوله: (أو الاختلاف المقصود) إلى آخره، في الحاشية المشار

(2/211)


إليها: يعني أن القصة تعاد لزيادات تذكر فيها لم تذكر أول مرة.
قال الطيبي: ويسمى هذا الأسلوب في البديع: بالترديد.
قوله: (الشرط الثاني، مع جوابه جواب الشرط الأول).
قال أبو حيان: لا يتعين عندي أن تكون من شرطية بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك، لقوله: في قسيمة: والذين كفروا وكذبوا، فأتى به موصولا ويكون قوله: فلا خلاف جملة في موضع الخبر، وأما دخول الفاء فيها، فإن الشروط المسوغة لذلك موجودة هنا.
قوله: (وما مزيدة أكدت به إن) إلى أخره، قال الكواشي. (ما) تؤكد أول الفعل والنون آخره، وقال صاحب المرشد، زيدت ما هنا لتأكيد الفعل الذي بعد حرف الشرط شبهوها بلام القسم المؤكدة للفعل، نحو: والله لأعطين وهي أكدت أول الفعل، والنون المشددة آخره، كذلك ههنا.
قوله: (واقتضاه العقل): هذا ونحوه في الكتاب: مشية قلم مما في الكشاف، فإن ذلك ليس مذهبنا.
قوله: (وقرئ هدى على لغة هذيل)، قال ابن جني: هي

(2/212)


قراءة أبي الطفيل، وعيسى بن عمر الثقفي، وهي: لغة فاشية في هذيل وغيرهم أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ويدغموها في ياء الإضافة.
قوله: (وأصلها: أية) أي بتشديد الياء (أو أوية) أي بسكون الواو. هذا قول الفراء.
قوله: (فأبدلت عينها أي ألفا) استثقالا للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان.
قوله: (أو أيية أو أوية أي بفتحات. هذا قول الخليل وسيبويه.
قوله: (فأعلت)، أي بقلب الياء أو الواو التي هي العين ألفا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس.
قاله أبو حيان، قال ابن هشام، في تذكرته: إذا اجتمع حرفان مستحقان للإعلال، فالقياس أن يجعل الثاني دون الأول نحو هوى وشوى وطوى، ويشذ في كلامهم أن يعل الأول دون الثاني، كغاية، وطاية، وتايه، وأية.

(2/213)


قوله: (أو آيية، كقايلة)، هذا قول الكسائي.
قوله: (فحذفت الهمزة تحقيقا)، قال أبو حيان: لئلا يلزم فيه من الإدغام مالزم في دابة فيثقل.
قوله: (ولعله أن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء)، قلت: ولا عن الأمم السابقة بأسرهم، فإن عدم المؤاخذة بالنسيان من خصائص هذه الأمة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
قوله: (قال عليه السلام: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل) أخرجه بدون قوله: ثم الأولياء، الترمذي، وصححه، والنسائى، وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث سعد ابن أبى وقاص، وأخرجه الحاكم من حديث أبى سعيد، بلفظ: الأنبياء ثم العلماء، ثم الصالحون.
قوله: (روي أنه عليه السلام، أخذ حريراً وذهبا بيده، وقال: هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها) أخرجه الأربعة من حديث على بلفظ: هذان حرام.

(2/214)


قوله: (وإسرائيل لقب). قال الشيخ سعد الدين: لكونه علما يشعر بمدح بملاحظة الأصل. أي صفوة الله أو عبد الله. فكذا مثل عبد الله علما إذا قصد به الأشعار بأنه عبد الله تشريفا.
قوله: (ومعناه بالعبرية، صفوة الله، وقيل: عبد الله).
قال الشيخ أكمل الدين: قيل: إن أسرا بمعنى الصفوة، وإيل هو الله تعالى، وقيل: إسرا، معناه العبد، زاد في الحاشية المشار إليها، ولذا زعموا أن جبريل وميكائيل، بمعنى عبد وإيل هو الله.
قوله: (وقيل: أراد بها ما أنعم على آبائهم وعليهم) قال الشيخ سعد الدين: فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، حيث جعل قوله: عليكم مراداً به ما أنعم عليهم وعلى آبائهم، فينبغي أن يحمل على حذف أو اعتبار معنى جامع بأن يجعل الخطاب لجميع بني إسرائيل الحاضرين والغائبين.
وفى الحاشية المشار إليها: إن أراد بهذا أنه أراد الأمرين معا بلفظ واحد، وهو اللفظ المذكور في هذه الآية التي يفسرها، فهو مشكل، فإنه: جمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
فإنه قال: (نعمتي التي أنعمت عليكم) فتناولها للنعمة على الموجودين حقيقة، وتناولها للنعمة على الأباء مجاز، وإن أراد به أنه أراد المعنيين بلفظين مختلفين فهو حسن، فإنه ذكر في هذه الآية ما يصلح للموجودين، وذكر في الآية هي، قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ما أنعم به على الأباء

(2/215)


قوله: (والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد)، قال الشيخ سعد الدين: لأنه نسبة بينهما بمنزلة مصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول ولا خفاء في أن الفاعل هو الموفي فإن أضيف إليه/ مثل أوفيت بعهدي، ومن أوفى بعهده، فهو مضاف إلى الفاعل. وإن أضيف إلى غيره، مثل: (أوف بعهدكم) وأوفيت بعهدك، تكون الإضافة إلى المفعول.
قوله: (وما روي عن ابن عباس أوفوا بعهدي في اتباع محمد أوف بعهدكم في رفع الإصار والأغلال) أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه.
قوله: (وعن غيره: أوفوا بأداء الفرائض) إلى أخره. هو أيضا عن ابن عباس، أخرجه ابن جرير عنه، لكن بسند ضعيف.
قوله: (وهو أكد في إفادة التخصيص: من إياك نعبد). في الحاشية المشار إليها؛ لأن نعبد لما لم تستوف مفعولها كانت هي الناصبة لإياك فكانت جملة واحدة بخلاف قوله: فارهبون، فإنها قد استوفت مفعولها، فلابد من تقدير فعل عامل في إياك ويحب كونه مؤخراً عن إياك، لكون الضمير منفصلا فيصير التقدير: إرهبوا إياي فارهبون، فيكون الأمر بالرهبة متكرراً، ويقوى تكررها عطف الثانية بالفاء المقتضية للتعقيب، فكأنه قال: ترهبون رهبة بعد رهبة، ولاشك في أن هذا المعنى مفقود في إياك

(2/216)


نعبد.
قوله: (لما فيه مع التقديم من تكرار المفعول، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط، كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون) قال الطيبي: هذا الذي قاله القاضي على خلاف رأي صاحب الكشاف لأنه جعل التركيب من باب الإضمار على شريطة التفسير لقوله: هو من قولك: زيداً رهبته، فإن هذا التركيب أكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد، إذا قدرت المفسر بعد المنصوب لتكرير الجملة المفيدة للتخصيص بخلاف إياك نعبد، فإن فيه تقديما فقط. قال صاحب المفتاح: وأما زيداً عرفته، فأنت بالخيار، إن شئت قدرت المفسر قبل المنصوب وحملته على التأكيد، وإن شئت قدرته بعده وحملته على باب التخصيص، والمقام يقتضي الثاني لسباق الكلام وسياقه، وأما إذا جعل من باب الشرط فلا وجه أن يقابل بقوله: إياك نعبد، إذ لا مناسبة بينهما، نعم لو قدر إن كنتم تخصون أحداً بالرهبة فخصوني بها أفاد التخصيص لكن تقدير الشرط أحط وأضعف من إياك، لأن التقديم يستدعي وقوع الفعل جزما، والشرط على الفرض والتقدير. قال: فإن قلت: كيف عطف الجملة المؤكدة على مؤكدها والعطف يقتضي المغايرة؟ قلت: المغايرة حاصلة. لأن المراد من التكرار الترقي من الأهون إلى الأغلظ، فإن في التعقيب اتصال الراهبة برهبة هي أعلى منها من غير تخلل شيء آخر، كقولهم: الأفضل فالأفضل، والأكرم فالأكرم، لم يريدوا به افضلين وأكرمين، بل الترقي انتهاء الوسع والإمكان.
قال صاحب الكشاف، في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} أي كذبوه تكذيبا عقب تكذيب، ففيه إشعار بمزيد

(2/217)


الاختصاص، ثم قوله أكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد يقتضي أنه أكد منه وحده، لكن إذا ضم معه إياك نستعين كان هذا أكد لتصريح التكرار والتعميم في نستعين. انتهى.
وقال الشيخ أكمل الدين، بعد إيراده لما لم يجز أن تكون عاطفة: كانت جزائية وعليه أكثر المحققين، وكونها جزائية لا ينافي الإضمار على شريطة التفسير، فيكون أكد من إياك نعبد لوجهين: ما ذكره، وما ذكره القاضي أيضا، قال: وقال بعضهم: إن جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير وهم، لأن حرف العطف لا يتوسط بين المفسر والمفسر، وأيضا من شرط باب الإضمار أن يكون الفعل مشتغلا عن الاسم بضميره أو متعلقه لو سلط عليه هو أو مناسبة لنصبه لتوسط الفاء فالجواب أن لا يجعل من باب الإضمار بل هو منصوب بفعل محذوف يدل عليه (فارهبون) كما في باب الإضمار لا أنه فرد من أفراده، قال: وذكر بعضهم في تحقيق هذا المقام ما معناه، أن الفاء لا يجوز أن تكون عاطفة، لأنها لا تجامع الواو، وكذلك في قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} ونحو ذلك قال: ثم إن لم يكن بعد الفعل ما يشغله من ضمير أو متعلقه. فهو معمول الفعل المذكور قدم على الفاء الجزائية أو إرادة التخصيص وعوضا عن فعل الشرط كما ذكروا في نحو: أما زيد فمنطلق، أو معمول فعل مقدر، وتقدر الفاء داخلة عليه، وتقديره مهما يكن من شيء فربك كبر وإن كنت غافلا فاعبد الله، إذ لا بد من

(2/218)


فعل محذوف يريد التعميم والمبالغة، ويقدر في كل موضع بحسب ما يليق به ولو قدر في الجمع مهما يكن من شيء لم يكن به بأس، ثم لما حذف الفعل وجعل مفعوله عوضا عن فعل الشرط لفظا، زحلقت الفاء إلى المفسر على معنى أن الفاء العاطفة التي كانت فيه أولا جعلت فيه جزائية بعد الحذف لئلا يلزم تقديم ما في حيز الجزاء على فائه، وإن كان بعد الفعل ما يشغل، كالذي نحن فيه، فلا يجوز أن يكون معمول المذكور لاشتغاله عنه بضميره، بل هو معمول فعل محذوف هو الجزاء في الحقيقة، والمذكور تأكيد له، ولما وجب حذفه للمفسر قائما مقامه لفظا وأدخل الفاء عليه لأنه لابد منه الدلالة على الجزاء، ولا يدخل على معمول المحذوف لتمحضه عوضا عن فعل الشرط، والفاء لا تدخل على الشرط فكذا على ما هو عوض، فتعين أن تدخل على المفسر، فلا يمكن جعل الفاء عاطفة لئلا يكون عطف المفسر على المفسر، وما ذكره صاحب المفتاح من أن الفاء عاطفة، والتقدير: وإياي ارهبوني فأرهبون فقد أراد أنها فى الأصل كذلك، لا في الحال. انتهى.
قال أبو حيان: الفاء في قوله: فارهبون دخلت في جواب أمر مقدر، التقدير تنبهوا فارهبون.
قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في زيدا فاضرب تنبه فاضرب زيداً ثم حذف تنبه فصار فاضرب زيداً، فلما وقعت الفاء صدراً قدموا الاسم إصلاحا للفظ وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين:
أحدهما: أن يكون التقدير، واياي فارهبون.
والثاني: أن يكون التقدير: وتنبهوا فارهبون، ثم قدم المفعول فانفصلت وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا

(2/219)


محذوف فالتقى بعد حذفه حرفان الواو العاطفة والفاء التي هي جواب الأمر فتصدرت الفاء فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحا للفظ ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل كما أكد المتصل بالمنفصل في ضربتك إياك. انتهى.
رقال الشيخ سعد الدين في تقدير الأكدية: قد سبق أن مثل زيد ضربت يفيد الاختصاص فإذا نقل إلى الإضمار على شريطة التفسير مثل: زيدا ضربته ودلت القرينة على أن المحذوف يقدر مؤخراً كان أكد في إفادة الاختصاص؛ لأن الاختصاص عبارة عن إثبات ونفي فإذا تكرر الإثبات صار أكد على أن الإثبات اللاحق يمكن أن يعبر عن وجه الاختصاص بقرينة كونه تفسيرا للسابق وأن لم يكن هناك شيء من أدوات الحصر، وحينئذ يتكرر الاختصاص بدخول الفاء والفعل مثل زيدا فاضرب. وعليه قوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي إن كنت عاقلا فالله اعبد وإن فرحوا بشيء فليخصوه بالفرح.
وذكر في الكشاف في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: اختص ربك بالتكبير أو دخول الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: مهما يكن من شيء، فلا تدع تكبيره. وقريب من هذا ما يقال: إن مثله على حذف أما، أي: أما زيداً فاضرب، وقد يجمع بين الطريقين أعني دخول الفاء وتكرير الإثبات، بأن يجعل الفعل مشغولاً بالضمير، نحو زيداً فاضربه، وعليه: فإياي فارهبون فتكرير التعلق تأكيد للاختصاص وتعليقه بالشرط العام الذي

(2/220)


هو وقوع شيء ما تأكيد على تأكيد. قال: وهذا تقرير واضح موضح للمقصود. قال: ونقل عن صاحب الكشاف، أنه قال: في إياي فارهبون: وجوه من التأكيد، تقديم الضمير المنفصلة وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا ومعطوفا عليه، تقديره: اياي ارهبوا فارهبون، أحدهما: مضمر، والثاني: مظهر، وما في ذلك من تكرار الرهبة، وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء. كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون.
قوله: (وكذلك قال عليه السلام ((لو كان موسى حيا لما وسعه إلا إتباعي)) أخرجه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما من حديث جابر، وسببه: أن عمر استأذنه في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه.
وهذا الحديث استدل به جماعة على تحريم الاشتغال بفن المنطق. قال بعض أهل الحديث: إذا لم يوسعه عذرا في الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونوراً فكيف بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا.
قوله: (وأول كافر وقع خبرا عن ضمير الجمع) إلى آخره. في الحاشية: لما كان أول الخطاب المجموع بقوله: {وَلَا تَكُونُوا}

(2/221)


ويستحيل أن يكون الجماعة أول كافر سلك فيه إحدى طريقين، إما تأويل الكافر بالجنس فأتى بلفظ مفرد معناه الجمع كالفوج والفريق، أو تأويل ولا تكونوا بأنه ليس المراد نهي المجموع، بل نهي كل واحد عن أن يكون أول كافر.
قوله: (المراد التعريض). قال الطيبي، أي بما يجب عليهم لمقتضى حالهم ولما تكلموا به من الاستقباح والبشارة.
قال: والتعريض أنواع، منها: أن يشار به بمقتضى الحال على طريقة قوله:
أروح لتسليم عليك واغتدى .... وحسبك بالتسليم متى تقاضيا.
قال: وهذا الموضع من هذا القبيل.
قوله: (وأول أفعل لا فعل له) لاستثقال إجماع الواوين.
قوله: (من وأل) بمعنى لجأ.
قوله: (يستبدلوا): في الحاشية المشار إليها هذا جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلا قال: الباء إنما تدخل على الثمن، فأجاب بأن المراد الاستبدال، ولو قلت: استبدل صح دخولها على كل واحد منهما.
وقال الطيبي: تقديره: أن الاشتراء استعارة للاستبدال، وإن لم تكن استعارة له لزم أن يكون الثمن في قوله تعالى: {ثَمَنًا قَلِيلًا} هو المشترى والثمن المتعارف هو المشترى به
وها هنا المشترى به الآيات، لأن الباء تدخل على الثمن فلما دخل على آيات صار هو المشترى به، وصار ثمنا قليلا هو المبيع، وهذه استعارة لفظية لا معنوية، فاستعير الشراء لمجرد للاستبدال من غير نظر

(2/222)


إلى التشبيه، كما يستعار لأنف الإنسان المارن ويمكن أن يكون استعارة معنوية بولغ أولاً، بأن شبه الاستبدال في كونه مرغوبا فيه بالبيع والشراء ثم زيد في المبالغة، بأن قلبت القضية، وجعل الثمن مبيعا والمبيع ثمنا، ونحوه في القلب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فجعلت الآيات في الابتذال والامتهان وكونها ذرائع إلى سائر متاعهم، كالدراهم المبذولة لقضاء الحوائج، ومقام التقريع والبغي على بني إسرائيل وسوء صنيعهم يقتضي هذه المبالغة.
قوله: (واللبس الخلط، وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره) إلى آخره، عبارة الكشاف: الباء التي في الباطل إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء، وخلطته به كان المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ماليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى يتميز بين حقها وباطلكم، وإن كانت باء الإستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا/ تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه.
قال الطيبي: والفرق أن الخلط يستدعي مخلوطا ومخلوطا به. قال الجوهري: خلطت الشيء بغيره خلطا، فاختلط. فإذا جعلت صلة كان بالباطل: مفعولا مثل الأول فخلطهم أن يكتبوا شيئا آخر مثل المنزل فإذا كتبوا اختلط مع الحق فالمنهي الكتبة نفسها لأنها مستلزمة للإختلاط، ومن ثم قال: ولا تكتبوا فيختلط الحق بالباطل، فإذا جعلت للاستعانة كان المنهى جعل مكتوبهم سببا للاشتباه، ولهذا قال، ولا تجعلوا الحق مشتبها بباطلكم أي بسبب باطلكم، وقال: الذي تكتبونه أي الذي أنتم مشتغلون به، وهو دأبكم وعادتكم.
فقوله: ملتبسا ثاني مفعولي جعل، وقال أبو حيان: الظاهر، أن

(2/223)


الباء في قوله: {بِالْبَاطِلِ} للالتصاق: كقولك: خلطت الماء باللبن: فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة وساق عبارته، ثم قال: وهذا فيه بعد عن هذا التركيب وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك، وكذا قال الشيخ سعد الدين قد يرجح الأول بأنه أظهر وأكثر. فائدة: في الحاشية المشار إليها، على كلام الكشاف مؤاخذة لطيفة، فإنه سمي باء التعدية صلة، والذي يستعمله أكثر المصنفين. في مثل هذا أن الصلة بمعنى الزيادة.
قوله: (أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع)، أي لا تجمعوا لبس الحق وكتمانه. قال الطيبي: فإن قيل: فعلى هذا يلزم جواز فعلهم اللبس بدون الكتمان وعكسه، كما في مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قلت: لا نسلم جواز فعل كل واحد منهما على الانفراد، فإن نهي الجمع لا يدل على جواز البعض ولا على عدمه وإنما يعلمان من دليل آخر. أما في مسئلة السمك فمن الطب، وأما في الآية فلإشتداد قبح كل منهما.
بقي أن يقال: إذا كان كذلك فما فائدة الجمع والجواب؟ إن فائدته المبالغة في البغي عليهم وإظهار قبح أفعالهم من كونهم جامعين بين الفعلين اللذين إذا انفرد كل منهما كان مستقلا في القبح. وعلى قراءة الجزم، وإن دل على المبالغة لكن تفوت فائدة البغي عليهم إنتهى. وذكر القطب نحوه.
قوله: (ويعضده أنه في مصحف ابن مسعود {وَتَكْتُمُونَ}) أي

(2/224)


وانتم تكتمون، بمعني كاتمين، زاد المصنف على الكشاف، قوله: (أي وأنتم تكتمون) لأن المتكتمين تعقبوا عليه حيث قال: وتكتمون بمعنى كاتمين قال أبو حيان: هذا تقدير معنى لا تقدير إعراب لأن الجملة المثبتة المصدرة بمضارع إذا وقعت حالا تدحل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن يضمر قبل المضارع مبتدأ تقديره وأنتم تكتمون الحق. قال: ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة وهم نهوا عن لبس الحق بالباطل على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال، إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك: بأن يقال: لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوما قال: ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي على مذهب من يرى ذلك، وهو سيبويه وجماعة ولا يشترط التناسب في عطف الجمل. قال: وكلا التخريجين تخريج شذوذ.
قوله: (يعني صلاة المسلمين) قال الشيخ سعد الدين: يؤيد أن اللام في الصلاة والزكاة والراكعين للإشارة إلى المعلوم المعين ويجوز أن تكون للجنس والدلالة على أن صلاة غير المسلمين ليست بصلاة.
قوله: (فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، هذا حديث مرفوع، أخرجه الشيخان. من حديث ابن عمر.
قوله: (قال الأضيط السعدي).
لاتذل الضعيف علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
هو الأضبط بن قريع، من شعراء الدولة الأموية.

(2/225)


وقبله:
لكل ضيق من الأمور سعة ... والمسء والصبح لابقاء معه
وبعده:
وصلى وصال البعيد إن وصل الحب .... ـل وأقص القريب إن قطعه
فأقبل من الدهر ما أتاك به .... من قر عينا بعيشه نفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
علك: لغة في لعلك. وتركع، وهو الركوع من الانحناء والميل وأراد به الانحطاط من المرتبة والسقوط من المنزلة.
قوله: (تقرير)، قال الشيخ سعد الدين: عندهم يقال للحمل على الإقرار والإلجاء إليه وللتحقيق والتثبيت، وكلاهما مناسب ههنا.
قوله: (ويتناول كل خير) قال الشيخ سعد الدين: أي يطلق عليه، ولم يرد هنا إنهم يأمرون بكل خير.
قوله: (وتتركونها من الترك كالمنسيات)، قال القطب والطيبي: أشار بالكاف إلى أن المراد بقوله: تنسون تتركون، على الاستعارة التبعية لأن أحداً لا ينسى نفسه بل يحرمها من الخير ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة لعدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله.
قوله: (وعن ابن عباس، أنها نزلت في أحبار اليهود) إلى آخره. أخرجه الواحدي في أسباب النزول. من طريق الكلبي عن أبي

(2/226)


صالح، عن ابن عباس.
قوله: (وأنتم تتلون الكتاب، تبكيت كقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}) قال الطيبي: يعني كما وقع وأنتم تعلمون حالا من فاعل لا تلبسوا على سبيل التبكيت وإلزام الخصم، كذلك وأنتم تتلون الكتاب، حال من فاعل أتأمرون الناس بالبر للتبكيت.
قوله: (شكيمته)، في الصحاح: فلان شديد الشكيمة إذا كان شديد النفس أبيا، وفلان ذو شكيمة إذا كان لا ينقاد.
قوله: (روى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)، أخرجه أحمد وأبو داود وابن جرير، من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان. وحزبه: بحاء مهملة وزاي وباء موحدة: أي أهمه ونزل به، وضبطه الطيبي بالنون وحكى الموحدة عن ضبط النهاية، وعزى الحديث لرواية حذيفة، وإنما هو: من رواية أخيه. وفزع إلى الصلاة: أي لجأ إليها.
قوله: (قال أوس بن حجر):
فأرسلته مستيقن الظن أنه .... مخالط ما تحت الشراسيف جائف

(2/227)


حجر بفتح الحاء والجيم كما ضبطه أصحاب المؤتلف والمختلف وبيته هذا من قصيدة أولها:
تكرر بعدي من أميمة صائف ... فبرك فأعلى ثولب فالمخالف
وقبل هذا البيت:
فيسر سهما راشه يمناكب .... لؤام ظهار فهو أعجف شاسف
يصف رمية السهم إلى الحمار الوحشي، قال الأصمعي: ظن ظنا يقينا، أي مصيبا. والشراسيف أطراف الأضالع والرخصة في أطراف الصدر المشرفة. وجايف بالجيم يصيب الجوف فتصير الرمية جائفة.
قوله: (قال عليه السلام: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) أخرجه النسائي والحاكم من حديث أنس رضي الله عنه، ويأتي تمامه في سورة آل عمران. قال الطيبي: وفى حديث أبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أقم الصلاة أرحنا بها يا بلال)). قيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تبعا، وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، وما أقرب الراحة من قرة عين الراغب. الصلاة جامعة للعبادات وزائدة عليها لأنها لا تصح إلا ببذل

(2/228)


مال ما جار مجرى الزكاة فيما يستر به العورة ويطهر به البدن وإمساك في مكان مخصوص يجرى مجرد الاعتكاف، والتوجه إلى الكعبة تجري مجرى الحج، وذكر الله ورسوله يجري مجرى الشهادتين ومجاهدة في مدافعة الشيطان جارية مجرى الجهاد وإمساك عن الأطيبين جاري مجرى الصوم وفيها ماليس في شيء من العبادات الأخرى من وجوب القراءة وإظهار الخشوع والركوع والسجود وغير ذلك. قال الطيبي. وفيها ما قال - صلى الله عليه وسلم -. ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) الذي هو أصل ذلك كله.
قوله: (أي عالمي زمانهم): أخرجه ابن جرير عن مجاهد وأبي العالية وقتادة. وقال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المراد بالعالمين جميع ما سوى الله ليلزم تفضيلهم على الملانكة، ولا جميع الناس ليلزم تفضيلهم على نبينا وأمته ففسر بعالمي زمانهم، ووجهه أن العالم اسم لكل موجود سواه، فيحمل على الموجودين بالفعل فلا يتناول من مضى أو من يوجد بعدهم على أنه لو سلم العموم في العالمين فلا دلالة على التفضيل: من كل جهة عموما، ولا من جهة القرب والمكانة عند الله خصوصا. وفي الحاشية المشار إليها: التفضيل في شيء لا يلزم منه التفضيل مطلقا، وذلك لأن شخصا لو فاق في نظم الشعر، وفاق آخر في علم القرآن والفقه، لا يلزم من تكريم الأول أنه يطلق عليه أنه أفضل من الفقيه المفسر. ومعنى تفضيلهم على جميع العوالم أن الله تعالى بعث منهم رسلا كثيرا لم يبعثهم من أمة ففضلوا بهذا النوع من التفضيل على سائر الأمم.

(2/229)


قوله: (لا تقضى عنها شيئا من الحقوق) زاد في الكشاف. فشيئا مفعول به.
قوله: (وعلى هذا تعين أن يكون مصدرا) بخلاف أجزأ عنه بالهمزة بمعنى أغنى عنه، فإنه لازم فلا يكون شيئا إلا مصدراً.
قوله: (وإيراده منكراً مع تنكير النفس للتعميم، والإقناط الكلى، تبع في ذلك صاحب الكشاف. وفي الحاشية المشار إليها: إن هذا على مذهب المعتزلة، فإنهم ينكرون الشفاعة للعصاة ويحتجون بهذه الآية، وأهل السنة يقدرون لا تجزى نفس عن نفس كافرة شيئا لما ثبت من الآيات والأخبار الصحيحة.
قوله: (والجملة صفة ليوما والعائد فيها محذوف) إلى آخر هـ. قال أبو حيان: هذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزى فيه، فحذف حرف الجر والضمير دفعة واحدة، ويجوز أن يكون التقدير: لا يجزيه فيكون قد حذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير الأول اتساعا. قال: وما ذهبوا إليه من تعيين الرابط أنه فيه أو الضمير: هو الظاهر.
وقد يجوز على رأي الكوفيين ألا يكون ثم رابط ولا تكون الجملة صفة، بل مضافا إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: واتقوا يوما، يوم لا تجزي فحذف يوم لدلالة يوما عليه، فلا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف، بدلاً وهو بدل كل من كل. ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف

(2/230)


إليه على خفضه في يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي.
قوله: (كما حذف في قوله: أو مال أصابوا). قال القالي في أماليه: حدثنا أبوبكر بن دريد: أنا عبدالرحمن، على عمه الأصمع، قال: خرج أعرابي إلى الشام فكتب إلى بني عمه كتبا فلم يجيبوه عنها، فكتب إليهم:
ألا أبلغ معاتبتي وقولي ... بني عمي فقد حسن العتاب
وسل هل كان لي ذنب إليهم ... هم منه فاعتبهم غضاب
كتبت إليهم كتبا مرارا ... فلم يرجع إلى لهم جواب
فما أدري أغيرهم ثناء .... وطول العهد أم مال أصابوا
فمن يك لا يدوم له وفاء

(2/231)


وفيه حين يغترب انقلاب
فعهدي دائم لهم وودي .... على حال إذا اشهدوا وغابوا
وقال ابن الشجري، في أماليه: قائلها الحرث بن كلدة يعاتب بني عمه وإنما قال: أم مال أصابوا، لأن الغنى في أكثر الناس يغير الإخوان على إخوانهم وهي من ألطف عتاب وأحسنه. قال الشيخ سعد الدين: فمن ذلك ما قاله أبو الهول: في صديق له أيسر فلم يجده كما يجب.
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة .... فأصبحت فيها بعد عسر أخا يسر
لقد كشف الإثراء منك خلائقا .... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
قوله: (أي من النفس الثانية العاصية أو من الأولى) قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن/ المختار، هو أن يرجع إلي النفس العاصية ليلائم قوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} فإن الضمير فيها للنفوس العاصية، وكذا في {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وليوافق ما ذكر في موضع آخر {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ولأنه حيث أريد هذا المعنى

(2/232)


أضيفت الشفاعة إلى الشافع مثل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، وما يقال في ترجيح الوجه الثاني أن المقصود نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد فنفى جميع ما يتصور في ذلك من الطرق أعني الإعطاء لنفس الحق وهو الجزاء وبدله وهو الفدية أو ترك الإعطاء مع اللطف وهو الشفاعة أو القهر وهو النصرة، غايته أنه لم يراع في الذكر الترتيب وغير في طريق النصرة الأسلوب حيث لم يقل ولا هي أي النفس المجازية بنصرها إلى المجزية، إشارة إلى أن هذا الطريق مستحيل بحيث لا يصح أن يسند إلى أحد وأنه لا خلاص لهم بهذا الطريق البتة، ولا محالة لما في تقديم المسند إليه من تقوى الحكم مردود بأن المقصود بسوق الآية نفى اندفاع العذاب وعدم الخلاص لأن المناسب بوجوب الاتقاء وإنما نفى الدافع بالعرض مع أن عود الضمير في: لا يؤخذ منها عدل إلى النفس الثانية في غاية الظهور، وإن حمل، ولاهم ينصرون على ما ذكر: تكلف. وقال أبو حيان: الضمير في: منها: عائد على النفس المتأخرة، لأنها: أقرب مذكور، ويجوز أن يعود على نفس الأولى، وقد يظهر ترجيحه لأنها هى المحدث عنها، في قوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ}، والنفس الثانية مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة.
قوله: (وكأنه أريد بالآية نفى أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه يحتمل) إلى أخره، قال الطيبي: هذا على التقسيم العقلي، وأما البياني فإن الآية من أسلوب الترقي، ولذلك أختار في تفسير تجزى، تقضى على لغة يعنى كأنه قيل: النفس الأولى غير قادرة على اختصاص صاحبها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات؛ لأنها مشغلة عنها بشأنها ثم إن قدرت على سعى ما مثل الشفاعة فلا تقبل منها وأن زادت عليها بأن تضم معها النداء، فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر

(2/233)


والغلبة وأنى لها ذلك فلا يتمكن منه، كالترقى من السعي إلى السعي.
قوله: (والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة، وتذكيره بمعنى العباد والأناسي)، قال الحلبي: يعني أنه قصد بها المذكور، ولكن قد نص النحاة على أن مثل هذا ضرورة، فالأولى أن يعود على الكفار الذين اقتضتهم الآية كما قال ابن عطية. وقال الشيخ سعد الدين: أشار إلى أنه ليس الضمير عائدا إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة، على ما يقع في بعض العبارات بل إلى ما تدل هي عليه من النفوس الكثيرة حتى إن هذا يكون من قبيل ما تقدم ذكره يعني بدلالة لفظ آخر. مثل: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فإن الضمير عائد إلى لفظ أحد؛ لأنه في معنى الجماعة، ثم استشعر أنه لما عاد الضمير إلى النفوس كان المناسب: هن بالتأنيث لاهم بالتذكير، فأجاب بأنه لتأويل النفوس بالعباد والأناس، كما تقول: ثلاثة أنفس بالتاء مع تأنيث النفس، لتأويل النفوس بالأشخاص أو الرجال وقال الطيبي: حق الظاهر أن يقال: ولا هي تنصر فخولف بأن جمع الضمير والمرجوع إليه مفرد، وذكره وهو مؤنث، فالجمع باعتبار أن النفس المنكرة في سياق النفي دلت على أن هناك نفوسا كثيرة، وكل واحد منها: لا تجزي عن الأخرى شيئا، والتذكير لتأويل أن تلك الأنفس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطان الله وملكه. وفي الحاشية المشار إليها: لو قيل: إن النفس المذكورة في الآية لما كان المراد عمومها دخل فيها الذكور والإناث، فغلب المذكر كان حسنا.

(2/234)


وقال أبو حيان: منهم من جعل الضمير في (ولاهم) عائدا على النفسين معا، لأن التثنية جمع.
قوله: (وأصل آل: أهل، لأن تصغيره أهيل)، ذهب الكسائي إلى أن أصله أول من آل يؤول رجع قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ونقل عن العرب، أنهم قالوا في تصغيره: أويل وبهذا القول جزم الجوهري، وصححه الواحدي، واختاره ابن البانش، ورد الأول باختلاف أهل وآل معنى، فإن الأصل القرابة، والآل من يؤول إليك في قرابة أوراي أو مذهب وبأن الألف لم يثبت بدلاً من الهاء في غير هذا الموضع.
قوله: (وفرعون لقب من ملك العمالقة ككسرى) وقيصر لملكي الفرس والروم، قال الشيخ سعد الدين: يشبه أن يكون مثل فرعون وقيصر وكسرى من علم الجنس ولذا منع الصرف، ولكن جمعه باعتبار الأفراد، مثل: الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يدل على أنه علم شخص يسمى به كل من يملك ذلك وضعا ابتدائيا.
قال: والعمالقة أولاد عمليق من لاوذ بن بن إرم بن سام بن نوح.
قوله: (ولعتوهم اشتق منهم تفرعن الرجل). في الحاشية: يشير به إلى أن الاشتقاق أصله أن يكون من المصادر لا من الأسماء وقل

(2/235)


من الأسماء كهذا.
قوله: (وكان فرعون موسى مصعب بن ريان، وقيل: اسمه وليد)، والأشهر في اسمه الثاني، قاله: ابن إسحاق وأكثر المفسرين.
قوله: (يسومونكم: يبغونكم)، قيل: المعروف تفسير يسومونكم: يتولونكم ويذيقونكم مع أن يبغونكم متعد إلى واحد فلا يصح أن يفسر به ما عدى إلى المفعولين، لكن قال الراغب: السوم الذهاب في ابتغاء الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والابتغاء وأجرى مجرى الذهاب في قولهم سامت الإبل ومجرى الابتغاء في قولهم: سمته الخسف، ومنه، قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}.
قوله: (ونصبه على المفعول) أي الثاني.
قوله: (بيان ليسومونكم): تبع عبارة الكشاف. وعبارة أبي حيان، بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو قوله تعالى: {يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} وهي أصوب لأن عطف البيان لا يكون في الأفعال ولا في الجمل، قال ابن هشام في المغني: مما افترق فيه عطف البيان والبدل: أن عطف البيان لا يكون جملة ولا تابعا لجملة، ولا فعلا ولا تابعا لفعل بخلاف البدل. والمفهوم من كلام الشيخ سعد الدين: أنه لم يقصد هنا بالبيان عطف البيان، بل البيان المعنوي، أي التفسير فإنه قال: ويذبحون بيان لقوله: يسومونكم. وهو حال أو

(2/236)


استئناف، وقد حكى القولين مع البدل أبو حيان.
وفي الحاشية المشار إليها جعل المصنف يذبحون بيانا وتفسيرا لقوله: يسومونكم، فكأن قائلا قال: فما الذي ساموهم إياه؟ فقال: يذبحون، ويستحيون، إلا أن هذا يعارضه ما في سورة إبراهيم، وهي قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ} والظاهر من حرف العطف المغايرة والواقعة واحدة. ويبعد أن تدخل الواو على المضارع إذا كان حالا مثبتا. وقال أبو حيان: قال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح.
قوله: (لأن فرعون رأي في المنام)، أخرج ابن جرير عن السدي، أن فرعون رأى في المنام: أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم عن رؤياه فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على وجهه هلاك مصر.
قوله: يسلوككم فيه أو بسبب انجائكم أو ملتبسا بكم). قال الطيبي، والشيخ سعد الدين: يعني أن في الباء ثلاثة أوجه، أولها الاستعانة والتشبيه بالآلة فتكون استعارة تبعية، وثانيها: السببية الباعثة بمنزلة اللام، وثالها: المصاحبة فيكون الظرف مستقراً على هذا وعلى الوجهين لغوا.
زاد الطيبي: وفرق بين باء السببية والاستعانة فإن باء الاستعانة

(2/237)


كالآلة وإن البحر فرق بواسطتهم، والسببية أذنت بأن الله تعالى فرقه بسببهم ولأجل انجائهم، لكن ليس فيه أنه فرق بواسطتهم أم لشيء آخر، وعلى الملابسة ليس فيها نصوصية الأمرين. وقال صاحب الانتصاف: يضعف الأول إن آلة التفريق للبحر هي العصا، بدليل قوله تعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} قوله: كقوله: تدوس بنا الجماجم والتريبا. هو: للمتنبي، وأوله:
كأن خيولنا كانت قديما ... تسقى في فحوفهم الحليبا
فمرت غير نافرة عليهم .... تدوس بنا الجماجم والثريبا
قال الطيبي: التريب جمع تريبة، وهي عظام الصدر، والعرب تسقى كرام خيولهم اللبن، يقول: كأن خيولنا كانت تسقى اللين في فخوذ رؤس الأعداء فألفتها فهي تطأ رؤوسهم وصدورهم ونحن عليها فلا تنفر.
قوله: (أراد به فرعون وقومه) إلى آخره. قلت: الأحسن فيه أنه من باب راكب الناقة طليحان اعتبارا للمضاف والمضاف إليه، لا من باب حذف المعطوف عليه أو المعطوف الذي ذكره المصنف.
قوله: (روى أنه تعالى أمر موسى عليه السلام: أن يسري ببنى إسرائيل) الحديث، أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وفيه: فأوحى

(2/238)


الله تعالى إلى موسى، أن قل بعصاك هكذا، فقال موسى بعصاه على الحيطان هكذا فصار فيها كوى أي أشار بها إلى حيطان الماء، قال في الأساس: قال بيده أهوى بها، وقال برأسه: أشار، وقال الحائط: سقط. وقال: وبالجملة: فالعرب تستعمل القول في غير الكلام، وقال في النهاية: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام فتقول: قال بيده أي أخذه وقال برجله، أي مشى، وقال بثوبه أي رفعه، وقال بالماء على يده، أي قلب، ويقال: قال بمعنى مال وأقبل وضرب، وغير ذلك- والكوى بالكسر جمع كوة بالفتح، كبدرة وبدر، وبالضم جمع كوة. وفي الحاشية المشار إليها العرب تستعمل القول مجازاً في الشروع في الفعل والإشارة إليه قال: ومن عادة الزمخشري ألا يطيل في القصص، ولا يذكر منها إلا ما لابد منه في تفسير الآية، أو ما ثبت في الحديث الصحيح، وإنما ذكر هذه القصة لأن للسلف تأويلين في قوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}، أحدهما: وأنتم في حال الانجاء ينظر بعضكم إلى بعض، كما ذكر فى القصة من تشبيك الماء وصيرورته كوى، والثاني: وأنتم بعد أن صعدتم من البحر تنظرون إلى غرفهم. وقال الطيبي: أي ينظرون من النظر بالبصر، والظاهر الإطلاق. قال الراغب: النظر نظران، نظر بصر ونظر بصيرة، والأول كالخادم للثاني، ولما احتملت الآية المعنيين، قيل معناها: وأنتم تشاهدونه ولا تشكون فيه وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}. وقيل معناها:

(2/239)


وأنتم تعتبرون بذلك.
قوله: (لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن يعطيه التوراة) قلت: هذا الذي ذكره من عودهم إلى مصر تبعا لما في الكشاف لا يعرف ولم يرد في شيء من الأخبار أنهم عادوا إلى مصر بعد خروجهم منها، والقرآن ناطق بخلاف ذلك في عدة مواضع، وهو أنهم كانوا بالشام، كقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} فإنها مفسرة بالشام، ولم يأت موسى للميعاد إلا بطور سينا، وهو بالشيء لا بمصر، وقد صرح بما ذكرته الإماء أبو جعفر ابن جرير فقال: قد كتب الله لهم الأرض المقدسة بعد أن أخرجهم من مصر، فلما امتنعوا من قتال الجبارين حرمها عليهم وعاقبهم بالتيه إلى أن دخلها أولادهم مع يوشع، ولم يخبرنا أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجهم منها: قال: فإن قيل، فإن الله تعالى قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} إلى قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} قيل: إن الله أورثهم وملكهم إياها ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام. وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل في تفسيره لم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين بأنهم دخلوا مصر/ بعد خروجهم منها.
قوله: (واعدنا)، لأنه تعالى وعده الوحي ووعده موسى الجيء)، قال الشيخ سعد الدين: كثيرا ما يسلك صاحب الكشاف هذه الطريقة أعني جعل تعلق المفاعلة بالنسبة إلى كل من المشاركين شيئا آخر. وقال أبو

(2/240)


حيان: لا يجوز نصب أربعين على الظرف، لأنه ظرف معدود فيلزم وقوع العامل في كل فرد فرد من أجزائه والمواعدة لم تقع كذلك. وقال الطيبي: من فوائد صاحب التقريب في هذا المحل إشكال تقريره أن أربعين إما أن يكون منتصبا على الظرفية أو على المفعولية لظهور بعد غيرهما من المنصوبات أو امتناعه، والأول ممتنع لأن المواعدة لم تكن في أربعين، وكذلك الثاني، لأن المواعدة إنما تتعلق بالأحداث والمعاني، لانفس الحديث والأزمنة ولا جائز أن يقدر مضاف لأنه لو قدر إما أن يقدر المذكور إلى الوحي والمجيء، وهو ممتنع لأن تقدير مضافين إلى شيء واحد حذفا من اللفظ غير معهود في العربية أو أن يقدر أمر واحد منهما أو غيره والأول أيضا ممنوع لأن أحدهما غير مواعد من الظرفين بل كليهما. والثاني غير جائز لأن المنقول ذلك الأمر، على أن المواعدة تقتضي شيئين. وأجاب بأنا نختار الثالث ونقدر أمراً يتضمنهما لتصحيح المعنى واللفظ نحو الملاقات، فإنها تستقيم من الجانبين، واللقاء الموعود من الله لأجل الوحي ومن موسى لأجل المجيء لاستماعه، وغرض المفسرين من ذلك التقدير بيان المعنى، وأن الموعود من كل جانب ماذا؟ لا بيان الإعراب. وقال الشيخ سعد الدين: أربعين في موضع المفعول به باعتبار ما يتعلق بها من الأحوال والأفعال الصالحة لتعليق الوعد به ويكون من الظرفين وعد يتعلق به إلا أنه من الله تعالى الوحي وتنزيل التوراة ومن موسى المجيء والاستماع والقبول وكذلك الكلام في موضع تبين اختلاف الظرفين في باب المفاعلة.
وقوله: (ثم اتخذتم العجل إلها:) فيه أمران: الأول: أنهم جعلوا اتخذ مما أبدل فيه الهمزة كما قالوا في ااتمن: أتمن، وكان القياس إبدالها ياء فيقال: ايتخذ. قال أبو حيان: ومن فوائد الشيخ بهاء الدين ابن النحاس: إن اتخذ مما أبدلت فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه

(2/241)


لغة أنه يقال: وخذ بالواو فجاء هذا على الأصل في البدل وإن كان مبنيا على اللغة القليلة وهذا أحسن، لأنهم نصبوا على أن أتمن لغة رديئة وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة وخرجه الفارسي على أن التاء الأولى أصلية، لأن العرب، قالوا: تخذ بكسر الخاء بمعنى اتخذ، قال تعالى: {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} الثاني قال أبو حيان: يحتمل اتخذ هنا أن
تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلا، وعلى هذا التقدير يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلها، وأن تكون متعدية إلى اثنين، فيكون المفعول الثاني محذوفا لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ثم اتخذتم العجل إلها.
قال: والأول أرجح، إذ لو تعدى في هذه القصة إلى اثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد في نظائره، قال: ويترجح القول الثاني لاستلزام القول الأول حذف جملة، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل. انتهى، والمصنف مشي على الثاني. قوله تعالى {مِنْ بَعْدِهِ}: أي مضيه. قال الشيخ سعد الدين: أن الضمير لموسى والمضاف محذوف، وقال أبو حيان: من تفيد ابتداء الغاية في البعدية التي تلي المواعدة إذ الظاهر عود الضمير على موسى ولا يتصور البعدية في الذات فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدة فلابد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين إلا إن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير: من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ ويبين المهلة قصة الأعراف إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل

(2/242)


كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقب الذهاب إلى الطور فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد فزال التعارض.
وقوله: (والعفو محو الجريمة من عفا إذا درس)، ذكر غيره أن العفو بمعنى الترك وبمعنى الدروس، وبمعنى السهولة، وإن العفو عن الذنب يصح رجوعه إلي كل منها، فعلى الأول هو ترك ما يستحق الذنب من العقوبة، وهو ما ذكره الليث وعلى الثاني، وهو محو الذنب، وهو ما ذكره ابن الأنباري وعلى الثالث: هو الإعراض عن المؤاخذة كما يعرض عما يسهل على النفس بذله.
قوله: (أي لكي تشكروا عفوه)، إصلاح لما في الكشاف، إذ قال: إرادة أن تشكروا، قال المحسوف: هذا بناء على مذهبه، والذي ألجأه إلى ذلك أن لعل تكون بمعنى الطمع والاشفاق، وكلاهما مستحيل في حق الله، فأوله بالإرادة بناء على مذهبه أن مراد الله تعالى قد يتخلف عن إرادته، وعندنا لا يصح ذلك لأن إرادته تستلزم الوقوع، ولو أراد الله أن يشكروا لشكروا كلهم، ولم يقع ذلك، فيحمل على {وَإِنْ تَشْكُرُوا} أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: عن أبي مالك، قال: لعلكم في القرآن بمعنى كي، غير أية في الشعراء {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}،

(2/243)


يعني كأنكم تخلدون.
قوله: (يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا وحجة)، إلى آخره. قال الطيبي: يريد أن الكتاب والفرقان عبارتان عن معبر واحد وهو التوراة بعد تأويلها بالصفتين وهو من باب الكناية التي يطلب بها نفس الموصوف نحو قولك: حي مستوى القامة عريض الأظفار، وتريد الإنسان، وأما الواو فهي الداخلة بين الصفات للإعلام باستقلال كل منهما.
قوله: (وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام) قال الطيبي: فالعطف إذن إما من باب قولك: ملائكته وجبريل أو من باب التجريد، لأن التوراة مشتملة على الشرع الفارق فجرد منها هذه الصفة لكما لها فيه ثم عطفت عليها، وهي هي.
قوله: (بالبخع) بموحدة ثم معجمة ثم مهملة، يقال: بخع الشاة ذبحها، وبخع نفسه أهلكها، ومنه قوله {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} وفي الأساس: إن إطلاقه على المشقة التي هي غير القتل مجاز.
قوله: (أو قطع الشهوات)، هذا ذكره بعض أرباب الحواشي، قال جماعة؛ ولا يجوز أن يفسر به، لإجماع المفسرين على أن المراد هنا القتل الحقيقي.
قوله: (روى أن الرجل كان يرى) إلى آخره. أخرجه ابن جرير من طرق، عن ابن عباس وغيره. قال الشيخ سعد الدين: الضبابة:

(2/244)


شبه سحابة تغشى الأرض كالدخان.
قوله: (والفاء الأولى للسببية)، قال الزمخشري: لا غير قال الطيبي: يعني ليست للعطف، كقولهم: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، وحكاه القطب، فقال: منهم من يخيل من قوله: لا غير، إنها ليست للعطف، وليس كذلك بل هي لهما معا والمعطوف عليه: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ}، لأن كلا منهما مقول قول موسى، انتهى، وكان المصنف حذف قوله: (لا غير) لهذه النكتة: ولم يتعرض المصنف للفاء الثالثة وقد قال القطب والطيبي: إنها فاء الفصيحة، وهي الفاء التي تدل على أن ما بعدها يتعلق بمحذوف هو سبب لما بعدها. قال القطب: فالفاء التي ما قبلها يكون سبب لما بعدها إن كان ما قبلها محذوفا فهي الفصيحة وإلا فهي للسببية. وقال الطيبي: قد سميت فصيحة لأنها تفصح عن محذوف هو سبب لما بعده، والأولى أن علة التسمية اختصاصها بكلام الفصحاء. وفي الحاشية للقطب، في قوله: {انْفَطَرَتْ}: الفاء فصيحية وسميت الفاء فصيحية لأنه يستدل بها على فصاحة المتكلم، يقال: كلام فصيح، وكلمة فصيحة وصفت الفاء بها على الإسناد المجازي، وإنما اختصت بكلام البلغاء لأن المراد بالحذف الدلالة على أن المأمور لم يتوقف عن إتباع الأمر فظهر أثره في الحال وعلى أن المطلوب بالضرب الانفجار لا الضرب ومثل هذا المعنى الدقيق لا يذهب إليه إلا الفصيح.
قوله: (والثانية للتعقيب)، قال الطيبي: حمل الفاء على التعقيب يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون قتل أنفسهم عين التوبة، فحينئذ يحتاج

(2/245)


إلى تقدير: فاعزموا على التوبة فاقتلوا لئلا يلزم عطف الشيء على نفسه. وثانيهما: أن يكون قتل أنفسهم تتمة للتوبة، فتكون التوبة مشتملة على القول المتعارف والفعل المخصوص، فيصح العطف بدون التقدير، وقال أبو حيان: جملة فاقتلوا أنفسكم، بدل من قوله: {فَتُوبُوا} إن قلنا إن التوبة هي نفس القتل، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية، وللتعقيب إن قلنا: القتل تمام توبتهم والمعنى: فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم. وفي الحاشية المشار إليها: ذكر صاحب الكشاف في الفاء الثانية وجهين، لا يخلو واحد منهما عن إشكال، الأول: أنه جعل قوله فتوبوا كناية عن إرادة التوبة والعزم عليها، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ}، وهذا وإن كثرت شواهده فهو على خلاف الأصل، والثاني: أنه جعل القتل من تمام التوبة حتى يتم له عطف القتل على التوبة، وهو أيضا مجاز، لأن القتل إذا كان جزءاً من التوبة فالواقع قبلها ليس بتوبة وإنما هو جزء توبة. فحاصل الوجهين: أن قوله فتوبوا مجاز، إما من باب التعبير بالمسبب عن السبب، وإما من باب التعبير عن الجزء بالكل، قال: ويحتمل أن يقال: إن هذه الفاء جاءت في كتاب الله وفي كلام الفصحاء لا تدل على تعقيب، بل تأتي كالتفسير لما أجمل أولا والتبيين لكيفية وقوعه، فمن ذلك هذه الآية فإن القتل كان نفس التوبة، ومنه: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}، وتقول: قام فلان فأحسن

(2/246)


وخطب فأوجز، وأعطى فأجزل، والتعقيب ممتنع في هذه الأمثلة.
قوله: ({فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، متعلق بمحذوف) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: الفاء الثالثة تحتمل وجهين، أحدهما أن تكون جزاء شرط محذوف، أي إن فعلتم فقد تاب عليكم، وأتى بلفظ قد ليصح دخول الفاء، وإنما انتظم في قوله لأنه لا معنى أن يقول الله لهم: إن فعلتم فقد تاب عليكم، وثانيهما أن تكون عطفا على محذوف أي إن فعلتم فتاب عليكم، ويكون خطابا من الله لهم على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، حيث عبر عنهم بطريق الغيبة بلفظ قومه. وهذا مع وضوحه قد خفي على كثيرين حتى توهموا أن المراد الالتفات من التكلم إلى الغيبة في فتاب، حيث لم يقل: فتبنا. انتهى. وأشار بهذا الأخير إلى الطيبي، فإنه قرر ذلك، فقال: أي قال لكم موسى توبوا إلى بارئكم فتبنا عليكم، قال: فإن قلت: من أين نشأ الالتفات؟ وكيف موقعه؟ قلت: من قوله: وإذ قال موسى لقومه، يعني أذكروا يابني إسرائيل وقت قول موسى لقومه: فتوبوا إلى بارئكم فامتثلتم أمره فتبتم فتبنا عليكم، فرجع إلى الغيبة، وفي الحاشية المشار إليها ما ذكره الزمخشري على الوجه الأول من تعلقه بشرط محذوف فيه إشكال، فإن الفعل الماضي إذا وقع جوابا للشرط ولم يقدر الجواب محذوفا لم يجز دخول الفاء إلا مع قد كقوله: من فعل فقد أحسن، ولا يصح أن يقال: من فعل فأحسن. وقال أبو حيان: قوله فتاب عليكم، لابد فيه من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم، وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو إذ في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}، قال: وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجا تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة هي وحرف

(2/247)


الشرط قال: وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه، وأما فعل الشرط وحده دون الأداة، فيجوز حذفه إذا كان منفيا بلا في الكلام الفصيح، وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معا وإبقاء الجواب فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب. وقال السفاقسي: فقد أجازه الفارسي في الحجة في قوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}، قال: الفاء جزاء لا عاطفة، أي إذا حبستموهما أقسما.
قوله: (استعيرت للمعاينة) قال الطيبي: وفائدتها كمال الرؤية بحيث لا يضام فيها، وفي الحاشية المشار إليها: الجهر حقيقة في القول، واستعماله في رؤية العين مجاز، والمخافتة حقيقة في الصوت الخفي وتستعمل في رؤية القلب مجازا، الراغب: الجهر يقال لظهور الشيء بإفراط، إما بحاسة البصر نحو رأيته جهارا، {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ومنه جهر البئر إذا ظهر ماءها، والجوهر: فوعل منه سمى بذلك لظهوره للحاسة، وإما بحاسة السمع، قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ}.
قوله: (أو الحال من الفاعل) قال أبو حيان: على تقدير الحذف أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية، لا على طريق المبالغة، نحو رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا.
قوله: (قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم)، أخرجه ابن جرير

(2/248)


عن السدي.
قوله: (وقيل: صيحة) أخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس.
قوله: (والسماني) بتخفيف الميم والقصر وألفه للالحاق وواحده سماناه.
قوله: (وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعمة)، قال الشيخ سعد الدين: وجه الدلالة ما ظلمونا على هذا المحذوف أنه نفى بطريق العطف تعليق الظلم بمفعول وأثبته بمفعول آخر، وهذا يقتضي سابقة إثبات أصل الظلم. وقال الطيبي: يريد أن الواو في {وَمَا ظَلَمُونَا} تستدعي معطوفا عليه هو مرتب على ما قبله كقوله تعالى: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ}، بعد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}، قدر فيه: فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ}، والفاء في فظلموا بها مجاز لغير الترتيب، على أسلوب قولك: أنعمت عليه فكفر أي ليشكر فكفر وضعوا الكفر موضع الشكر فظلموا ونحوه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}، أي شكر رزق ربكم أنكم تكذبون، وإنما قال: فظلموا بأن كفروا هذه النعمة ولم يقل: فظلموا بأن لم يمتثلوا الأمر، لأنهم امتثلوا الأمر وهو الأكل، لكن ما عملوا بمقضاه أي الشكر.
قوله: (أريحا)، قال في النهاية: بفتح الهمزة وكسر الراء والحاء

(2/249)


المهملة، اسم قرية بالغور قريبة من بيت المقدس.
قوله: (أو أمرك حطة)، قال الطيبي: أي: شأنك حط الذنوب.
قوله: (وقيل معناه: أمرنا حطة) أي: أن نحط في هذه القرية ونقيم بها. قال الإمام: هذا قول أبي مسلم وزيف بأنه لو كان المراد ذلك، لم يكن غفران خطاياهم متعلقا به، والآية دلت على أن غفران خطاياهم كان لأجل قولهم: حطة، قال الإمام: ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجداً مع التواضع كان الغفران متعلقا به.
قال الطيبي: ويشكل بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ويمكن أن يقال: أن الأمر بذلك القول لمحض التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه بما اتجه لهم من الرأي فعذبوا لذلك.
قوله: (قرأ نافع بالياء وابن عامر بها): صوابه: وابن عامر بالتاء الفوقية. وعندي أن هذا تحريف من الناسخ والمصنف

(2/250)


منزه عن ذلك.
قوله: (أو على أنه مفعول قولوا)، أي: قولوا هذه الكلمة. قال أبو حيان: هذا ليس بجائز، لأن القول لا يعمل في المفردات إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به إلا إن كان المفرد مصدراً، نحو قلت قولا، أو صفة لمصدر، نحو قلت حقا، أو معبرا به عن جملة نحو قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول فصار كالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحدا من هذه، ولأنك إذا قلت حطة منصوبة بلفظ قولوا: فإن ذلك من الإسناد اللفظي لا المعنوي، وإذا كان من اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلا إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ لا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع للدلالة على معنى، ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى، انتهى.
قوله: (وأخرجه على صورة الجواب) إلى آخره، هو جواب سؤال مقدر، أي: كيف عطف وسنزيد على نغفر، وهو مجزوم، قال الطيبي: أراد أن الزيادة إذا كانت من وعد الله كانت أعظم مما إذا كانت مسببة عن فعلهم.
قوله: (بدلوا بما أمروا به) ألى آخره.
لم يذكر اللفظ الذي قالوه بدله. قد أخرج الشيخان من حديث أبي

(2/251)


هريرة مرفوعا، إنهم قالوا: حبة في شعرة وفي رواية في شعيرة، وأخرج الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود، أنهم قالوا: هطى سمقا يا زيد وزبا، وهي بالعربية: حنطة حمراء قوية فيها شعرة سوداء. وأخرج ابن جرير عنه، إنهم قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. وأخرج الحاكم عن ابن عباس، إنهم، قالوا: حنطة. والحاصل، إنهم عدلوا إلى لفظ حنطة عن لفظ حطة استهزاء بها، فأخرج ابن جرير عن ابن زيد، أنهم قالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا [إلا لعب بنا] حطة حطة، أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض حنطة.
قوله: (والرجز في الأصل ما يعاف عنه)، الراغب: أصل الرجز الاضطراب ومنه رجز البعير إذا تقارب خطوه، والرجز هنا الزلزلة، وقال غيره: أصله تتابع الحركات، والرجز العذاب المقلق بشدته قلقلة شديدة متتابعة شديدة.
قوله: وقرئ بالضم، وهي لغة فيه، زاد غيره: إنها لغة بني الصعدات.
قوله: (والمراد به الطاعون)، أخرجه ابن جرير عن ابن زيد وأورد فيه حديث الطاعون، رجزا نزل على من كان قبلكم، ثم أخرج

(2/252)


عن ابن عباس، إن كل شيء في القرآن من الرجز يعني به العذاب.
قوله: (الأدرة) بالضم انتفاخ الخصية.
قوله: من آس الجنة، بالمد، يخالفه ما أخرجه ابن المنذر، عن ابن عباس، أنها كانت من عوسج، وأخرج مثله عن الحكم.
قوله: (متعلق بمحذوف تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت) تابع فيه الزمخشري، وقال أبو حيان: تقدم الرد عليه في هذا التقدير في فتاب عليكم، بأن إضمار هذا الشرط لا يجوز، وفي قوله أيضا إضمار قد إذ يقدر (فقد تاب عليكم)، فقد انفجرت ولا يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكوك بغير فاء أو إن دخلت الفاء فلابد من إظهار قد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضيا لفظا ومعنى. نحو: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ}، وإذا كان ماضيا لفظا ومعنى: استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب الشرط، ومعلوم أن الانفجار على ما قدر يكون مرتبا على أن يضرب، وإذا كان مرتبا على مستقبل وجب أن يكون مستقبلا، فإذا كان مستقبلا امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها ألا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضيا، نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إلي فقد أحسنت إليك ويحتاج إلى تأويل كما ذكرنا، وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي، نحو: إن زرتني فغفر الله لك، وأيضا فالذي يفهم من الآية: أن الإنفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا

(2/253)


وَاشْرَبُوا} وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه يجعله غير واقع إذ يصير مستقبلا لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلا عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، فاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه. فالفاء إذا إنما هي للعطف على جملة محذوفة، أي فضرب فانفجرت، لقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}، أي: فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجوب الانفجار مرتبا على ضربه، إذ لو كان ينفجر بدون ضرب ما كان للأمر فائدة، ولكان تركه عصيانا، وهو لا يجوز على الأنبياء. انتهى. وقال الحلبي في الجواب: كأنه، يعني الزمخشري، يريد تفسير المعنى، لا الإعراب. وقال السفاقسي: أما حذف الشرط وفعله: فقد تقدم. وقد يقال هنا: أنه ليس من هذا القبيل لتقدم الأمر المضمن معنى الشرط، وهو قوله: إضرب، وأما فساد المعنى والتركيب فممنوع وهو مثل قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}، وقد قال ابن الضائع: وتقول: إن قام زيد فقد قام عمرو أمس، وهذا ليس بجواب في الحقيقة، إذ لا يتقدم المسبب على سببه وإنما الجواب محذوف، تقول: إن جنتنى فقد أعطيتك فهو مما استغنى فيه بالسبب عن مسببه، وهو كثير. قال السفاقسي: والتقدير في الإثنين على هذا النحو أي إن كذبوك فلا تأس؛ لأنه قد كذبت، أو فاصبر وإن ضربت بسيف أو لم يذكر، ونحوه، قد انفجرت، أو قدر واقعا لتحقيقه، قال: والحق أن فيه تكلفا وتعسفا،

(2/254)


ولكنه لا ينتهي إلى فساد المعنى والتركيب. وقال ابن هشام في المغني: بعد ذكره. إن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب؛ إلا أن قيل: المراد فقد حكمنا بترتيب الانفجار على ضربك.
قوله: (يريد ما رزقهم من المن والسلوى وماء العيون) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: جعل الرزق بمعنى المرزوق ووصله إلى الطعام نظراً إلى كلوا أو إلى الماء نظراً إلى إشربوا، ولا قرينة على الأول، إلا أن يلاحظ ما سبق من قصد تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى ولعدم التعرض لذلك في هذه القصة فسر بعضهم الرزق بالماء وجعله مما يؤكل بالنظر إلى ما ينبت منه ومشروبا بحسب نفسه، ولم يرتضه المصنف، أما أولاً، فلأنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء وثماره. وأما ثانيا: فلأنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يندفع بكون من للابتداء، دون البعضية لأن ابتداء الأكل ليس من الماء بل مما ينبت منه بل الجواب أن من لا تتعلق بالفعلين جميعا وإنما هي على الحذف، أي كلوا من رزق الله وأشربوا من رزق الله فلا جمع، انتهى، وقال أبو حيان: من رزق الله متعلق باشربوا، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة، إذ لو كان من إعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه، فكان يكون كلوا واشربوا منه، من رزق الله، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة، انتهي.
قوله: (وإنما قيده؛ لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد) إلى آخره. قال الطيبي: هذا الذي قال القاضي المقام ناب عنه؛ لأن الآية واردة في قوم مخصوصين. فالصواب: أن مفسدين حال مؤكدة، وهو الذي ذكره أبو البقاء، وقال الشيخ أكمل الدين: قيل:

(2/255)


جعل المفسدين حالاً مؤكدة فاسد، وذكر نحوه الشيخ سعد الدين.
قوله: أجموا بكسر الجيم، يقال: أجمت الطعام إذا كرهته من المداومة عليه.
قوله: (كانوا فلاحة) قال الطيبي: أي: أهل زراعات، فنزعوا إلى عكرهم أي: اشتاقوا إلى أصلهم، وقيل: العكر العادة والديدن.
قوله: (تفسير وبيان وقع موقع الحال)، عبارة أبي البقاء (من) في بقلها لبيان الجنس وموضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف وتقديره: مما تنبته الأرض كائنا من بقلها.
قوله: (وقيل: بدل بإعادة الجار). قال أبو حيان: فمن، على هذا التقدير تبعيضية كهي في {مِمَّا تُنْبِتُ}، ولا يمكن كونها حينئذ لبيان الجنس لأن اختلاف مدلود الحرفين يمنع البدل كاختلاف الحرفين قال: والمختار، كون (من) في الموضعين للتبعيض، وأن الثانية بدل من الأولى.
قوله: (يقال هبط الوادي) إلى آخره. في الحاشية المشار إليها: يشير به إلى أن هبط لا يختص بالنزول من المكان العالي، بل قد تستعمل في الخروج من أرض إلى أرض مساوية لها، وإلى أرض أعلى كما في هبط من الوادي، قوله: (وإنما صرفه لسكون وسطه) أي: كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين بخفة الاسم لسكون وسطه.

(2/256)


قوله: (أو على تأويل البلد)، قال أبو حيان: أي ذهب باللفظ مذهب المكان والبلد لا الأرضية فذكره، فبقي فيه سبب واحد فانصرف.
قوله: (وقيل: أصله مصرايم فعرب)، قال الشيخ سعد الدين: وإنما جاز الصرف على هذا لعدم الاعتداد/ بالعجمة لوجود التعريب والتصرف.
قوله: (أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط)، قال الطيبي: أي الاستعارة إما أن تكون في الذلة بأن شبهت الذلة بالقبة المضروبة على شيء شاملة له من كل جانب، ثم بولغ في التشبيه فحذف المشبه به، وأقيم المشبه مقامه فأثبت لها الضرب على طريق التخييلية، فتكون استعارة مكنية وإما أن يكون في الفعل، وهو ضربت فاستعير لمعنى ألصقت على سنن التبعية فتكون مصرحة، وقال الشيخ سعد الدين: أي أن في الذلة استعارة بالكناية، حيث شبهت بالقبة أو بالطين، وضربت استعارة تبعية تحقيقية بمعنى الإحاطة والشمول بهم أو اللزوم واللصوق، ولا تخييلية وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، فما يقال: المراد الاستعارة إما في الذلة تشبيها بالقبة، فهي مكنية، وإثبات الضرب تخييل وإما في الفعل، أعني ضربت، تشبيها لإلصاق الذلة ولزومها بضرب الطين على الحائط فتكون تصريحية تبعية، مما لا يرتضيه علماء البيان.

(2/257)


قوله: (رجعوا به أو صاروا أحقاء بغضبه)، قال أبو حيان: الباء على الأول للحال، وعلى الثاني: صلة، فعلى الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني: لا تتعلق.
قوله: (وأصل البوء)، يجوز فيه فتح الباء وضمها، فكلاهما مصدر رباء.
قوله: (ونظيره في الضمير قول رؤبة. يصف بقرة:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق)
التوليع: إختلاف الألوان والبهق بياض وسواد يظهر في الجلد، روى أن أبا عبيدة قال لرؤيه: إن أردت الخطوط فقل: كأنها، أو السواد والبلق، فقل كأنهما، فقال: أردت كان ذلك، ويلك. انتهى، وأول هذه الأرجوزة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق .... مشتبه الأعلام لماع الخفق
يكل وفد الريح من حيث انخرق .... شأز بمن عوه جدب المنطلق
ناء من التصبيح تأى المغتبق .... تبدو لنا أعلامه بعد الغرق
في قطع الآل وهبوات الدقق ..... خارجة أعناقها من معتنق
تنشطته كل مغلاة الوهق .... مضبورة قرواءهر جاب فنق
مائرة العضدين مصلاة العنق .... مسودة الأعطاف من وسم العرق

(2/258)


إذا الدليل استاف أخلاق الطرق .... كأنها حقباء بلقاء الزلق
قود ثمان مثل أمراس الأبق .... فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق .... يحسبن شاما أو رقاعا من نبق
فوق الكلى من دائرات المنطق.
قال ابن دريد في شرح ديوان رؤبة: إنما يريد أتانا لأن هذه الصفة صفة أتان.
قوله: (سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل) قلت: أخرج ابن جرير عن ابن جريج، قال: إنما سميت اليهود من أجل قولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}.
قوله: (والياء في نصراني، للمبالغة كما في أحمري)، قال الشيخ سعد الدين: وذلك للدلالة على أنه منسوب إلى ذلك عريق فيه لا مجرد موصوف بالحمرة، وفي الصحاح: لم يستعمل نصرانى إلا بياء النسب، ويقال: نصران، قرية بالشام نسبت إليها النصارى.
قوله: (سموا بذلك، لأنهم نصروا المسيح)، في الحاشية المشار إليها: ليس هذا خارجا عن قواعد الاشتقاق، فإنه يقال: لواحدهم: ناصر

(2/259)


، وفاعل لا يجمع على فعالي، بل على فاعلين كعاقلين، أو فعل كركع. أو فعلة ككتبة أو فعل كركب وتجر، وليس من صيغ جمعه فعالي، قال: وكذا قول من قال: إنهم سموا به لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة، من عمل بيت المقدس، ومنها ظهر أمر عيسى فإن: هذا الاشتقاق أيضا بعيد، فإن قياس النسبة إليه: ناصرى، والجمع ناصرون، قال: ولو قيل: إنه اسم جامد غير مشتق يخلص القائل من هذه الأمثلة، قلت: هذا القول الثاني، أخرجه ابن جرير بسند ضعيف، عن ابن عباس، قال: إنما سميت النصارى لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة، وأخرج عن قتادة مثله، ويجاب عما اعترض به بأن هذا من شواذ النسبة التي جاءت على غير القياس، كقولهم: لحياني ورقباني ورازي، ودراوردي، ومروزي.
قوله: (فمن صبا إذا خرج)، وقرأ نافع وحده بالباء إما لأنه خفف الهمزة أو لأنه من صبا إذا مال. في الحاشية المشار إليها: حاصله: أن من قرأ الصابئين بالهمزة فهو من صبا إذا خرج، يقال: صبأت النجوم إذا طلعت، ومن قرأ الصابيون بلا همزة فله وجهان أحدهما: إنه أراد الهمزة وحذفها تحفيفا، والثاني: إنه من صبا يصبو فهو صاب إذا مال وجمعه صابون. ومثله داعون، قال: ولهذه المسئلة نظيران، أحدهما، النبي، من همزه جعله مشتقا من النبأ، وهو الخبر، ومن لم يهمزه فله وجهان أحدهما أنه تخفيف من النبأ والثاني: أنه من نبا ينبو إذا أرتفع. النظير الثاني: البرية، فمن همزها فهي الخليقة من برأ الله والله الباري ومن لم يهمزها، فله وجهان، أحدهما أنه تخفيف من برا إذا خلق، والثاني: إنه

(2/260)


مشتق من البرا وهو التراب.
قوله: (ومن مبتدأ خبره فلهم أجرهم، والجملة خبر إن، أو بدل من اسم إن: وخبرها فلهم أجرهم)، قال أبو حيان: إتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله: {مَنْ آمَنَ} في موضع خبر إن، إذا كان من مبتدأ، وإن الرابطة محذوف، تقديره، من آمن منهم، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين، أعني الذي هو صلة الذين والذي هو صلة من، إما في التعلق أو في الزمان أو في الإنشاء والاستدامة. وأما إذا لم يتغاير فلا يتم ذلك لأنه يصير المعنى، إن الذين أمنوا من آمن منهم ومن كانوا مؤمنين، لا يقال من أمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين، وأعربوا أيضا (من) بدلا، فتكون منصوبة، موصولة، قالوا: وهي بدل من اسم إن قال: ومن أعربها مبتدأ فإنما جعلها شرطية ويحتمل أن تكون موصولة، فإذا كانت شرطية فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة فالخبر قوله: (فلهم أجرهم)، قالوا: وهي بدل من اسم إن وما بعدها ولا يتم ذلك أيضا إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، قال: والذي نختاره إنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن فيصح إذ ذاك المعنى: وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير هذه الأصناف الثلاثة ومن آمن من الأصناف الثلاثة، (فلهم أجرهم). انتهى.
وقال الشيخ سعد الدين: ما ذكره من كون (من) مبتدأ خبره فلهم؛ يشعر بأنه جعلها موصولة، إذ الشرطية خبرها الشرط مع الجزاء لا الجزاء وحده.
قوله: (روى أن موسى لما جاءهم بالتوراة فرأو ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم)، إلى أخره. أخرجه ابن أبي حاتم، عن اين عباس.
قوله: (ويجوز عند المعتزلة أن يتعلق بالقول المحذوف، أي: قلنا

(2/261)


: خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا)، قال الطيبي: الحاصل، أن لعلكم إذا كانت تعليلا، لقوله: خذوا واذكروا، كان على حقيقته لأنه راجع إليهم، وإذا علق بقلنا المقدر يكون تعليلا لفعل الله، فيجب تعليله بالإرادة على مذهبهم.
قوله: (أعرضتم عن الوفاء)، في الحاشية: التولي حقيقة في الإعراض بالجسد، وأن يستدبرك الشخص بعد إقباله عليك، والمراد هنا المجاز، وهو الإعراض عن الطاعة والقبول.
قوله: (اللام موطئة للقسم)، قال أبو حيان: في لقد، لام الابتداء، في نحو لزيد قائم، ويحتمل أن يكون جوابا لقسم محذوف، ويكون قد أقسم على أنهم علموا الذين اعتدوا.
قوله: (والسبت، مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت يوم السبت)، قال القطب: فسره بالمصدر، لأن المنهي عنه الاعتداء فيه. لا الاعتداء على شيء في يوم السبت، وفي الحاشية يريد أنهم اعتدوا في التعظيم ولم يقوموا بحقه، وليس المراد نفي ظرفية الزمان، وهم وإن كان اعتداؤهم واقعا في ذلك اليوم فليس المراد إلا أنهم اعتدوا في ذلك التعظيم الذي أمروا به في ذلك اليوم فيتجاوزوا حدوده، وقال الحلبي: فيه نظر فإن هذا اللفظ موجود واشتقاقه مذكور في لسان العرب، قبل: فعل اليهود ذلك، اللهم إلا أن يريد هذا السبت الخاص المذكور في هذه الآية. قلت: لا وجه لهذا النظر كما لا يخفي ثم قوله: إن هذا الاشتقاق موجود في لسان العرب قبل فعل اليهود ذلك محل توقف فإن فعل اليهود من زمن موسى، وهو قبل انتشار لغة العرب، وفشو الاشتقاق فيها بدهر طويل فما أطلقت العرب السبت على مصدر سبتت اليهود إلا بعد فعلهم له بلا شك بل نفس تسمية العرب اليوم بالسبت وسائر الأيام بأسمائها المتداولة الآن متأخر عن زمن عيسى، فضلا عن موسى، وما كانوا، أعني العرب يسمون السبت إلا شيارا وكذا سائر الأيام كان لها في اللغة

(2/262)


العربية القديمة إسما غير هذه قال الشاعر في أسماء الأيام السبعة على اللغة القديمة:
أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار
أو لتالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار
هذه أسماء أيام الأسبوع على الترتيب، ذكر ذلك الفراء في كتاب الأيام والليالي، وخلائق أخرهم أبو حيان في تذكرته، وقد بسطت ذلك في كتاب المزهر.
قوله: (جامعين بين صورتي القرد والخسوء وهو الصغار والطرد، قال الحلبي: هذا التقدير بناء على أن الخبر لا يتعدد، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب (هذا حلو حامض).
قوله: (قال مجاهد: ما مسخت صورتهم، ولكن قلوبهم)، أخرجه ابن جرير عنه، وقال إنه قول مخالف لظاهر القرآن والأحاديث والآثار المستفيضة، وإجماع المفسرين.
قوله: (فجعلتا، أي: المسخة أو العقوبة)، قال أبو حيان: الظاهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من كونوا، أي: فجعلنا كينونتهم قردة.
قوله: (من الأمم)، قال الشيخ سعد الدين: بيان لما بين يديها وما خلفها على استعارتهما للزمان وإقامة ما موقع من تحقيرا لشأنهم في مقام العظمة والكبرياء، ويعنى بما قبلها السابقين الذين مضوا وكان في كتبهم

(2/263)


أنه تكون تلك المسخة فاعتبروا بها، وصح ألفا، لأن جعلها نكالاً للفريقين جميعا، إنما تحقق بعد القول والمسخ.
قوله: (وقصته أنه كان فيها شيخ فقتل إبنه بنو أخيه طمعا في ميراته) إلى اخره. أخرج هذه القصة ابن جرير، وغيره، مطولة، ومختصرة من طرق عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وغيرهم، وفيها: أن الشيخ قتله ابن أخيه خلاف قول المصنف كالكشاف أن ابنه هو المقتول، وقد نبه القطب والطيبي على وهمه، قال الطيبي: قوله في آخر القصة: ولم يورث قاتل بعد ذلك يدل عليه، لأن المورث الأب لا ابنه المقتول، ولأن قاتل الابن لا يمنع الإرث من الأب بلا خلاف.
قوله: (مكان هزو وأهله أو مهزوءا ينا أو الهزء نفسه) قال الطيبي: أي: أن هزءا مصدر، لا يصلح أن يقع مفعولاً ثانيا؛ لأنه على تأويل خبر المبتدأ فيقدر المضاف فهو إما على مكان هزء أو أهل هزء أو يجعل الهزء بمعنى المهزوء به، تسمية للمفعول به بالمصدر، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أي: مصيدة أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة، نحو رجل عدل، ولخصه الشيخ سعد الدين، فقال: إشارة إلى أن اتخذ يتعدى إلى مفعولين هما المبتدأ والخبر كجعل وصير، فوقع المصدر خبراً عن الجماعة فاحتاج إلى التأويل بالحذف أو التجوز في المفرد أو في الحكم.
قوله: (لأن الهزء في مثل ذلك جهل وسفه)، في الحاشية يشير إلى أن المزاح والهزل اليسير في غير الفتاوى والوقائع العظيمة مسموح به، وأما في مثل هذه الواقعة فهو سفه وعبث.

(2/264)


قوله: (نفى عن نفسه ما رمى به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعا له) قال الطيبي: عني/ بقوله: طريقة البرهان، طريقة الكناية، حيث نفى عن نفسه أن يكون داخلا في زمرة الجاهلين وواحداً منهم وتمم المبالغة بالاستعادة، أي: أن الهزء في مقام الإرشاد كاد أن يكون كفراً فصحت الاستعاذة منه، فالمطابقة بين جواب موسى وبين كلامهم من حيث المعنى.
قوله: (وكان حقه أن يقولوا: أي بقرة هي)؟ إلى أخره. قال الطيبي: يعني ما هي يسأل به عن الجنس وحقيقة الشيء وحقيقة البقرة: غير مسئول عنها، لأن الضمير راجع إلى البقرة المذكورة وهي بقرة فذة مبهمة فامتنع السؤال عن حقيقتها فرجع إلى صفاتها ثم إلى أقربها من الحقيقة وما تمتاز بها عن سائر أنواعها، كأنها صارت حقيقة أخرى على منوال.
قوله: (فإن تفق الأنام وأنت منه .... فإن المسك بعض دم الغزال)
وقال القطب: لما كان المراد السؤال عن الصفة كان حقه أن يقال: أي بقرة؟ أو كيف هي؟ فإن (ما هي) سؤال عن حقيقة الشيء، لكنهم لما سمعوا اتصافها بهذه الصفات العجيبة الشأن ولم يعرفوا من جنس البقر ما هو موصوف بهذه الصفة فكأنهم لم يعرفوا حقيقتها فأوردوا العبارة السائلة، عن حقيقتها وإن أرادوا صفتها، فلهذا حسن في الجواب ذكر

(2/265)


الصفات.
قوله: (نواعم بين أبكار وعون) هو: للطرماح. وأوله. (طوال مشل أعناق الهوادي
وقبله:
ظعانن كنت أعهدهن قدما ... وهن لذى الأمانة غير خون
حسان مواضع النقب الأعالي .... غراث الوشح صامئة اليرين
ظعائن، جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، وغراثي الوشاح كناية عن الهيفاء أي: رقيقة الخصر.
وقوله: صامنة اليرين، كناية عن غلظ ساقها والبرين جمع برة، الخلخال، ومشل موضع الشلل من شللت الثوب، إذا خطته، وطوله: كناية على طول العنق، والهوادي جمع الهادي وهو العنق، فإضافة الأعناق إليه إضافة الشيء إلى نفسه، والناعمة اللذيذة اللينة وعون جمع عوان، وهي المرأة بين الحديثة والمسنة.
قوله: (والمروى عنه عليه السلام): لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم)، أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا ومرسلا، وأخرجه، ابن جرير بسند صحيح، عن ابن عباس موقوفا.

(2/266)


قوله: (أي: ما يؤمروا به، بمعنى يؤمرون به)، من قوله:
((أمرتك الخير فافعل ما أمرت به))
(أو أمركم بمعنى مأموركم)، في الحاشية المشار إليها: حاصلة: أن
(ما) في يؤمرون، إما موصولة، أو مصدرية وعلى كل واحد منهما سؤال، فعلى الموصولة، كيف جاز حذف الجار والمجرور من الصلة؟ والجواب: أن أمر تتعدى بنفسها، تقول: أمرتك الخير، وحينئذ، فالأصل ما يؤمرونه، فالمحذوف الضمير وحده، كما في: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}.
أي: بعثه الله. وعلى المصدرية، يكون التقدير: افعلوا أمركم، والأمر لا يفعل، وإنما يفعل المأمور به؟ والجواب: إن المصدر يطلق ويراد به المفعول، فهو معنى قوله: أو أمركم بمعنى مأموركم، وقال الشيخ سعد الدين: يتوهم من قوله: ما يؤمرونه/ بمعنى ما يؤمرون به: أن المراد إنه مثل (لا تجزى نفس عن نفس شيئا) في حذف الجار والمجرور دفعة أو تدريجا، أو أنه/ قبيل التدريج، حيث حذف الباء أولا ثم الضمير، والظاهر من العبارة أنه من قبيل حذف المنصوب من أول الأمر، لأن حذف الجار قد شاع في هذا الفعل، وكثر استعمال أمرته كذا حتى لحقت بالأفعال المتعدية إلى المفعولين، وصار ما يؤمرون، في تقدير تؤمرونه، وكذا جعل يؤمرون به هو المعنى دون التقدير، وأما جعل ما مصدرية، والمصدر بمعنى المفعول أي المأمور بمعنى المأمور به فقليل جداً، وإنما كثر في صيغة المصدر، وقال أبو حيان: ما هنا موصولة والعائد محذوف تقديره: ما تؤمرونه.
وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون

(2/267)


المصدر بمعنى المفعول أي مأموركم وفيه، بعد، انتهى. وأما البيت فيأتي الكلام عليه في سورة.
قوله: (وعن الحسن، سوداء شديدة السواد)، أخرجه ابن جرير.
قوله: (قال الأعشى):
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب
هو من قصيدته يمدح قيس بن معدي كرب، وتلك مبتدأ وخيلي خبر، ومنه حال أي: حاصلة من الممددح، والركاب الإبل التي يسار عليها، الواحدة راحلة، ولا واحد لها من لفظها، وأولادها فاعل صفر أي: سود، ويمكن أن يكون هن صفر جملة، وأولادها كالزبيب، جملة أخرى، أي خيلي وإبلي سود وأولادها سود.
قوله: (وفيه نظر، لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع)، قال الطيبي: الجواب ما جاء عن الزجاج، هذه كلها صفات مبالغة في الألوان، وقد قال بعضهم: صفراء ههنا سوداء، قال الطيبي: لأن الصفراء إذا أكدت بالفقوع تدل على خلوص الصفرة فيها، ثم إذا روعي معنى الإسناد المجازي معها دل على أن المراد بذلك التأكيد: المبالغة في الصفرة لا الخلوص فيها، فدلت هاتان المبالغتان على أنها بلغت الغاية في بابها وكل لون إذا قوي واشتد أخذ بالعين كالسواد، ولهذا وصفت

(2/268)


الخضرة إذا قويت بالادهام.
قوله: (وفي الحديث، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد). قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه.
قلت: أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير، عن ابن حريج مرفوعا معضلا، وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور عن عكرمة مرفوعا مرسلا، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة مرفوعا موصولاً، قال الشيخ سعد الدين: قوله: (لو لم يستثنوا لما بينت لهم) أي: البقرة، يؤكد المعنى إنا لمهتدون إلى البقرة وكلمة إن شاء الله تسمى استثناء لصرفها الكلام عن الجزم وعن الثبوت في الحال من حيث التعليق بما لا يعلمه إلا الله. وأخر الأبد، كناية عن المبالغة في التأبيد، والمعنى إلى الأبد الذي هو آخر الأوقات.
قوله: (لم تذلل للكراب)، في الصحاح: كربت الأرض قلبتها للحرث، ويقال في المثل: الكراب على البقر.
قوله: (ولا ذلول، صفة أخرى، بمعنى غير ذلول).
قال أبو حيان: على أنه من الوصف والمفرد، قال: ومن قال، هو من الوصف بالجملة، وإن التقدير لا هي ذلول، فبعيد عن الصواب، وقال الشيخ سعد الدين: أشار إلى أن (لا) بمعنى غير فكأنها اسم على ما صرح به السخاوي، لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها، ويحتمل أن يكون حرفا كما تجعل إلا بمعنى غير، في مثل:

(2/269)


{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، مع أنه لا قائل باسميتها.
قوله: (ولا الثانية، مزيدة لتأكيد الأولى)، قال الشيخ سعد الدين: الثانية حرف زيدت لتأكيد النفي، والتأكيد لا ينافي الزيادة على أنه يفيد التصريح بعموم النفي، إذ بدونها ربما يحمل اللفظ على نفي الاجتماع، ولهذا سمى (لا) المذكورة للنفي. قال أبو حيان: ذكر الزمخشري، أن لا الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتأكيد الأولى ووافقه على جعل لا الثانية زايدة صاحب المنتخب. قال: وما ذهبا إليه ليس بشيء، لأن قوله: (لا ذلول)، صفة منفية، بلا، وإذا كان الوصف قد نفى بلا لزم تكرار لا النافية لما دخلت عليه تقول: مررت برجل لا كريم ولا شجاع، وقال تعالى: {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}، {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}، {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ}، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار، لأن المستفاد منها النفي إلا إن ورد في ضرورة شعر فإذا آل تقديرهما
إلى (لا ذلول مثيرة وساقية) كان غير جائز: لما ذكرناه من وجوب تكرار لا، وعلى ما قدراه. كان نظير جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز، انتهى.

(2/270)


قوله: (أي تحقيقه وصف البقرة)، قال الطيبي: أي لم يتضمن قولهم بالحق إنما جاء به من قبل كان باطلا، وإنما أرادوا، الأن جئت بما يحقق لنا المراد منها.
قوله: (مظهره لا محالة)، قال الطيبي: دل بناء اسم الفاعل وهو مخرج على المبتدأ على الثبات وتوكيد الحكم. قال القطب: وفسر الإخراج بالإظهار لأنه في مقابلة الكتم.
قوله: (بالعجب)، هو العظم بين الإليتين وأصل الذنب. وهو أول ما يخلق وأخر ما يخلق.
قوله: (روى عن عمر أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار) أخرجه أبو داود.
قوله: وقساوة القلب، مثل في تبوه عن الاعتبار، قال القطب: أي استعارة تمثيلية، شبهت حال قلوبهم في نبوها عن الاعتبار وعدم تأثرها من الآيات بحال الحجارة وهي القسوة، ثم استعير لها هذه الصفة.
قال: ولو قلنا في قلوبهم، استعارة بالكناية ونسبة القسوة إليها قرينتها، كان أنسب، بقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ}.
قوله: (وثم لاستبعاد القسوة): قال القطب: يعني ثم موضعه للتراخي في الزمان، ولا تراخي هنا إذ قسوة قلوبهم في الحال لا بعد زمان، فهي محمولة على الاستبعاد مجازاً أي تبعد عن العاقل قسوة القلب

(2/271)


بعد ظهور تلك الآية العظيمة، قال: ومنهم من حمل الاستبعاد على التباعد في المرتبة، وليس بذاك. فإن معناه أن مدخول ثم أعلى كما في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} والمراد هنا، أن مدخولها بعيد عن الوقوع. انتهى.
وقال أبو حيان: إنما يستفاد الاستبعاد من الجملة المتقدمة عليها المقتضية استبعاد ما بعدها.
قال السفاقسي: كلامه لا يقتضي أن مطلق العطف بثم يقتضي الاستبعاد، بل ظاهره أن ذلك بحسب السياق.
قوله: (أو أنها مثلها)، إلى آخره قال أبو حيان: لا حاجة إلى هذا التقدير، والأول أولى.
قوله: (وإنما لم يقل: أقسى، لما في أشد من المبالغة) إلى آخره. قال الحلبي في حوار التعجب والتفضيل.
قوله: (وأو للتخيير أو للترديد) إلى آخره. قال القطب: كأن سائلا يقول: أو في قوله، (أو أشد قسوة): يفيد الشك، وهو محال على الله تعالى: فدفعه بأن الشك ليس براجع إلى الله تعالى، بل إلى من يعرف حالهم: فإنه إذا عرف حالهم أمكنه أن تشبههم بالحجارة أو بشيء أشد منها. والحاصل أن الشك بالنسبة إلى المخاطب لا بالنسبة إلى المتكلم

(2/272)


انتهى.
واختار أبو حيان: أن أو للتنويع، وكأن قلوبهم على قسمين، قلوب كالحجارة قسوة، وقلوب أشد قسوة منها، فأجمل ثم فصل.
قوله: (والخشية، مجاز عن الانقياد) وهو أحد الرأيين. واختار ابن عطية الرأي الآخر، إنها حقيقة وأن الله يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك يقع به الخشية والحركة.
قوله: (وقرأ ابن كثير، ونافع، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر، وحماد، بالياء ضما إلى ما بعدها، والباقون بالتاء. فيه تخليط، والصواب: أن ابن كثير وحده قرأ بالتحتية، والباقون بالفوقية.
قوله: (الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين) أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس، وقال أبو حيان: هو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، خوطب بلفظ

(2/273)


الجمع تعظيما له.
قوله: (كنعت محمد)، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم وجدوا صفته في التوراة: أكحل أغبر ربعة جعد الشعر حسن الوجه، فكتبوه: طويلا أزرق سبط الشعر.
قوله: (وإنه الرجم) في الصحيحين أنهم جعلوا بدلها الجلد والتحميم، أي تسويد الوجه.
قوله: (أو تأويله، فيفسرونه بما يشتهون)، هذا رأي من يقول: أن تحريفهم خاص بالمعنى، لا باللفظ، والأول/ مقابل باللفظ.
قوله: (وقيل: هؤلاء من السبعين) إلى آخره، أخرجه ابن إسحاق، عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، لأن كلهم قد سمع التوراة، فلا معنى لتخصيص فريق منهم بذلك.
قوله: (من فعل قسوة، نظر من حيت إنها من الأمور الخلقية أو من العيوب، وكلاهما ممنوع فيه بناء البابين).

(2/274)


قوله: (وفيه نظر، إذ الإخفاء لا يدفعه) قال شيخنا العلامة الكافيجي جوابه: إن الإخفاء لا يدفع الحاجة في زعمهم الفاسد وإن لم يدفعها في نفس الأمر قوله:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وأخره لاقى حمام المقادر
وهو من قصيدة يرثي بها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأورده أبو حيان، بلفظ: وأخره لاقي حمام المقادر.
قوله: (ومن قال إنه واد في جهنم)، هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخرجه الترمذي، من حديث أبي سعيد الخدري، وابن جرير من حديث عثمان بن عفان، والبزار من حديث سعد بن أبي وقاص كلهم مرفوعا. وأخرجه ابن المنذر، عن ابن مسعود، وابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير، موقوفا عليهما. وأخرجه ابن جرير، عن جماعة من التابعين.
قوله: (لا فعل له) قال أبو حيان: وما ذكر، من قولهم. وأل مصنوع.
قوله: (روي أن بعضهم قالوا:) إلى أخره. أخرج ابن جرير

(2/275)


القول الأول عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وأخرج الثاني من طريق صحيحة عن ابن عباس.
قوله: (جواب شرط مقدر): هو أحد القولين في مثل ذلك، والآخر أنه لا تقدير ولكن ضمن الاستفهام معنى الشرط فأجيب بالفاء.
قوله: (ولذلك فسرها السلف بالكفر)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن جرير، عن أبي وائل ومجاهد وقتادة، وعطاء والربيع بن أنس.
قوله: (لقوله: ولا يضار)، أي برفع الراء.
قوله: (لما فيه من الإيهام، أن المنهي سارع إلى الانتهاء) هذا لا يناسب حال بني إسرائيل لأن حالهم على خلاف ذلك، فالصواب أن يقال: لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه، وتأكد طلب امتثاله، حتى كأنه امتثل وأخبر عنه.
قوله: (وعطف قولوا عليه)، قال الإمام علم الدين العراقي: دليله القوي وقوع الأمر من بني إسرائيل على خلافه بعبادتهم العجل، ولو كان خبر ألزم منه الخلف في خبر من يستحيل منه ذلك فلا حاجة إلى الأمور اللفظية مع وضوح الأدلة القطعية.
قوله: (وقيل تقديره: ألا تعبدوا، فلما حذف أن، رفع)، قال الحلبي والسفاقسي: في ادعاء حذف حرف التفسير نظر.
قوله: (

(2/276)


ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى*
هو لطرفة بن العبد من معلقته المشهورة.
وتمامه:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد *
والوغى: الحرب. وأصله الصوت: والتقدير: أن أحضر يقول: يا أيها اللائمي على حضور الحرب وشهود الملذات هل أنت مخلدي أن كففت عنهما.
قوله: (متعلق بمضمر تقديره: وتحسنون أو أحسنوا) قال الحلبي: وينتصب إحسانا حينئذ على المصدر المؤكد لذلك الفعل المحذوف. وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكد منصوص على عدم جوازه.
قوله: (وحسنى على المصدر كبشرى)، قال أبو حيان: يحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كما تقول: بشر بشرى، ورجع رجعى، إذ مجئ فعلى مصدراً لا ينقاس. قال: والأرجح، إنه صفة لموصوف محذوف، أي كلمة حسنى أو مقالة حسنى على زوال معنى التفضيل، أي حسنة.
قوله: (والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد)، قال الطيبي: لأن المتكلم إما أن يتكلم من جهة نفسه، فينبغي ألا يصدر عنه إلا ما يدخل

(2/277)


تحت مكارم الأخلاق، وإما من جهة مخاطبه فينبغي ألا يتكلم إلا بما يرشده إلى طريق الحق والصراط المستقيم.
قوله: (ثم توليتم على طريقة الالتفات)، قال الحلبي: إنما يجئ هذا على قراءة لا يعبدون بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب (فلا التفات البتة، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاب) الحاضرين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل بذلك. ويؤيده قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ}، قيل: يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عليه الصلاة والسلام كعبد الله في سلام، وأضرابه، فيكون التفاتا على القراءتين.
قوله: (وأنتم تشهدون توكيد)، إلى آخره، قال الطيبى: لأنه إذا قيل أقر فلان احتمل أنه تكلم بما يلزم منه الإقرار، فأزيل الاحتمال بقوله شاهداً على نفسه أي أقر إقراراً يشبه شهادة من يشهد على غيره بإثبات البينة.
قوله: (ثم أنتم) إلى آخره قال الطيبي: كان من حق الظاهر، ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد فتقتلون إلى أخره، أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها فأدخل (هؤلاء) وأوقع خبراً لأنتم، وجعل قوله: (تقتلون) جملة مبينة مستقلة لتفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعيا عليهم بشدة وكاد أخذ الميثاق ثم تساهلهم فيه وقلة المبالاة.
قوله: (روى أن قريظة)، إلى آخره. أخرجه، ابن جرير عن

(2/278)


ابن عباس، وغيره.
قوله: (وكأنه شبه بالكسلان، قيل وجه الشبه أن كلا محبوس عن كثير من تصرفه.
قوله: (أو مبهم) إلى آخره. قال الطيبي: كما في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}، هذا ضمير مبهم لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه. كقولهم: هي العرب تقول ما شاءت.
قوله: (وإخراجهم بدل أو بيان) هو على القول الثالث خاصة.
قوله: (وقرأ عاصم، تردون). هي شاذة.
قوله: (قلت نزير لم تصله مريمه)
هو مطلع أرجوزة لرؤبة يمدح فيها السفاح أو المنصور وبعده

(2/279)


ضليل أهواء الظبي تندمه .... هل تعرف الريم المحيل أرسمه
الزير: بكسر الزاي من الرجال الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن. ومريم: المرأة التي تكثر زيارة الرجال، من رام يريم ريما، والضليل مبالغة الضلال صفة زير، والتندم: الندم فاعل ضليل على الإسناد المجازي، نحو: نهاره صائم.
قوله: (إذ لم يثبت فعيل) قال أبو حيان: قد أثبته بعضهم وجعل منه ضهيد اسم موضع، ومدين إذا جعلنا ميمه أصلية وضهياء: مقصورة مصروفة، وهي المرأة التي لا تحيض، وقيل: التي لا ثدي لها. وقال ابن جني: ضهيد مصنوع لا يحتج به على إثبات فعيل.
قوله: (ولا أرحام الطوامث)، قال القطب: لأن مريم عليها السلام، لم تحض.
قوله: (ووسطت الهمزة) إلى آخره، حاصله وجهان أحدهما: إخراج الهمزة عن أصلها من استحقاقها المصدر واقحامها في أثناء الكلام للتأكيد وهو أيضا أصل وقانون من قوانين العربية، قال أبو البقاء: دخلت الفاء لتربط ما بعدها بما قبلها. والآخر إجراءها على الأصل وتقدير معطوف عليه.
قوله: (ولذلك سحر تموه وسممتم له الشاة)، القصتان: في

(2/280)


الصحيح.
قوله: (أراء بالقلة العدم)، قال أبو حيان: القلة إنما يراد بها العدم والنفي في غير هذا التركيب وهو قولهم: أقل رجل يقول ذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء.
قوله: (وجواب لما محذوف)، قيل: إن الجواب هو، كفروا، ولما تكرار وتأكيد لفظي، كقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}.
وقيل: الجواب، قلما، إلى آخره.
قوله: (والسين للمبالغة) إلى آخره. قال القطب: أي لما كان يستفحون بمعنى يفتتحون، فلابد أن يكون للسين فائدة وهي المبالغة، لأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهم، والشيء بعد الطلب أبلغ وهو من باب التجريد، جرد وامن أنفسهم أشخاصا وسألوهم الفتح. كقولهم: مر مستعجلا، أي مر طالبا للعجلة من نفسك مكلفا إياها.
قوله: (ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولاً أوليا)، قال أبو حيان: يعني بالجنس العموم وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولاً أوليا ليس بشيء، لأن دلالة العموم على أفراده ليس فيها بعض الأفراد أولى من بعض، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد، فهي دلالة متساوية وإذا كانت

(2/281)


دلالة متساوية فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء، وجوابه: ما قاله القطب: أن معناه، أنهم المقصودون بالذات وإن تناول الكلام لغيرهم على طريق التبع.
وبسطه الطيبي فقال: دخولهم في هذا الكلام دخول قصدي، لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم وهو من باب الكناية، لأن اللعنة إذا اشتملت على الكافرين بأسرهم وهؤلاء منهم فيلزم أن يلحقهم على البت والقطع، وهو أقوى مما لو قيل عليهم، وتسمى هذه الكنابة إيمائية، وإنما يصار إليها إذا كان الموصوف مبالغا في ذلك الوصف ومنهمكا فيه بحيث إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال، نحو قولهم: لمن يصر على رذيلة: أنا إذا رأيتك خطر ببالي سبك وسب كل من هو بصددك وأبناء جنسك. واليهود لما بالغوا في الكفر والعناد ونعى الله عليهم ذلك صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم، فكان هذا الكلام لازما لذكرهم ورديفه، وأنهم أولى الناس دخولاً فيه لكونهم تسببوا لاستجلاب هذا القول في غيرهم وبذلوا أنفسهم فيه، وأنشد صاحب المفتاح في هذا المعنى:
إذا الله لم يسق إلا الكرام .... فسقى وجوه بني حنبل
وقال: إنه في إفادة كرم بنى حنبل، كما ترى لا خفاء فيه. انتهى.
قوله: (أو اشتروا بحسب ظنهم) إلى آخره. ذكره صاحب المنتخب فقال: إن الاشتراء هنا على بابه: لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، فكأنه قد اشترى نفسه بها

(2/282)


، فهؤلاء لما اعتقدوا فيما أتوا به أن يخلصهم ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم فذمهم الله عليه. قال: وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ، من كونه بمعنى باع. وقال أبو حيان: هذا الوجه مردود بقوله: بغيا، إلى آخره. لأنه دل على أن المراد أنهم لم يظنوا الخلاص بذلك، بل ذلك على سبيل البغي والحسد. فقول الجمهور أولى.
قوله: (وقيل: لكفرهم بمحمد بعد عيسى)، أخرجه ابن جرير عن عكرمة، وأبي العالية، وأخرج عن ابن عباس أن الأول لما ضيعوه من التوراة، والثاني لكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وهو أعم وأحسن.
وقوله: (ونصبها على الحال من الدار)، هو على رأي من يجوز الحال من اسم كان، ومن لم يجوزه فهو عنده حال من الضمير المستتر في الخبر العائد إلى الدار الآخرة.
قوله: (قال على: لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي). أخرجه، ابن عساكر في تاريخه.
قوله: (وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة، محمدا وحزبه) أخرجه الطبراني، في المعجم الكبير، وأبو نعيم في الدلائل.

(2/283)


قوله: (وقال حذيفة: حين احتضر، جاء حبيب على فاقة، لا أفلح من ندم) أخرجه ابن سعد في طبقاته من وجه آخر عنه، وصححه.
قال القطب: أراد بالحبيب الموت، وبقوله: جاء على فاقة، إنه جاءه الموت وقت حاجته إليه وبقوله، لا أفلح من ندم، إنه كان يتمنى الموت وما ندم إذ جاء، وهو يحتمل الدعاء أيضا. انتهى.
وقال الشيخ تاج الدين السبكي، فيما قرأته بخطه: بل أراد بالحبيب لقاء الله. وفي تذكرة أبي علي الفارسي قال أبو الحسن: تقول العرب، لا أفلح من ندم، يريدون، من ندم فلا أفلح.
قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات نكاية. وما بقي يهودي على وجه الأرض) أخرجه البيهقي في الدلائل، من طريق الكلبي عن أبو صالح عن ابن عباس، مرفوعا، بلفظ، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه، وأخرجه البخاري والترمذي عن ابن عباس مرفوعا، بلفظ: ((لو أن اليهود تمنوا الموت، لماتوا)) وأخرجه، ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس، موقوفا ((لو تمنوه لشرق أحدهم بريقه)) وأخرجه، ابن جرير، من وجه آخر، عن ابن عباس موقوفا، ((لو تمنوه يوم قال لا ذلك: ما بقي

(2/284)


على وجه الأرض يهودي إلا مات)).
قوله: (وتنكير حياة) إلى آخره.
أبو حيان: قد روا فيه أنه على حذف مضاف، أي على طول حياة، أو على حذف صفة، أي حياة طويلة. قال: ولو لم يقدر حذف لصح المعنى، وهو أن يكونوا أحرص الناس على مطلق حياة، لأن من كان أحرص على مطلق حياة، وهو تحققها بأدنى زمان فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصا على حياة ولو ساعة وأحدة.
قوله: (وقرئ باللام) أي على الحياة وهي قراءة أبي.
قوله: (محمول على المعنى)، قال صاحب الإقليد: تقول: زيد أفضل من القوم، ثم تحذف من وتضيفه، والمعنى على إثبات من.
قوله: (ويجوز أن يراد، وأحرص) إلى آخره.
قال الطيبي: فإن قلت، ما الفرق بين الوجهين، وعائدتهما راجعة إلى شدة حرصهم؟ قلت: الثاني أبلغ لإرادة تكرير أحرص، وقال القطب: الفرق من وجهين، معنوي وهو هذا، ولفظي، وهو أن العطف في الوجه الثاني: على أحرص وهو المفعول الثاني.
قوله: (حكاية لودادتهم) إلى آخره. قال أبو حيان فيه إبهام، لأن يود فعل قلبي وليس قوليا ولا معناه معنى القول، فكيف يكون حكاية لودادتهم؟ قال: وجوابه أن المراد إجراءه مجرى تقول، لأن القول ينشأ

(2/285)


عن الأمور القلبية فكأنه قال: يقول أحدهم: عن ودادة من نفسه، لو أعمر ألف سنة.
قوله: (نزل في عبد الله بن صوريا) إلى اخره. قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف له على سند. وأورده الثعلبي، والبغوي، والواحدي، في أسباب النزول بلا سند.
قوله: (دخل عمر مدراس اليهود) إلى آخره. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن راهويه في مسنده وابن جرير، وابن أبي حاتم، من طرق، عن الشعبي وله طرق أخرى. والمدراس يطلق على البيت الذي يدرسون فيه وعلى صاحب كتب اليهود.
قوله: (وفي جبريل ثمان لغات، ذكر أبو حيان فيه ثلاثة عشر لغة، قرئ بها، جبريل بالكسر، كقنديل قراءة: نافع وابن عامر وأبى عمرو، وحفص، وجبريل بالفتح، قراءة ابن كثير، وجبريل

(2/286)


وجبريل بوزن خندريس: قراءة حمزة، والكسائي، وعاصم، وجبرئل، بوزن جحمرش: رواية، عن عاصم، وكذلك، بتشديد اللام، رواية عنه.
وجبرائيل وجبرائل- قراءة ابن عباس وعكرمة، وجبرال وجبرايل بالياء والقصر قراءة طلحة، وجبراييل بألف ويائين أولاهما مكسورة، قراءة الأعمش، وجبرين وجبرين وجبريين.
قوله: (ومعناه: عبدالله. اختلف هل جبر هو العبد وإيل هو الله أو عكسه؟ على قولين، أصحهما الثاني) قال الشيخ صلاح الدين العلاء الماوردي: أن معني جبريل وميكاييل عبيد الله فايل اسم الله تعالى. وبمعنى عبد، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس.
قال: ويرد عليه شيئان، أحدهما: أن المعهود في كل كلام أعجمي، أن الإضافة تكون فيه مقلوبة، يقدمون المضاف إليه على المضاف، فيقولون في غلام زيد: زيد غلام، هذا لاريب فيه. فالذي ينبغي أن

(2/287)


يكون إيل بمعنى عبد. وكل من جبر، وميكا، وإسراف، وعزرا، عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى وهذا موافق لقول ابن عباس رضي الله عنهما، إن معنى جبريل وإسرافيل، عبدالله وعبدالرحمن، وليس في كلامه تعيين المضاف من المضاف إليه. وإنما هو شيء فهمه المفسرون من كلامه وراعوا انتظام المتضايفين في لغة العرب، فظنوا في الأعجمية كذلك. وهذا اختيار القاضي أبي بكر ابن العربي والسهيلى، وأما قولهم: إن الإيل من أسماء الله بالنبطية فلا دليل عليه واضح.
واحتج بعضهم لذلك بقوله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}، وهو قول واه، لأن جميع أسماء الله تعالى معارف، وإل في الآية نكرة: بل الإل كل ماله حرمة، وقول أبى بكر: لم يخرج من إل. بمعنى من ربوبية الثاني، أنه يلزم من فسر هذا بالمضافين على مرتبتهما أن ينون الثاني بالجر لكونه مضافا إليه، وأن يكون منصرفا أيضا على القاعدة وشيء من هذين لم يسمع، وذلك يدل أنه اسم أعجمي منقول إلى العربية مع قطع النظر عن الإضافة ولزم رتبة المضافين.

(2/288)


انتهى.
قوله: (أراد بعداوة الله مخالفته)، أي: مجازا، لأن العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة.
قوله: (نزل في ابن صوريا، حين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما جنتنا بشيء نعرفه)، أخرجه، ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قوله: (على أن التقدير إلا الذين فسقوا {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا}، قال أبو حيان: خرجها المهدوي وغيره على أن أو بمعنى بل للانتقال من كلام إلى غيره.
قوله: (يعني أن علمهم به رصين) الطيبي: فإن قلت: من أين استفيد هذا التوكيد ورصانة العلم؟ قلت: من وضع الذين أوتوا الكتاب موضع الضمير، يعني عرفوه حق معرفته، لما قرأوا في كتابهم نعته ودارسوه حتى استحكم يذلك علمهم.
قوله: (قيل: كانوا يسترقون السمع) إلى آخره. أخرجه الحاكم، عن ابن عباس.
قوله: (وأما ما يفعله أصحاب الحيل)، إلى أخره، ما ذكره من أنه غير مذموم: مردود، فقد نص النووي، في الروضة وغيرها على

(2/289)


تحريمه.
قوله: (وما روى أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة فتعرضا لا مرأة يقال لها: زهرة) إلى آخره. ما ذكره من إنكار ذلك سبقه إليه جماعة: منهم: القاضي عياض في الشفا وليس كذلك، بل القصة ثابتة، وقد استوعبت طرقها في التفسير المسند، والحاصل أنها وردت مرفوعة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه احمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه: والبيهقي، في الشعب، وابن جرير، وعبد بن حميد في تفسيرهما. وموقوفة، عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم بأسانيد عديدة صحيحة، وغيرهما. قال ابن حجر في شرح البخاري: لهذه القصة طرق تفيد العلم بصحتها.
قوله: (ومن جعل (ما) نافية أبدلهما من الشياطين). قال أبو حيان: على أنهما قبيلتان من الشياطين قال: وهذا على قراءة ولكن الشياطين بتشديد لكن ونصب الشياطين. وأما على قراءة التخفيف والرفع فانتصابهما على الذم، كأنه قال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين.
فمعناه على الأول، أي على أنهما ملكان.
قوله: (وعلى الثاني)، أي على أنهما رجلان.
قوله: (بضاري على الإضافه) إلى أخره. قال أبو حيان: هذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك، ألا يكون ثم مضاف إليه،

(2/290)


لأنه مشغول بعامل جر فهو المؤثر فيه، لا الإضافة، وأما جعل حرف الجر جزءا من المجرور، فليس بشيء، لأنه مؤثر فيه وجزء الشيء لا يؤثر فيه، والأجود في التخريج: أنها حذفت تحفيفا، لأن له نظيراً في نثر العرب ونظمها، كقولهم: قطا قطا بيضك إثنتان وبيضي مئاتا، يريدون، ثنتان ومئاتان. قال الحلبي: وفيما قاله نظر، أما كون الفصل من ضرائر الشعر، فليس كذلك، لأنه قد فصل بالمفعول به، في قراءة ابن عباس فبالظرف وشبهه أولى.
وأما قوله: لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه، فإنما ذلك في الجزء الحقيقي، وهذا إنما قال ينزله منزلة الجزء، ويدل على ذلك قول النحويين الفاعل كالجزء من الفعل، ولذلك أنث لتأنيثه ومع ذلك فهو مؤثر فيه. وقال السفاقسي: قوله: إن ذلك من ضرائر الشعر، جوابه إنه توجيه قراءة شاذة، فلا يستبعد.
قوله: (وأقبح منه، إذا لم يكن مضاف، لانسلمه، لأن الإضافة في التقدير للمجموع).
قوله: (جزء الشيء لا يؤثر فيه). قلت: الجزئية تقدير لا تحقيق.
قوله: جواب (لو وأصله: لأثيبوا) إلى آخره. قال أبو حيان: هذا التخريج غير مختار، لأنه لم يعهد، في لسان العرب وقوع الجملة

(2/291)


الابتدائية جوابا للو، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل، والصواب في التخريج: أن الجواب محذوف لفهم المعنى، أي لأثيبوا، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم، وقال ابن هشام، في المغني: الأولى أن يقدر الجواب محذوفا وأن تقدر لو بمنزلة ليت في إفادة التمني فلا يحتاج إلى جواب.
قوله: (وحذف المفضل عليه) إلى آخره. قال أبو حيان: ليس خير هنا أفعل تفضيل، بل هي للتفضيل، لا للأفضلية، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ} و {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا}، (فشركما لخير كما الفداء).
قوله: (وقيل: لو للتمني)، قال الطيبي: وهو راجع إلى العباد، على معنى أن من عرف حالهم قال ذلك متمنيا، على حد {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.
قوله: (وكان المسلمون يقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم -) إلى آخره.
أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق الشعبي الصغير عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

(2/292)


قوله: (الهوج) أي الحماقة.
قوله: (وأحسنوا الاستماع) إلى آخره. القطب. حصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري فلا يجوز الأمر به، فلهذا حمله على أحد معان ثلاثة.
قوله: (ومن للتبيين)، قال أبو حيان: أصحابنا لا يثبتون هذا المعنى، وإنما هي للتبعيض.
قوله: (ومنه التناسخ) أي في المواريث.
قوله: (أو نجدها منسوخة)، قال أبو علي الفارسي: قراءة ابن عامر مشكلة؛ لأنه لا يقال نسخ وانتسخ بمعنى ولا الهمزة للتعدية، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما يقال: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً وانحلته إذا وجدته نحيلا، قال: وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ. انتهى.
قوله: (واحتج بها من منع النسخ) إلي آخره، ما ذكره من تضعيف نسخ الكتاب بالسنة مردود، فإن المانع لذلك هو الإمام الشافعي، قال الطيبي: ذهب الإمام الشافعي إلى منع نسخ القرآن بالخبر، وهو موافق لما رواه الدارقطني عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: (كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا)، قال: رخيص يخفى

(2/293)


على مثل الإمام هذا المعنى؟ وهو من أعلام المجتهدين وقد قال ابن الصلاح: أعيا الفقهاء وأعجزهم معرفة الناسخ من المنسوخ. وكان للشافعي اليد الطولى والسابقة الأولى. وقال الإمام أحمد ابن حنبل: ما عرفنا المجمل من المفصل، ولا الناسخ من المنسوخ حتى جالسنا الشافعى، والاية شاهدة لذلك لأن الناسخ لابد أن يكون خيراً من المنسوخ أو مثله لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} والسنة ليست بخير من القرءان ولا مثله، والضمير في نأت: لله، فيكون الأتي بالناسخ هو الله، وجوابهم عن الأول بأن المراد نسخ الحكم، لا اللفظ، ويجوز أن يكون حكم السنة خيراً من حكم القرآن أو مثلا له، باعتبار كونه أصلح للمكلف، وعن الثاني، بأنه يصح إطلاق قوله، نأت، على ما أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أيضا من عند الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} مردود. أما الأول: فتخصيص بغير مخصص، على أن الآية ورودها في شأن أهل الكتاب وردوداتهم أن لا ينزل الله على رسوله هذا الكتاب الشريف وينسخ به كتابهم لفظا وحكما، ورد بأنه - صلى الله عليه وسلم - اختص به دونهم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يبدله من تلقاء نفسه بشهادة سبب النزول، وأما الثاني، فيلزم منه فك التركيب وارتكاب المحذور. أما فك التركيب: فإن الضمائر في: ننسخ وننسأها دالة على تعظيم الفاعل، ومنادية على جلالته واستبداده بما فعله، فإذا دخل الغير يفوت الغرض المطلوب، ولا شك أنه لا مدخل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ننسأها. فإذا فرق الضمائر ينخرم النظم، وإن ضمير الخطاب، في ألم تعلم إذا خص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو أعم، والاستفهام المفيد للتقرير ينافي استدراكه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الضمائر، وكذا وضع الظاهر موضع المضمر

(2/294)


وتخصيصه بذكر اسم الذات، في قوله: إن الله متكرراً، وأما ارتكاب المحذور فهو إذا جعل الفاعل في قوله تعالى: ننسخ، وتأت، لله تعالى والغير، فلا يخلو، إما أن يكون حقيقة فيه دون الله سبحانه، أو مجازاً، أو مشتركا بينهما، والكل باطل، أما بطلان الأول والثاني فظاهر؛ لأنه يستلزم إرادة الحقيقة والمجاز معا، وأما الثالث فيستلزم تعدد الفاعل، وحينئذ يفوت التعظيم المطلوب، وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، فضعيف لأن الكلام هنا في المنزل، لأن الكفار كانوا ينسبون إلى الجن، ويسمون قائله مجنونا بشهادة الآيات المناسبة لها، كقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، الآيات وقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ}، ولهذا عقبه بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، فإذا لا تدخل في المعنى، للأحاديث الواردة منه - صلى الله عليه وسلم -. وأما ما نقله ابن الحاجب عنهم، إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا وصية لوارث)) نسخ الوصية للوالدين والأقربين، والرجم للمحصن نسخ الجلد، فضعيف أيضا، لما ذكره الشافعي، إن الوصية للأقربين منسوخة بأية الميراث، وأن الرجم كان قرآنا، ونسخ رسمه، فأول حديث الوصية، ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) أخرجه أبو داود والترمذي، فقوله: أعطى كل ذي حق

(2/295)


حقه، إشارة إلى آية الميراث، والحديث موضح لدلالة أية المواريث بهذه الآية، والحمد لله الذي هدانا لنصرة الحق، وترجيح مذهب الإمام المطلبي، فإن قلت: إذا كان جواز النسخ معللا بكون الناسخ خيراً منه، من حيث كون العمل بها أكثر ثوابا لزم جواز ذلك بالحديث بهذه الآية،
قلت: لا يلزم لأن الخيرية من هذه الحيثية ليست علة مستقلة، بل مع قيد عدم التفاضل في اللفظ، فإن الثواب الحاصل من نفس قراءة القرآن لا يوازيه قراءة الحديث، هذا كله كلام الطيبي، وما ذكره المصنف من تضعيف منع النسخ بلا بدل مردود أيضا بالاستقراء، قال الطيبي أيضا، ولا يرد قولهم: قد جاء بلا بدل في آية النجوى، لمجيء البدل، وهو الآية بعدها الدالة بمفهومها على إباحة الصدقة.
قوله: (ألم تعلم، الخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم -) يشير إلى أن الهمزة للتقرير، كما في الكشاف، قال ابن هشام في المغني: والأولى أن يحمل على الإنكار التوبيخي والإبطال، أي ألم تعلم أيها المنكر للنسخ.
قوله: (وإنما هو الذي يملك أموركم)، قال القطب: هذا وجه اتصال قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بما قبله. وإنما يتضح إذا كان الخطاب، في ألم تعلم، عاما على أسلوب (بشر المشائين)، وكان الاستفهام للتقرير، وقال الطيبي: إنما رتب حكم النسخ على هذه الصفة، وهي: إنه مالك السموات والأرض ليؤذن

(2/296)


أنه تعالى يريد مصالحكم في النسخ والإنشاء؛ لأن من دبر أمرا هو أعظم، لا يمتنع عليه الأهون.
قوله: (أم معادلة للهمزة) إلى آخره. قال الطيبي: يعني لما رد على اليهود قولهم في النسخ والطعن فيه وعم الخطاب للكل في قوله: ألم تعلم، لأنه من أسلوب قول، (بشر المشائين) رجع إلى المسلمين فخاطبهم بما يشبه حالهم حال اليهود من سؤالهم ما يضرهم ويرديهم وتوصية لهم بالثقة بالله وبما ينزل عليهم من القرآن، وألا يكونوا كاليهود في اقتراحهم على نبيهم، وقال أبو حيان: القول بأنها معادلة ضعيف. والصواب: أنها منقطعة.
قوله: (قيل: نزلت في أهل الكتاب)، إلى آخره. أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس.
قوله: (وقيل: في المشركين) إلى آخره أخرجه عن مجاهد.
قوله: (وهو حال من ضمير المخاطبين)، قال أبو حيان: هذا ضعيف، لأن الحال مستغني عنها في أكثر مواردها، وهذا لابد منه في هذا المكان والصواب أنه مفعول ثان، لأن ود بمعنى صير يتعدى لمفعولين.
قوله: (يجوز أن يتعلق بود) (إلى مفعول ثان، لأن ود) إلى آخره، قال الطيبي: هذان الوجهان: ذكرهما، مكي، وردهما عليه ابن الشجري في أماليه: فقال: إن قول النحويين هذا الجار متعلق بهذا الفعل

(2/297)


، يريدون به أن العرب وصلته به واستمر سماع ذلك منهم، فقالوا: رضيت عن جعفر، وقالوا: حسدت زيداً على علمه، ولم يقولوا: حسدته من الشيء، وكذلك، وددت، لم يعلقوا به (من)، فثبت بهذا أن قوله: من عند أنفسهم لا يتعلق بحسد ولا بود، لكنه متعلق بمحذوف يكون وصفا لحسدا أو لمصدرود، أي: حسداً كائنا من عند أنفسهم، أو ودا كائنا من عند أنفسهم، قال الطيبي: والجواب: أن القول بإفضاء عمل الفعل إلى معمول معموله سائغ. انتهى. وفي البحر، لأبي حيان: من عند متعلق إما بملفوظ، وهو ود، أو بمقدر في موضع الصفة لمصدر ود، أو حسداً، أو بير دونكم، ومن سببية أي يكون الرد من تلقائهم، وبإغوائهم، وتزينهم. انتهى.
قوله: (وعن ابن عباس، أنه منسوخ بأبة السيف)، أخرجه ابن جرير.
قوله: (وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق)، قال الطيبي: هذا النظر أورده الإمام، حيث قال: كيف يكون منسوخا وهو متعلق بغاية، وهو
قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وإذا لم يكن ورود الليل ناسخا لم يكن إتيان الأمر ناسخا، وأجاب أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج ذلك الوارد شرعا عن أن يكون ناسخا ويحل محل فاعفوا وأصفحوا إلى أن أنسخه عنكم.

(2/298)


قوله: (والمخالقة)، الظاهر، إنها بالقاف لا بالفاء وهو تحسين الخلق في العشرة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وخالق الناس بخلق حسن))، وإن ثبت أنها بالفاء فالمعنى مخالفتهم فيما يودونه ويدعون إليه.
قوله: (لعائذ) الجوهري: العوذ الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل، واحدتها عائذ.
قوله: (إشارة إلى أن الأماني المذكورة) إلى آخره.
قال أبو حيان: ما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد أن يشار إليها، وما ذهب إليه في الوجه الثاني، ففيه مجاز الحذف. وفيه قلب الوضع، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبر، فقلب هو الوضع إذ قال: (إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه)، وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ فلا يجوز تقديمه، مثل زيد زهير، نص على ذلك النحويون. والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم (لن يدخله) ... إلى آخره، أي تلك المقالة أمانيهم أي شهواتهم الباطلة وأكاذيبهم التي لم يقولوها عن تحقيق ولا دليل، وإنما أفرد المبتدأ لفظا لأنه كناية عن المقالة، وهي مصدر يصلح للقليل والكثير، فأريد به هنا الكثير باعتبار القائلين ولذلك جمع الخبر فطابق من حيث المعنى في الجمعية. انتهى.
وقال العلم العراقي: الجواب الصحيح، أن الأماني هي، الأباطيل

(2/299)


أو الأقاويل، كما نقله المهدوي، وهذه الجملة أقاويل، لأنها نفت دخول غيرهم الجنة، وأثبتت دخول اليهود الجنة، ودخول النصارى الجنة، بل دخول كل واحد منهم فهي أقاويل وأباطيل حقيقية.
قوله: (والجملة اعتراض) الطيبي: فإن قلت: لمن حق الاعتراض؟
أن يكون مؤكدا للمتعرض فيه، فأين مقتضاه هنا؟ قلت: قوله، لن يدخل الجنة، حكاية دعواهم الباطلة وأكدوها بلفظ لن على سبيل الحصر.
وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} بيان لبطلانها، وأن تلك الدعوة مجرد قول لا برهان لهم عليها، وتلك إشارة لبعدها عن التحقيق، وتحقير بشأنها ثم سماها أماني والأماني مما لا ثبوت لها، وأما على تقدير حذف المضاف فهي أبلغ في باب الاعتراض، يعني هذه الأمنية ليست ببدع لهم بل كان أمانيهم مثل هذه.
قوله: (نزلت لما قدم وفد نجران)، إلى آخره، أخرجه، ابن جرير عن ابن عباس، ونجران قرية.
قوله: (والمعطلة)، قال القطب: هم الذين لا يثبتون الصانع.
قوله: (بين الفريقين)، الطيبي: فإن قلت: لم خصصها بالذكر بعد قوله: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فهذا أعم فدخل اليهود

(2/300)


والنصارى دخولاً أوليا؟ قلت: المراد توبيخ اليهود والنصارى حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم شيئا، فالواجب تهديد هؤلاء خاصة.
قوله: (بما يقسم لكل فريق) الطيبي: يعني (يحكم) يستدعي جارين، (في) و (الباء)، كما يقال: حكم الحاكم في هذه الدعوة بكذا، فالأول المحكوم فيه، والثاني المحكوم به فحذف التنزيل الثاني ليعم المقدر.
قوله: (نزل في الروم)، إلى آخره. أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، والسدي وقتادة، حكاية هذا القول على مسألة الخلاف في دخول الكافر المسجد أحسن ترتيبا كما قال القطب منكتابه على الكشاف في عكس ذلك.
قوله: (فإن منعتم أن تصلوا) إلى آخره. ظاهره أن الآية من تتمة الكلام ممن منع المساجد، وهو قول ضعيف مرجوح، والذي وردت به الأحاديث، إنها نزلت مستقلة بسبب آخر، وقد اختلفت الروايات في ذلك على خمسة أوجه بينتها في كتابنا أسباب النزول.

(2/301)


قوله: (فعلتم التولية) قال الطيبى: يعني أجرى تولوا مجرى اللازم، لأن مفعوله، وهو، وجوهكم: منسى غير منوى.
قوله: (وعن ابن عمر، أنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة) أخرجه مسلم.
قوله: (وقيل: في قوم عميت عليهم القبلة) إلى آخره. أخرجه الدارقطني، في سننه، من حديث جابر. والترمذي، من حديث عامر ابن ربيعة، وابن مردويه، من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
قوله: (وقيل: هي، توطئة لنسخ القبلة). هذا: أصح الأقوال. أخرج ابن جرير، من طريق على ابن أبي طلحة، عن ابن عباس،

(2/302)


إنها نزلت لما قال اليهود: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}.
قوله: (معطوف على، قالت اليهود، أو منع)، قال أبو حيان: فيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجمل الكثيرة، وهو بعيد جدا ينزه القرآن عن مثله، بل هو عطف على الآية قبلها، عطف جملة على جملة.
قوله: (ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعون). قال أبو حيان: هذا بعيد جدا الآن المجعول ولدا لم يجر له ذكر، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول وغيره، قال الحلبي: قوله: (لم يجر له ذكر، بل جرى ذكره، فلا بعد فيه، وقال السقاقسي: قد جرى ذكر الولد، وهو كاف في تقديره، فلا حاجة إلى ذكر المجعول. وإنما خصص الولد بالتقدير، ليكون الرد مطابقا لدعواهم، ويستلزم غير الولد من باب الأولى.
قوله:
(أمن ريحانة الداعي السميع
وهو مطلع قصيدة لعمرو بن معد يكرب، يتشوق أخته ريحانة

(2/303)


، وكان أسرها أبو دريد بن الصمة الجشمي وتمامه: يؤرقني وأصحابي هجوع: وقد أوردت القصيدة بتمامها في شرح شواهد التلخيص. ومنها، قوله:
إذا لم تستطع شيئا فدعه .... وجاوزه إلى ما تستطيع
القطب: ريحانة: اسم امرأة، والداعي، داعي الشوق، وهو مرفوع بالظرف لأنه معتمد على همزة الاستفهام، والسميع المسمع، أي يدعوه ولا يسمعه الصوت، ويؤرقني: يوقظني حال من الداعي، وهجوع: نيام، قال: وفي الاستشهاد نظر، لأنا لا نسلم أن السميع بمعنى المسمع، لاحتمال أن يريد أنه سميع بخطابه فيكون بمعنى السامع، لأن داعي الشوق لما دعاه صار سامعا للقول الذي أجيب به، وإن سلمناه لا يلزم أن يكون البديع بمعنى المبدع، فإن فعيلا بمعنى مفعل شاذ لا يقاس عليه، الطيبي: يجوز أن يكون مبتدأ أو المقدم خبره، والأولى أن يؤرقني جملة مستأنفة.
قوله: (الأوجه أن الداعي مبتدأ خبره يورقني، والمجرور متعلق به، وجملة، وأصحابي هجوع: حال.
قوله: (أي جهلة المشركين)، أخرجه ابن جرير عن قتادة،

(2/304)


والربيع والسدي.
قوله: (أو المتجاهلون من أهل الكتاب)، أخرجه عن ابن عباس.
قوله: (وقرئ بتشديد الشين: قال أبو عمرو الداني: هي قراءة ابن أبي إسحاق وأبي حيوة، قال: وهي غير جائزة لأنها فعل ماض، واجتماع التائين المزيدتين لا يكون في الماضي حتى يترتب عليه الإدغام، قال أبو حيان: وقد ذكر في قراءة: إن البقر تشابه بالتشديد توجيه لا يمكن هنا، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة.
قوله: (نهى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السؤال عن حال أبويه)، قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه في حديث، أقول: ونعم ما فعل، فإنه لم يرد في ذلك إلا أثر معضل ضعيف الإسناد، فلا يعول عليه. والذي نقطع به، أن الآية في كفار أهل الكتاب: كالآيات السابقة/ عليها والتالية لها، وقد قررت ذلك أتم تقرير في التأليف الذي سميته مسالك الحنفا في والدي المصطفى.
قوله: المتأجج: بجمين، من تأججت النار، تلهبت، والأجيج لهيب النار.
قوله: (وهو حال مقدرة)، قال أبو حيان: إما من ضمير

(2/305)


المفعول، وإما من الكتاب، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له، ولا كان هو متلوا لهم.
قوله: (ولذلك فسرت بالخصال الثلاثين)، إلى آخره.
أخرجه الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قوله: (وبالعشر التي هي من سنته)، أخرجه الحاكم أيضا عنه.
قوله: وبمناسك الحق، أخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر عنه.
قوله: (وبالكواكب، إلى آخره)، أخرجه، ابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحسن البصري، قوله: (وبما تضمنته الآيات التي بعدها)، أخرجه ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس.
قوله: (فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها)، أي قوله: بابني إسرائيل، الآية، عطفت قصة، على قصة.
قوله: (عطف على الكاف)، إلى آخره.
اعترضه أبو حيان، بأن الكاف مجرورة فلا يصح العطف عليها بدون إعادة الجار، وبألا يمكن تقدير الجار مضافا إليها، لأنها حرف

(2/306)


فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى يقدر جاعلا مضافا إليها لا يصح. وليس نظير العطف على الكاف في سأكرمك لأن الكاف فيه في موضع نصب، وهنا في موضع جر ولا يقال: إنه معطوف على موضعه فإنه نصب لأن هذا ليس مما يعطف به على الموضع لفوات المحرز، فالتحقيق أن الجار متعلق بمحذوف تقديره: واجعل من ذريتي. انتهى.
وصحح غيره ما قاله المصنف وسماه عطف تلقين، فالتقدير، في سأكرمك وزيدا قل وزيدا، كذا هنا تقديره قل وبعض ذريتي، قال الطيبي: وهذا الاسم مناسب للمعنى.
قوله: (فعليه) إلى آخره، حاصل ما ذكره أبو حيان فيها ستة عشر قولاً، فعلية، أو فعولة، أو فعلولة، وعلى كل هي من الذراء بالهمز أو الذر بالتشديد، أو من ذريت، أو من زروت أقوال، فهذه ستة عشر قولاً، فعلى الأول أصلها ذرية، أو ذروية، وعلى الثاني: ذريرة أو درورة وعلى الثالث: ذريته أو دروية، وعلى الرابع: ذريرة أو ذروة، ثم إن الذال فيها الضم والفتح والكسر.
فتبلغ بذلك ثمانية وأربعين.
قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر) أخرجه، ابن مردويه عن عمر نحوه.

(2/307)


قوله: (لما روى جابر)، إلى آخره. أخرجه مسلم.
وقوله: وقيل: مقام إبراهيم الحرم كله، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
قوله: (وقيل: مواقف الحج)، أخرجه ابن أبى حاتم.
قوله: (أو مبتدأ يتضمن معنى الشرط)، بقي قول ثالث، وهو أنه شرط، والفاء جوابه، حكاه أبو حيان.
قوله: (والكفر وأن لم يكن سببا يمنعه) إلى آخره جواب سؤال مقدر، قال أبو البقاء؛ لا يجوز أن يكون من مبتدأ و (فأمتعه) الخبر، لأن الذي: لا تدخل في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقا بصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم، والكفر لا يستحق به التمتيع، فأجاب عنه المصنف بما ذكره.
قوله: (فألزه) الجوهري: لزه يلزه لزا أي: شده وألصقه.
قوله: (وقليلا نصب على المصدر أو الظرف)، أي على الصفة لهذا أو لهذا أو تمتيعا قليلا، أو زمانا قليلا، ويجوز كونه حالا من

(2/308)


ضمير المصدر المحذوف.
قوله: (وقرئ بلفظ الأمر فيهما، على أنه من دعاء إبراهيم تفسيره أيضا، كذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه، لكن جوز ابن جني أن يكون من كلامه تعالى خاطب به نفسه، على حد قول الأعشي:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهو أحد قسمي التجريد.
قوله: (ضم شفر) هو بالضم واحد أشفار العين، وهي حروف الأجفان الذي ينبت عليها الشعر، وهو الهدب.
قوله: (حكاية حال ماضية)، قال أبو حيان: فيه نظر (بل المقرر في العربية)، أن إذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي لأنها ظرف نما مضى من الزمان.
قوله: (ومنه، قعدك الله، في الصحاح: قعدك الله لا آتيك، وقعيدك الله لا آتيك، يمين العرب وهو مصدر استعمل منصوبا بفعل

(2/309)


مضمر، والمعنى يصاحبك الذي هو صاحب كل نجوى.
قوله: سافات البناء، هو بالفاء، المعرب: الساف الصف من اللبن والطين.
قوله: (كان يناوله الحجارة، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه) قال الطيبي: وفي الآية دلالة على ذلك، حيث أخر إسماعيل عن إبراهيم، ووسط بينهما المفعول المؤخر رتبة عن الفاعل، وهو إسماعيل.
قوله: (أو عرف)، قال أبو حيان: لا نعرف في اللغة مجيء رأي بمعنى عرف وهذا ابن مالك، وهو حاشد لغة، وحافظ نوادر لم يعدها في التسهيل لما عد معاني رأى.
قوله: (وابعث فيهم، في الأمة المسلمة)، قال أبو حيان: يحتمل أيضا عود الضمير على الذرية وعلى أهل مكة.
قوله: (كما قال: أنا دعوة إبراهيم) الحديث، أخرجه، أحمد، وابن حبان، والحاكم، عن العرباض، ابن سارية، قال الطيبي:

(2/310)


قوله: (انا دعوة إبراهيم) أي: أثر دعوته، أو الدعوة نفسه.
قوله: (والحكمة ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام)، كثرت عبارات المفسرين في تفسير الحكمة، فقال قتادة: هي السنة، وقال مجاهد: فهم القرآن، وقال مالك: هي الفقه في الدين، وقال مقاتل: العلم والعمل به، وقال محمد بن يعقوب: كل ثواب من
القول ورث فعلا صحيحا.
وقيل: هي القرآن، كررها تأكيدا، وقيل: وضع الأشياء مواضعها.
قال أبو حيان: وهذه الأقوال، متقاربة، ويجمعها قولان، الكتاب والسنة، لأنها المبينة لما أبهم من القرآن والمظهرة لوجوه الأحكام.
قوله: (إلا من استمهنها وأذلها)، إلى آخره، إشارة إلى أن

(2/311)


الأولى نصب نفسه على المفعول به، واقتصر في توجيه ذلك على نقله عن المبرد وثعلب، إن سفه، بالكسر متعد، وزاد أبو حيان، أن يكون ضمن معنى ما يتعدى، أي جهل، كما قال الزجاج وابن جني، أو أهلك كما قال أبو عبيدة، وفي حاشية الطيبي: قال صاحب الفرائد: الوجه أن سفه ضمن معنى جهل وعدي تعديته: كأنه قيل: جهل نفسه لخفة عقله أي لم يعرفها بالتفكر.
قوله: (وبالضم لازم)، أبو حيان: سفه بالضم، معناه صار سفيها، كفقه إذا صار فقيها. قال:
فلا علم إذا جهل العليم ... ولا رشد إذا سفه الحليم
قوله: (ويشهد له ما جاء في الحديث: (الكبر: أن تسفه الحق: وتغمص الناس)، أخرجه ابن حيان والحاكم، من حديث أبي هريرة.
قوله: (وقيل: أصله سفه نفسه على الرفع، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه، وقول جرير:

(2/312)


ونأخذ بعده بذباب عيش .... أجب الظهر ليس له سنام)
فيه أمور الأول، قال أبو حيان: هذا رأي الكوفيين الذين يجوزون تعريف التمييز. الثاني: ما ذكره من التمييز، ذكره الزمخشري في الكشاف، وخالفه في المفصل، فقال: إنه على التشبيه بالمفعول به لا على التمييز. ورده أبو حيان بأن النصب على التشبيه بالمفعول خاص، عند الجمهور بالصفة ولا يجوز في الفعل، تقول: زيد حسن الوجه ولا يجوز حسن الوجه، ولا يحسن الوجه.
قال: وعرف بذلك أن البيت ليس نظيراً للآية لأن النصب فيه بعد أجب، وهو اسم، وفي الآية بعد فعل. وأشار الشيخ سعد الدين إلى أن مراد صاحب الكشاف، أنه في الآية على التمييز وأن التعريف قد يدخله كما دخل المشبه بالمفعول الذي حقه التنكير لكونه في معنى المميز واقعا موقعه كما في البيت فالتنظير بالبيت لذلك؛ لا لأن الآية والبيت سواء في التمييز أو التشبيه بالمفعول. انتهى. نعم، القول بأن الآية على التشبيه بالمفعول ثابت عن غير الزمخشري، حكاه أبو حيان ورده.
الثالث: نسبة المصنف البيت إلى جرير سهو، وإنما هو للنابغة الذبياني بالاجماع، يمدح النعمان بن المنذر، وقبله:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
ويروى: والشهر الحرام، أبو قابوس: كنية النعمان وأراد

(2/313)


بالربيع طيب العيش، وبالشهر الحرام الأمن، والأجب: الجمل المقطوع السنام الذي لا يتمسك لراكبه، وذناب الشيء: بالكسر، عقبه، أي يبقى بعده في طرف عيش لا خير فيه. الرابع: حاصل ما حكاه المصنف في نصب نفسه، ثلاثة أقوال: المفعولية، والتمييز، وعلى نزع الخافض وفاته ثلاثة أقوال: التضمين، والتشبيه بالمفعول، كما حكيناهما، وأن يكون توكيدا لمؤكد محذوف، تقديره: سفه.
قوله: (نفسه) حكاه مكي.
قوله: (مشهود له بالاستقامة)، قال الطيبي: فسر الصلاح بالاستقامة، لأنه مقابل للفساد الذي هو خروج الشيء عن حال استقامته.
قوله: (ظرف لاصطفينا) أو تعليل له أو منصوب بإضمار أذكر)، قال أبو حيان: على هذين القولين لا ينتظم (قال أسلمت) مع ما قبله إلا إن قدر، يقال، فحذف حرف العطف أو جعل جوابا للكلام مقدر، أي: ما كان جوابه؟ فقيل: قال، أسلمت. قال: فالأوجه أن العامل في (إذ)،

(2/314)


(قال أسلمت). وقال الشيخ سعد الدين: إنما لم يجعل الظرف متعلقا بـ (قال أسلمت) على ما هو ظاهر في مثل إذ جاء زيد قام عمرو، لأن الأنسب فيه العطف، لكونه من نمط. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}، فدل تركه العطف على أنه من تتمة {وَمَنْ يَرْغَبُ}. إلى آخره.
قوله: (روى أنها نزلت لما دعى عبد الله بن سلام ابني أخيه سملة ومهاجرا إلى الإسلام، فأسلم سلمة وأبي مهاجر)، لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المسندة.
قوله: (التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة. زاد الراغب: مقترنا بوعظ.
قوله: (أو لقوله: أسلمت، نظيره، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً}، بعد قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، قال ابن عطية: وهذا القول أصوب، لأنه أقرب مذكور، قال: وعوده على الملة يرجح بأن المفسر يكون مصرحا به وعلى عوده لأسلمت لا يكون مصرحا به، والعود على المصرح به أولى، وبأنه أجمع من عودة على الكلمة إذ الكلمة بعض الملة، ومعلوم أنه لا يوصى إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز، ورجح الشيخ سعد الدين العود على (أسلمت)، بأن قوله: (وصى) عطف على، (قال أسلمت)، فالمعنى: قال ذلك في حق نفسه، ووصى به بنيه، أن يذكروه حكاية على أنفسهم، ورجح العود على الملة بترك

(2/315)


المضمر إلى المظهر في إبراهيم وبعطف يعقوب عليه. انتهى.
وثم قول ثالث أنه راجع إلى الكلمة المتأخرة وهو قوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} كذا حكاه أبو حيان، (والأجه في تقريره أن يجعل عاندا على مقول القول، وهو: يا بني. إلى أخره أي وصاهم بهذه القولة. وهذا: عندي أرجح، ونطيره: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}، فقد ضمير فأسرها يوسف ولم يبدها، عاند إلى مقول القول. ورابع أنه عاند إلى كلمة التوحيد وإن لم يجر لها ذكر، على حد {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}.
وخامس، أنه عائد إلى الوصية الدال عليها وصي.
قوله: (والأول أبلغ)، قال الزجاج: لأن أوصي يصدق بالمرة الواحدة، ووصى لا يكون إلا لمرات كثيرة.
قوله: (ويعقوب: عطف على إبراهيم) قال أبو حيان: ويحتمل الابتداء والخبر محذوف.
قوله: (على إضمار القول عند البصريين، متعلق بوصي عند الكوفيين) هذه قاعدة مشهورة، وقع الخلاف فيها بين الفريقين، وهو أنه إدا وردت جملة مقولة بعدما فيه معنى القول دون حروفه فالبصريون يخرجونها على حذف القول، والكوفيون لا، بل يجرونها على الحكاية بما

(2/316)


فيه معنى القول وقد أوضحت هذه القاعدة في كتاب الأشباه والنظائر في العربية.
قوله:
(رجلان من ضبة أخبرانا .... أنا رأينا رجلا عريانا)
/ وضبة اسم قبيلة.
قوله: (وبنوا إبراهيم كانوا أربعة؛ إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدان، وقيل: ثمانية، وقيل: أربعة عشر) القول، بأنهم ثمانية، أخرجه ابن سعد في طبقاته عن الكلبي فذكر الأربعة المذكورين، وبشقاق وذمران، وأشيق، وشوح، وأخرج عن الواقدي، قال: ولد إبراهيم ثلاثة عشر، إسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة، وماذي، وذمران، وشرجح، وشبق، الأربعة: من قنطور، ونافس، ومدين، وكيشان، وشروخ، وأشيم، ولوط، وبشقان، وذمران، وأشيق، السبعة من حجوى. وأخرج عن الكلبي، كان اسم إسماعيل: أشمويل، فعرب، وله: إثنا عشر ابنا.

(2/317)


قوله: (وبنو يعقوب: اثنا عشر)، أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس.
قوله: (دوبين): كذا ذكره بالنون، وذكره آخرون دوبيل باللام، قال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني: وهو باللام أصح وأثبت.
قوله: (وبنيامين)، عبارة كثيرين، ابن يامين، قال ابن إسحاق ومعناه بالعربية شداد.
قوله: ظاهره النهي عن الموت) إلى آخره. تقريره أن النهي في اللفظ متعلق بالموت، وذلك ليس بمقدور لهم وإنما ينهي المكلف عماله تركه. فالمعنى النهي عن الكون عن حالة يدركه الموت وهو عليها كقولهم: لا رأيتك ههنا، فإن، لفظ النهي فيه للمتكلم، وهو في الحقيقة للمخاطب، أي لا تكونن ههنا، فإن كنت ههنا رأيتك، وكذا لا تصل إلا وأنت خاشع، فإن لفظ النهي فيه متعلق بالصلاة ومطلق الصلاة لا ينهى عنها، فالمعنى: النهي عن الكون عن حالة هي غير حالة الخشوع.
فالآية من باب الكناية التلويحية، حيث كنى فيها بنفي الذات عن نفى الحال والنكتة في ذلك الدلالة على كون الفعل الداخل عليه حرف النهي شبيها بالمنهي الذي حقه ألا يقع ولو وقع كان بمنزلة العدم، كما أن الأمر عند هذا الفعل، في، مت وأنت شهيد، تنبيه على كونه بمنزلة المأمور الذي حقه أن يقع.
قوله: (روى أن اليهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألست تعلم أن يعقوب أوصى لبنيه باليهودية يوم مات، فنزلت: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} الآية لم أقف عليه.

(2/318)


قوله: (أم منقطعة) إلى آخره تقرير لكون الخطاب في الآية لليهود، وقد ضعفه صاحب الكشاف، بأنهم لو شهدوا ذلك الوقت وسمعوا وصية يعقوب لظهر لهم كونه على ملة الإسلام ووصيته لبنيه بذلك فكيف يقال لهم في مقام الرد عليه والإنكار لمقالتهم، أكنتم حاضرين حين وصى يعقوب بما ينافي دعوتكم، بل ينبغي أن يقال: أكنتم حاضرين حين وصى باليهودية وبما يحقق دعوتكم مثلا، تقول لمن يرمي زيدا بالفسق: أكنت حاضرا حين شرب أو قتل أو زنى ولا تقول حين صام وصلى وزكى. قال الشيخ سعد الدين: وقد يجاب بوجهين، أحدهما: أن الاستفهام حينئذ يكون للتقرير، أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه بملة الإسلام والتوحيد، وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليهم اليهودية.
والثاني: إن تم الإنكار عند قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} ويكون قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ} بيان فساد ادعائهم لا داخلا في حيز الإنكار، أي ما كنتم شهداء حين قال: لبنيه ما تعبدون من بعدي، وحين أجرى وصية الدين. فكيف تدعون اليهودية وأن يعقوب وصى بها، ثم بين بطلان دعواهم وتوجه الرد عليهم بقوله: (قالوا: نعبد) إلى آخره ولا يلزم من كونه استئنافا أن يدخل في حيز الاستفهام.
قوله: (أو متصله بمحذوف تقديره، أكنتم غائبين أم كنتم شهداء)، قال أبو حيان: لا نعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره فلا يجوز: أم زيد، وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ وإنما سمع حذف أم المتصلة مع المعطوف لأن الثواني المقابلات يجوز

(2/319)


حذفها إذا دل عليها المعنى.
وقال ابن عطية: أم هنا للاستفهام على جهة التوبيخ قال: وأم: تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية: وحكى الطبرى، أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره. وهذا منه، ومنه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}. انتهى.
ونقل ابن هشام في المغني، تجويز الزمخشري هذا ولم يتعقبه، بل قال: وجوز ذلك الواحدي أيضا وقدر، (أبلغكم ما تنسبون إلى يعقوب؟ من إيصائه ببنيه باليهودية، أم كنتم شهداء.
قوله: وقرئ: حضر بالكسر، هي لغة، ومضارعها يحضر بالضم، وهو شاذ، إذ قياسه الفتح، لكن العرب اشتغنت فيه بمضارع المفتوح.
قوله: بدل من إذ حضر: أغرب القفال فزعم أن إذ قال ظرف لحضر.
قوله: و ((ما) يسأل به عن كل شيء)، قال الشيخ سعد الدين: استدل على إطلاق (ما) على ذوى العقول بإطباق أهل العربية على قولهم: (من) لما يعقل من غير تجوز في ذلك. حتى لو قيل. (من) لمن لا يعقل من لم يفعل كان لغوا من الكلام بمنزلة أن يقال لذى عقل عاقل.
فائدة: قال الراغب: لم يعن، بقوله: ما تعبدون من بعدي العبادة المشروعة فقط، وإنما عنى جميع الأعمال، كأنه دعاهم ألا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما

(2/320)


خاف أن تشغلهم دنياهم ولهذا قيل: ما قطعك عن الله فهو طاغوت.
قوله: لقوله عليه السلام: (عم الرجل صنو أبيه)، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة. والصنوان: نخلتان من عرق واحد.
قوله: كما قال في العباس (هذا بقية آبائي)، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث مجاهد مرسلا، والطبراني في المعجم الكبير، وفي حديث ابن عباس، وفي المعجم الصغير من حديث الحسن ابن علي مرفوعا، بلفظ: احفظوني في العباس فإنه بقية أبائي. قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الذي بقي من جملة أبائي، يقال: بقية القوم، لواحد بقي منهم، ولا يقال: بقية الأب للأخ، والحاصل أن بقية الشيء يكون من جنسه.
قوله: (
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا)
هو لزيادة بن واصل السلمي. وقبله
عزتنانساء بني عامر ... فسمنا الرجال هوانا

(2/321)


مبينا
بضرب كولغ ذكور الذئا .... ب تسمع للهام فيه رنينا
ورمي على كل عزافة .... ترد الشمال وتعطى اليمينا
فلما تبين: البيت، قال شارح أبيات سيبويه: ويروى فلما تبين أشباحنا. والنون في الأفعال الثلاثة للنسوة اللاتي أسرن وفدين قلن جعل الله إيانا فداكم، وألف أبينا: للإطلاق.
قوله: (إلها واحدا بدل)، قال أبو حيان أو حال مؤطئة، نحو رأيتك رجلا صالحا: فالمقصود إنما هو الوصف، وجئ باسم الذات توطئة للوصف.
قوله: (أو نصب على الاختصاص)، رده أبو حيان بأن النحاه نصوا على أن المنصوب الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما.
قوله: (ونحن له مسلمون حال) قال أبو حيان: الأبلغ أن تكون معطوفة على نعبد فيكونوا أجابوا بشيئين، وهو من باب الجواب المربي على السؤال وكذا قال ابن عطية إنه أمدح.
قوله: (ويحتمل أن يكون اعتراضا)، رده أبو حيان، بأن النحاة نصوا على أن جملة الاعتراض لا تقع إلا في أثناء كلام، وقال ابن هشاء في المغني: للبيانيين في الاعتراض اصطلاحات مخالفة لاصطلاح النحويين، والزمخشري: يستعمل بعضها كما في هذه الآية ويرد عليه مثل ذلك من لا يعرف هذا العلم كأبي حيان، توهما منه أنه لا اعتراض
إلا ما يقوله

(2/322)


النحوي، وهو الاعتراض بين شيئين متطالبين.
قوله: (والأمة في الأصل المقصود)، زاد الراغب كالعمدة والعدة، للمعود والمعد.
قوله: (قال عليه السلام، (لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم)، قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه.
قلت: أخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحكم بن ميناء، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا أنتم بسبيل من ذلك، فانظروا ألا لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي) قال الطيبي: هو نفي في معنى النهي، والواو للجمع، كهي في قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله.
قوله: (أي بل تكون) إلى آخره. مما قيل إنه منصوب على الإغراء، أي الزموا.
قوله: (حال من المضاف)، هو رأى ابن الشجري، قال: وذكر حنيفا وإن كانت الملة مؤنثة حملا على المعنى، لأنها: بمعنى الدين. والحال من المضاف إليه إذا كان المضاف غير عامل فيه ممنوع عند

(2/323)


الأكثر، وعليه أبو حيان، وقليل عند البعض، وعليه ابن مالك، وقيل: إن حنيفا نصب بإضمار فعل، أي نتبع. قال أبو حيان: وهو قريب.
قوله: (وما كان من المشركين) قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنه عطف على حنيفا.
قوله: (والأسباط: جمع سبط)، قال الراغب: أصل السبط انتشار في سهولة. وقال أبو حيان: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، من السبط وهو التتابع فهم جماعة متتابعون، ويقال: سبط عليه العطاء، إذا تابعه، ويقال: هو مقلوب بسط. وقيل: أصله من السبط وهو الشجر الملتف، والسبط الجماعة الراجعون إلى أصل واحد.
قوله: (واحد: لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين) ليس هذا الذي ذكره صاحب الكشاف وإنما قال: أحد: في معنى الجماعة بحسب الوضع. قال الشيخ سعد الدين: لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد الذي، هو أول العدد، في مثل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، قال: وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي، على ما يسبق إلى كثير من الأوهام. ألا ترى، إنه لا يستقيم لا يفرق بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف، أي رسول ورسول، {لَسْتُنَّ

(2/324)


كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}، ليس في معنى كامرأة منهن. انتهى.
قوله: (من باب التعجيز والتبكيت) إلى أخره. قال الشيخ سعد الدين: لما كان ظاهر الكلام إن الذي آمن به المؤمنون مثلا، يحصل به الاهتداء كما يحصل بدينهم، وليس كذلك. دفعه بوجهين، أحدهما: أن ذلك على سبيل الفرض والتقدير، قصداً إلى التبكيت والإلزام، يعني إن حصلوا دينا مثل دينكم في الاستقامة وآمنوا به فقد اهتدوا، لكن ذلك منتف، لأن طريق الحق واحدا فلا طريق إلى الاهتداء إلا هذا الدين. وثانيهما: أن الباء ليست صلة أمنوا، بل الاستعانة، وآمنوا: بمعنى أوجدوا الإيمان الشرعي ودخلوا فيه من غير احتياج إلى تقدير صلة. أي فإن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم، قولا واعتقادا. وعلى الوجهين: ما، موصولة عبارة عن الدين أو الشهادة، وأما على زيادة الباء: فما مصدرية.
قوله: (وهو: المناوأة والمخالفة)، قال بعضهم: ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق، إنما يقال في الباطل.
قوله: (فإن كل واحد من المتخالفين في شق)، أي جانب.
وقيل: إن اشتقاقه، من المشقة، لأن كل واحد منهما: يحرص على ما يشق على صاحبه.
قوله: (أو وعيد)، قال الطيبي: أو للتنويع، لا للترديد، لأنه لا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معا.
قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} إلى آخره. قال أبو حيان: العرب تسمى ديانة

(2/325)


الشخص بشيء واتصافه به صبغة. قال الشاعر:
وكل أناس لهم صبغة ..... وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا .... فأكرم بصبغتنا في الصبغ
الطيبي: على الأقوال الثلاثة التي صدر بها المصنف تكون من باب الاستعارة التصريحية التحقيقية، والقرينة الإضافة إلى الله تعالى. والجامع على الأول، أي على أن يراد بالصبغة الحلية التأثر والظهور، وعلى الوجوه الثلاثة: الظهور والبيان، قال: وهذا أنسب من قول المشاكلة، لأن الكلام عام في اليهود والنصارى وتخصيصه/ بصبغ النصارى: لا وجه له، وقال الشيخ سعد الدين: اختصاص الغمس في المعمودية بالنصارى لا ينافي صحة اعتبار المشاكلة في إيمان الفريقين، لأن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة.
قوله: (ونصبها على أنه مصدر مؤكد)، أي لنفسه، لكونه: مضمون جملة لا محتمل لها غيره، وهي (آمنا بالله) ومعطوف عليه.
قوله: (ولمن ينصبها على الإغراء) إلى آخره، جواب عن كلام الزمخشري، فإنه قال: ونحن له عابدون، متصل بقوله: (أمنا) ومعطوف عليه، وهذا العطف يرد قول من زعم، أن صبغة بدل من ملة أو نصب على الإغراء لما فيه من فك النظم، وإخراج الكلام عن التامة واتساقه، فأجاب المصنف بأنه إذا قدر القول لا يلزم ذلك. قال الطيبي: ومراده، أنه يقدر، وقولوا: (نحن له عابدون) ليصح عطفه

(2/326)


على الزموا صبغة الله، واتبعوا ملة إبراهيم صبغة. قال: والحق: أن كلا من قوله: (ونحن له مسلمون)، (ونحن له عابدون)، (ونحن له مخلصون) اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به بقوله على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى، لا عطف. وتحريره: أن قوله ونحن له مسلمون مناسب لآمنا، أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء، ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه.
وقوله: ونحن له عابدون ملائم لقوله: صبغة الله، لأنها دين الله تعالى فالمصدر كالمصدر لكن لما سبق من الإيمان والإسلام.
وقوله: ونحن له مخلصون، موافق لقوله: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، وفي ذكر هذا المعنى بعد ذلك ترتيب أنيق، لأن الإخلاص شرط في العبادة. وفيه من حديث جبريل عليه الصلاة والسلام، حين سأل على الإحسان، بعد سؤاله عن الإيمان والإسلام ومثل هذا النظام يفوت مع تقرير الإغراء والبدل. انتهى.
وقال الشيخ سعد الدين في تقدير كلام الزمخشري: في كل من الإغراء والبدل فصل بين المعطوف والمعطوف عليه، أعني جملتي (أمنا) و، {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}، بالأجنبي الذي لا يتعلق بما تتعلق به الجملتان، إذ لم يدخل البدل ولا الإغراء في حيز قولوا، بل الأول من حيز عامل ملة إبراهيم، والثاني مستقل وبمنزلة التأكيد والبيان، لقوله قولوا ففي هذا فك لنظام الكلام وإخراج له عن الالتئام مع أن في الإبدال شيئا آخر، وهو الفصل بين البدل والمبدل منه بما لا يتعلق بعامله. فإن قيل: نحن لا نجعله عطفا على (آمنا)، بل على فعل الإغراء، بتقدير: أي الزموا صبغة الله.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}، ولو سلم ففيما ذكرتم أيضا فصل

(2/327)


بين المعطوف والمعطوف عليه وكذا بين المؤكد والتأكيد بالأجنبي، فإن قوله {فَإِنْ آمَنُوا} وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} لا يدخل شيء منها في حيز قولوا، قلنا: لا وجه لارتكاب الإضمار بلا دليل مع ظهور الوجه الصحيح وما ذكر من الفصل وإن لم يتعلق بقولوا لفظا فقد تعلق به معنى، فلا فك للنظم. انتهى.
تنبيه: قدر الزمخشري الإغراء على القول به بعليكم، وتعقبه أبو حيان، بأن الإغراء إذا كان بالظرف أو المجرور لا يجوز حذفه قال: والوجه تقديره بالزموا. انتهى. ولذا قدره المصنف بإلزموا.
قوله: ((في الله)، أي في شأنه واصطفائه نبيا من العرب). الطيبي: فإن قلت: كيف قيد المطلق وهو في الله بقيد النبوة، وليس ثم قرينة التقييد؟ قلت: القرينة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}، والكلام تعريض باليهود وأنهم كتموا ما في التوراة من دلائل النبوة. وقال الشيخ سعد الدين: القرينة، قوله: وما أنزل إلينا سابقا.
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ}، تعريض بكتمانهم شهادة الله بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لاحقا.
قوله: (روى أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا، فنزلت)، لم أره في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير

(2/328)


المسندة، ولو ورد لكان قرينة ثالثة لما تقدم.
قوله: (وعلى قراءة ابن عامر)، إلى آخره، ظاهره أن الاتصال لا يتأتى على قراءة الغيبة، وأنها لا تكون عليها إلا منقطعة وهو المصرح به في الكشاف.
قال الطيبي: لأنه لا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة، فاندفع بذلك تجويز أبي حيان له فيها تخريجا على الالتفات.
قوله: (والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب)، هذا هو الذي اتفق عليه أهل التفسير. أخرجه ابن جرير، عن مجاهد والحسن، والربيع، وقتادة، وابن زيد، لكن الأخيران: قالا: إنه في كتم أهل الكتاب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - والشهادة له بالنبوة والأولون قالوا: إنه في كتمهم الشهادة لإبراهيم بالحنيفية: وبراءته من اليهودية والنصرانية.
قوله: (أو منَّا لو كتمنا)، هذا احتمال ذكره الزمخشري، ولا يعرف للمفسرين، ورده أبو حيان، لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسبوه إلى إبراهيم، فاللائق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب، لا مع

(2/329)


الرسول والمؤمنين.
قوله: ومن، للابتداء، كما في قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ}، قال أبو حيان: ظاهره، أن من الله، في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه الآية، وقيل: إنها متعلقة بالعامل في الظرف، وهو: عنده. أي كائنة عنده من الله. قال: والفرق بينه وبين الأول أن العامل في ذلك الظرف والمجرور اثنان، وفي هذا واحد. وقيل: هي متعلقة بكتم بحذف مضاف أي كتم من عباد الله شهادة عنده من الله.
قوله: (وقرئ بالياء)، لم يذكر أبو حيان هذه القراءة، مع استيعابه جميع الشواذ، وكونه من أهل الفن، فينبغي التوقف عند نقل هذه إلى أن توجد في كتاب أحد. من أهل فن القراءة.
قوله: (وفائدة تقديم الإخبار به) إلى آخره. قال أبو حيان: هذا قول الزمخشري وغيره، وذهب قوم إلى أن الآية متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول وأنزل قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} الآية ثم نزل {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} نص على ذلك ابن عباس وغيره، ويدل على هذا ويصححه حديث البراء ابن عازب، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً وكان يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية، فقال السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فقال الله {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية، أخرجه الشيخان، وإذا كان كذلك

(2/330)


، فمعنى قوله: سيقول، إنه مستمرون على هذا القول وإن كانوا قد قالوه فحكمه الاستقبال. لأنهم كما صدر عنهم هذا القول في الماضي فهم أيضا يقولونه في المستقبل، وليس هذا من وضع المستقبل موضع الماضي، وإن كان معنى سيقول كما زعم بعضهم، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه. انتهى كلام أبي حيان. وما نقله على نص ابن عباس: صحيح، أخرجه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وابن جرير وغيرهما، من طرق عنه مصرحة بأن نزول سيقول بعد قول اليهود، وبعد (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، كما أوردتها في التفسير المسند، وفي أسباب النزول، لكن ظاهر تقرير ابن جرير كالوجه الأول، وإنه من إعلام الله نبيه بما هم قائلوه ليعدلهم الجواب.
قوله: (واعداد الجواب)، قال في الكشاف؛ لأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، قال في الانتصاف: ولهذا أدرج النظار في أثناء مناظرتهم العمل بالمقتضى الذي هو كذا، السالم عن معارضة كذا، فيقولون:- درء للمعارض قبل ذكر الخصم، وهذه الآية من أحسن ما يستدل به عليه.
قوله: (والقبلة في الأصل)، إلى آخره. هو كلام الراغب، وتقريره أنها في الأصل للهيئة، ولما استعملت في المكان أبقيت على وزنها.

(2/331)


قوله: (بارتسام أمره): في الصحاح، رسمت له كذا فارتسمه أي امتثله.
قوله: (وكذلك: إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة، أي كما جعلناكم مهتدين) إلى آخره مشى عليه أبو حيان، فقال: الكاف للتشبيه، وذلك إشارة إلى جعلهم على هدى، المفهوم: من قوله: يهدي من يشاء وقال القرطبي: معنى التمثيل الذي تعطيه الكاف هو الصفة والحالة، لا التنظير والتشبيه، والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو الأمر العجيب الشأن، أي تعظيم المسلمين واختصاصهم بالهداية المأخوذ من قوله يهدي من يشاء، وتعظيم التوجه إلى الكعبة الماخوذ من قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال الشيخ سعد الدين: الإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده، لا إلى جعل أخر يقصد تشبيه هذا الجعل به، على ما يتوهم من أن المعنى مثل جعل الكعبة قبلة، جعلناكم أمة وسطا، وإذا تحققت فالكاف مقحم إقحاما كاللازم، لا يكادون يتركونه في لغة العرب وغيرهم، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام.
قلت: صدق الشيخ سعد الدين وبر، وهذا المعنى الذي يجيء إليه مازال يختلج في ضميري في جميع الآيات التي وردت في القرآن بهذه الصفة، مثل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ}، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}، {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وكنت أرى

(2/332)


(جوازه فيما يتحمله) كثيرون من جعل الإشارة إلى شيء مفهوم مما سبق إلى أن ظفرت، بنقل عن ابن الأنباري فصرح بما نحوت إليه وقد سقته موضحا في سورة الأنعام من كتابي أسرار التنزيل وهذا الكلام من الشيخ سعد الدين مقوله.
قوله: (وسطا أي خياراً أو عدولا)، قال أبو حيان بعد حكاية القولين: الثاني ورد، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتظاهرت به عبارات المفسرين فيجب المصير إليه في تفسير الوسط.
قلت: الأمر كما قال، فقد أخرج البخاري وأحمد، والترمذي والنسائي، والحاكم، وابن جرير وغيرهم، من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلاً، وأخرجه ابن جرير من حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه أيضا عن ابن عباس ومجاهد والربيع، وعبد الله بن كثير
وعطاء وقتادة، ثم قال ابن جرير، العدل هو معنى الخيار، لأن الخيار من

(2/333)


الناس عدولهم، قال: وأنا أرى أن الوسط هنا: هو الوسط الذي بين الطرفين، لأنهم متوسطون في الدين ن فلا هم أهل غلو فيه، كالنصارى غلوا فيه بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا، ولا أهل تقصير، كاليهود بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم ولكنهم أهل توسط واعتدال، وأحب الأمور إلى الله تعالى أوسطها.
فائدة: قال في المغرب: الخيار جمع خير وهم خلاف الأشرار، والوسط بالتحريك اسم العين ما بين الجوانب، كمركز الدائرة، وبالسكون ما بين الطرفين من الأماكن المبهمة، ولا يقع إلا ظرفا تقول: جلست في وسط الدار بالفتح، وجلست وسط الدار بالسكون.
قوله: (التهور)، هو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة.
قوله: (روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون) إلى آخره. أخرجه البخاري والترمذي والنسائي والبيهقى في الشعب من حديث أبى سعيد وهو هنا مروي بالمعنى، لا باللفظ.
قوله: (وهذه الشهادة) إلى أخره. اختيار لأن المراد بقوله، عليكم شهيدا أي مزكيا لكم شاهدا، بعدالتكم، وهو أحد القولين في الآية. والثاني أن المراد، أنه حجة عليهم لا يطالب بشهيد كما يطالب به سائر الأنبياء.
قوله: (وقدمت الصلة) إلى أخره، وهو مبني على ما اختاره. قال الطيبي: هو من باب قصر الفاعل على المفعول، أي لا يتجاوز

(2/334)


تزكية الرسول - صلى الله عليه وسلم - والشهادة بعدالة أحد سواهم.
قوله: (فإنه عليه السلام كان يصلى إليها بمكة، فلما هاجر أمر بالصلاة/ إلى الصخرة تاليفا لليهود)، هو في حديث البراء بدون أخره، وأخرجه ابن جرير، وابن أبى حاتم عن ابن عباس، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير أن يوجه وجهه كيف يشاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتاب.
قوله: (لقول ابن عباس: كانت قبلته بمكة بيت المقدس، إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه، أحد الضميرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر لبيت المقدس، والأثر أخرجه البيهقي من حديث مجاهد، عن ابن عباس، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه).
قوله: (فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ) وهو الجهة التي كان عليها، أي ومارددناك إلى ما كنت عليه.
قوله: (وعلى الثاني: المنسوخ) يعني أنت الآن على ما ينبغي أن تكون عليه، وما كنت عليه قبل هذا كان أمرا عارضا.
قوله: (ينكص)، النكوص الأحجام عن الشيء.
قوله: (فإن قيل) إلى آخره، الشيخ سعد الدين: حاصل السؤال

(2/335)


أن التعلم يشعر بحدوث العلم في المستقبل، وعلمه أزلى. وأجاب بوجوه ثلاثة. حاصل الأول: إن المراد علم مقيد بالحادث، فالحدوث راجع إلى القيد، وحاصل الثاني: التجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص، وفي قوله: أشد دلالة بينه على أن ذلك ليس باعتبار حذف المضاف وحاصل الثالث: التجوز بإطلاق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز، فإن قيل: إن أريد التمييز في الوجود العيني فهو حاصل قبل التحويل أو في الوجود العقلي، فحاصل في علم الله بل عينه، وغير مسبب على علم الله في علم المخلوق، فكيف يعبر عن التمييز في علم المخلوق، أجيب بأن المراد الأول، ولاخفاء في أنه لا يكون إلا بعد الوجود، أعني التمييز، وفي الكشاف في موضع آخر، وجه رابع، وهو التمثيل أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم. انتهى.
وفي غيره وجه خامس، أنه إن أريد بالعلم الجزاء أي ليجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن، وفي كلام العرب يذكر العلم، نحو: أنا أعلم، بمن قال لك: أريد عصاك، والمعنى: أنا أجازيه على ذلك قال أبو حيان: ويؤكد كونه بمعنى التمييز، تعديه بمن، لأن العلم لا يتعدى بمن، إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز، هو الذي يتعدى بمن.
قلت: ويؤيده أيضا، أنه الوارد عن ابن عباس، أخرجه ابن جرير، بسند صحيح عنه، في قوله: (إلا لنعلم) قال: إلا لتمييز أهل اليقين

(2/336)


من أهل الشك.
قوله: (والعلم، إما بمعنى المعرفة) والله تعالى، لا يوصف بها، قلنا: ذاك لشيوعها فيما يكون مسبوقا بالعدم، وليس العلم الذي بمعنى المعرفة كذلك، إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين، أو
معلق لما في (من) من معنى الاستفهام. رده أبو البقاء، بأنه حينئذ لا يبقي لمن ما يتعلق به لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بيتبع، لأنها في المعنى متعلقة بيعلم، وليس المعنى أي فريق يتبع. وأجاب الطيبي، والشيخ سعد الدين بأنه حال من فاعل يتبع، أو مميزا عنه بدلالة فحوى الكلام.
قوله: (واللام هي الفاصلة) أي الفارقة بين أن المخففة والنافية، لا بينها وبين المشددة على ما وقع في تفسير الكواشي.
قوله: (وقرئ لكبيرة بالرفع، فتكون كان زائدة): قال أبو حيان: هذا ضعيف لأن كان الزائدة لا عمل لها، وهنا قد اتصل بها الضمير، فعملت فيه، ولذا استكن فيها، والذي ينبغي أن يجعل لكبيرة خبر مبتدأ محذوف، أي لهي كبيرة، فالجملة خبر كان. وقال الشيخ سعد الدين: إذا أراد، (إن كانت مع اسمها مزيدة): كانت كبيرة: خبراً بلا مبتدأ، وأن المخففة واقعة بلا جملة، ومثله خارج عن القياس والاستعمال، وإن أراد، إن كانت وحدها مزيدة والضمير باق على الرفع بالابتداء فلا وجه لاتصاله واستكانه، وغاية ما يتحمل، أنه لما وقع بعد كانت وكان من جهة المعنى في موقع اسم كان جعل متصلا مستكنا تشبيها بالاسم، وإن كان مبتدأ تحقيقا والأوجه في هذه القراءة أن يجعل في كانت ضمير

(2/337)


القصة، ويقدر بعد اللام مبتدأ، أي وإن كانت القصة للتحويلة كبيرة. انتهى.
قوله: (الثابتين) إنما قيد الذين هدى الله بالثابتين، لأنه مقابل لقوله: ممن ينقلب على عقبيه، لما روى (أنه عليه الصلاة والسلام لما وجه إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتوا)؟ إلى آخره. أخرجه الشيخان عن البراء، وأحمد والترمذي والحاكم، عن ابن عباس.
قوله: (قد نرى، أي ربما) زاد في الكشاف، ومعناه كثرة الرؤية، كقوله: قد أترك القرن مصفرا أنامله. قال أبو حيان: رب على مذهب المحققين للتقليل، فقوله: فمعناه كثرة الرؤية مضاد لمدلوله، ثم هذا المعنى الذي ادعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ.
لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة، وهذا التركيب، أعنى تركيب قد مع المضارع، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب الذي هو مطاوع التقليب وفعله قلب، وقال الطيبي والشيخ سعد الدين: أن أصل قد في المضارع للتقليل، وقد استعيرت هنا للتكثير لمناسبة التضاد، كرب، فإنها للتقليل ثم تستعار للتكثير، وقال ابن المنير: إذا بالغت العرب عبرت عن المعنى بضد عبارته، ومنه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقع

(2/338)


في روعه، ويتوقع من ربه أن يحوله) إلى آخره. في الصحيحين من حديث البراء، (وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت). وروى ابن إسحاق من حديثه، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء، وينتظر أمر الله، وللنسائي، من حديثه، كان يحب أن يصلي نحو الكعبة، فكان يرفع رأسه إلى السماء، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ: عن أبي العالية، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لجبريل: وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال: ادع ربك، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل، والروع: بضم الراء القلب.
قوله: (أو فلنجعلنك على جهتها) قال الشيخ سعد الدين: من ولاه، دنى منه، ووليته إياه: أدنيته منه.
قوله: (ترضاها، تحبها) قال الطيبي: أي الرضى مجاز عن المحبة. الراغب. قيل، لم يقصد بقوله: ترضاها، إنك ساخط القبلة التي كنت عليها، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - ألقى في روعه أن الله يريد تغيير القبلة، فكان يتشوقه ويحبه، وقيل: تحبها، لأن مرادك لم يخالف مرادي وهذه منزلة يشد إليها أولو الحقائق، ويذكرون أنها فوق التوكل، لأن قضية التوكل الاستسلام لما يجري عليه من القضاء، كأعمى يقوده بصير،

(2/339)


وهذه المنزلة أن يحرك الحق سره بما يريد فعله.
قوله: (لمقاصد دينية) إلى أخره. قال الشيخ سعد الدين: أي أن ميله إلى الكعبة لم يكن من جهة هوى النفس، وإجابة الله إياه لم تكن لمجرد ميله، بل لموافقة إرادته وحكمته.
قوله: (والبعيد يكفيه مراعاة الجهة)، هذا اختيار من المصنف لأحد القولين في المذهب، والمصحح خلافه.
قوله: روى أنه - صلى الله عليه وسلم -، قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، أخرجه الشيخان من حديث البراء.
قوله: (ثم وجه إلى الكعبة في رجب قبل الزوال، قبل قتال بدر بشهرين)، أخرجه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، عن سعيد بن المسيب مرسلا، وليس فيه قبل الزوال، لكن يؤخذ من الحديث الآتي.
قوله: (وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسمى المسجد مسجد القبلتين، هذا تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - إماما، ولا هو الذي تحول في الصلاة.
أخرج النسائي عن أبي سعيد المعلى، قال: كنا نغدوا إلى (المسجد، فزرنا) يوما،

(2/340)


ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر فقلت: لقد حدث أمر فجلست، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فقلت لصاحبي: تعالى نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناهما، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس الظهر يومئذ. وأخرج أبو داود في الناسخ، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كانوا يصلون نحو بيت المقدس إلا أن القبلة قد تحولت إلى الكعبة، فمالوا كما هم ركوع إلى الكعبة، وأخرج الشيخان عن ابن عمر، قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.
قوله: (لتلصلب) الأساس، من المجاز، تصلب فلان في الأمر، إذا اشتد فيه.
قوله: (وبالغ فيه من سبعة أوجه)، وصلها الشيخ سعد الدين إلى أكثر: فإنه قال: لما في الكلام من وجوه المبالغة كالقسم واللام الموطئة، وإن الفرضية وإن التحقيقية واللام في حيزها، وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، وإذا الجزائية، وإيثار طريقة الظالمين. على أنك إذا ظالم أو الظالم، لإفادتها أن ذلك مقرر محقق، أنه معدود في زمرتهم وإيقاع الاتباع على ما سماه أهوالا.
قوله: (الضمير لرسوله الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يسبق ذكره)، قال أبو حيان: ليس كذلك، بل هذا من باب الالتفات، لعدم ضمائر الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - في الآيات السابقة، لكن الشيخ سعد الدين، حكى هذا، وقال: إنه ليس

(2/341)


بشيء، ولم يبين وجوه رده، وبينه الطيبي: فقال: الآيات السابقة وردت في شأن القبلة، وهذه وردت في شأنه - صلى الله عليه وسلم -، فليس بينهما مناسبة ومن ثم ابتدى بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} من غير عطف، فلو رجع الضمير إلى السابق أو هم نوع اتصال، ولم يحسن ذلك الحسن، وتقرير النظم أنه تعالى لما ذكر أمر القبلة، وقول السفهاء، وطعنهم مع علمهم أن التحويل حق، لأنه كان مذكورا عندهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى إلى القبلتين جاء بهذه الآية على سبيل الاستطراد بجامع المعرفة الجلية مع الطعن فيه، والدليل على أن هذه الآية مستطردة قوله بعد ذلك: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}.
قوله: (أو التحويل)، قال الطيبى: يريد أن نظم الآي السابقة والأتية تستدعيه، لأن الكلام فيها في أمر القبلة.
قوله: (عن عمر، أنه سأل عبد الله بن سلام) إلى آخره، أخرجه، الثعلبي، من حديث ابن عباس.
قوله: (تخصيص لمن عاند، واستثناء لمن آمن)، قال الطيبي: أي إخراج، فهو استثناء معنوي لا اصطلاحي، قال: ووجه ما ذكره، أن قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ} يدل من حيث المفهوم أن غير ذلك الفريق لا يكتمون.
قوله: (وإما خبر مبتدأ محذوف)، لم يبين كون اللام/ عليه لماذا وقد قال الطيبى: إنها للعهد، ولا يجوز أن تكون للجنس، لأنه لا معنى لقولك المذكور: جنس الحق الكائن من ربك، اللهم إلا على الادعاء كما في قولك: حاتم الجود. وقال الشيخ سعد الدين: إنها حينئذ للجنس كما

(2/342)


في، (ذلك الكتاب)، ومعناه أن ما جاءك من العلم أو ما يكتمون هو الحق، لا ما يدعون ويزعمون، ولا معنى حينئذ للعهد، ثم قال: ومما يجب التنبه له، أن ما ذكر في بيان العهد والجنس تقرير للحاصل المراد، لا تقرير لموقع مفردات الكلام فلا يتوهم أن في الأول حذف مبتدأ، ولا في الثاني حذف خبر هو متعلق من ربك مع موصول به.
قوله: (ومن ربك حال)، قال الشيخ سعد الدين: أي مؤكدة، مثل هو الحق مبينا.
قوله: (أو مفعول يعلمون) ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك. وجوز ابن عطية أن يكون بفعل محذوف تقديره: إلزم، ويدل عليه قوله بعده: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
قوله: (إما تحقيق الأمر)، أي بأن يكون الخطاب عاما. قاله الطيبي: قال: إنه أبلغ الوجهين لأن الخطاب من العظم بحيث لا يختص
بالخطاب أحد دون أحد.
قوله: (أو أمر الأمة) قال الطيبي: فيكون من باب: {يا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} عظم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه الخطاب إليه، والمراد أمته لأنه إمامهم وقدوتهم، اعتبارا لتقدمه وإظهاراً لرتبته.
قوله: (على الوجه الأبلغ) عبارة الكشاف: بألطف وجه. قال الشيخ سعد الدين: بمعنى أن من كانت أمة لك كان امتراؤد امتراءك.

(2/343)


وعندي: إن المصنف أشار إلى أبلغية، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (بخلاف) فلا تمتروا، وفلا تكونن ممتريا، على ما حققته في أسرار التنزيل.
قوله: (أي هو موليها وجهه أو الله موليها إياه) إلى أخره. الشيخ سعد الدين. يعني أن ضمير هو يجوز أن يكون لكل، والمفعول المحذوف وجهه. وأن يكون الله، والمفعول المحذوف ضمير كل. واختار الأول لظهور المرجع، وأما على قراءة الإضافة، فضمير هو، لله قطعا: إذ لا ذكر للغير، واللام مزيدة في المفعول، لتقدمه. وكون عامله اسم فاعل، فلها جهتان. انتهى.
قال أبو حيان: ما ذكره الزمخشري في توجيه هذه القراءة فاسد، لأن العامل إذا تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام، لا يجوز، لزيد ضربته، ولا لزيد أنا ضاربه، لما يلزم فيه من تعدي الفعل المتعدي لواحد إلى اثنين. وقد أورد الشيخ سعد الدين، هذا السؤال، فأجاب عنه، فقال: فإن قيل: العامل مشتغل بالضمير، فكيف يعمل في المتقدم؟ قلنا العامل محذوف، والمذكور تفسير له. أي لكل جهة الله مول. موليها. انتهى. وقد قال الشيخ أبو حيان عقب كلامه السابق: ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل جهة يفسره. قوله: موليها: لتقديرنا زيداً أنا ضاربه، أي أضرب زيدا أنا ضاربه فتكون المسئلة من باب الاشتغال لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر.

(2/344)


تقول: زيداً مررت به، أي لابست زيداً، ولا يجوز، بزيد مررت به. انتهى. وليس هذا الذي قدره الشيخ سعد الدين، لأنه قدره متأخرا، والذي نفى أبو حيان تقديره أن يكون مقدما فتأمل، ثم قال أبو حيان: ولا يصح في توجيه هذه القراءة أن تكون لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها والأول الضمير المتصلة به العائد إلى أرباب القبلات لنص النحويين على أن هذه اللام لاتزاد فيما يتعدى لاثنين. انتهى. ووجهها بعضهم، بأن لكل وجهة مفعول أول على حذف المضاف، أي لكل صاحب وجهة، وضمير موليها مفعول ثان، وهو مردود بما رد به الذي قبله، وقال ابن عطية: اللام متعلقة بقوله: فاستبقوا، أي استبقوا الخيرات لكل وجهة، ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم به، فقدم المجرور على الأمر للاهتمام بالوجهة، قال أبو حيان: وهذا توجيه لا بأس به. وقال السفاقسي: لم ينص الزمخشري على أن الهاء ضمير المفعول، فيجوز أن يكون عنده ضمير المصدر أي مولي التولية، كقوله: (هذا سراقة للقرآن يدرسه، أي يدرس الدرس، ويدل عليه ذكره للمثال بعدها، ولو كانت ضمير المفعول لذكرها، وعلى هذا فيكون المثال مطابقا، لأن ضمير المصدر لا تأثير له في المسئلة، وقد ذكر الفارسي، هذا التخريج في الحجة، وجعل الهاء ضمير التولية، قال: وقول أبي حيان، إن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر، قد أجازه بعضهم وحمل عليه قراءة من قرأ. {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} ونقله أبو حيان نفسه في شرح التسهيل، قال: وقوله: إنهم منعوا زيادة اللام فيما يتعدى لاثنين تبع فيه ابن مالك في شرح الكافية، وفيه نظر فقد أطلق ابن عصفور وغيره أن المفعول يجوز إدخال اللام عليه للتقوية إذا تقدم على

(2/345)


العامل، ولم يقيدوه بأن يكون مما يتعدى إلى واحد، وقد قال الفارسي: إن هذه القراءة تصح على حذف مضاف، وهو أن يقدر، ولكل ذي وجهة هو موليها، المعنى: إنه مول لكل ذي وجهة وجهتهم. قال ابن مالك في تعليل المنع، لأنها إما أن تزاد فيها، فلا نظير له، أو في أحدهما. فيلزم الترجيح بدون مرجح، جوابه: إنها تزاد في المتقدم منهما، وترجح بضعف طلب عامل له لتقدمه، كما في الآية. انتهى.
قوله: (استثناء من الناس)، قال الشيخ سعد الدين: يعني به البدل لأنه المختار في غير الموجب، فيكون مجروراً.
قوله: (وسمى هذه حجة) إلى آخره. حاصله تقدير أن المراد بالحجة، المتمسك حقا كان أو باطلا. أشار إليه الشيخ سعد الدين. وقال الزجاج: مالك علي حجة إني الظلم؟ أي مالك على حجة ألبتة ولكنك تظلمني، وإنما سمى ظلمه حجة، لأن المحتج به سماه حجة.
قوله: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .... بهن فلول من قراع الكتائب).
وهو، من قصيدة للنابغة الذبياني، والفلول: كسور في حد السيف، واحدها فل بالفتح. والقراع الضراب، والكتائب: جمع كتيبة، وهي: الجيش والبيت: من تأكيد المدح بما يشبه الذم.
قوله: (وإراداتي اهتداءكم)، فسر به لاستحالة حقيقة الترجي.
قوله: (لئلا يكون) العطف عليه هو الصواب إذ لا حاجة إلى

(2/346)


التقدير، مع وجود علة مصرحة يصح العطف عليها، ورجحه أبو حيان، قال: ولا يضر الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه من متعلق العلة الأولى.
قوله: (وفي الحديث، تمام النعمة، دخول الجنة)، أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والترمزي، من حديث، معاذ بن جبل.
قوله: (وعن علي، تمام النعمة، الموت على الإسلام)، أخرجه.
قوله: (متصل بما قبله)، الكاف على هذا للتشبيه قطعا.
قوله: (أو بما بعده)، إلى آخره. قال أبو حيان: الكاف على هذا يحتمل أن تكون للتشبيه، وأن تكون للتعليل، قال: وهو، الأظهر، قال: ثم هذا القول، قد رده مكي، لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله، لاشتغاله بجوابه، قال: وما ذكره مكي، ليس بشيء.
قوله: (قدمه باعتبار المقصد، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل) وجهه أبو حيان بأن المراد بالتزكية هنا، التطهير من الشرك)، وهناك الشهادة بأنهم خيار أزكياء وذاك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل، وفيه نظر.
قوله: (واشكروا لي ما أنعمت به عليكم)، قال أبو حيان: إشارة إلى: أن أشكر، يتعدى/ لواحد بحرف جر والآخر بنفسه. ثم إنه ينشد هنا قول القائل:
ولو كان يستغني عن الشكر منعم

(2/347)


لرفعة شأن أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره .... فقال اشكروني أيها الثقلان
قوله: (بل هل أحياء)، قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس هو عطفا على القول، بل هو أضراب على نهيهم إلى الأخبار بهذه الجملة. وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مندرجا تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. قال: لكن الأول أرجح، لقوله بعد: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}.
قوله: (وهو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد) إلى آخره.
الراجح: أن حياتهم بالجسد، ولا يقدح في ذلك عدم الشعورية من الحي كما أوضحته بأدلته في كتاب البرزخ، وأعظم دليل ذلك: أن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات، المؤمنين والكفار بالإجماع فلو لم تكن حياة الشهيد بالجسد لاستوى هو وغيره ولم يكن له ميزة، فقوله: ولكن لا تشعرون).
أي: بحياتهم بأجسادهم، لكون ذلك من المغيب عنكم. ولذا قال ابن جرير في تفسيره: لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء.
قوله: (وعن الحسن، أو الشهداء) إلى آخره. وفي صحيح مسلم: عن ابن مسعود مرفوعا (أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش).
وأخرج أحمد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشهداء

(2/348)


على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا)).
قوله: (والآية نزلت في شهداء بدر): أخرجه ابن منده في كتاب الصحابة، من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبى صالح، عن ابن عباس.
قوله: (وكانوا أربعة عشر)، حارثه بن سراقة، ورافع ابن المعلي، وذو الشمالين ابن عبد عمرو الخزاعي، وسعد بن خيثمة، وصفوان بن بيضاء، وعاقل بن البكير الليثي، وعبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام، وعمير بن أبي وقاص، وكان سنة ستة عشر أو سبعة عشر عاما وعوف ومعوذ ابنا عقراء، ومبشر بن عبد المنذر، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، ويزيد بن الحارث.
قوله: (عطف على بشيء)، قال الشيخ سعد الدين: هذا وجه نظر إلى تنكير نقص.
قوله: إذا مات ولد العبد، الحديث. أخرجه الترمذي من حديث أبي موسى، وحسنه.

(2/349)


قوله: (كل شيء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة)، أخرجه ابن أبي الدنيا: في كتاب العزاء من حديث عكرمة مرسلا، بهذا اللفظ. وأخرجه الطبراني في الكبير موصولا، من حديث أبي أمامة بلفظ: ((ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة)، وله شواهد مرفوعة وموقوفة.
قوله: (وجمعها للتنبيه على كثرتها)، الشيخ سعد الدين: جمع الصلوات للتكرير، كالتنبيه في لبيك، بمعنى أنه لا انقطاع لرأفته وذلك، لأن حمل الصلوات على عدة من ذلك، ثلاثة فما فوقها، مما ليس له كبير معنى.
قوله: (من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه)، قال الطيبي: ما وجدته في الكتب المعتبرة.
قلت: أخرجه، ابن أبي جاتم، والطبراني، والبيهقي في شعب

(2/350)


الإيمان: من حديث ابن عباس.
قوله: (علما جبلين)، واللام فيهما لازمة للغلبة.
قوله: (وهي العلامة)، في الصحاح: الشعائر، أعمال الحج، وكل ما جعل علما على طاعة الله، قال الأصمعي: الواحد شعيرة، وقيل شعارة.
قوله: (كان إساف)، إلى قوله: (فنزلت)، أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير، عن الشعبي، وهو مرسل. وأوله؛ إن وثنا يسمى: إسافا، ووثنا يسمى: نائله. وزاد في آخره، قال، فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثا، وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث بمعنى ذلك.
قوله: (وبه قال أنس وابن عباس)، أخرج ابن جرير من طريق عاصم الأحول، قال: قال أنس بن مالك: الطواف بينها تطوع، وأخرج من طريق عطاء عن ابن عباس قال: لا جناح عليه ألا يطوف بهما. وأخرج الطبراني من وجه آخر، قال: لاجناح عليه أن يطوف بهما، فمن ترك فلا بأس.
قوله: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي)، أخرجه بهذا اللفظ أحمد، من حديث حبيبه بنت أبي تجراة، والطبراني، من حديث

(2/351)


ابن عباس.
قوله: (صفة مصدر محذوف)، أي تطوعا.
قوله: (أو بحذف الجار)، يؤيده قراءة ابن مسعود، بخير، وبه جزم أبو حيان.
قوله: (أي الذين يتأتى منهم اللعن من الملائكة والثقلين) هو، قول قتادة والربيع: أخرجه عنهما ابن جرير. وأخرج عن/ عكرمة، أنهم كل شيء، حتى البهائم والخنافس، والعقارب، وأخرج عن مجاهد والضحاك، إنهم دواب الأرض، ويؤيده ما أخرجه، ابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي جاتم، عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، في جنازة، فقال: إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، فتسمعه كل دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} يعني دواب الأرض، فهذا تفسير مرفوع عن صاحب النبوة فينبغي أن يوقف عنده، ولا يتعداه، فإن قلت: جمع العاقل يأباه. قلت: هو على حد {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.

(2/352)


قوله: ((عطفا على محل اسم الله لأنه فاعل في المعنى). قال أبو حيان: هكذا خرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين وهذا الذي جوزوه ليس بجائز: لما تقرر في العطف على الموضع من أن من شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع، لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لـ (أن) والفعل والذي يظهر خلافه، لأن المراد الاستقرار، لا الحدوث، كقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، فإنه ليس معناه، ألا أن يلعن الله على الظالمين. وقولهم: ذكاء الحكماء، فليس المعنى في ذلك ونحوه على الحدوث وتقدير المصدر منحلا، لأن والفعل بل هو مثل قولهم، له وجه القمر، وشجاعة الأسد فأضيفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع الأسد. قال: فالصواب أن يخرج على إضمار فعل، أي ويلعنهم، أو على العطف على لعنة الله، على حذف مضاف، أي ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه، بإعرابه، أو على الابتداء، والخبر محذوف، أي يلعنوهم.
قوله: (أو النار)، إلى أخره. أقول لك: أن تجعل عائداً إلى اللعنة مرادا بها النار، فيكون استخداما لا إضمارا له قبل الذكر.
قوله: (تقرير الوحدانية) قال الإمام: لأنه لما قال: وإلهكم إله واحد أمكن أن يخطر ببال أحد، هب أن إلا هنا واحد فلعل إله غيرنا مغاير لإلاهنا، فأزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق. الشيخ سعد الدين: لا إله إلا هو، بحسب صدر الكلام، نفى لكل إله سواه، وبحسب الاستثناء إثبات له ولألوهيته لأن الاستثناء من النفي إثبات، سيما إذا كان بدلاً،

(2/353)


فإنه يكون هو المقصود بالنسبة، ولهذا كان البدل الذي هو المختار، في كل كلام تام غير موجب بمنزلة الواجب في هذه الكلمة، حتى لايكاد يستعمل لا إله إلا الله بالنصب، ولا إله إلا إياه. فإن قيل: كيف يصح أن البدل هو المقصود، والنسبة إلى البدل فيه سلبية؟ قلنا: إنما وقعت النسبة إلى البدل بعد النقض بإلا، فالبدل هو المقصود بالنفي المعتبر في المبدل منه لكن بعد نفيه، ونفي النفي إثبات.
قوله: (وما سواه: إما نعمة أو منعم عليه) الشيخ سعد الدين: فإن قيل: الكفر والمعصية وسائر القبائح ليست بنعمة، ولا منعم عليها. قلنا: هي كلها من حيث القابلية والفاعلية وما يرجع إلى الوجود والتشبيه نعمة، ومرجع الشر والقبح إلى العدم.
قوله: (وهما خبران، أي: لابد لان، إذ لابدل للبدل، قاله الشيخ سعد الدينز وقال أبو حيان يجوز أن يكون الرحمن بدلا من هو.
قوله: (قيل: لما سمعه المشركون) إلى آخره، أخرجه الفريابي في تفسيره، وسعيد بن منصور في سننه والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الضحى مفصلا.
قوله: (وإنما جمع السموات وأفرد الأرض)، لأنها طبقات متفاصلة بالذات، مختلفة بالحقيقة، بخلاف الأرض) هذا قول الحكماء، وأما أهل السنة، فالأرضون عندهم طبقات متفاصلة بالذات، بين كل

(2/354)


أرض وأرض مسيرة خمسمائة عام، كذا وردت به الأحاديث والآثار، وقد استوعبتها في كتابي الذي سميته بالهيئة السنية في الهيئة السنية، قال أبو حيان: تكلم أهل الهيئة هنا بتخاليط كثيرة أخذوها بعقولهم، لا أصل لها في الشرع، وذكر بعض أهل البلاغة النكتة في إفراد الأرض نقل جميعها من حيث اللفظ، وهو: أرضون، ولهذا لما أريد ذكر جميع الأرضين. قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه، لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع في القرآن مفرده، لثقله وخفة الجمع كالألباب.
قوله: (أي ينفعهم، أو بالذي ينفعهم) أي: ما، إما مصدرية أو موصولة، والباء على الأول: للسبب، وعلى الثاني للحال.
قوله: (قدمه على ذكر المطر والسحاب، لأن منشأهما البحر)، هذا قول الحكماء، وقد وردت الأحاديث بخلاف ذلك أوردتها في الكتاب المشار إليه، وحاصلها أن السحاب من شجرة تثمره في الجنة، والمطر من بحر تحت العرش.
قوله: (وقرئ بضمتين)، لم يذكر أبو حيان هذه القراءة.
قوله: (عطف على أنزل) إلى أخره.
قال أبو حيان: لا يصح عطفه على أنزل ولا على أحياء لأنه على التقديرين يكون في حيز الصلة، فيحتاج إلى ضمير يعود على الموصول، وتقديره: وبث به فيها وحذف هذا الضمير لا يجوز، لأن شرط جوازه وهو مجرور بالحرف أن يجر الموصول بمثله، وهو مفقود هنا،

(2/355)


والصواب أنه على حذف الموصول أي وما بث، لفهم المعنى، وفي ذلك زيادة فائدة وهو جعله أية مستقلة، وحذف الموصول جائز شائع، في كلام العرب، وإن لم يقسه البصريون فقد قاسه غيرهم، وخرج عليه آيات من القرآن.
قوله: (مع أن الطبع يقتضي أحدهما)، قال الطيبي: يعني صعوده إن كان لطيفا خفيا ونزوله إن كان كثيفا.
فائدة: أخرج أبو الشيخ ابن حبان، في كتاب العظمة، عن قتادة، قال: كان آدم عليه الصلاة والسلام يشرب من السحاب.
قوله: (وعنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها)))، قال الشيخ ولى الدين العراقي: لم أقف عليه.
قلت: لم يرد في هذه الآية ولا بهذا اللفظ، وإنما أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، في تفاسيرهم، وابن أبي الدنيا، في كتاب التفكر، وابن حبان في صحيحه عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أنزل الله علي الليلة، إن في خلق السموات واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب، ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) وأخرج ابن أبي الدنيا، عن سفيان رفعه، قال: (من قرأ أخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله، قعد بإصبعه عشرا) قيل للأوزاعي: فما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرأهن وهو يعقلهن.
قوله: (واعلم أن دلالة هذه الآيات)، إلى أخره، فإذا تأملت ما ذكره المصنف في تقرير الاستدلال بهذه الآيات عرفت صحة قول حجة الإسلام الغزالي، رضي الله تعالى عنه: ليس في الإمكان أبدع من هذا

(2/356)


العالم، وانزاح عنك ما ركب قلوب المعترضين من كلام الجهل، وقد ألفت في ذلك كتاب تشييد الأركان، فلينظر، فإن فيه نفائس.
قوله: (لقوله: إذ تبرأ)، زاد أبو حيان: ولقوله: يحبونهم، فأتى بضمير العقلاء.
قوله: (ولم يعلم هؤلاء الذين ظلموا)، إشارة إلى أنه من وضع الظاهر موضع المضمر للنداء عليهم بالظلم.
قوله: (وللحال)، إلى أخره. رجح الحالية، في، (وباؤوا) والعطف، في: (وتقطعت) ووجهه الشيخ سعد الدين: بأن العطف في ورأوا يؤدي إلى إبدال، إذ رأو العذاب من إذ يرون العذاب، وليس فيه كبير فائدة، ولأن الحقيق بالاستعظام والاستقطاع، هو تبرؤهم في حال رؤية العذاب، لا هو نفسه وأما تقطع ما بينهم من الوصل والأسباب، فمستقل في ذلك لا تبع للتبروء.
قوله: (مثل ذلك الإراء) تقدم ما فيه، في: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال الشيخ سعد الدين: واعتبر المصدر مجردا عن التاء، لئلا يحتاج في تذكير اسم الإشارة إلى تأويل، وقد روى إراء، وإراءة كإقام الصلاة وإقامة.
قوله: (نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس) ليس كذلك إنما نزلت في المذكورين في آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

(2/357)


آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}، وأما هذه الآية، فإنما نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل، ونحوها، كما ذكرت ابن جرير، وغيره، ويوضح قوله بعد: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} كما ذكر مثل ذلك في المائدة في قصة تحريم البحائر: ونحوها. وأما والمؤمنون الذين حرموا، رفيع الأطعمة والملابس: فلم يقع منهم هذا القول ولهذا صدرت هذه الآية، بيا أيها الناس، وآية المائدة بيا أيها الذين أمنوا، ويؤيده أيضا، خطاب المؤمنين بعد انقضاء قصة الكافرين لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
قوله: (حلالا مفعول كلوا) قال أبو حيان: (من) على هذا لابتداء الغاية متعلقة بكلوا. وكذا قال الشيخ سعد الدين.
قوله: (ومن للتبعيض) قال أبو حيان: هو خاص بجعل حلالا حالا، وكذا قال الشيخ سعد الدين. قالا: ومن حينئذ، في موقع المفعول، أي كلوا بعض ما في الأرض.
قوله: أو الشهود المستقيمة): رده الشيخ سعد الدين، بأن ماليس كذلك، إما حلال بلا شبهة، فلا مانع منه، أو لا، فخارج بقيد الحلال، ولهذا فسره في الكشاف بالطاهر من كل شبهة. وأجاب أبو حيان عن الأول: بأن طيبا يكون صفة لحلالا، مؤكدة أو مبينة، لأن الحلال ما

(2/358)


كان مستلذا لا مستقذرا.
قوله: (وقرئ بضمتين: وهمزة جعلت ضمة الطاء كأنها عليها)، أي على الواو. والواو المضمومة قد تقلب، مثل أقيت وأجره. وفيه توجيه أخر، أنه جمع خطاه، من الخطأ إن كان سمع، وإلا فتقديرا، وعليه الأخفش.
قوله: (واستعير الأمر)، إلى آخره: الشيخ سعد الدين: يشير إلى أنه استعارة تبعية، ويتبعها المؤمنين. إلى أنهم بمنزلة المأمورين له، بناء على أن الأمر العلو. قوله: (وعدل عن الخطاب)، إلى آخره.
الشيخ سعد الدين: أي صرف عنهم الخطاب.
وذكروا بلفظ الغيبة لنداء الآخرين على ضلالتهم وأنهم أحقاء بأن يعرض عنهم ويصرف عن خطابهم لفرط جهلهم، فأندفع ما يوهم من أن ترك الالتفات والجرى على الخطاب أنسب بالنداء على ضلالتهم. واختار الطيبي: أن الآية عامة في الكفرة، وقررت بوجه مناسب للنظام، ذكرته في أسرار التنزيل.
قوله: (وقيل: في طائفة من اليهود) إلى آخره.
أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وسمى قائل ذلك، رافع بن خارجة ومالك بن عوف، الشيخ

(2/359)


الشيخ سعد الدين: يعني أن الضمير للناس على طريقة الالتفات، لكن في المراد بالناس الذين يقال لهم هذا القول، قولان. قيل المشركون. وقيل اليهود.
قوله: (الواو للحال أو العطف)، الأول: قاله الزمخشري، والثاني قاله ابن عطية، وصرح بأنها لعطف جملة كلام على جملة. قال أبو حيان: والقولان يجتمعان، فإن الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق شرطية، فإذا قيل: اضرب زيدا ولو أحسن إليك، المعنى: وإن أحسن إليك وكذا أعط السائل ولو جاء على فرس. فلو هنا للتنبيه على أن ما بعدها غير مناسب لما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدل على أن المراد وجود الفعل في كل حال، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل، ولذلك لا يجوز اضرب زيداً ولو أساء، ولا أعطو السائل، ولو كان محتاجا، قالوا: وفي الآية ونحوها عاطفة على حال مقدرة والمعطوف على الحال (حال)، فصح أنها حالية وعاطفة.
قوله: (على حذف مضاف) إلى آخره، أي إما عند المشبه أو المشبه به، والأرجح في الآية قول ثالث: وهو أنها من الاحتباك، وهو حذف جزء من كل طرف أثبت نظيره في الآخر، والتقدير: ومثل الذين كفروا معك يا محمد، كمثل الناعق من الغنم، وهذا هو الذي اختاره الكرماني شيخ الزمخشري.
وقال: إنه أبلغ ما يكون من الكلام، وقد نص عليه سيبويه، وقرره

(2/360)


ابن طاهر والشلوبين، وابن خروف، وقالوا: إنه من بديع كلام العرب.
قوله: (إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب)، قال الطيبي: بأن يكون المعنى، ومثلهم في دعائهم الأصنام فيما لا جدوى فيه، كمثل الناعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. قال: وهذا أحسن الوجوه المذكورة في الكتاب وأوفق لتأليف النظم، وذلك لأن العاطف في: (ومثل)، يستدعى معطوفا عليه، والمحسن أن يعطف على جملة، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ} الآية.
إذا عطف على قوله: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} على سبيل البيان، فيكون المراد بالذين كفروا إياهم وضعا للمظهر موضع المضمر للإشعار بغلبة عدم الاهتداء وسلب العقول نعيا على المخاطب وتسجيلا على ضلالهم. وفي عطف الجملة الاسمية على الفعلية الإيذان بأن المضارع في قوله: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}، المراد به الاستمرار.
قوله: (يقول الله: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)، أخرجه الطبراني في مسند الشاميين والبيهقي في شعب الإيمان، والديلمي من حديث أبي الدرداء.

(2/361)


قوله: (والحديت ألحق بها " ما أبين من حي ")، أخرج أبو داود، والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة)).
قوله: (أو استثناه الشرع)، أي في حديث، أحلت لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال. أخرجه ابن ماجة والحاكم، من حديث ابن عمر.
قوله: (إنما خص اللحم بالذكر) إلى آخره. قال ابن عطية: خص اللحم ليدل على تحريم عينه، ذكى أم لم يذك.
قوله: (بالاستئثار)، قال الشيخ سعد الدين: أي طلب أن يؤثر نفسه على ذلك المضطر الآخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الأخر.
قوله: (المراد قصر الحرمة) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: فهو قصر إفراد، إن كان الخطاب للمؤمنين الذين حرموا المستلذات أو قلب، إن كان للكفار الذين حرموا السوائب ونحوها. وعليهما: هو إضافي لا حقيقي.

(2/362)


قوله: (أكلت دما إن لم أرعك بضرة .... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
هو من أبيات الحماسة، لأعرابي تزوج امرأة فلم توافقه، فقيل له: إن حمى دمشق سريعة في موت النساء، فحملها إلى دمشق، وقال هذا الشعر.
وقبله: دمشق خذيها واعلمي أن ليلة .... تمر بعودي نعشها ليلة القدر
وبعده: أمالك عمر إنما أنت حية .... إذا هي لم تقتل تعش آخر الدهر
ثلاثين حولا لا أرى منك راحة .... ليهنك في الدنيا لبا قمة العمر
قوله: (أكلت دما، قال التبريزي: أجود الوجوه في معناه. أي قتل لي قتيل فأخذت ديته، ويجوز أن يكون المراد أصابه جدب وحاجة، أو يعنى الدم دم الحية وهي سم، وارعك: أفزعك، وبعيدة مهوى القرط: كناية عن طول العنق.
قوله: (يعني الدية) قال الطيبي: قيل المراد المعلمين، وهو الدم والصوف يؤكل في الجذب، أي وقعت في الجدب.
قوله: (ومعنى في بطونهم: ملء بطونهم)، قال الشيخ سعد

(2/363)


الدين: بيان لحاصل المعنى، وأما التحقيق، فهو إنه جعل في البطن بتمامه كل الأكل بمنزلة ما لو قيل: جعل الأكل في البطن أو في بعض البطن، فهو ظرف متعلق بأكل، لا حال مقدرة على ما في تفسير الكواشي.
قوله: (كلوا في بعض بطونكم تعفوا) تمامه:
فإن زمانكم زمان خميص.
قال الزمخشري، في شرح أبيات الكتاب: تعفوا أي عن السؤال.
قوله: (عبارة عن غضبه عليهم قال الشيخ سعد الدين: لما ثبت بالنصوص من أن الله يسألهم، والسؤال كلام حمل نفي الكلام على ما ذكر. فهو كناية. قلت: بل هو على ظاهره، ونصوص السؤال محمولة على أنه على ألسنة الملائكة.
قوله: (وما تامة) إلى آخره. فيها قول رابع، إنها موصوفة وما بعدها صفة، والخبر محذوف وخامس، إنها هنا نافية، والمعنى: إن الله ما أصبرهم، أي ما جعلهم يصبرون.
قوله: (والأول، أوفق)، قال أبو حيان: لأن السابق إنما هو نفى كون البر تولية الوجه، والذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى.
قوله: (والمراد بالكتاب، الجنس) أي: القرآن، قال الطيبي: هذا إيماء إلى بيان النظم وأن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المذكور في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، فإن أريد له الجنس كان هذا مثله، أو العهد فكذلك، لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين

(2/364)


الأول.
قوله: (سئل أي الصدقة أفضل)، الحديث، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة.
قوله: (أو للمصدر) أي: الإيتاء.
قوله: (صدقتك على المسكين) الحديث، أخرجه انترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث سلمان بن عامر.
قوله: (لأن السبيل يرعف به)، أي يقدمه، من رعف تقدم، وفرس راعف سابق، ورعف أنفه سبق دمه.
قوله: (للسائل حق وإن جاء على فرسه)، أخرجه أحمد من حديث حسين بن علي، بلفظ: وإن جاء على فرسه، وأخرجه أبو داود، من حديث علي، وابن راهويه في مسنده، من حديث فاطمة

(2/365)


الزهراء، والطبراني، من حديث الهرماس ابن زياد، وأخرج أحمد في الزهد، عن سالم ابن أبي الجعد، قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: إن للسائل حقا وإن أتاك على فرس مطوق بالفضة.
قوله: (ومن الحديث، نسخت الزكاة كل صدقة)، وأخرجه ابن شاهين، في الناسخ والمنسوخ، من حديث علي مرفوعا، (نسخت الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة وقال: هذا حديث غريب. وفي إسناده، المسيب، ابن شريك، ليس عندهم بالقوى، وأخرجه الدارقطني والبيهقي.
قوله: (من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان) أخرجه ابن

(2/366)


المنذر في تفسيره، عن أبي ميسرة.
قوله: (كان في الجاهلية بين حنين): الحديث. قال الشيخ ولى الدين العراقي: لا أقف عليه. قلت: أخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، وهو مرسل.
قوله: (لما روى عن على، أن رجلا قتل عبده) الحديث. أخرجه ابن أبى شيبة.
قوله: (وروي عنه: أنه قال: من السنة ألا يقتل مسلم بذي عهد، ولا حر بعبد)، أخرجه ابن أبي شيبة.
قوله: (وليس له دعوى نسخه، بقوله: النفس بالنفس، لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن)، قد وقفت على جواب، عن أية.
(النفس بالنفس، يقيس حداً ذكره ابن العربي من أئمة المالكية، في كتابه أحكام القرآن، قال: الآية أريد بها الأحرار المسلمون

(2/367)


لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملة واحدة، ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا كلهم أحراراً، لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأنبياء، لأن الاستعباد من الغنائم ولم يحل لغيره، وعقد الذمة لبقاء الكفار، ولم يقع ذلك في عهد نبي، بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب، وآخر ذلك في هذه الأمة رحمة. انتهى.
ولم يجب أحد عن الآية بأحسن من هذا الجواب ولا أنفس.
قوله: (وهو ضعيف) عجب من المصنف، كيف ينسبه إلى الحنفية ويضعفه: وهو الأصح في مذهب الشافعي، والمصنف من أتباعه.
قوله: (إذ الواجب على التخيير) إلى آخره. ليس بشيء، لأن وجه الاستدلال من الآية، أنه رتب الدية على العفو بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} فدل على أن القتل العمد لم يوجب سوى القصاص، وأن الدية لا يوجبها إلا العفو عليها، قال الشيخ سعد الدين: لا يخفى أن النصوص صريحة في إيجاب القصاص على التعيين، ثم تجويز العفو.
قوله: (قيل: كتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى، العفو مطلقا)، أي من غير دية ولا قصاص، أخرج ابن جرير عن قتادة، قال: إن الله رحم هذه الأمة وأطعمهم الدية وأحلها لهم ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، وليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة العفو

(2/368)


والقتل والدية، وقد استوفيت طرق الحديث في كتاب المعجزات والخصائص.
قوله: (لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية)، أخرجه أبو داود، من حديث سمرة.
قوله: (كلام في غاية الفصاحة)، قد بينت ما فيه من وجوه البلاغة الكثيرة في أسرار التنزيل.
قوله: (روى عن علي) إلى أخره. أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف، وسعيد بن منصور في سننه.

(2/369)


والحاكم في مستدركه، (وعن عائشة) إلى أخره. أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور.
قوله: (من مرفوع بكتب)، إلى آخره. قال أبو حيان. الأحسن ما قاله بعضهم: إن نائب الفاعل لكتب: الجار والمجرور، وهو عليكم، والوصية خبر متبدأ مقدر جوابا لسؤال، وكأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت؟ فقيل الوصية قال: وهذا أقل تكلفا من غيره.
قوله: (من يفعل الحسنات الله يشكرها) هو، لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وقيل: لكعب بن مالك. وتمامه: (والشر بالشر عند الله مثلان).
قوله: وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بأية المواريث، أخرجه أبو داود في ناسخه عن ابن عباس، وابن أبى شيبة، وابن جرير، عن ابن عمر.

(2/370)


قوله: وبقوله، عليه الصلاة والسلام (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) الحديث. أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه، من حديث عمرو ابن خارجه. قال الطيبي: ظاهره، أن الآية والحديث نسختا آية الوصية، والحق أن آية المواريث هي الناسخة، والحديث مبين لكونها ناسخة، لأن الحديث، لا ينسخ الكتاب.
قوله: (وفيه نظرا)، إلى آخره. حكاد الشيخ سعد الدين، ثم قال: والقول بأن المراد النسخ بمجموع الآية والحديث، بمعنى أن النسخ بالآية والحديث بينه، خلاف الظاهر وإن كان له وجه صحة على أصول الحنفية، حيث يجعلون مثل هذا الحديث في حكم المتواتر، ويسمونه المشهور، ويجوزون به نسخ الكتاب. قال: والظاهر أن الوصية للوارث المدلول عليه، بقوله: (للوالدين والأقربين)، كانت واجبة بحكم هذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم، فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الأنصباء فهم منها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة، كأنه قيل: إن الله أوصى بنفسه تلك الوصية، ولم يفوضها إليكم، فقام الميراث مقام الوصية، وكان هذا مع نسخ وجوب الوصية بآية المواريث، لأن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم. انتهى.
قوله: (حقا على المتقين): مصدر مؤكد، أي حق ذلك حقا.

(2/371)


قال أبو حيان هذا تأباه القواعد النحوية، لأن ظاهر قوله على المتقين أن يتعلق بحقا أو يكون في موضع الصفة وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به، فلأن المصدر المؤكد لا يعمل، إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري والفعل أو المصدر الذي هو مدلول من اللفظ بالفعل.
قال السفاقسي: ويتخصص أيضا بالمعمول فيخرج عن التأكيد. قال أبو حيان: وأما جعله صفة لحقا، أي حقا كائنا على المتقين، فذلك يخرجه عن التأكيد، لأنه إذ ذاك تخصيص. قال الحلبي: لا يلزمه ذلك، فإنه لا يقول إن على المتقين يتعلق به، وقد نص على ذلك أبو البقاء.
قوله: (أي توقع وعلم). قال الشيخ سعد الدين: فإن التوقع وإن لم يستلزم الجزم لا ينافيه، فجاز الجمع بينهما، وإن كان استعماله فيما لا جزم لوقوعه أظهر وأكثر.
قوله: (فعليه بالصوم). الحديث أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود.
قوله: (يهال هيلا): في الصحاح، هيلت، الدقيق: صببته من غير كيل.
قوله: (الوقوع الفصل بينهما) أي والفصل بين المصدر ومعموله لا يجوز. وقال الشيخ سعد الدين: بأنه جائز بناء على القول بجوازه في الظرف وإن لم يجز في غيره.

(2/372)


قوله: (وهو عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر). أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن معاذ بن جبل، لكن فيه، إن ذلك كان قبل نزول هذه الآية، وأنه نسخ بها.
قوله: (أو بـ كما كتب، على الظرفية)، قال أبو حيان: هذا خطأ، لأن الظرف محل للفعل والكتابة ليست واقعة في الأيام، وإنما الواقع فيها متعلقها. فلو قال إنسان لولده الذي ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة. لم يكن يوم الجمعة ظرفا لسرني، لأنه ليس محل السرور.
قوله: (أو على أنه مفعول ثان لكتب على السعة)، قال أبو حيان: هذا أيضا خطأ، لأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا لكتب، وقد تبين بطلانه.
قوله: (روي أن رمضان كتب على النصارى)، إلى آخره، أخرجه ابن جرير، عن السدي.
قوله: (أو راكب سفر)، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن كلمة على استعارة تبعية، شبه تلبسه بالسفر باستعلاء الراكب واعتلائه على الركوب، يتصرف كيف يشاء، وإلا فمجرد الظرف لا يدل إلا على معنى الكون والحصول، أي كائنا على سفر.

(2/373)


قوله: (وبه قال أبو هريرة)، أخرجه ابن جرير، وصرح عنه، بأنه لو صام في السفر لم يصح، ولزمه القضاء بعد الإقامة.
قوله: (ورخص لهم في ذلك أول الأمر)، إلى قوله: ثم نسخ أخرجه البخاري، عن سلمة بن الأكوع.
قوله: (وقرئ يطوقونه، هو بالبناء للمفعول، من طوق.
قوله: (يطوقونه، بالإدغام)، أي بإدغام التاء في الطاء من يتطوقونه.
قوله: (ويطيقونه، الأولى يضم الياء وتخفيف الطاء، والثانية، بفتح الياء وتشديد الطاء، كالياء بعدها فيهما. هذا مقتضى ما ذكره المصنف في أصلهما: ولم يذكر أبو حيان الأولى هكذا إنما ذكرها كالثانية بتشديد الطاء غير أن الياء الأولى مضمومة بناء للمفعول، وجعلهما معا يطيق يتطق والأصل: يطيوق. اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء.
قوله: (أو بدل من الصياء)، قال أبو حيان: هو بعيد من وجهين، كثرة الفصل بين البدل والمبدل، وكونه على عكس بدل الاشتمال، لأنه في الغالب يكون بالمصادر من الذوات، نحوه {عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}. وهذا بالذات من المصدر، قال: ويمكن توجيهه، لأنه حذف

(2/374)


مضاف، أي صيام شهر، فلذا قيده المصنف به. قال الشيخ سعد الدين: وإذا قدر المضاف فهو بدل كل أو على أنه مفعول {وَأَنْ تَصُومُوا}، قال أبو حيان: هذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصل بينه، وبين معمول الصلة بالخبر، وهو خير، ولا يجوز أن يقال: أن يضرب شديد زيداً، بخلاف أن يضرب زيداً شديد. وقد اعتمد الشيخ سعد الدين وقال: هذا الإيراد سيما معمول هو بمنزلة جزء من الكلمة، لأن المصدر كجزء من صلتها، وقال الطيبي: أقصى ما يقال فيه: إنه وإن كان مصدرا في المعنى فصورته صورة الفعل، فجاز الفصل بالنظر إلى الصورة.
قوله: (ورمضان مصدر رمض)، قال أبو حيان: يحتاج في تحقيق، أنه مصدر إلى صحة نقل، لأن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم، بل إن جاء فيه كان شاذاً والأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا.
قوله: (وأضيف إليه الشهر، وجعل علما)، قال الشيخ سعد الدين: أي مجموع المضاف والمضاف إليه، وإلا لم يحسن إضافة شهر إليه، كما لا يحسن إنسان زيد، ولهذا لم يسمع شهر رجب، وشهر شعبان قال: وبالجملة فقد أطبقوا أن العلم في ثلاثة أشهر هو مجموع المضاف والمضاف إليه، شهر رمضان، وشهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وقال أبو حيان: ما ذكره الزمخشري من أن علم الشهر مجموع اللفظين غير معروف، وإنما اسمه رمضان، فإذا قيل فيه: شهر رمضان، فهو كما يقال: شهر المحرم، ونحو ذلك: ثم نبه على أنه علم جنس.

(2/375)


قوله: (كما منع داية)، إلى آخره، قال الطيبي: جعل المركب من شهر رمضان علما ومنع من الصرف، كما جعل ابن داية مع الإضافة علما، ومنع من الصرف، وداية البعير: موضع القتب.
قوله: (من صام رمضان)، تمامه: (إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
فائدة: أورد في الكشاف: من حديث: (من أدرك رمضان فلم يغفر له) قال الشيخ سعد الدين: ولا يوجد له تمام، فيما اشتهر من الكتب ويحتمل أن تكون من استفهامية، والمعنى: ما أدرك أحد فلم يغفر له، بمعنى أن كل من أدركه غفر له، فيكون كلاما تاما. انتهى. وليس كما قال، والحديث تمامه معروف، أخرجه البزار، من حديث عبد الله بن الحارث ابن جزء الزبيدي مرفوعا.
(أتاني جبريل، فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، ثم أبعده، قل آمين).

(2/376)


قوله: (فعلى حذف المضاف)، قال الشيخ سعد الدين: وجاز الحذف من الإعلام، وإن كان من قبيل حذف بعض الكلمة، لأنهم أجروا مثل هذا العلم مجرى المضاف والمضاف إليه، حيث أعربوا الجزاء.
قوله: (وإنما سموه بذلك: إما لارتماضهم فيه)، قال الشيخ سعد الدين: من أرتمض الرجل من كذا اشتد عليه وأقلقه.
قوله: (أو الارتماض الذنوب)، فيه ورد بهذا حديث مرفوع، أخرجه الإصبهاني في الترغيب، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما سمى رمضان، لأن رمضان رمض الذنوب).
قوله: (أو لوقوعه أيام رمض الحر حين، ما نقلوا أسماء الشهور في اللغة القديمة، قال أئمة اللغة: كان أسماء الشهور في اللغة القديمة:
موتمر، تاجر، بصان، خوان، حنين وزنه، الأصم، وعل، ناتق، عاذل، هواع براك على الترتيب. قال السجاوندي: سمي المحرم لتحريم القتال فيه، وصفر، لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب، والربيعان، لارتباع الناس فيهما. أي إقامتهم، وجماديان: لجمود الماء، ورجب لترجيب العرب إياه، أي تعظيمه، وشعبان لشعب القبائل، ورمضان لرمض الفصال، وشوال لشول أذناب اللقاح وذو القعدة، للقعود فيه عن الحرب، وذو الحجة، لحجهم فيه. وقد ورد نحوه، عن أبي عمرو بن

(2/377)


العلاء، وقال في صفر، لأنهم كانوا ينزلون فيه بلاداً يقال لها صفر. ورجب، لأنهم كانوا يرجبون فيه النخل.
قوله: (أنزلت صحف إبراهيم)، الحديث أخرجه أحمد والطبراني، من حديث واثلة بن الأسقع.
قوله: (الفاء لوصف المبتدأ بما ضمن معنى الشرط)، نظيره: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}، قال أبو حيان: وهذا القول ليس بشيء، لأن الذي هنا صفة لعلم ولا يتخيل فيه شيء ما من العموم ولمعنى الفعل الذي هو أنزل لفظا ومعنى، بخلاف آية الموت، فإن الموت فيها ليس معينا، بل فيه عموم، وصلة الذي فيه مستقبلة وهي تفرون.
قوله: (ما يهدي إلى الحق)، قال الشيخ سعد الدين: أي من جنس ما هدى الله به، فليس إشارة إلى الهدى السابق، وفي ذلك دفع لسؤال التكرار.
قوله: (من أمر الشاهد بصوم الشهر)، قال الشيخ سعد الدين: ذكر في تفصيل الملل دون تعليم كيفية القضاء وفي تطبيق العلل ورد كل منها إلى معلل بالعكس فلم يقع بإزاء الشاهد بالصوم عليه، والجواب: أن أمر الشاهد بصوم الشهر توطئة وتمهيد، وفي الأمر بمراعاة العدة تعليم لكيفية القضاء، لأن معناه: فليراع عدة ما أفطر ليصومها من شهر

(2/378)


فيخرج عن العهدة.
قوله: (ويجوز أن يعطف على اليسر)، قال أبو حيان: لا يمكن هذا إلا بزيادة اللام وإضمار أن بعدها أو يجعل اللام لمعنى أن فلا تكون أن مضمرة بعدها وكلاهما ضعيف.
قوله: (وما يحتمل المصدر والخبر أي الذي هداكم إليه) فيه. أمور. أحدهما: أن التعبير بالخبر عن الموصول عبارة غريبة لا تعهد في كلام المعربين. الثاني: أن أبا حيان قال: إن في جعلها بمعنى الذي بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين حذف العائد، وحذف مضاف يصح به الكلام أي على إتباع الذي هداكم، الثالث: قال أبو حيان الأولى تقدير العائد منصوبا، أي: هداكموه. لا مجرورا بإلى ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً.
قوله: (أي فقل لهم، إني قريب)، قال أبو حيان: لابد من تقدير القول، لأنه لا يترتب على المشروط القريب، إنما يترتب عليه الاخبار عن القرب.
قوله: (هو تمثيل) إلى آخره، الشيخ سعد الدين: يعني أن القرب حقيقة في القرب المكاني. وقد استعمل هنا في الحال الشبيه بحال من قرب مكانه، مع اعتبار عدة أمور، فيكون لفظ قريب استعارة تبعية تمثيلية.
قوله: (روى أن أعرابيا)، الحديث، أخرجه، ابن جرير وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو الشيخ في تفاسيرهم، والدارقطني، في المؤتلف والمختلف من حديث معاوية بن حيدة.

(2/379)


قوله: (روى إن المسلمين)، الحديث: أخرجه أحمد من حديث كعب بن مالك، وأبو داود، من حديث، معاذ ابن جبل نحوه، مخصصا بما بعد اليوم، وأخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وفيه: إذا صلوا العشاء، كما قال المصنف.
قوله: (وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء)، الشيخ سعد الدين: فإن قيل: لم لا يجعل من أول الأمر كناية عن الإفضاء، كما يشير إليه كلام صاحب الأساس. قلنا: لأن المقصود هو الجمال، والإفضاء أيضا كناية عنه.
قوله: (وإيثاره هنا لتقبيح ما ارتكبوا)، جواب عن سؤال مقدر، وهو أنه لما ترك التصريح بلفظ الجماع إلى الكناية كان ينبغي ألا يكنى يمثل هذا اللفظ، فأجاب أنه لقصد استهجان ما صدر عنهم قبل الإباحة حتى لو كان لفظ أدل على القبح منه لكان مناسبا، وإن المقام مقام الإباحة، ألا ترى إلى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، وكذا في قوله: {فَلَا رَفَثَ} تنفيرا لهم عما نهوا عنه في الحج.
قوله: (إذا ما الضجيج ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا

(2/380)


عزاه الشيخ سعد الدين، إلى الجعدي. والضجيج: المضاجع: وثنى عطفها: أمال شقها. تثنت: مالت.
قوله: (والاختيان أبلغ من الخيانة، لأن الزيادة في البناء تدل على الزيادة في المعنى).
قوله: (غبش الليل) بفتح الغين المعجمة والموحدة وشين معجمة بقية الليل، وقيل: ظلمة آخر الليل.
قوله: (واكتفى) إلى آخره. حاصله أنه جعل من الفجر بيانا لقوله: (الخيط الأبيض)، وحذف قوله: من غبش الليل المبين للخيط اكتفاء، قال أبو عبيد: المراد بالخيط الأسود، الفجر الأول، وإنه من باب وصف الشيء بما يؤول إليه، لأن الفجر يصير إلى السواد بعد وجوده، والمعنى: حتى يتبين لكم الفجر الثاني من الفجر الأول، وبهذا حصل الجواب عن سؤال الشيخ عز الدين بن عبد السلام، إن التشبيه في الفجر ظاهر، لأن طوله أكبر من عرضه، وأما الظلام فكرة فكيف يشبه بالخيط، وعلى هذا فيمكن أن يجعل من الفجر بيانا للخيط الأبيض والخيط الأسود معا، بناء على استعمال المشترك في معنييه، ويكون المقصود به دفع وهم من ظن أن المراد حقيقة الخيطين، فأبان أن المراد بهما الفجر بقسيميه، من صادق وكاذب وعلى هذا فلا حذف في الآية ولا اكتفاء، ويكون من باب اللف والنشر المجمل، لكن الإجمال هنا في النشر لا في اللف، على عكس ما تقدم. في قوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وهو نوع غريب لم أر من نبه عليه.
قوله: (وبذلك) أي بذكر (من الفجر).
قوله: (خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل)، قال الطيبي: لأن

(2/381)


الاستعارة أن يذكر أحد طرفي التشبيه، ويراد الطرف الآخر، وهنا الفجر هو المشبه، والخيط الأبيض المشبه به، ولا يقال: بقي الأسود على الاستعارة لترك المشبه، لأنه لما كان في الكلام ما يدل عليه فكأنه ملفوظ.
قوله: (ويجوز أن تكون من، للتبعيض)، قال الطيبي: فيكون بدلاً من الخيطين أي مبين لكم بعض الفجر، وهو أول ما يبدو، وقال الشيخ سعد الدين: المعنى، على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضا من الفجر، وعلى البيان: حال كونه هو الفجر، فأعربه حالا.
قوله: (وما روى أنها نزلت)، إلى أخره. أخرجه البخاري والنسائي من حديث سهل بن سعد. فقول المصنف، إن صح: فيه ما فيه.
قوله: (في تجهيز المباشرة) إلى آخره. أول من استنبط هذا الحكم من الآية، محمد بن كعب القرظي من أئمة التابعين، ووجهه: أن المباشرة إذا كانت مباحة إلى الانفجار لم يكن الاغتسال إلا بعد الصبح.
قوله: (فينفي صوم الوصال): قد استنبط ذلك من الآية النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخرجه أحمد، من حديث بشر بن الخصاصة، قال الطيبي:

(2/382)


ووجهه إنه تعالى: جعله غاية للصوم، وغاية الشيء منقطعه ومنتهاه، وما بعد الغاية يخالف ما قبله. وإنما يكون كذلك إذا لم يبق بعد ذلك صوم.
قوله: (وعن قتادة)، إلى آخره. أخرجه، ابن جرير.
قوله: (وفيه دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد) قال صاحب التقريب: ليس فيها ما يدل على ذلك. قال الشيخ سعد الدين: بل ربما يدعى دلالة الآية على أن الاعتكاف قد يكون في غير المسجد، وإلا لما كان للتقييد فائدة قال: ويجاب بأن المباشرة في الاعتكاف حرام إجماعا فلو لم يكن ذكر في المساجد لبيان أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لزم اختصاص حرمة المباشرة باعتكاف يكون في المسجد، وهو باطل وفاقا، قال: وأيضا التقييد يدل على أن له مدخلا في علة الحكم، كالحكم المتعلق به: إما تحقق الاعتكاف أو حرمة المباشرة فيه. والثاني منتف إجماعا، فتعين الأول. قلت: هذا الذي ذكره الشيخ سعد الدين، ذكره الشيخ محي الدين النووي في شرح المهذب، فقال: وجه الدلالة من الآية أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد، لأنها منافية للاعتكاف، فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد.
قوله: (تلك حدود الله) أي الأحكام التي ذكرت، قال الشيخ سعد الدين: من، (باشروا)، (وابتغوا)، (وكلوا)، (واشربوا) للإباحة، (وأتموا الصيام) للإيجاب، (ولا تباشروا) وهذا للتحريم، قال: والنهي عن الإتيان والقربان في الحرام ظاهر، وأما في الواجب، والمندوب، والمباح فمشكل. وعن التعدي بالعكس، وما ذكر من كون منع القربان مبالغة في منع التعدي، وكون التعدي عبارة على ترك الطاعة والعمل

(2/383)


بالشرائع ومجاوزة حيز الحق إلى حيز الباطلة يدفع الإشكالين، لكن لابد من أدنى تأويل في اللفظ وهو أن تلك الأحكام ذوات حدود فلا تقربواها لئلا يؤدي إلى تجاوزها والوقوع في حيز الباطل.
وقال الطيبي: تسمية المحارم بالحدود ظاهرة وأما الأوامر: فلأنه تعالى منع الناس عن مخالفتها. وقال أبو حيان: تلك، الإشارة إلى ما تضمنته أية الصيام من أولها إلى آخره، وقد تضمنت عدة أوامر، والأمر بالشيء نهى عن ضده، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي. ثم جاء آخرها النهي عن المباشرة في الاعتكاف، فأطلق على الكل حدود تغليبا للمنطوق به، وإلا فالمأمور بفعله، لا يقال فيه: فلا تقربوها.
قوله: (إن لملك حمى)، الحديث، أخرجه البخاري، من حديث النعمان بن بشير.
قوله: (ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه، فيستقيم منع القربان).
قوله: (أي لا يأكل بعضكم)، يشير إلى أن قوله: ولا تأكلوا أموالكم ليس بمقابلة الجمع بالجمع. كما في: اركبوا دوابكم بل المراد نهي كل عن أكل مال الآخر.
قوله: (أو نصب بإضمار أن): ضعفه أبو حيان، بوجهين، أحدهما: أنه على هذا يكون النهي عن الجمع، وهو لا يستلزم النهي عن كل على انفراد. وأجاب الشيخ سعد الدين، بأنه وإن لم يستلزمه لا ينافيه. والثاني: أن قوله: لتأكلوا علة لما قبله فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له، لأنه: مركب من شيئين لا تصلح العلة أن ترتب على وجودهما بل على وجود أحدهما، وهو الإدلاء فقط.

(2/384)


قوله: (روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض)، إلى قوله: فنزلت. أخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير مرسلا.
قوله: (إنما أنا بشر) الحديث، أخرجه الشيخان من حديث أم سلمة: (وألحن بحجته): يقوم بها من صاحبه وأقدر عليها. من اللحن، بفتح الحاء: الفطنة.
قوله: (سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم)، إلى آخره. قال الشيخ ولى الدين: لم أقف له على إسناد.
قلت: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، قال: سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية، وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فنزلت.

(2/385)


قوله: (كان الأنصار إذا أحرموا)، إلى آخره. أخرجه البخاري، من حديث البراء، وابن أبي حاتم، من حديث جابر.
قوله: (يناصبونكم) الجوهري: نصبت لفلان نصبا، عاديته، وناصبته الحرب مناصبة.
قوله: (دون غيرهم من المشايخ)، إلى آخره. هذا القول: أخرجه ابن جرير، من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.
قوله: (روى أن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إلى آخره، أخرجه ابن جرير، عن قتادة.
قوله: (فإما تثقفوني فاقتلوني) فمن أثقف فليس إلى خلود
أي إن تدركوني أيها الأعداء وقدرتم على قتلي فاقتلوني فإن من أدركته منكم فليس له طريق إلى الخلود، أي لا بقاء له بل أقتله. واسم ليس، ضمير راجع إلى (من).
قوله: (وقيل: معناه، شركهم) هذا القول هو المأثور، أخرجه، ابن جرير، عن مجاهد، والضحاك، وقتادة، والربيع، وابن زيد، ولم يرو غيره.

(2/386)


قوله: (خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب)، قال الطيبي: هذا الاختصاص يعلم من اللام في لله، ولهذا فسر الفتنة بالشرك لأنه وقع مقابلا له، قال: والذي يقتضيه حسن النظم وإيقاع النكرة في سياق النفي أن تجري فتنة على حقيقتها ليستوعب جميع ما يسمى فتنة، فيدخل فيها الشرك والقتال، والتخرب، وجميع ما عليه مخالفوا دين الإسلام فيطابقه. قوله: (ويكون الدين لله) لأن معناه يكون الدين كله لله، كما جاء في سورة الأنفال، ويكون تعميما بعد تخصيص، لأن الفتنة حملت أولاً على الشرك ولو أريد بها عين الفتنة السابقة لكان الواجب أن يجاء بها معرفة، لأن الشيء إذا أعيد أضمر أو كرر بعينه، وضعا للمظهر موضع المضمر، فإن النكرة إذا أعيدت ولم يرد بها التكرار كانت غير الأول، بخلاف المعرفة، ولأن قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ} يقتضي مفعولاً أعم مما اقتضاه. قوله: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)، لأن الشيء إذا كرر وجيء بالثاني أعم من الأول كان أحسن من العكس، لئلا يجيء الكلام مبتورا. انتهى.
قلت: تفسير الفتنة هنا بالشرك هو المأثور، أخرجه ابن جرير، من طرق، عن ابن عباس وعن مجاهد، والربيع، وقتادة والسدي، وابن زيد ولم يرو غيره.
قوله: (أي فلا تعتدوا على المنتهين). إلى آخره. قال أبو حيان: هذا لا يصح إلا على تفسير المعنى، وأما على تفسير الأعراب فلا يصح، لأن المنتهين ليس مرادفا لقوله: {إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي

(2/387)


، ولا فرق بين الدلالتين قال: ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب. ألا ترى قوله: إلا على الظالمين، فوضعه موضع المنتهين. وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الأعراب وليس كذلك، لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل، وما أكرم إلا العالم.
قوله: (قاتلهم المشركون عام الحديبية)، قال الطيبي في هذه الرواية نظر، لأن عام الحديبية لم يكن فيه قتال، بل كان صدا على ما رويناه في الصحيحين.
قوله: (روى عن أبي أيوب)، الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمزي، والحاكم وصححه، وابن حبان.
قوله: (كالتضرة والتسرة)، هما بالإدغام، والأصل: التضروة والتسروة، وهي المسرور. ومن نظائرها: التنصبة، شجرة، والتنقلة، ولد الثعلب.
قوله: (ويؤيده قراءة من قرأ وأقيموا)، هي قراءة، علي،

(2/388)


أخرجها ابن جرير عنه، وابن ماجه، وابن حبان.
قوله: (روى جابر)، الحديث، أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني.
قوله: (روى جابر، أن رجلا قال لعمر)، الحديث، أخرجه أبو داود، والنسائي، وأخرجها أيضا، عن النخعى، وعلقمة، والبيهقي في سننه، وسمى الرجل الصبى بن معبد.
قوله: (وقيل: إتمامها (أن تحرم بهما من دويرة أهلك)، أخرجه الحاكم في المستدرك. وابن أبي حاتم، وابن جرير، عن علي، وأخرجه ابن جرير، عن سعيد بن جبير، وطاوس.
قوله: (ولقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو)،

(2/389)


أخرجه ابن أبي حاتم، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم، وصححه.
قوله: (من كسر أو عرج)، الحديث: أخرجه، أبو داود، والترمذي، من حديث الحجاج ابن عمرو. وعرج، بالفتح، أصابه شيء في رجليه فمشى مشى الأعرج، وعرج، بالكسر: إذا صار أعرج.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: لضباعة) الحديث، أخرجه الشيخان، والنسائي، من حديث عائشة، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عباس.
قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام، ذبح عام الحديبية بها)، أخرجه البخاري، من حديث ابن عمر وغيره.

(2/390)


قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام، قال لكعب في عجرة:)، الحديث. أخرجه مالك، والبخاري، من حديثه.
قوله: (ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق)، عند الأكثرين، الخلاف خاص بأيام التشريق أما يوم النحر، فلا يجوز صومه بالاجماع، ثم المنع من صوم المتمتع أيام التشريق بهذا الحديث الأصح في المذهب. وقال النووي في شرح المهذب، الأرجح في الدليل: جوازها وصحتها له، لأن الحديث في الترخيص له ثابت في صحيح البخاري، وهو صريح في ذلك، فلا عدول عنه.
قوله: (وقرئ: سبعة بالنصب، عطفا على محل ثلاثة أيام، قال أبو حيان: خرجه الحوفي وابن عطية على إضمار فعل، أي صوموا، أو فليصوموا، قال: وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، لأن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز.
قوله: (فذلكة الحساب أي بذكر تفاصيله ثم يحمل، فيقال: فذلك كذا.
قوله: (وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كقولك: جالس الحسن وابن سيرين)، قال ابن هشام في المغنى: ذكر الزمخشري عند الكلام على قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}: إن الواو تأتي للإباحة، نحو: جالس الحسن وابن سيرين، وإنه إنما جيء بالفذلكة دفعا لتوهم

(2/391)


إرادة الإباحة في صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. وقلده في ذلك صاحب الإيضاح البياني، ولا نعرف هذه المقالة لنحوي، وقال البدر ابن الدماميني في حاشية المغني: بل هي معروفة لبعض النحاة، فقد قال السيرافي، في شرح الكتاب: ومما يقع فيه الواو بمعنى ما كان من التخيير، بمعنى الإباحة كرجل أنكر على ولده مجالسة ذوي الزيغ والريب فأراد أن يعدل به إلى مجالسة غيرهم، فقال: دع مجالسة أهل الريب وجالس الفقهاء والقراء، وأصحاب الحديث، فذلك كله بمعنى. هذا كلامه، قال: وقد رجع المصنف، عما قاله هنا، فقال، في حواشيه على التسهيل: إن أو تأتي للجمع كالواو، وقال: فإن قلت: كيف وافقت على أو في الإباحة بمنزلة الواو مع تفريق جماعة من حذاقهم، بين جالس الحسن وابن سيرين، وقولك: أو ابن سيرين؟ قلت: الصواب، ألا فرق، فإنه إذا قيل بالواو كانت للجمع بين المتعاطفين في معنى القائل وهو إباحة المجالسة، وكأنه قيل: أبحت لك مجالستهما ومن أبيحت له المجالسة لم تلزمه ولم يمتنع عليه أفراد أحدهما ولا الجمع بينهما، لأن معنى كون الشيء مباحا أنه لا حرج في فعله ولا في تركه، وإذا أبيح شيئان جاز لنا فيهما أربعة أوجه، وكذلك المعنى إذا ذكر أو. وكلهم ينص على ذلك مع أو، وقد بينا أنه مع الواو كذلك، لأن الإباحة إنما استفيدت من الأمر، قالوا: وجمعت بين الشيئين بالإباحة، انتهى. ثم أن المصنف ذكر لها ثلاث فوائد، وقد ذكرنا في أسرار التنزيل لها أكثر

(2/392)


(عشر فوائد).
قوله: (ذلك إشارة إلى الحكم المذكور عندنا، والتمتع عند أبي حنيفة)، قال أبو حيان: الأظهر في سياق الكلام، أن الإشارة إلى جواز التمتع، كما قال أبو حنيفة، لقوله: (لمن) لأن المناسب في الترخيص اللام، وفي الواجبات على.
قوله: (ففي الحج أقبح، كلبس الحرير في الصلاة، قال العلم العراقي: ومثله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}، {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، وأمثاله كثيرة.
قوله: (وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في الأولين بالرفع على معنى، لا يكونن رفث ولا فسوق. والثالث: بالفتح على معنى الإخبار بانتقاء الخلاف في الحج) قال أبو حيان: تأويله على ابن كثير وأبي عمرو أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث: على الإخبار بسبب البناء. فيه تعقب فإن الرفع والبناء لا يقتضيان شيئا من ذلك بل لا فرق بينهما في أن ما كان فيه كان مبنيا غاية ما فرق بينهما، أن قراءة البناء نص في العموم، وقراءة الرفع مرجحة له. وقال الحلبي: هذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحب هذه القراءة، إلا أنه أفصح على مراده. قال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكون رفث ولا فسوق، أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال، فأبو عمرو لم يجعل النفيين الأولين نهيا، بل تركهما على النفي الحقيقي، فمن ثم كان في كلامه هذا نظر. قال: والذي يظهر لي في الجواب عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: وقيل الحجة لمن رفعهما أن النفي فيهما ليس بعام، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعض الناس، بخلاف نفي

(2/393)


الجدال في أمر الحج، فإنه عام (لاستقرار قواعده) قال: وهذا يتمشى على قول النحويين أن لا العاملة عمل ليس لنفى الوحدة، والعاملة عمل إن لنفي الجنس، وقول بعضهم: المبنية، نص في العموم، وتلك ليست نصا، انتهى.
قوله: (وقيل: نزلت في أهل اليمن) إلى آخره، أخرجه البخاري، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عباس.
قوله: (وقيل: كان عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، إلى قوله: فنزلت)، أخرجه البخاري، عن ابن عباس، ومجنة بفتح الميم وكسر الجيم وتشديد النون سوق لكنانة بمر الظهران. وعكاظ: بضم العين المهملة وتخفيف الكاف، وظاء مشالة، سوق لقيس، وثقيف، بين بجيلة والطائف، وذو المجاز، بفتح الميم وتخفيف الجيم، أخره زاي، سوق لهذيل بناحية عرفة، على فرسخ منها.
قوله: (وعرفات: سمي به) إلى آخره، قال الفراء: لا واحد لعرفات، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد.
قوله: (وليس بعربي، وقال قوم: عرفة، اسم ليوم وعرفات اسم

(2/394)


البقعة، ولا خلاف في استعمال عرفات منونا، وإنما الخلاف، في كونه منصرفا أولاً. فالمصنف اختار صرف محض الثاني، للعلمية والتأنيث، واختار الزمخشري الأول لعدم الاعتداد بالتأنيث. أما لفظا فلان النافية ليست للتأنيث، كما هو ظاهر، وأما تقديرا فلان اختصاصها بجمع المؤنث يأبى تقدير التاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي التأنيث فهي كتأنيث ليست للتأنيث واختصت بالتأنيث فمنعت تقدير التاء. قال الشيخ سعد الدين: فهذه التاء بمنزلة: النعام لا يطير ولا يحمل الأثقال، قال: وفي قوله: كما في سعاد، إشارة إلى أن اسم لا، وإن كان لمؤنث حقيقة، فتأنيثه بتقدير التاء، فعلى هذا، لو جعل مثل بيت ومسلمات علما لا مرأة وجب صرفه لامتناع تقدير التاء. قال: ثم ما ذكر من امتناع تقدير التاء، لا ينافي كون الاسم مؤنثا بحسب الاستعمال، مثل وقفت بعرفات، ثم أفضت منها، لأن تاء الجمع وإن لم تكن لمحض التأنيث، على ما هو المعتبر، في منع الصرف لكنها للتأنيث في الجملة. انتهى.
قوله: (وإنما سمي الموقف عرفة، لأنه نعت لإيراهيم فلما أبصره عرفه)، أخرجه ابن جرير عن السدي.
قوله: (ولأن جبريل كان يدور به في المشاعر، فلما رآه قال: قد عرفت): أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب.
قوله: (ولأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا).
قوله: (ألا أن يجعل جمع عارف، أي جمع الذي هو جمع عارف

(2/395)


).
قوله: (مأزمي عرفه)، الجوهري: المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين، ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر الحرام وعرفه.
قوله. (روى جابر) إلى آخره أخرجه مسلم.
قوله: (كما علمكم) إلى آخره. الفرق بين المعنيين، إن الهداية في الثاني على إطلاقها، وفي الأول على الهداية، أي كيفية الذكر، والكاف على الثاني للتشبيه، وعلى الأول للتقييد، أي اذكروه على الوجه الذي علمكم ولا تعدلوا عنه، ومحل كما هداكم على المصدرية نصب محذوف الموصوف وعلى الكافة لا عامل له، كما لا معمول، لأنه لم يبق حرف جر، بل يفيد من جهة المعنى فقط. أبو حيان: الأولى الحمل على المصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر، قال: ويجوز أن تكون الكاف للتعليل على رأي من أثبته. ابن هشام: زعم الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن ما هنا كافة، وفيه إخراج الكاف عما ثنت لها من عمل الجر لغير مقتض.
قوله: (كانوا يقفون) إلى آخره أخرجه البخاري، عن عائشة.
قوله: (وثم تفاوت ما بين الإفاضتين)، قال الطيبي: فيه نظر، لأن إحدى الافاضتين، وهي الإفاضة من مزدلفة غير مذكورة في التنزيل، فلا يصح العطف عليها بثم قال: والجواب أنه لما كان قوله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس مرادا به التعريض، فكأنه قيل: أفيضوا من عرفات، ثم لا تفيضوا من مزدلفة، فإنه خطأ.
قوله: (كما في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم). قال أبو حيان: ليست الآية كالمثال الذي مثله، وحاصل ما ذكر أن ثم تسلب الترتيب وإن لها معنى غيره، سماه بالتفاوت والبعد لما بعدهما مما

(2/396)


قبلها، ولم يجر في الآية ذكر لإفاضة الخطأ فتكون ثم في قوله: جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم. وقال الحلبي: هذا تحامل، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين. وسيأتي له نظائر، وتمثيل هذه الأشياء لا يرد كلام مثل هذا الرجل. قال السفاقسي: يجوز بها إلى التراخي المعنوي لمشابهة التراخي الزماني لما بينهما من التفاوت فلم يثبت لها معنى آخر حقيقة.
قوله: (وقرئ الناس بالكسر)، أي وحذف الياء، كالقاض والهاد، وقرئ أيضا الناسي بإثباتها.
(وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم) إلى آخره. أخرجه ابن أبى حاتم، عن ابن عباس.
قوله: (أو أشد ذكرا) إما مجرورا) قال أبو حيان: جوزوا إعراب أشد وجوها اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعده تمييز بعد أفعل التفضيل، فلا يمكن إقراره تمييزاً إلا بهذه التقادير التي قدروها. ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله، نحو: زيد أحسن وجها، لأن الوجه ليس زيداً، فإذا كان من
جنس ما قبله انخفض نحو: زيد أفضل رجل، فعلى هذا، يقال: اضرب زيداً كضرب عمرو وخالدا أو أشد ضرب، بالجر لا بالنصب وكذا كان قياس الآية في بادئ الرأي أو أشد ذكر، فجوزوا في أشد، النصب على وجوه. أحدهما: أن يكون معطوفا على موضع الكاف في (كذكركم) لأنها نعت لمصدر محذوف، أي ذكراً كذكركم أو أشد، وجعلوا الذكر ذاكراً على جهة

(2/397)


المجاز، كما قالوا: شعر شاعر، قاله أبو علي وابن جني.
قلت: (وهذا الوجه فات المصنف). الثاني: أن يكون معطوفا على أبائكم بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم، على أن ذكراً من فعل المذكور. قاله الزمخشري. وهو كلام قلق، ومعناه: أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير: أو قوما أشد ذكرا من آبائكم، فكان القوم مذكورين والذكر الذي هو تمييز بعد أشد، هو من فعلهم أي من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم، ومعنى قوله: من آبائكم أي من ذكركم لآبائكم. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل الكون،
والكلام محمول على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشد ذكرا له من ذكركم لآبائكم ودل عليه، أن معنى فاذكروا الله، كونوا ذاكريه. قال أبو البقاء: وهو أسهل من الوجهين قبله، لما في الأول من المجاز، والثاني من القلاقة.
وجوزوا الجر في أشد على وجهين، أحدهما: بالعطف على ذكركم، قاله الزجاج، والثاني: بالعطف على الضمير المجرور، في كذكركم، قاله الزمخشري، ثم قال أبو حيان: وهذه الوجوه الخمسة كلها ضعيفة، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية: أنهم أمروا بأن ذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم أو أشد وقد ساغ لنا حل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون أشد منصوبا على الحال، وهو نعت لقوله: ذكرا لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، كقوله: لمية موحشا طلل. ولو أخر لقيل: أو ذكراً أشد، يعني من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك أو ذكراً أشد، معطوفا على محل الكاف من كذكركم ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً لقوله: فاذكروا الله وكذكركم في موضع الحال، لأنه في التقدير نعت نكرة. تقدم عليها، ويكون (أو أشد) معطوفا على محل الكاف، حالا معطوفة على حال، ويصير كقولك: اضرب مثل

(2/398)


ضرب فلان ضربا، والأصل ضربا مثل ضرب فلان وحسن تأخر ذكراً، إنه كالفاصلة في حسن المقطع، ولو تقدم لكان فاذكروا الله ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد، فكأن اللفظ يتكرر، وهم يجتنبون كثرة تكرار اللفظ، فلهذا المعنى وحسن القطع لآخر، لا يقال في الوجه الأول: إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو أو، وبين المعطوف الذي هو ذكرا بالحال الذي هو أشد، وهو غير ظرف ولا مجرور، ولا قسم، لأن الحال: شبيهة بالظرف، فيجوز ما جاز فيه، وهذا أولى من جعل ذكراً تمييزاً، لما في الأوجه السابقة من الضعف فينبغي أن ينزه القرآن عنها، انتهى كلام أبي حيان. وهو نفيس جدا ولو لم يكن في الكتاب إلا تحرير مثل هذا الموضع لكان جديراً بأن يهتم بتحصيله، وفي أمالي ابن الحاجب: قول الزمخشري: إنه معطوف على الضمير المجرور فيه العطف عليه من غير إعادة الجار، وذلك لا يجوز عنده. ورد قراءة حمزة والأرحام أقبح رد.
قوله: (ذكرا من فعل المذكور) يؤدى أن يكون أفعل للمفعول، وهو شاذ كما صرح به في المفصل لا يخرج عليه: سمع منه أشغل من ذات التحسين، والمعروف أن أفعل لا يكون إلا للفاعل، نحو اضرب الناس على أنه فاعل الضرب، فالوجه أن يقدر جملتين، أي فاذكروا الله ذكرا مثل ذكركم آباءكم، واذكروا الله في حال كونكم أشد ذكراً من ذكر آبائكم: فتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف، وأشد حالاً، وهذا أولى لأنه جرى الكاف على ظاهرها، ولا يلزم ما ذكروه إن المعطوف يشارك المعطوف عليه في العامل لأن ذلك في المفردات. انتهى. وأجاب الطيبي: عن الأول بأنه رد قراءة الأرحام لشدة الاتصال وصحح نحو مررت بزيد وعمرو

(2/399)


لضعف الاتصال وههنا إضافة المصدر إلى الفاعل وهو في حكم الانفصال، على أن من الجائز أن يكون الفاصل بين المعطوفين هو المصحح للعطف كما في العطف على المرفوع المتصل، وقد ذكر ابن الحاجب في شرح المفصل أن بعض النحويين يجيز في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف، لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار، لاستقلال كل منهما بمعناه ثم استشهد بالآية، وعن الثاني بأنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان أفعل من الذكر وبنى منه، بل إنما بنى مما يصح بناؤه منه للفاعل، وهو أشد، وجعل ذكر الذي بمعنى المذكور تمييزاً، كأنه قيل: أشد مذكوراً فهو مثل قولك: أكثر شغلا وأقبح عورا وزيد أشد مضروبية من عمرو، وعن الثالث، بأنه نظر إلى التوافق بين المعطوف والمعطوف عليه، وإلى جعله من عطف المفرد على المفرد، لا من عطف الجملة على الجملة، لأن جعل أحدهما مصدراً والآخر حالاً له عامل آخر مما يؤدي إلى تنافر النظام. انتهى. الشيخ سعد الدين. قوله: (ذكرا من فعل المذكور، تحقيقه أن المصدر عبارة عن أن مع الفعل، والفعل قد يوجد مبنيا للفاعل، أي أن ذكرا ويذكر: وقد يوجد مبنيا للمفعول أي أن ذكراً ويذكر. والمعنى على الأول كذكر قوم أشد ذاكريه آبائهم وعلى الثاني كذكركم قوما أشد مذكورية لكم.
قوله: (اجعل إتياءنا ومنحتنا في الدنيا) قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن المفعول الثاني متروك، لأن هم طالب الدنيا نفسها، كما أن هم طالب الدارين هي الجنة.
قوله: (وقول على، الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة).
قوله: (وقول الحسن، الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة الجنة)، أخرجه ابن جرير.
قوله: (يحاسب الخلق على/ كثرتهم وكثرة أعمالهم في قدر لمحة

(2/400)


)، قال الشيخ ولي الدين: لم أقف عليه، قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، إنما هي ضحوة قيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين، وأخرج ابن جرير، عن سعيد الصواف، قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس.
قوله: (القرابين، جمع قربان بضم أوله).
قوله: (يوم القر، وهو أول أيام التشريق، لأن الناس يستقرون فيه بمنى.
قوله: (أي الذي ذكره من التخيير)، قال الطيبي: فاللام إما للاختصاص نحو المال لزيد أو للتعليل، وقال الشيخ سعد الدين: بل هي للبيان كما في: (هيت لك) أي الخطاب لك.
قوله: (أو يعجبك) إلى آخره، قال أبو حيان: الظاهر تعلقه به لا على هذا المعنى، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدة حياته، إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف، فمقالته في الظاهر معجبة دائما لا تراه يعدل عن المقالة الحسنة إلى مقالة منافية لها، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله، وهو معنى قوله: (وهو ألد الخصام).
قوله: (شديد العداوة، والجدال للمسلمين، والخصام، المخاصمة)، أبو حيان: إن جعل الخصام مصدراً كما قال الخليل. جعل ألد الخصام للمفاضلة كأنه قيل: شديد الخصومة، وإن بقي على المفاضلة فلا بد من حذف مصحح لجريان المبتدأ على الخبر، أي وخصامه ألد الخصام، أو وهو ألد ذوي الخصام، أو يجعل هو ضمير الخصام يفسره سياق

(2/401)


الكلام.
قوله: (قيل: نزلت في الأخنس ابن شريق. إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن السدي.
قوله: (وقيل: في المنافقين كلهم) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
قوله: (من قولك، أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه). بالباء في المعتدي، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي جعلت أحدهما يصك الآخر.
قوله: (وجهنم علم)، قال أبو حيان: مشتقة من قولهم: ركية جهنام: أي بعيدة القعر، وأصله من الجهم، وهو الكراهة والغلظة، فالنون زائدة، فوزنه فعنل وما قيل من أن هذا البناء مفقود في كلامهم فهو مردود بهجنف: الظليم والزونك: القصير، لأنه يزوك في مشيته، أي يتبختر، وضغنط من الضغاطة وهي الضخامة وسفنج، ومنع صرفها للعلمية، وقيل: معرب، أي فارسي، وأصله كهنام فعربت بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف، والمنع على هذه للعجمة والعلمية.
قوله: (وقيل: ما يوطأ للجنب)، جعله أبو حيان على هذا القول جمع مزيد.
قوله: (وقيل: إنها نزلت في صهيب) إلى آخره، أخرجه عن

(2/402)


عكرمة نحوه، وورد من طرق عدة، إنها نزلت حين هاجروا وأدركوا فاقتدى منهم بماله، قاله الطيبي. والشيخ سعد الدين، وعلى هذا فيشرى بمعنى يشترى لا بمعنى يبيع.
قوله: (أو السلم، لأنها تؤنث كالحرب) قال أبو حيان: هذا التعليل ليس بشيء لأن التاء في كافة وإن كان أصلها للتأنيث، ليست فيها إذا كانت حالا له، بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى جميع، وكل كقاطبة وعامة، فلا بدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث. وقال ابن هشام في المغني: تجويز الزمخشري أن تكون كافة حالا من السلم، وهم، لأن كافة مختص بمن يعقل، ووهمه في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}، إذ قدر كافة، نعتا لمصدر محذوف أي رسالة كافة، أشد، لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل، إخراجه عما التزم فيه من الحالية، ووهمه في خطبة المفصل، إذ قال: محيط بكافة الأبواب أشد وأشد، لإخراجه إياه عن النصب ألبتة. انتهى.
قوله: السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
وهو للعباس بن مرداس، وقبله:

(2/403)


أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
قال الشيخ سعد الدين: من ابتدائية متعلقة بتأخذ لا بيانية، أو تبعيضية، أي تأخذ منها أبدا ما تحبه وترضاه، فلا تسأم من طول زمانها، والحرب بالعكس، إذ يكفيك اليسير منها، وعدة جرع من مشروبها، وقال الطيبي: الجرعة من الماء حسوة منه، يقول الصلح له مجال واسع ومنافع ما يرضى ببعض منها والحرب لها مضار لا تقاسى وقليل منها يهلك يحرضه على الصلح ويثبطه عن الحرب.
قوله: (والخطاب لمؤمني أهل الكتاب) إلى أخره، أخرجه، ابن جرير، عن عكرمة قال: نزلت في ثعلبة وعبدالله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم الليل بها. فنزلت.
قوله: (للدلالة عليه) إلى آخره. قال الطيبي: يعني دل على هذا القدر في الوجهين، قوله في الفاصلة السابقة: (إن الله عزيز)، لأنه صفة قهر وعليه أوقع العلم.
قوله: (أو الآتون على الحقيقة ببأسه)، قال الطيبي: وذكر الله على هذا تمهيد لذكر الملائكة كما في قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ

(2/404)


آمَنُوا}.
قوله: (وقرئ وقضاء الأمر عطفا على الملائكة) أي بالرفع
والجر معا.
قوله: (وقرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول) هي رواية عن نافع.
قوله: (وكم خبرية)، قال أبو حيان: كذا أجازه الزمخشري، وليس بجيد، لأن فيه اقتطاعا للجملة التي هي فيها من جملة السؤال، لأنه يصير المعنى، سل بني إسرائيل وما ذكر المسئول عنه، ثم قال كثيرا من الآيات أتيناهم فيصير هذا الكلام مفلتا مما قبله لأن جملة كم آتيناهم صار خبراً فلا يتعلق به سل، وأنت ترى معنى الكلام، ومصب السؤال على هذه الجملة، فهذا لا يكون إلا في الاستفهامية، ويحتاج في تقدير الخبرية إلى تقدير حذف وهو المفعول الثاني لسل، ويكون المعني: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ثم أخبر أن كثيراً من آيات آتيناهم.
قوله: (أو استفهامية) يقرره الشيخ سعد الدين، فإن قيل على تقدير الخبرية ما معنى السؤال، وعلى تقدير الاستفهام كيف يكون السؤال للتقريع، والاستفهام للتقرير ومعنى التقريع الاستنكار والاستبعاد، معنى التقرير التحقيق والتثبيت، قلنا على تقرير الخبرية فالسؤال عن حالهم وفعلهم في مباشرة أسباب التقريع وعلى تقدير الاستفهام فمعنى التقرير الحمل على الإقرار. (وهو لا ينافي التقريع، وكم آتيناهم)، قيل: في موضع المصدر، أي سلهم هذا السؤال، وقيل المفعول به وقيل: بيان للمقصود، كأنه قيل سلهم جواب هذا السؤال. وقيل: في موضع الحال،

(2/405)


أي سلهم قائلا: كم آتيناهم.
قوله: (ومحلها النصب على المفعولية)، أي المفعول الثاني لآتيناهم. وقال السهيلي: المفعول الأول: له.
قوله: (أو الرفع بالابتداء على حذف العائد)، أي من جمله آتيناهم التي هي خبره، والتقدير آتيناهموه أو آتيناهموها. قال أبو حيان: وهذا لا يجوز إلا في الشعر، فلا يخرج عليه القرآن من إمكان ما هو أرجح منه.
قوله: (أي آيات الله)، أي يريد أن ذكر النعمة هنا من وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظه السابق تصريحا بكونها نعمة لقصد مزيد التقريع، قاله الطيبي والشيخ سعد الدين.
قوله: (وعن كعب، الذي علمته من عدد الأنبياء) إلى آخره، ورد ذلك من حديث مرفوع، أخرجه أحمد وابن حبان، على أبي ذر، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا). قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير).
قوله: والمذكور في القرآن باسم العلم، ثمانية وعشرون. هم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وهود، ولوط، وموسى، وهارون، وشعيب، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وذو الكفل، وأيوب، ويونس عليهم الصلاة والسلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، فهؤلاء خمسة وعشرون، وقيل: إن يوسف المذكور في سورة غافر رسول آخر غير ولد يعقوب. وقيل: بنبوة ذي القرنين. وعزير، ولقمن، وتبع،

(2/406)


ومريم. فتكمل العدة التي ذكرها المصنف، من هؤلاء.
قوله: (يريد به الجنس)، إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: عموم النبيين لا ينافي خصوص الضمير العائد إليه بمعونية القرينة.
قوله: (أي الله أو النبي المبعوث أو كتابه). قال الشيخ سعد الدين: الأظهر عود الضمير في ليحكم إلى الكتاب. إذ لابد في عوده إلى الله من تكلف في المعنى، أي ليظهر حكمه، وإلى النبي من تكلف في اللفظ، حيث لم يقل ليحكموا وقال أبو حيان: الأظهر عوده إلى الله، والمعنى: أنه أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس، ويؤيده قراءة: لنحكم بالنون على الالتفات. ونسبة الحكم إلى الكتاب مجاز، كما أن إسناد النطق إليه في قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}، مجاز. انتهى.
قوله: (وفيها توقع)، قال الطيبي، نقلا عن الإقليد: إنما تضمنت معنى التوقع لأنها جعلت نقيضة قد، وفي قد معنى التوقع. تقول: قد ركب الأمير، لقوم ينتظرون ركوبه ويتوقعونه، فكذلك لما يركب ومعنى التوقع طلب وقوع الفعل مع تكلف واضطراب وكذلك قيل: الانتظار موت أحمر، وقولك: لما يركب: معناه ما وجد بعد وقوع ما كنت تتوقعه، وقال الشيخ سعد الدين: يعد قد متوقع أي منتظر الكون والمنتظر في لما أيضا هو الفعل، لا نفيه.
قوله: (هي مثل في الشدة)، الشيخ سعد الدين، لما سبق من أن لفظ المثل مستعار للحال: والقصة العجيبة الشأن.
قوله: (حكاية حال ماضية)، قال الطيبي: فائدتها، تصور تلك الحال العجيبة الشأن واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منه.
قوله: (استئناف على إرادة القول)، الشيخ سعد الدين: فإن قلت

(2/407)


: هلا جعل، {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}؟ مقول الرسول ومتى نصر الله مقول من معه على طريق اللف والنشر، قلت: أما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين، وأما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول ذلك في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة.
قوله: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
قوله: (عن ابن عباس، أن عمرو بن الجموح) إلى آخره. أخرجه ابن المنذر، عن مقاتل بن حيان. والهم بالكسر الشيخ الفاني.
قوله: (سئل عن المنفق، فأجيب ببيان المصرف، لأنه أهم)، الراغب. قيل: في مطابقة الجواب للسؤال، وجهان. أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ينفق؟ وعلى من ينفق؟ لكن حذف في حكاية السؤال. أحدهما، إيجازا ودل عليه الجواب بقوله: ما أنفقتم من خير، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء فلف أحدهما في الآخر وهذا طريق معروف في البلاغة. الثاني: إن السؤال ضربان، سؤال جدال: وحقه أن يطابقه جوابه، لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب رفيق يتحرى شفاء سقيم، فيبني المعالجة على ما يقتضيه المرض لا على ما يحكيه المريض.
قوله: (أو بمعنى الإكراه على المجاز)، قال أبو حيان: جعل

(2/408)


الثلاثي مصدراً للرباعي لا ينقاس.
قوله: (فإن الطبع يكرهه)، قال الشيخ سعد الدين: لا يلزم منه كراهة حكم الله ومحبة خلافه، وهو ينافي كمال التصديق، لأن معناه كراهة نفس ذلك الفعل ومشقته، كوجع الضرب في الحد مع كمال الرضى بالحكم والإذعان له، وهذا كما تقول: إن الكل بقضاء الله ومشيئته مع أن البعض مكروه منكر غاية الإنكار، كالقبائح والشرور.
قوله: (والله يعلم ما هو خير لكم) قال الشيخ سعد الدين: يعني أن المفعول مراد لا متروك منزل فعله منزلة اللازم. (روى أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبدالله بن جحش)، إلي آخره. أخرجه ابن جرير من طريق السدى بأسانيد، وسمى فيه من السرية، عمار ابن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة ابن ربيعة، وسهل ابن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبدالله البربوعي، وسمى الثلاثة الذين مع عمرو والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ابن المغيرة، ونوفل بن عبدالله، وفيه أن ذلك أول غنيمة، وليس فيه رد الغير والأسارى ولا قوله:/ (يأمن فيه الخائف)، إلى آخره، بل انتهى الحديث إلى قوله: فقال المشركون: استحل محمد الشهر الحرام.
قوله: (ينذعر بموحدة وذال معجمة وعين مهملة، وراء)، قال في الصحاح: انذعر القوم، أي تفرقوا.
قوله: أكل امرئ تحسبين امرأ. البيت، هو من قصيدة لأبي

(2/409)


دؤاد، بضم الدال المهملة بعدها همزة مفتوحة ثم ألف ساكنة ثم دال أخرى ن واسمه: جارية، ويقال: جويرية في الحجاج الأديادي، يصف فيها أيام لذته بالتصيد ثم مصيره إلى حال أنكرت عليه امرأته فهزلته، فأنبأها بجهلها بمكانه، وأنه لا ينبغي أن يغتر بامره من غير امتحان، ويروى بالجر على تقدير وكل نار، وبالنصب فرارا من العطف على معمولين. وتوقد: أصله تتوقد، وهو صفة لنار.
قوله: (ولا يحسن عطفه على سبيل الله لأن عطف. قوله: (وكفر به) على (وصد) مانع منه، إذ لا يتقدم العطف على الموصول، على العطف على الصلة)، أجاب عنه الزمخشري خارج الكشاف بوجهين، أحدهما: أن الكفر بالله والصد عن سبيله متحدان معنى، فكأنه لا فصل بالأجنبي بين سبيل الله وما عطف عليه، ولا عطف للكفر على الصد قبل تمامه، والثاني: أن هذا التقديم لفرط العناية، ومثله لا يعد فصلا. قال الشيخ سعد الدين: والأول أوجه.
قوله: (ولا على الهاء في (به) فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار)، قال أبو حيان: هذا على مذهب أكثر البصريين، ومذهب الكوفيين ويونس والأخفش والشلوبين: إلى جوازه بدون إعادته والسماع يعضده والقياس يقويه، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ضرورة، ولسنا متعبدين بقول البصريين، بل المتبع ما قامت عليه الأدلة، تخريج الآية عليه أرجح، بل متعين، لأن وصف الكلام وفصاحة التركيب يقتضي ذلك. انتهى.
قوله: (وحتى للتعليل)، أي لا لغاية، كما قال بعضهم، لأن ذلك أفيد من حيث إنه ذكر للمقابلة عليه توجيها، والغاية تفيد في الفعل، دون ذكر الحامل عليه.
قوله: (قيد الردة بالموت عليها) إلى آخره. قال الطيبي: فإن قيل

(2/410)


: هذا معارض بقوله: تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}، قلنا يحمل المطلق على المقيد.
قوله: (نزلت أيضا في السرية)، إلى آخره. أخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، من حديث جندب ابن عبدالله.
قوله. (روى أنه نزل بمكة) إلى آخره، ورد مفرقا في جملة أحاديث، أخرج ابن أبي حاتم، عن أنس، قال: كنا نشرب الخمر، فأنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فقلنا نشرب منها ما ينفعنا فأنزلت في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. فقالوا: اللهم قد انتهينا. وأخرج أحمد وأبو داود، والترمذي والحاكم وصححاه، والنسائي عن عمر، أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية. فدعى عمر فقرنت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في سورة النساء، فكان منادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، نادى: (لا يقربن الصلاة سكران) فدعى عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة. فقال فقال عمر: انتهينا، وأخرج أحمد عن

(2/411)


أبي هريرة، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهما فأنزله الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال فيهما: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه في المغرب فأنزل الله الآية التي في النساء. وأخرج أبو داود، والترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه، والنسائي، عن علي، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني أصلى، فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ونحن نعبد ما تعبدون} فأنزل الله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية. وأخرج النسائي والبيهقي، وابن جرير عن ابن عباس، قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا فلما أن تميل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته، فوقعت

(2/412)


الضغائن في قلوبهم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. قال القفال: الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أنه سبحانه علم القوم كانوا كلفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم به كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم فاستعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.
قوله: (إثم كبير)، فات المصنف أن ينبه على أن حمزة والكسائي قرأ كثير بالمثلثة، والباقون بالموحدة.
قوله: (قيل: سائله عمرو بن الجموح)، لم يرد، بل ورد أن سائله، معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمة أخرجه ابن أبي حاتم بسند مرسل، وأخرج عن ابن عباس أن نفرا من الصحابة سألوا.
قوله: (نقيض الجهد) بالفتح، أي المشقة.
قوله: (خذ العفو مني تستدعي مودتي .... ولا تنطقي في سورة حين أغضب
قيل: هو لأبي الأسود الدؤلي، وقيل: لأسماء بن خارجه الفزاري، وبعده: فإني رأيت الحب في الصدر والأذا
إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
وسورة الغضب، شدته وحدته، ثم رأيت البيهقي، أخرج في

(2/413)


شعب الإيمان: أنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن شبانة الهمذاني حدثنا أبو حاتم أحمد بن عبد الله البستي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم يعني البستي، حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا أبو بشر أن أسماء بن خارجة الفزاري، لما أراد أن يهدى ابنته إلى زوجها، قال لها: يا بنية كوني لزوجك أمة يكن لك عبدا، ولا تدني منه فيملك، ولا تباعدي عنه فتثقلي عليه، وكوني كما قلت لأمك: خذ العفو مني فذكر البيتين: (ثم رأيت في حماسة الشريف ضياء الدين العلوي، قال عامر بن عمرو البكاري لامرأته:
خذ العفو مني تستمدي مودتي .... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
ولا تنقريني نقرة الدف مرة .... فإنك لا تدرين كيف المغيب
فإني رأيت الغيظ في الصدر ... إذا طال يمحو كل ود فيذهب
والأذى
قوله: (روى أن رجلا)، الحديث. أخرجه أبو داود، والبزار وابن حبان، والحاكم، من حديث جابر، ولفظ البزار، في بعض المغازي، كما ذكر المصنف، ولفظ الباقين في بعض: (المعادن)، قال

(2/414)


في النهاية: عن ظهر غنى، أي ما كان عفوا فقد فضل عن غنى. والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام وتمكينا، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال. والحذف بالحاء المهملة، الرمي، ويتكفف الناس، يمد كفه يسألهم.
قوله: وحد العلامة أي الكاف في ذلك.
قوله: (لما نرلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} إلى آخره الآية، أخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم، وصححه، من حديث ابن عباس.
وقوله: (وتتسع له الطاقة) أي من غير حرج، وتضييق، ولهذا لم يقل: ما يطيقون، وجه، ولا أعلم أحداً قرأ به.
قلت: هي قراءة الأعمش، كما نقله أبو حيان.
قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام، بعث مرثدا)، الحديث.
قلت: ليس هو في نزول هذه الآية، إنما هو في نزول أية النور: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية. كذا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث ابن عمرو والذي ذكره المصنف

(2/415)


أورده الواحدي في أسباب النزول، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
قوله: (أي ولا امرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة) فيه قول ثان، إن المراد الأمة على ظاهرها، وهو الأوفق للسياق وسبب النزول فإن الآية نزلت في أمة عبد الله بن رواحة، أخرجه الواحدي، عن ابن عباس.
قوله: (والواو للحال، ولو بمعنى إن) الشيخ سعد الدين: كلمة لو في مثل هذا الموضع لا تكون لانتقال الشيء لانتفاء غيره، ولا للمضي، وكذا كلمة إن لا تكون لقصد التعليق والاستقبال، بل المعنى فيها ثبوت الحكم البتة، ولهذا يقال: إنها للتأكيد، والواو عند بعضهم للعطف على مقدر هو ضد المذكور، أي لولم يكن كذلك ولو كان كذلك، وعند الزمخشري: للحال، لكن مقتضاه أن يكون الواقع بعد الواو أعني الفعل مع الحرف في موضع الحال ولا يستقيم، فلذا يقدر ولو كان الحال كذا دون الحال لو كان كذا.
قوله: (أولئك، إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات)، قال الشيخ سعد الدين: ففيه تغليب في يدعون لكونه صيغة جماعة الذكور أو استعمال المشرك في تعيينه، لأن صيغة يدعون صالحة للمذكر والمؤنث، إلا أن الواو على التذكير ضمير دون النون، وعلى التأنيث بالعكس، وأما الإشتراك في أولئك: فمعنوي، لا لفظي.
قوله: (أي وأولياؤه)، قال أبو حيان: الحامل له على ذلك طلب

(2/416)


المعادلة بين المشركين والمؤمنين في الدعاء، ولا يلزم ذلك، بل إجراء اللفظ على ظاهرة أكد وأبلغ في التباعد من المشركين.
قوله: (روى أن أهل الجاهلية) إلى آخره، روى مسلم والترمذي والنسائي، عن أنس، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، إن القرآن أنزل في شأن الحائض والمسلمون يخرجونهن من بيوتهن كفعل العجم، ثم استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: والذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل، مثله.
قوله: (ولعله سبحانه، إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثا ثم بها ثلاثا، لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة ن والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد. فلذلك ذكرها بحرف الجمع)، اعترض عليه ابن المنير بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة، لأن العطف يكون في الثانية والثالثة منها ثم قال: ويحتمل أن يكون لما سألوا عما كانوا ينفقون فأجيبوا بمصرف النفقة، أعادوا سؤالهم بالواو، ماذا ينفقون فاجيبوا بالعفو، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى، في النفقة، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما يعتزل اليتامى، فهو مناسب لما قبله، إذ

(2/417)


كلاهما سؤال عن اجتناب، عطف بالواو، ولا كذلك الثلاثة الأول، إذ لا تعلق بينهما.
قوله: (لقوله: عليه الصلاة والسلام: " إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ". لم أقف عليه.
قوله: (بمعنى يغتلسن: يقول: التطهر هو الغسل بالماء، كما قال ابن عباس (فإذا تطهرن بالماء) أخرجه، ابن أبي حاتم، وذلك صادق بغسل كل البدن كما قال به الشافعي، وبغسل بعض الأعضاء، وهو الوضوء كما قال به طاوس ومجاهد. وبغسل الفرج خاصة، وهو الاستنجاء، كما قال به الأوزاعي، فمن أين تعيين الاغتسال العام الذي هو غسل الجنابة، وتوقف الوطء عليه. فإن قيل: المطلق التصرف إلى الكامل: قلت: هو بمذهب أبي حنيفة أليق، لأن ذلك قاعدته وأما قاعدة الشافعي رضي الله عنه، فالانصراف إلى الأقل. فان قيل: ينصرف إلى الشرعي دون اللغوي: قلت: الثلاثة شرعية، لأن الاستنجاء شرعي ثم الوضوء شرعي قطعا، فإن قيل: لعل ذلك ليس من الآية فقط، بل من أدلة أخرى، قلت: لم يرد حديث قط بأن الوطء، يتوقف على الغسل الكامل، ولو كان ذلك مراد الآية لبين مرة في حديث، فإن الآية مجملة في الثلاثة، والذي أقطع به، إن الآية نزلت على المعنى اللغوي: وهو غسل مكان القذرة خاصة ولذا سكت عن تفصيله في الآية، وعن تبيينه في الأحاديث كما سكت في آية الاستنجاء، وهي: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فإن المراد بها غسل محل البول والغائط خاصة، وأطلقت، لأنه كان معهوداً عندهم، ولما جاءت أية الوضوء بما لا يعرفونه جاءت مبينة، وكذلك الغسل من الجنابة بين في الأحاديث، فإن قيل: قد ورد في الأحاديث ذكر الغسل من الحيض، قلت: للصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد، وأما للوطء، فمن ابن؟ قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي من أي جهة شئتم، أبو حيان: وهذا=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.وج4. الزجاج في اعراب القران

الزجاج 3.4. كتاب : إعراب القرآن المؤلف : الزجاج وأما قوله تعالى لكل باب منهم جزء مقسوم كأنه لكل باب جزء مقسوم من الداخلين ولا يصح ت...